أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


قال الإمام ابن القيم - رحمه الله - في كتابه القيِّم "الفوائد" :

فَائِدَة جليلة:

- قَوْله تَعَالَى:
((كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تعلمُونَ))
- وَقَوله عزّ وجلّ:
((وَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كثيرا))

-- فالآية الأولى فِي الْجِهَاد الَّذِي هُوَ كَمَال الْقُوَّة الغضبية.
-- وَالثَّانيَِة فِي النِّكَاح الَّذِي هُوَ كَمَال الْقُوَّة الشهوانية.

--- فَالْعَبْد يكره مُوَاجهَة عدوه بقوته الغضبية خشيَة على نَفسه مِنْهُ وَهَذَا الْمَكْرُوه خير لَهُ فِي معاشه ومعاده وَيُحب الْمُوَادَعَة والمتاركة وَهَذَا المحبوب شَرّ لَهُ فِي معاشه ومعاده ،

--- وَكَذَلِكَ يكره الْمَرْأَة لوصف من أوصافها وَله فِي إِِمْسَاكهَا خير كثير لَا يعرفهُ وَيُحب الْمَرْأَة لوصف من أصافها وَله فِي إِِمْسَاكهَا شَرّ كثير لَا يعرفهُ.

فالإنسان - كَمَا وَصفه بِهِ خالقه - ظلوم جهول ،
فَلَا يَنْبَغِي أَن يَجْعَل المعيار على مَا يضره وينفعه: ميله وحبه ونفرته وبغضه ، بل المعيار على ذَلِك مَا اخْتَارَهُ الله لَهُ بأَمْره وَنَهْيه ،


فأنفع الْأَشْيَاء لَهُ على الْإِطْلَاق طَاعَة ربه بِظَاهِرِهِ وباطنه ،
وأضر الْأَشْيَاء عَلَيْهِ على الْإِطْلَاق مَعْصِيَته بِظَاهِرِهِ وباطنه ،


فَإِذا قَامَ بِطَاعَتِهِ وعبوديته مخلصا لَهُ فَكل مَا يجْرِي عَلَيْهِ مِمَّا يكرههُ يكون خيرا لَهُ ،
وَإذَا تخلى عَن طَاعَته وعبوديته فَكل مَا هُوَ فِيهِ من مَحْبُوب هُوَ شَرّ لَهُ .

--- فَمن صحت لَهُ معرفَة ربه وَالْفِقْه فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاته علم يَقِينا أَن المكروهات الَّتِي تصيبه والمحن لتي تنزل بِهِ فِيهَا ضروب من الْمصَالح وَالْمَنَافِع التي لَا يحصيها علمه وَلَا فكرته بل مصلحَة العَبْد فِيمَا يكره أعظم مِنْهَا فِيمَا يحب ،

--- فعامة مصَالح النُّفُوس فِي مكروهاتها ،
كَمَا أَن عَامَّة مضارها وَأَسْبَاب هلكتها فِي محبوباتها ،



فَانْظُر إِلَى غارس جنَّة من الجنات خَبِير بالفلاحة غرس جنَّة وتعاهدها بالسقي والإصلاح حَتَّى أثمرت أشجارها فَأقبل عَلَيْهَا يفصل أوصالها وَيقطع أَغْصَانهَا ؛ لعلمه أَنَّهَا لَو خليّت على حَالهَا لم تطب ثَمَرَتهَا ، فيُطَعِّمها من شَجَرَة طيبَة الثَّمَرَة ، حَتَّى إِذا التحمت بهَا واتحدت وأعطت ثَمَرَتهَا أقبل يُقَلِّمُها وَيقطع أَغْصَانهَا الضعيفة الَّتِي تذْهب قوتها ويذيقها ألم الْقطع وَالْحَدِيد لمصلحتها وكمالها لتصلح ثَمَرَتهَا أَن تكون بِحَضْرَة الْمُلُوك ، ثمَّ لَا يَدعهَا ودواعي طبعها من الشّرْب كل وَقت بل يعطشها وقتا ويسقيها وقتا وَلَا يتْرك المَاء عَلَيْهَا دَائِما وَإِن كَانَ ذَلِك أَنْضَرُ لورقها وأسرع لنباتها ثمَّ يعمد إِلَى تِلْكَ الزِّينَة الَّتِي زينت بهَا من الأوراق فيلقي عَنْهَا كثيرا مِنْهَا لِأَن تِلْكَ الزِّينَة تحول بَين ثَمَرَتهَا وَبَين كَمَال نضجها واستوائها ، كَمَا فِي شجر الْعِنَب وَنَحْوه ، فَهُوَ يقطع أعضاءها بالحديد ويلقي عَنْهَا كثيرا من زينتها وَذَلِكَ عين مصلحتها فَلَو أَنَّهَا ذَات تَمْيِيز وَإِدْرَاك كالحيوان لتوهمت أَن ذَلِك إِفْسَاد لَهَا وإضرار بهَا وَإِنَّمَا هُوَ عين مصلحتها ،

وَكَذَلِكَ الْأَب الشفيق على وَلَده الْعَالم بمصلحته إِذا رأى مصْلحَته فِي إِخْرَاج الدَّم الْفَاسِد عَنهُ بضّع جلده وَقطع عروقه وأذاقه الْأَلَم الشَّديد ، وَإِن رأى شفاءه فِي قطع عُضْو من أَعْضَائِهِ أبانه عَنهُ ، كَل ذَلِك رَحْمَة بِهِ وشفقة عَلَيْهِ ، وَإِن رأى مصْلحَته فِي أَن يمسك عَنهُ الْعَطاء لم يُعْطه وَلم يُوسع عَلَيْهِ لعلمه أَن ذَلِك أكبر الْأَسْبَاب إِلَى فَسَاده وهلاكه ، وَكَذَلِكَ يمنعهُ كثيرا من شهواته حمية لَهُ ومصلحة لَا بخلا عَلَيْهِ .

