أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


هذه خطبة ألقيتها يوم الجمعة الموافق هجريًا 1433/12/24 وهي الآن بين أيديكم للفائدة


الخطبة الأولى



الحَمْدُ للهِ مُصَرِّفِ الأَحْوَالِ وَالأَوقَاتِ ، وَمُقَدِّرِ الأَيَّامِ وَالسَّاعَاتِ ، خَالِقِ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ ، وَجَاعِلِ النُّورِ وَالظُّلُمَاتِ، أَحْمَدُهُ تَعَالَى عَلَى جَمِيعِ العَطَايَا وَالهِبَاتِ، وَأَشْكُرُهُ عَلَى نِعَمِهِ السَّابِغَاتِ، وَأَشْهَدُ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، حَثَّنَا عَلَى اغتِنَامِ الأَوقَاتِ ، وَالاعتِبَارِ بِالأَيَّامِ المَاضِيَاتِ ، وَنَهَانَا عَنِ الأَسَى عَلَى مَا فَاتَ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّـنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الَّذِي ارتَقَى مَدَارِجَ الكَمَالاتِ، وَسَمَا بِفَضْـلِهِ عَلَى جَمِيعِ الكَائِنَاتِ ، r وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَعَلَى كُلِّ مَنِ اهتَدَى بِهَدْيِهِ مِنْ أُولِي الفَضْـلِ وَالمَكْرُمَاتِ.

أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ:
أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي أَوَّلاً بِتَقْوَى اللهِ العَظِيمِ وَطَاعَتِهِ، وَاعلَمُوا أَنَّ المُؤْمِنَ يُوقِنُ بِأَنَّ مَصِيرَ الحَيَاةِ الدُّنيَا إِلَى الزَّوَالِ وَالفَنَاءِ، وَأَنَّ العُمُرَ فِيهَا قَصِيرٌ،
عباد الله، نستقبل هذه الأيام أيام عام هجري جديد ووداع عام آخر، عام من أعماركم قد تصرّمت أيامه وقوّضت خيامه، غابت شمسه واضمحلّ هلاله، عام حوَى بين جنبيه حكمًا وعبرًا وأحداثًا وعظات، فلا إله إلا الله! كم شقيَ فيه من أناس، وكم سعد فيه آخرون،! كم من طفل قد تيتّم ، وكم من امرأة قد ترمّلت لا إله إلا الله ! دار تفرح بمولود، وأخرى تعزَّى بمفقود، آلام تنقلب أفراحًا، وأفراح تنقلب أتراحًا، أيام تمرّ على أصحابها كالأعوام، وأعوام تمرّ على أصحابها كالأيام .
عباد الله ، إن رحيل الأيام والأعوام ذكرى وموعظة لقلوب المؤمنين أنّ هذه الدنيا ليست بدار قرار، كتب الله عليها الفناء، فكم من عامر عمّا قليل يخرب، وكم من مقيم عما قليل يرحل.
فالركون إلى الدنيا خطير، والثقة بها غرور، أمانيها كاذبة، وآمالها باطلة، عيشها نكد، وصفوها كدَر، والمرء منها على خطَر، ما هي إلا أيام معدودة وآجال مكتوبة وأنفاس محدودة وأعمال مشهودة، إن أضحكت قليلاً أبكت كثيرًا، وإن سرّت أيامًا ساءت أشهرًا وأعوامًايا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ
عباد الله، جعل الله ما على الدنيا من أموال وأولاد وغيرها فتنة للناس ليبلوهم أيهم أحسن عملا ، قال تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ونهى سبحانه عن النظر إلى ما في أيدي الناس لأنّ ذلك مدعاة إلى الركون إلى الدنيا والانشغال بها عن الدار الآخرة ، قال سبحانه: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى .
لقد مر النبي على شاة ميتة فقال لأصحابه: ((أترون هذه الشاة هيّنة على أهلها؟)) قالوا: من هوانها ألقوها، قال: ((والذي نفسي بيده، للدنيا أهون على الله من هذه الشاة على أهلها، ولو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرًا شربة ماء)) أخرجه الإمام أحمد وغيره. تلكم هي الدنيا ـ عباد الله ـ التي شغِل بها كثير من الناس، فراحوا يتهاتفون على جمعها ويتنافسون في اكتنازها، وتركوا الاستعداد ليوم الرحيل والعمل لدار القرار. لقد كان المصطفى يتخوف الدنيا على أصحابه أن تبسَط عليهم كما بسطت على من كان قبلهم، فينافسوها كما تنافسها القوم، فتهلكهم كما أهلكت من كان قبلهم.
عباد الله، كم رأينا في هذه الحياة من بنَى وسكَن غيرُه، وجمع وأكل وارثه، وتعب واستراح من بعدَه. دخل أبو الدرداء رضي الله عنه الشام فقال: (يا أهل الشام، اسمعوا قول أخٍ ناصح)، فاجتمعوا عليه فقال: (ما لي أراكم تبنون ما لا تسكنون وتجمعون ما لا تأكلون؟! إن الذين كانوا من قبلكم بنوا مشيدًا وأملوا بعيدًا وجمعوا مثيرًا، فأصبح أملهم غرورًا وجمعهم ثبورًا ومساكنهم قبورًا).
وأسأل الله أن يجعل العام القادم عام خير وبركة ، ونصر وتمكين للإسلام والمسلمين، وعام أمن وأمان وعدل وسلام للإنسانية قاطبة، وأن يجمع فيه كلمة المسلمين على الحق والهدى، ويوحد صفوفهم، ويطهر مقدساتهم، وينصرهم على أعدائهم، وأن يجعل حاضرنا خيراً من ماضينا، ومستقبلنا خيراً من حاضرنا، إنه خير مسئول وأكرم مأمول.
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعني وإياكم بما فيه من الهدى والبيان.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات: إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ، وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ .

الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا مزيدًا.
أيها المسلمون:
إِنَّ الوَاحِدَ مِنَّا يَحْرِصُ عَلَى عَدَمِ تَرْكِ الأَوْسَاخِ تَتَرَاكَمُ فِي سَاحَاتِ بَيْـتِهِ وَمَنْزِلِهِ حَتَّى لا تَجْـتَمِعَ الأَقْذَارُ وَيَعْسُرَ أَمْرُ التَّطْهِيرِ وَالتَّنْظِيفِ، وَيَحْرِصُ أَيْضًا عَلَى نَظَافَةِ سَيَّارَتِهِ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ حَتَّى لا تُشَوِّهَ المَنْظَرَ العَامَّ ، وَيَقَعَ فِي مُخَالَفَةِ النِّظَامِ، وَكَذَلِكَ هُوَ الحَالُ مَعَ الذُّنُوبِ وَالأَوزَارِ، فَلا بُدَّ مِنْ مَحْوِهَا بِالمَتَابِ وَالاستِغْفَارِ، وَصِدقِ التَّوَجُّهِ إِلَى العَزِيزِ الغَفَّارِ، فَكَرِّرْ - يَا أَخِي - المُحَاسَبَةَ، وَرَدِّدِ التَّوْبَةَ وَالاستِغْفَارَ فِي نِهَايَةِ الأَيَّامِ، وَخِتَامِ الشُّهُورِ وَالأَعْوَامِ، بَلْ حِينَ الفَرَاغِ مِنْ كُلِّ عَمَلٍ مِنَ الأَعْمَالِ، فَالمُؤْمِنُ هُوَ مَنْ يَتَعَهَّدُ نَفْسَهُ بِالمُحَاسَبَةِ، لِيَبْـقَى فِي جِدٍّ وَتَشْمِيرٍ وَعَمَلٍ وَسَعْيٍ حَتَّى يُنَافِسَ عِبَادَ اللهِ الصَّالِحِينَ، وَيَصِلَ إِلَى مَقَامَاتِ الذَّاكِرِينَ، وَيَفُوزَ بِرِضَا رَبِّ العَالَمِينَ ]وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ[ وَهَا نَحْنُ نَشْهَدُ - يَا عِبَادَ اللهِ - انْصِرَامَ عَامٍ وَإِقْبَالَ عَامٍ جديد ، فَلْيَحْرِصْ كُلٌّ مِنَّا عَلَى أَنْ يَتْرُكَ فِي الحَيَاةِ أَثَرًا صَالِحًا مِنْ بَعْدِهِ.
فَاتَّقُوا اللهَ - يَا عِبَادَ اللهِ-، وَاستَفْتِحُوا عَامَكُمُ القَادِمَ بِالبِشْرِ وَالتَّفَاؤُلِ وَالتَّخْطِيطِ الجَيِّدِ، وَاحْرِصُوا فِيهِ عَلَى صَالِحَاتِ الأَعْمَالِ، وَتَنَافَسُوا فِيمَا يُقَرِّبُكُمْ إِلَى اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنَ الأَقْوَالِ وَالأَفْعَالِ .
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه ، فقال في محكم التنزيل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيْمًا اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على نبينا محمد ، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدِلون: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعنَّا معهم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كُلاًّ مِنَّا لِسَانًا صَادِقًا ذَاكِرًا، وَقَلْبًا خَاشِعًا مُنِيْبًا، وَعَمَلاً صَالِحًا زَاكِيًا، وَعِلْمًا نَافِعًا رَافِعًا، وَإِيْمَانًا رَاسِخًا ثَابِتًا، وَيَقِيْنًا صَادِقًا خَالِصًا، واللهم ارِزْقنًا حَلاَلاً طَيِّبًا وَاسِعًا، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوْفَهُمْ، وَأَجْمِعْ كَلِمَتَهُمْ عَلَى الحَقِّ، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظَّالِمِينَ، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعِبادِكَ أَجْمَعِينَ .
اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا وَأَعِزَّ سُلْطَانَنَا وَأَيِّدْهُ بِالْحَقِّ وَأَيِّدْ بِهِ الْحَقَّ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ.
ربَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
ربَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، َالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَوات.
عِبَادَ اللهِ:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على آلائه ونعمه يزِدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.