أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد
1ـ سواءٌ عليك أَقُلْتَ كان حفلا بهيجا أم مجلسا دعَويا أم مُلتقىً أخويا أم فضاء رُوحانِيًّا....بِأَيِّ هذه الأوصاف وسمتَ خيْمة أخينا أبي معاذ كنتَ مصيبا ....كانت خيمةً خضراء تستوعب العددَ الجمّ من الناس ...لا أدري : ربما كان الحاضرون أكثرَ من ثلاثمِائة وأرجو ألا أكون مبالغا ، وكان في الناس الشيخُ والكهل والشابّ والصغير ، وكان فيهم صاحبُ اللحية المُتقمِّص والحليق المُتَسَرْوِل ، وكان فيهم القاعد والواقف والمُوكِئُ ، وكان عليهم جميعا مخايل العَجَب قد طبَع الوجوه وتلبّس بالعيون : "أيُّ خيمة هذه ؟ ولِم انتصبَت ؟ ولِم اختلط فيها الحابل بالنابل؟"... وكان في الناس في قلب المجلس منهم شابٌّ بَهِيُّ الطَّلْعة قد ارتدى القميص فوقَه عَباءة تَميل إلى الصُّفرة فيما أَذْكُر، وعليه خِمار أبيض ملفوفٌ بعضُه بأسفل الرقبة .....لم أتَبَيَّنْ هذا الشاب في النظرة الأولى إذ كنت بعيدا عنه فلما دَنَوْتُ من حَضْرَتِه ألفيتُه العريسَ جالسا جِلْسةَ المُعلِّم الناصح لا المُعْرِس الفارح ... وما إن جلست حتى رأيت العريس أخانا الفاضل أبامعاذ قد افتتح حفله المبارَك ، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه ثم ألقى كلمةً موجَزَة نوّه فيها بمعنى الأخوة والمحبة في الله ، وبدا فيها متأثرا بصنيع إخوانه معه إذ رتّبوا لهذا العُرس مجلسا وصنعوا لهذا المجلس خيمة ودعَوْا لهذه الخيمة داعيا ومَدْعُوّاً ـ لله درّهم ـ ... وأنا فلا تزال قسَمات وجهه ترتسم في أعماق الذاكرة وهو يُدير كلمته الموجزة تلك ، فقد كانت ـ على وجازتها ـ بليغة يظهر في معانيها الصدق وتتجلّى في حروفها آثار المحبة في الله ، ولَعَمْر الحق ما البلاغة إلا حديث القلب للقلب والحروف إنما هي ألفاظ يَعرِف زَيْفَها مِن صدقها العارفون بحديث الصادقين المُرْتَوون بكلماتهم الممتازة عن تصنُّع المتكلِّفين ، وهنا ـ في رأي العبد الضعيف ـ موضعُ الفرق بين الأديب الحق والأديب المُزوّر.
2ـ ...ثم مال العريس الفاضل بوجهه إلى بعض الحضور يستتلوه قبسا من كتاب الله عز وجل ، وكان هذا المشار إليه يجلس بِحِذائي فطفق يتلو من أواخر سورة الحشر من قوله ـ عز وجل ـ {يأيها الذين ءامنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدّمت لغد...} الآيةَ إلى آخر السورة ... وفتَح المَولى ـ عزّ وجلّ ـ على صاحبنا القارئ ، فوربِّك المعبودِ لقد كان صوتا من السماء يتردد صداه في النفوس فلا تزال منه في رَوْح وريحان وجنة نعيم ...وهكذا يفعل القرآن المرتل بحُرّ الصوت إذا صادف منك صفاءا ... ولولا خشية النفاق في القلم لكان حقا عليه أن يزيد في هذا المعنى بما هو أهلُه ، ولكنَّ فاقد الشيء لا يعطيه إلا مُشَوًّهاً ...عليه مُسوحٌ من الزُّور .
3ـ....ورجَعت الكلمة إلى صاحبنا العريس ، فألقى بها إلى ثلاثة من الأئمة الحُضور ، فتلقَّفوها تلقُّفَ الملهوف لدعوة الأنام ـ أوهكذا خُيِّل إليَّ ـ وانطلقوا يقولون ما تهيّأ لهم من قِيلِ الحق ودعاء الصدق ، فكان حديثٌ عن كُنْه الزواج وعن روح الأخوة وعن سر الصلاة وعن القرآن وشمول معانيه لمعاني الحياة ،وكان الجِدُّ في حديثهم مخلوطا بالطُّرْفة بل بكثير منها ، وليس يُفسد في بيان الحق ما تراه من هذا الخليط اللَّذِّ إن كان مصوغا بأسلوب مؤدَّب ومن قلب صادق ، وفي سنة المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ شيءٌ من ذلك معروفٌ للدارسين ...وبلى كان ثمة رابع تحدّث بحديث الأدب العتيق يقُصُّ القصصَ النوادرَ بألفاظها المدوّنة في أصولها ، فوقع من ذلك كلِّه مزيجٌ لا يكاد يجتمع إلا في مائدة الإسلام .....شيءٌ لا يوصف باللسان ولا بالبنان ، فإنْ كان عيبٌ في اللغات جامعٌ فهوهذا النُّقصان....وكان عرسا تذكرُه النفس فتحنو إليه وتأمل أن يكون لها بِمِثله عهد جديد ، فيا مَن تَصمُد إليه النفوس بالرغائب: هل من مزيد ... .