فأحكم الْحَاكِمين وأرحم الرَّاحِمِينَ وَأعلم الْعَالمين الَّذِي هُوَ أرْحم بعباده مِنْهُم بِأَنْفسِهِم وَمن آبَائِهِم وأمهاتهم إِذا أنزل بهم مَا يكْرهُونَ كَانَ خيرا لَهُم من أَن لَا ينزله بهم ؛ نظرا مِنْهُ لَهُم وإحسانا إِلَيْهِم ولطفا بهم ، وَلَو مُكِّنوا من الاختيار لأَنْفُسِهِمْ لعجزوا عَن الْقيام بمصالحهم علما وَإِرَادَة وَعَملا ، لكنه سُبْحَانَهُ تولى تَدْبِير أُمُورهم بِمُوجب علمه وحكمته وَرَحمته أَحبُّوا أم كَرهُوا فَعرف ذَلِك الموقنون بأسمائه وَصِفَاته فَلم يتهموه فِي شَيْء من أَحْكَامه وخفي ذَلِك على الْجَهْل بِهِ وبأسمائه وَصِفَاته فنازعوه تَدْبيره وقدحوا فِي حكمته وَلم ينقادوا لحكمه وعارضوا حكمه بعقولهم الْفَاسِدَة وآرائهم الْبَاطِلَة وسياساتهم الجائرة ، فَلَا لرَبهم عرفُوا وَلَا لمصالحهم حصلوا ، وَالله الْمُوفق.

وَمَتى ظفر العَبْد بِهَذِهِ الْمعرفَة سكن فِي الدُّنْيَا قبل الْآخِرَة فِي جنَّة لَا يشبه نعيمها إِلَّا نعيم جنة الْآخِرَة ، فَإِنَّهُ لَا يزَال رَاضِيا عَن ربه ،

وَالرِّضَا جنَّة الدُّنْيَا ومستراح العارفين ، فَإِنَّهُ طيب النَّفس بِمَا يجْرِي عَلَيْهِ من الْمَقَادِير الَّتِي هِيَ عين اخْتِيَار الله لَهُ وطمأنينتها إِلَى أَحْكَامه الدِّينِيَّة ،

وَهَذَا هُوَ الرِّضَا بِاللَّه رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دينا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولا ، وَمَا ذاق طعم الْإِيمَان من لم يحصل لَهُ ذَلِك ،
وَهَذَا الرِّضَا هُوَ بِحَسب مَعْرفَته بِعدْل الله وحكمته وَرَحمته وَحسن اخْتِيَاره ،

فَكلما كَانَ بذلك أعرف كَانَ بِهِ أرْضى ،

فقضاء الرب سُبْحَانَهُ فِي عَبده دائر بَين الْعدْل والمصلحة وَالْحكمَة وَالرَّحْمَة لَا يخرج عَن ذَلِك الْبَتَّةَ ، كَمَا قَالَ فِي الدُّعَاء الْمَشْهُور " ((اللَّهُمَّ إِنِّي عَبدك ابْن عَبدك ابْن أمتك ناصيتي بِيَدِك مَاض فِي حكمك عدل فِي قضاؤك أَسأَلك بِكُل اسْم هـ لَك سميت بِهِ نَفسك أَو أنزلته فِي كتابك أَو علّمته أحدا من خلقك أَو استأثرت بِهِ فِي علم الْغَيْب عنْدك أَن تجْعَل الْقُرْآن ربيع قلبِي وَنور صَدْرِي وجلاء حزني وَذَهَاب همي وغمي)) مَا قَالَهَا أحد قطّ إِلَّا أذهب الله همه وغمه وأبدله مَكَانَهُ فرجا ، قَالُوا: أَفلا نتعلمهن يَا رَسُول الله؟ ، قَالَ: بِلَى ، يَنْبَغِي لمن سمعهن أَن يتعلمهن"

وَالْمَقْصُود قَوْله ((عدل فيّ قضاؤك)) وَهَذَا يتَنَاوَل كل قَضَاء يَقْضِيه على عَبده من عُقُوبَة أَو ألم ، وَسبب ذَلِك فَهُوَ الَّذِي قضى بِالسَّبَبِ وَقضى بالمسبب ، وَهُوَ عدل فِي هَذَا الْقَضَاء ، وَهَذَا الْقَضَاء خير لِلْمُؤمنِ كَمَا قَالَ : ((وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَا يقْضِي الله لِلْمُؤمنِ قَضَاء إِلَّا كَانَ خيرا لَهُ وَلَيْسَ ذَلِك إِلَّا لِلْمُؤمنِ))

قَالَ الْعَلامَة ابْن الْقيم:
فَسَأَلت شَيخنَا: هَل يدْخل فِي ذَلِك قَضَاء الذَّنب؟
فَقَالَ: نعم ، بِشَرْطِهِ .

فأجمل فِي لَفْظَة بِشَرْطِهِ مَا يَتَرَتَّب على الذَّنب من الْآثَار المحبوبة لله من التَّوْبَة والانكسار والندم والخضوع والذل والبكاء وَغير ذَلِك.

انتهى كلامه رحمه الله.