أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم




الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:

ليس لأحد أن ينكر عراقة حسب الشيخ عبد الحميد بن باديس ولا شرف نسبه، فهو سليل العائلة الباديسية التي كان لها الأثر البالغ في تاريخ الأمة الإسلامية المغاربية والأندلسية، هذه العائلة التي ملكت قرى وبلدانا وشيدت قلاعا وحصونا، فبلدة الأشير اختطها (زِيرِي بن مَناد الصنهاجي)أما الناصرية (بجاية) قاعدة ملك بني حماد فهي مشهورة النسبة لهم، فبانيها هو (الناصر بن علناس بن حماد بن زِيري بن مَناد الصنهاجي)، وغرناطة شاهدة على حكمهم لها بدءا من (أبي مثنى زاوي بن زيري بن مناد) إلى (عبد الله بن بلكين بن باديس)، وتاهرت التي ملكها حق التملك (زِيرِي بن مَناد الصنهاجي) إلى غير ذلك من المآثر التي يصعب على العاد إحصاؤها وعلى المتأمل حصرها، فلا يبعد إذا أن يقتبس الشيخ عبد الحميد من مآثر هذه السلالة قبسات، وينتخل من معين قيادتها، ويغترف من بحر رياستها، غير أنّ المتأمل في هذه العائلة وأمجاد أصحابها يجد هناك تشابها في سلالة العائلة: بين أب عال(المعز بن باديس) وابن نازل (عبد الحميد بن باديس).
تشابه في الاسم فكلاهما ابن لباديس وتشابه في الأفعال وأيمّا تشابه فالأب كان له دور مفصلي وتاريخي في تغيير وجه المغرب الإسلامي، والثاني كان له نفس الأثر في الجزائر (القطر المغاربي) بل أثر في المغرب الإسلامي ككل.
تشابه بين كليهما في نصر السنة وقمع البدعة، وهذا هو بيت القصيد ومربط الفرس من وقفتنا مع آل باديس ودورهم في تغيير وجه المغرب الإسلامي.
مع نهاية القرن الثالث استشرت في المغرب دعوة العبيديين -الذين تسموا ظلما وزورا بالفاطميين-، وكان لهم وخلال سنين قلائل السيطرة التامة على المغرب الإسلامي ثم رموا بأبصارهم صوب مصر فكان لهم ذلك وانتقلت عاصمة دولتهم من المهدية بتونس إلى الفسطاط بمصر، ولما كان آل باديس من صنهاجة من أكبر أنصارهم وأقوى عضد لهم بالمغرب، كان من حق هؤلاء حكم المغرب باسم العبيديين.
ومما تجدر الإشارة إليه أن الدولة العبيدية وإن كانت لها السيطرة التامة على بلاد المغرب فإن السطوة على عقائد الناس كانت بعيدة المنال، ولا أدل على ذلك من استمرار علماء أهل السنة المالكيين من نشر العلوم الشرعية الصارخة بالسنة والداعية إليها، وكان لهم الدور الكبير في بقاء الأمة متمسكة بأصول السنة والعقيدة السليمة قال ابن عذاري: "وتمادى الأمر على ذلك حتى قطع أهل القيروان صلاة الجمعة فرارا من دعوتهم، وتبديعا لإقامتها بأسمائهم، فكان بعضهم، إذا بلغ المسجد قال سرا: "اللهم أشهد! اللهم أشهد!"، ثم ينصرف فيصلي ظهرا أربعة، إلى أن تتناهى الحال حتى لم يحضر الجمعة من أهل القيروان أحد فتعطلت الجمعة دهراً.1
وبقي المغرب تحت سلطة الباديسيين باسم العبيديين وانتشر سلطان المعز في كل البلاد ودانت له القبائل البربرية من زناتة إلى صنهاجة، وضعفت بذلك شوكة العبيديين وقل ذكرهم إلا في خطبة الجمعة.