4ـ انفضَّ السامر بعد قُرابةِ ساعةٍ وربع أو أكثرَ بقليل ـ وليته اتصل فما انقطع إلى الفجر ـ وتفرّق الناس وخرجوا تعلوهم المسرّةُ بأمرين : بعرس أخينا أبي معاذ ، وبهذا المجلس الجميل الباسم ....أما أنا فاستفدت إلى ذلك فوائدَ أصولُها خمسٌ :
الأولى : ظننتُ أوّلَ الأمرأن تلك الخيمة الخضراء قد نصبها أخونا أبومعاذ وصحبُه الكِرام لفتح ملفات (القيل والقال) فقُلتُ : " على الرحب والسعة ...أنا لها أنا لها " ، ولكنَّ العريس الفاضل أبى أن يكون حفلُه إلا ميدانا يُتلَى فيه القرآن ، ويُذكَّر فيه بالله وبدين الرحمان .
الثانية : لقد كانت تسودُ وجوهَ القوم الحاضرين في المجلس هالةٌ من الخشوع لكلمات الحق لم أرها في مسجدٍ من قبلُ ....لَكَأَنِّي بالسبب المُضحِك المُبكي أنهم لم يعتادوا أن يسمعوها بذلك الزّخَم المهيمن على النفوس والعقول الآخذِ بأقطارها في غير ساح المسجد وما إليها من دُورالدعوة والعلم.....لكأني بالقوم يقولون في دهشةٍ : كيف لتلك الكلمات أن تتسلل إلى مجالس الفرح حيث المفروضُ أن تكون ( الزُّرنةُ) ولواحقُها هي القابضةَ الباسطةَ لقلوب الناس وجُسومهم ، فإن لم تكن فلا أقلَّ من دُفٍّ مصحوب بأناشيدَ موضوعةٍ لهذا الغرض لدى جمْعٍ من إخواننا المَفتوح لهم في هذا الباب ...لقد كانت صفعةً صلعاءَ ضُربت بها قفا الشيطان فولّى منها مدحورا وله ماتعرفون ...هكذا تخيّلتُه في تلك الليلة المباركة وما على الخيال القاهرمن سبيل ....فهل انتفع القوم وسُرُّوا بذلك ؟ .. نعم ـ والله ـ لقد سعدوا وفرحوا ، وخرجوا وآذانُهم لا تزال مُنَدّاةً بكلمات الله الواصلة إلى الأفئدة ... وزعم قومٌ أن الحديث مع عموم الناس بات لاطائلَ من ورائه في المسجد أو في غيره لِأسبابٍ تَرْجع في مُجملها إلى غَلَبة المادّية على فِكر الناس من جَرّاء الغزو الغربي المحكَم على عقولهم وقلوبهم ، وما رأيْتَه ـ أيها الحالم الغِرّـ مِنْ تأثُّرٍ في مثلِ مَا ذكرتَه عن أصحاب الخيمة فمحدود بتلك الخيمة وزمانها ، فإذا فارَقوها فارقتْهم روحُها في أوّل خطوةٍ يخطونها على عتبة الخيمة كالحُوتة استُلَّتْ من نبْعها، فإن تماسكَت فَمَوْتُها محتوم إِثْرَ غمسةٍ واحدةٍ في مُعتَرك الحياة الآفن الذي نحياه ، وهكذا فقُلْ ـ ولاتخشَ لائما بصيرا ـ في ما تَرْمُقه من تحزُّن أوتهمُّم في وجوه المصلين في جُمُعات المساجد ....إن هي إلا فقاقيع لاتلبَثُ أن تندَقّ بأوّل نسفةٍ من نسَفات الواقع المَوْبوء...... كذا قالوا ، والحلُّ في رأيهم أن تتوجّه الدعوة بكل ثِقَلِها إلى النُّخبة المُهيمنة على طبقات الناس فبِهدايتهم يهتدون وبضلالهم يَضلّون ، وعندي أن هذه الشبهة الخطيرة بما تَحمله مِن حق ملبوس بباطل هي بوّابة القوم إلى السياسة العَصْريّة وتأمّل شواهدَ ذلك في تاريخ الدعوة المُعاصر ترَ ذلك يلوح من مكان خفيٍّ ، وبعدُ ...فيكفي في ردّ أصل الشبهة إجمالا أنها على خلاف هدْي المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ في دعوة الناس جميعا وعلى اختلاف طبقاتهم إلى دين الحق ، ومُفتَتَحُ سورة (عبس) ونظيرُه في الأنعام والكهف وغيرِهما دليلٌ ظاهر على هذا الهَدْي ، وإنما أفلح المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ في دعوته بِسلاحٍ عَجَزَ عنه القوم فأَنْحَوْا باللائمة كلِّها على الواقع البئيس ...سلاحِ الصبر ولزومِ الجادّة في الدعوة ولوطال الأمد ، أمّا تفصيلُ الردّ فيطول ، ولعل الإخوة أَقْوَمُ بمعرفته من العبد الضعيف .... وما فعله أخونا أبو معاذ وصحْبُه لو تكرَّرَمن طلبة العلم ذكورا وإناثا بِهَـمٍّ صادق ولسان بالغ وعلم نافع وقلبٍ واحدٍ لكان مِنْ وراءِ ذلك خيرٌ كثير أَقَلُّه إرساءُ ثقافةِ الدعوة إلى الله تعالى في كل مكان على طريقة أهل الدعوة المتمكّنين المُضحِّين ــ حقاوصِدقا لا زورا وتشبّعا ــ بأنفاس العمُر في سبيل التمكين لهذا الدين الكريم ، والله المُستعان.
يُـــتْبَعُ ـ إن شاء المولى عز وجل ـ