أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا

أما بعد

أيها الأحبة هذا هو الجزء الثالث من سلسلة مقالات عن الإخوة في الله لشيخنا أبي عبد الله النائلي نشرها شيخنا حفظه الله في جريدة الشرق القطرية أنقلها إلى هذا الملتقى المبارك حتى تعم الفائدة

بسم الله الرحمن الرحيم
(3) مفسدات الأخوة الإيمانية
مر معنا أيها الأحبة أن الأخوة في الله نعمة كبيرة ومنة عظيمة من الرب جل جلاله ، وأن لها ثمار طيبة نافعة بعون الله ، فما أروع أن نشاهد مجتمعا إسلاميا تسوده الألفة والمحبة ،يشعر الفرد فيه بقربه من الآخرين وقربهم منه دون انقباض ولا تكلف.
لكن عندما يرى شياطين الجن و الإنس هذه المودة وهذا الإخاء بين المسلمين لن يهنئ لهم بال ولا يقر لهم قرار ،حتى يفسدوا رابط الأخوة ويقطعوا أوصالها ، ويجعلوا المجتمع الذي كان متآلفا متعاونا في فرقة وشتات حسدا من عند أنفسهم ، فلا عاصم منهم إلا رب العزة ،ثم بذل الأسباب التي بعون الله تدفع شرهم وتفضح كيدهم .
ولهذا كان علينا لزاما أيها الكرام أن نحذر من مكائدهم وحبالهم التي يَنصبونها في طريق الأخوة في الله، حتى لا نقع في مصائدها، ولكن لا يكون ذلك إلا بعون الله ثم معرفة المحاذير التي يتخذها أعداء الأخوة جندا لهم لإفساد التآخي وزرع العداوة بين الإخوان،
فلهذا أيها الأفاضل أحببت أن أسلط الضوء في هذا المقال على أهم تلك المفسدات ، لنعلمها و نبتعد عنها ، فمنها :
1-الطمع لما في أيدي الغير والتعلق بالدنيا:إن من شر الآفات التي تثمر عن التعلق بالدنيا والطمع لما في أيدي الغير ، الحسد ، يقول شيخ الإسلام -رحمه الله-:"والحسد مرض من أمراض النفس وهو مرض غالب، فلا يخلص منه إلا القليل من الناس، ولهذا يقال:ماخلا جسد من حسد لكن اللئيم يبديه والكريم يخفيه". أمراض القلوب و شفاؤها ( ص21)
وعلة هذا الداء ترجع إلى الإفراط في الأنانية وحب الذات ، مع ضعف في الإيمان ،و قد نهى نبينا صلى الله عليه وسلم عن الحسد فقال: ( ولا تحاسدوا ...).رواه البخاري (5718 ) ومسلم ( 2563) من حديث أبي هريرة –رضي الله عنه-
فالحسد يقطع وصلات القربات ، ويفسد الصداقات ، ويولد بين الناس العداوات ، ويباعد بين الجماعات .
ومن أدوية هذا الداء العضالما قاله شيخ الإسلام – رحمه الله- :" من وجد في نفسه حسداً لغيره فعليه أن يستعمل معه التقوى والصبر فيكره ذلك من نفسه" أمراض القلوب و شفاؤها ( ص21).
ومما ينبغي أن يعلم في هذا الباب أنه كل ازداد التعلق بالدنيا وحطامها قل التعاون بين الناس واندثر الإيثار ،والله المستعان.