إلى أن جاء اليوم الموعود وكانت فيه قلوب أهل السنة تميز غيظا من أقوال بقايا الرافضة العبيديين في القيروان وغيرها، من كانوا يسمعون منهم في كل حين وساعة السب والشتم لأصحاب النبي الأخيار وأمهات المؤمنين الأطهار، وليس لهم من الأمر شيء لصدّ عدوان هؤلاء الأشرار إلا الدعاء والصبر وانتظار المخرج، وجاء الفرج: قال ابن الأثير:"وكان سبب ذلك أنّ المعز بن باديس ركب ومشى في القيروان والناس يسلمون عليه ويدعون له، فاجتاز بجماعة، فسأل عنهم، فقيل: هؤلاء رافضة يسبون أبا بكر وعمر؛ فقال: رضي الله عن أبي بكر وعمر! فانصرفت العامة من فورها إلى درب المقلى من القيروان، وهو حومة تجتمع به الشيعة، فقتلوا منهم"2، فقولة واحدة من المعز أعادت لأهل السنة زمام المبادرة وكانت لهم بمثابة الإشارة ببدأ هدم حصون الرفض وقلاع التشيع وأسوار البدع والشركيات، وليس هذا غريبا على رجل نبض السنة في عروقه لم يفتر، قال الذهبي: "وكان يرجع إلى إسلام، فخلع طاعة العبيدية، وخطب للقائم بأمر الله العباسي"3، بل إنّ إسلامه وسنته وحرصه على الأمة جعلته يقيم مذهب الإمام مالك في المغرب وحمْل الناس عليه لسد باب الخلاف... قال الذهبي:" فحمل أهل بلاده على مذهب مالك حسما لمادة الخلاف"4. وكانت موقعة عظيمة بعدها، فقد تتبع أهل السنة الرافضة الذين أذاقوهم الذل والعار وأشبعوهم من السب والطعن في أصول الدين سنين طويلة فقتلوهم أينما ثقفوهم ومعهم العساكر والجند وبتجويز أهل العلم لذلك على رأسهم أبو علي ابن خلدون رحمه الله تعالى.
فلما وصل الخبر إلى المستنصر العبيدي غضب على المعز وأرسل إليه يتوعده ويحضه على طاعته كما كان آل باديس يفعلون ذلك من قبل فرد عليه المعز بكل عزة سنية فقال:"إن آبائي وأجدادي كانوا ملوك الغرب قبل أن تملكه أسلافك، ولهم عليهم من الخدم أعظم من التقديم، ولو أخروهم لتقدموا بأسيافهم"5، وقطع الخطبة لهم وهي شعار النفوذ العبيدي على المغرب وجعلها لبني العباس وخليفتهم في العراق فقبلها الخليفة العباسي وخلع عليه بخلع الملوك وهي إشارة التولية فصار يحكم المغرب لبني العباس وأعلن سب العبيديين والتصريح بمخالفتهم للدين ومروقهم عن الشريعة وكان خطيبهم يقول فوق المنبر:"اللهم! والعن الفسقة الكبار المارقين الفجار أعداء الدين وأنصار الشيطان، المخالفين لأمرك والناقضين لعهدك، المتبعين غير سبيلك، المبدلين لكتابك! اللهم! والعنهم لعنا وبيلا، واخزهم خزيا عريضا طويلا! اللهم وإن سيدنا أبا تميم المعز ابن باديس بن المنصور القائم لدينك، والناصر لسنة نبيك، والرافع للواء أوليائك، يقول مصدقا لكتابك، وتابعا لأمرك، مدافعا لمن غير الدين وسلك غير سبيل الراشدين المؤمنين:
يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون"6. واستمر الحال على ذلك فاستشاط العبيدي غضبا وأرسل أعراب رياح وزغبة وأباح لهم المغرب فكان منهم ما كان من أحداث يضيق المقام بذكرها غير أن أهم ما يذكر أن دعوة العبيديين انقضت إلى الأبد من أرض المغرب قال ابن خلكان: "واستمر على قطع الخطبة، ولم يخطب بعد ذلك بإفريقية لأحد من المصريين إلى اليوم"7. وبهذا تغير وجه المغرب من الرفض وسبّ الصحابة وتكذيب الأخيار والطعن في الحصان الرزان إلى موالاة السنة وأهلها ورفع راية الصحابة والترضي عليهم وتبرئة عائشة وموالاتها وحب آل البيت الحب الشرعي، وعاد للمساجد عمارها ولحلق العلم طلبتها وارتفعت راية السنة واعتلت واندحرت راية التشيع والرفض واضمحلت.