2-الغيبة والنميمة والتجسس والغمز والسخرية:وقد نهى الباري جل جلاله أهل الإيمان من أن يغتب بعضهم بعضا،فقال سبحانه(وَلَا تَجَسَسوا ولا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ)[الحجرات: 12]
قال الإمام الطبري –رحمه الله- : "أيحب أحدكم أيها القوم أن يأكل لحم أخيه بعد مماته ميتا، فإن لم تحبوا ذلك وكرهتموه لأن الله حرم ذلك عليكم، فكذلك لا تحبوا أن تغتابوه في حياته، فاكرهوا غيبته حيًا كما كرهتم لحمه ميتًا، فإن الله حرم غيبته حيًا كما حرم أكل لحمه ميتًا " .تفسير الطبري ( 26/137)
قال الشيخ السعدي–رحمه الله-:" فكما أنكم تكرهون أكل لحمه ، وخصوصا إذا كان ميتا ، فاقد الروح ، فكذلك ، فلتكرهوا غيبته وأكل لحمه حيا".تفسير السعدي(ص 802)
والغيبة هي أن يذكر الإنسان أخاه في غير حضرته بما يكره ،كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم:"أتدرون ما الغيبة"؟ قالوا: الله ورسوله أعلم،قال:"ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ ".قيل:أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟قال:" إن كان فيه ما تَقُولُ فقد اغتبته،وإن لم يكن فيه فقد بَهَتَّهُ".رواه مسلم (2589)من حديث أبي هريرة–رضي الله عنه-
فمن ذكر أخاه في غيبته بما يكره مما هو فيه فتلك هي الغيبة ، ومن ذكر أخاه في غيبته بما يكره مما ليس فيه ، فقد بهته ، أي كذب عليه واتهمه بما ليس فيه .
وكون الغيبة تقطع أواصر الأخوة الإيمانية ، لأنها غالبا لا تبقى سرا ، فقل من الناس من يكتم حديثا، بل يصل العلم لمن تكلم فيه ، وعندئذ يغضب ممن اغتابه و يحقد عليه ، وتسود العداوة بينهم .
وأما التجسس على الناس فيكون بتتبع عوراتهم،إما بالنظر إليهم وهم لا يشعرون،وإما باستراق السمع وهم لا يعلمون،وإما بالإطلاع على ما يخفونه عن أعين الناس دون إذن منهم ، وقد نهى الله المؤمنين عن التجسس على إخوانهم المؤمنين،فقال سبحانه:( ولا تجسسوا...)[الحجرات : 12]
قال الشيخ السعدي–رحمه الله-:"أي:لا تفتشوا عن عورات المسلمين،ولا تتبعوها،واتركوا المسلم على حاله،واستعملوا التغافل عن زلاته ،التي إذا فتشت ظهر منها ما لا ينبغي".تفسير السعدي (ص 801)
والتجسس يُولِّد في المجتمع الأحقاد والعداوات ، إذ يشعر المتجسس عليه بأنه مشكوك في أمره غير موثوق به ، فيكره و يبغض من يتجسس عليه .
أما ما يتعلق باللمز و الغمز ، فاللمز هو أن يعيب الإنسان أخيه في وجهه بكلام ولو خفيّ ، ورب لمز خفي هو أشد من طعن صريح ، وأعمق جرحاً في داخل النفس ، لأن فيه بالإضافة إلى الطعن والتجريح بالعيب معنى استغباء الملموز واستغفاله ، فكأن اللامز يشعر الذين في المجلس أن الملموز غبي لا ينتبه إلى الطعن الذي يوجه ضده في رمز الكلام ، يقول تعالى:(ولا تلمزوا أنفسكم)[ الحجرات : 11]،ونلاحظ أن القرآن عبر عن لمز الأخ الموحد لأخيه بلمز نفسه وكأنهم جسد واحد،قال الشيخ السعدي–رحمه الله-: "وسمى الأخ المسلم نفسا لأخيه،لأن المؤمنين ينبغي أن يكون هكذا حالهم كالجسد الواحد ، ولأنه إذا همز غيره ، أوجب للغير أن يهمزه، فيكون هو المتسبب لذلك ". تفسير السعدي (ص 801)
وكذلك السخرية فإن السخرية من الأخ إيذاء له وعدوان على كرامته،يقول الله تعالى(يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ )[ الحجرات : 11]
قال الشيخ السعدي –رحمه الله- : وهذا أيضا من حقوق المؤمنين بعضهم على بعض، أن( لا يسخر قوم من قوم ) بكل كلام ، وقول ، وفعل دال على تحقير الأخ المسلم ، فإن ذلك حرام ، لا يجوز ، وهو دال على إعجاب الساخر بنفسه . وعسى أن يكون المسخور به خيرا من الساخر ، وهو الغالب والواقع ، فإن السخرية لا تقع إلا من قلب ممتلئ من مساوئ الأخلاق ، متحل بكل خلق ذميم ، متخل من كل خلق كريم". تفسير السعدي (ص 801)
ومن آثار هذا الخلق الذميم أنه يولد الرغبة بالانتقام ،ويقطع رابط التآخي والتراحم .