ومرت القرون وعادت البدع لتخيم على المغرب الإسلامي وتدخله في أتون ظلمات الشرك والخرافة وقد جاءت هذه المرة بصورة مستحدثة وزي مختلف عن سابقه إنّها: عبادة القبور والاستنجاد بالمقبور والذبح لغير الله عند قبiور الميتين صالحين كانوا أو مجهولين، والطواف بالأضرحة وصرف العبادات لغير الله، والمدقق في هذا وبدعة الرفض يجد أنهما توأمي بطن واحدة وعناصر التوافق بينهما كبيرة... قال الشيخ أبو يعلى الزواوي: "وهكذا ابتدع المتصوفة أمورا وأشياء من أسماء واصطلاحات لا أصل لها في الدين وسرت إليهم من الشيعة الباطنية والإسماعيلية الغلاة في آل البيت وتعلق بها الإمامية من الشيعة"8، فهذا الذي كان لزاما على أهل العلم الصحيح الوقوف في وجهه والرد على أصحابه خاصة والأمة الجزائرية حينها كانت تئن تحت وطأة الاستعمار الفرنسي الذي خدرها بكل أنواع المخدرات ومن أهمها اشغالهم بهذه الطقوس المنحرفة والعقائد الجامدة على الخرافة حتى لا يفكروا أبدا في تحرر ولا استقلال، وفي هذا الوقت بالذات ظهر للأمة الإسلامية بالمغرب والجزائر رجل من آل باديس ليفعل مع أذناب البدعة ما فعله جده مع رؤوسها، إنه الشيخ العلامة عبد الحميد بن باديس.
عبد الحميد بن باديس لا ينكر منصف أنه رأس الإصلاح في الجزائر بلا منازع وهو أبو عذر التجديد فيها وبأفكاره وأعماله وأقواله وجهاده استطاعت الجزائر الخروج من براثن الخرافة والتقليد المقيت والعبودية والاستبداد المميت إلى وضوح التوحيد وصفاء العقيدة السليمة ومنها إلى وسع الحرية ورحب الاستقلال.
اتفق غير ما باحث على أن ابن باديس وجهوده كانت الكفيل بعودة النهضة الدينية والأدبية إلى الجزائر وشهادات الناس بذلك كثيرة وإنما يهمنا هنا التعرض لبعض جوانب التصدي إلى البدع التي نخرت في جسد الأمة الجزائرية.
وأول المحطات التي تسترعي انتباهنا هي تلك الرسالة التي ألفها الشيخ وهو في ريعان الشباب والموسومة بـ:"جواب سؤال عن سوء مقال"، وسببها أنّ رأس إحدى الطوائف التي آمنت بالخرافة تعدى كل حدود الأدب ليس مع الفرنسي الغاصب ولا مع الحَرْكي الموارب وإنما مع سيد الخلق أجمعين وشفيع المؤمنين محمد بن عبد الله سيد ولد عدنان -صلى الله عليه وسلم ما تعاقب الملوان- مع غرق وزخ في أعماق الحلولية الدهماء وصلف في القول وتعدي لكل مقامات الأدب والرعاية لجناب الربوبية العلية بأبيات أقل ما يقال فيها أنها مزجت بين الركاكة في المبنى والسماجة في المعنى والتفاهة في المقصد، فشمر حينها العلامة ابن باديس عن ساعدي الجد وفكك القصيد شطرا شطرا وبين العوار وعرى العار وأوضح القيمة العلمية والشرعية لهذه القصيدة، قال الشيخ عبد الحميد: "فقد وقفت على سؤالكم وتأملت من جميع فصوله وأحطت خبرا إن شاء الله تعالى بلفظه ومدلوله"9
أجاب رحمه الله إجابة العليم لا الجاهل الذميم وأبان بيان المنصف الصميم لا الغاشم اللئيم، بما لا يدع شكا لقارئ القصيد الأفن أنه وصاحبه من حق مزبلة الأفكار وليس لهم قيمة في عرف الأخيار، إذ كيف يكون التقدير والتبجيل لمتعد على مقام الحضوة النبوية ولذلك قال الشيخ رحمه الله في مقدمة رسالته: مقدمة في وجوب الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم إجماعا وأبدا وعلى كل حال، فقد أجمع علماء الملة من جميع الفرق على وجوب الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم حيا وميتا كما يجب الإيمان به حيا وميتا"10
ثم أخذ في الكر عليها وتشريح حالها في فصول متعاقبة وعبارات متناسقة، أدى إلى إبطالها من أسها وأساسها.
ولم تكن نتيجة الرسالة هي فضح الحلولي وقصم ظهره فقط بل أحدثت في المجتمع الجزائري -الذي كان أغلبه ميالا لهذا الصنف من المتعصبين قوالا بأقوالهم فعالا لخزعبلاتهم- إنقلابا جذريا، وجاءت الرسالة لتهدم الصرح الممرد بالخرافة والحصن المشيد بالزيف والتفاهة، خاصة وقد قرضها أعلام كبراء وأدباء فقهاء، من أمثال: محمد النخلي وبلحسن النجار ومحمد الطاهر بن عاشور والمولود بن الموهوب والعابد بن أحمد سودة وغيرهم من علماء القطر المغاربي.
فكانت بعدها الثورة على القديم البالي والتطلع إلى التجديد الإصلاحي وتعتبر هذه أول خطوة خطاها الشيخ ابن باديس في الإصلاح وتغيير الواجهة الرتيبة للحالة العلمية والدينية في الجزائر.
وأخذت من بعدها هذه الطائفة في لملمة الجراح ورص الصفوف غير أن عزم الشيخ ابن باديس على مواصلة التغيير لم يكن قد بلغ منتهاه بعد، فجاءت المنتقد وهي المحطة الثانية في التغيير الباديسي.
لماذا المنتقد؟:
قد كان للشيخ ابن باديس عدة مشاركات باسمه الصريح أو تحت ذاك المستعار في جريدة "النجاح"
التي كان له فضل في المشاركة في إصدارها، ومشاركاته جمعت بين أمرين اثنين يصعب على كثير من أصحاب الأفكار ورواد المقال المزاوجة بينهما: الدقة في التغيير مع اللطافة في التعبير، هذا ما جعل أفكاره الإصلاحية تنساب إلى نفوس الجزائريين من غير عناء، بل وتستقبلها القلوب فرحة بها مبتهجة لها ما تفتؤ أن تنقاد إليها منصاعة إلى صدقها وقوة دلائلها، غير أن الخط الإنحرافي الذي انتهجته الجريدة جعل الشيخ ابن باديس يفكر في منبر مستقل يمرر عبره ما أراد لا ما أريد له وما يراه لا ما يراه غيره له فكان المنبر هو المنتقد لذلك اعتبر المحطة الثانية في التغيير للشيخ ابن باديس رحمه الله.
بل كانت المنتقد جامعة الإصلاحيين وملتقى العاملين الصادقين حتى بين من لم يلتقوا أبدا كما الحال مع الشيخ العقبي الذي ما التقى أبدا مع ابن باديس لكن كان من رواد المنتقد والسبب هو الالتقاء على الفكرة الإصلاحية والتجانس في الحرب على الأفكار الخرافية.
وكان للمنتقد الفضل في إنماء فكرة التجمع الإصلاحي، ووضع اللبنات الأولى في سور جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، بل وكان له شرف افتتاح أول المعارك مع المتعصبين الخرافيين في الصحافة الإصلاحية المستقلة بعد أن نشر الشيخ الطيب العقبي قصيدتة المدوية "إلى الدين الخالص" مع ما صاحبها من تأييد الشيخ ابن باديس والشيخ المبارك الميلي واحتفاء كثير من المطالعين بها.
ثم استمرت المسيرة مع الشهاب بعد استشهاد المنتقد على المقصلة الفرنسية، ولا زالت حنكة الشيخ ابن باديس تصنع الخبر وتحدد معالم الإصلاح الديني في الجزائر حينما حاول تهدئة النبرة الإصلاحية والخفض من حدة الهجمات على حصون الخرافة والتقليص من عدد المسامير المغروسة في النعش التعصبي، وذلك للمصلحة التي رآها في ذلك خاصة وأن المعركة اقتربت من الحسم والشعب أبدى استجابة كبيرة لما يحدث وأبان عن نضج ضخم، وتحرر كبير من الأفكار البالية المخالفة لصحيح الدين فكان لزاما على الإصلاحيين العبور إلى مرحلة التوجيه في ظل الإصلاح بعد إخراج الغافلين من سطوة المستغفلين فجاء مقال: "في سبيل الوفاق والتفاهم" فوافق جزء من أنصار الفكرة الإصلاحية على ذلك ومنهم أبو يعلى الزواوي الذي لعب دورا بارزا في محاولة التوفيق بين الطائفتين بما عرف عنه من حب للوفاق ورؤية ثاقبة مع علم جم وخلق سام وحكمة بالغة، وخالف البعض وعلى رأسهم الطيب العقبي بما كان يمتلكه من عزم شديد وقوة في الحجة والبيان، وحرقة على العقائد الإسلامية الصحيحة.
غير أنّ هذه المرحلة سمحت لملوك طوائف الظلام من استعادة زمام المبادرة وإعادة الكرة فثارت ثائرة الزرديين وعباد القبور والطواف بالأضرحة وأعلن عن كثير من أعراس الشيطان في غرب البلاد وشرقها وزادت حمأة التعصب والتخريف.