4- الغضب:وهو شعلة محرقة من النار تعمي صاحبها وتصمه فلا تنفع فيه الذكرى ولا ترده موعظة ،نسأل الله العافية.
يقول الإمام ابن قدامة المقدسي –رحمه الله- : " متى قويت نار الغضب والتهبت ، أعمت صاحبها ، وأصمته من كل موعظة ، لأن الغضب يرتفع للدماغ ، فيغطي على معادن الفكر ، وربما تعدى إلى معادن الحس ، فتظلم عينيه حتى لا يرى بعينيه ". مختصر منهاج القاصدين ( 179)
وقد حذر المصطفى صلى الله عليه وسلم أشد التحذير من هذا الخلق الذميم ، فكرر الوصية للرجل الذي طلب منه أن يوصيه فقال له : " لا تغضب " .رواه البخاري (5756) من حديث أبي هريرة –رضي الله عنه-
قال الحافظ ابن حجر –رحمه الله- : " قال ابن التين :جمع صلى الله عليه وسلم في قوله لا تغضب خير الدنيا والآخرة لأن الغضب يؤول إلى التقاطع ومنع الرفق وربما آل إلى أن يؤذي المغضوب عليه فينتقص ذلك من الدين".فتح الباري (10/520)
فالغضب شعلة من النار ، يحرق حبال الأخوة الإيمانية ويفسدها ، بحيث يجعل الناس ينفرون ولا يتقربون ممن كان يُوصف به، نسأل الله لنا ولكم العافية .
فهذه أيها الأحبة بعض أهم المفسدات التي تؤدي إلى قطع أوصال المحبة و ضياع الألفة بين الإخوان، و إن كانت في جملتها ترجع إلى سبب عام ألا وهو الوقوع في المعاصي و الذنوب ، فالتفريق عقوبة ارتكاب الذنوب ، قال صلى الله عليه وسلم:"ما تواد اثنان في الله عز وجل أو في الإسلام فيُفرق بينهما أولُ ذنب يحدثه أحدهما" (وفي رواية إلا بذنب يحدثه أحدهما) .رواه البخاري في الأدب المفرد (401) من حديث أنس -رضي الله عنه-، وصححه العلامة الألباني-رحمه الله- في السلسة الصحيحة ( 637)
وينبغي أن يعلم أن ليس من شرط تمزيق روابط الأخوة أن يكون الذنب متعلقًا بحق الأخ، بل ظاهر الحديث أنه يعم مطلق الذنوب ، كترك الواجبات, أو عدم حفظ اللسان عن قبيح الكلام من غيبة أو خوض في أعراض الناس أو الاستهزاء بهم ... إلى غير ذلك من المعاصي والذنوب.
أيها الأحبة مما يجدر التنبيه عليه أن من حق الأخ أن يعاتب أخاه وينصحه، لكن لا بد أن يكون ذلك بتلطف وتودد، و تكره المعاتبة في كل صغيرة وكبيرة، وذلك لأن كثرتها يسبب الملل ويفضي إلى قطع المودة؛ لأن أخاك إما أنك لا تتحمل أدنى شيء منه، أو أنك دائمًا تسيء به الظن، أو تنظر إليه على أنه مقصر في حقك،وعلينا أن نتيقن أننا لن نجد صديقا ولا أخا في الله ليس في وده خلل، بل لا نخلو نحن من النقص ، فعلينا أن نسدد ونقارب في هذا الباب ونسأل الله أن يصلح حالنا وحال إخواننا .
أيها الأفاضل قد ضرب سلفنا الصالح من الصحابة( رضوان الله عنهم) ومن سار على هديهم أروع الأمثلة في تحقيق معاني التآخي في الله خاصة بين ما كان بين المهاجرين و الأنصار ( رضوان الله عليهم ) .
وقد أحببنا قبل أن نختم معكم هذه الذكرى الطيبة في باب الأخوة أن نقف و إياكم مع بعض قصصهم ، لعل الله بجوده وكرمه ييسر لنا الاقتداء بهم واقتفاء آثارهم .
وهذا ما يكون بعون الله في المقال المقبل الذي هو تتمة لهذه السلسلة التي أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يجعلها خالصة لوجهه الكريم و أن ينفع بها كاتبها وقارئها بجوده وكرمه، فهو سبحانه ولي ذلك والقادر عليه .
وصلي اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أبو عبد الله النايلي