فكانت المرحلة الأخرى من جهاد التغيير للشيخ ابن باديس فعاود فتح المجال في الشهاب وكتب مقال: "في سبيل الدعوة والإرشاد" وكانت الاستجابة واسعة من كل من توقف استجابة أو قاطع استنكارا.
وكما كان الحال بالنسبة للمعز بن باديس الذي لاقا من العبيديين الويلات جراء نسفه لسلطانهم على أرض المغرب ونصره لمذهب أهل السنة والجماعة نصرا مؤزرا، حيث أرسل إليه الحاكم العبيدي أعراب سليم وهلال ورياح وزغبة وهي قبائل اشتهرت بالإغارة وقطع الطريق خاصة وقد ضاق بهم العبيديون ذرعا في إقليم مصر، أرسلهم إلى المغرب وأباح لهم أرضها على أن ينزعوا من المعز سلطانه ويعيدوا للعبيدي رفعة شأنه، فكان منهم الخراب والدمار الذي ألحقوه بالمغرب بل إن القيروان من بعد وصولهم لم يعد لها ذاك الزخم الكبير من بعد خرابها ومعاودة عمرانها وقد حكى أهل التواريخ عن ذلك الأهوال تفصيلها في بطون صحائفهم.
وعبد الحميد كان له نفس مصير جده، فبعد أن فتح الباب من جديد لأهل التوحيد وأنصاره وأخذت المقالات المزلزلة والمناظرات المدوية تصعق أركان الخرافة وتدكها، أخذت خفافيش الضلالة تخطط للنيل من رأس الإصلاح ورائده وجاءت الفاجعة التي زعزعت عرين الموحدين في مشارق الأرض ومغاربها معلنة بدأ مرحلة جديدة من مراحل الصراع بين الحق والباطل في الجزائر إذ سطى أحد الأشقياء بالشيخ ابن باديس راغبا إزهاق روحه وقتله من دون رحمة ولا شفقة بإيعاز من مرؤوسيه ومقدميه غير أن العناية الإلهية أبت غير ذلك ونصر الله ابن باديس على ظالمه وأسر الجاني وحوكم وعفى عنه الشيخ بشموخ ورفعة.
وواصل ابن باديس مسيرة الإصلاح في الجزائر كتابة للمقالات ونشرا للكتب النافعة كالعواصم من القواصم لابن العربي المعافري وتدريسا لشتى العلوم خاصة التفسير الذي كان يجمع فيه بين العقيدة والحديث واللغة والبلاغة والفقه وأصوله مع ربط كل ذلك بواقع مرير مشحون بالخرافة والجهل والفقر والاستعباد.
وظل الإمام على ذلك إلى أن وافته المنية مقبلا غير مدبر موقن غير مرتاب مخلفا وراءه تركة عظيمة، عمادها تلاميذ تحدوا الصروف والصعاب فنشروا عقائده ومنهجه الذي أثمر بعد عشرية من السنين ثورة حققت حلم أمة أُجلّ تعبيره مئة من الأعوام، فليس هناك من شك أن بذر ابن باديس ومن معه من أهل العلم والإصلاح كان من اللبنات الأولى التي فجرت ثورة التحرير التي بارك الله فيها وفي آهلها، فخربت حصون الاستدمار ويسرت طريق النور والحرية والانتصار، وكما دحرت جيوش المعز ابن باديس ذيول الاستعمار العبيدي الاسماعيلي فشجاعة عبد الحميد بن باديس وإباؤه وتمسكه بالسنة الصافية والعقيدة الصحيحة مكنه من تنشئة جيل يدحر بدوره فلول الاستعمار الفرنسي الصليبي، فحقا من شابه أباه فما ظلم.
________________________
1- البيان المغرب في أخبار الأندلس و المغرب لابن عذاري المراكشي(1/277).

2 -الكامل في التاريخ لابن الأثير(8/114).
3 -سير أعلام النبلاء للحافظ الذهبي(18/140).
4 -نفس المصدر.
5-وفيان الأعيان وأنباء أبناء الزمان لابن خلكان (5/ 234).
6 - البيان المغرب في أخبار الأندلس و المغرب لابن عذاري المراكشي(1/277-278).
7 - وفيان الأعيان وأنباء أبناء الزمان لابن خلكان (5/234).
8_ الإسلام الصحيح (ص106).
9-صراع بين السنة والبدعة للفقيه الشيخ أحمد حماني(1/72).
10-المصدر نفسه.

كتـب المقال أبو معاذ عمار بن محمد الأثري
من مجلة غذاعة القرآن الكريم بالجزائر