أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور انفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم
أما بعد

فهذا هو الجزء الثالث والآخير من سلسلة مقالات شيخنا أبو عبد الله النائلي الجزائري حفظه الله عن أهمية الوقت والتي نشرت في جريدة الشرق القطرية أنقلها إلى هذا الملتقى المبارك راجيا الله عز وجل لكاتبها وناقلها وقارئها الأجر والمنفعة بمنه وكرمه

بسم الله الرحمن الرحيم
(3) الإجازة...
ساعة وساعة في ظلال الطاعة
إن من سماحة الشريعة الغراء وكمالها أنها حثت الفرد على أن يتمتع بالمباحات ويخفف عن نفسه من الضائقات، شريطة أن لا يجره ذلك إلى ارتكاب المحرمات أو يشغله عن فعل الواجبات، قال تعالى (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا) [ القصص :77]
قال ابن كثير –رحمه الله- : "أي مما أباح الله فيها من المآكل والمشارب والملابس والمساكن و المناكح، فإن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا ولِزَوْرك عليك حقا، فآت كل ذي حق حقه ".تفسير ابن كثير (3/400)
قال الشيخ ابن سعدي –رحمه الله-: "واستمتع بدنياك ،استمتاعا لا يثلم دينك ، ولا يضر بآخرتك " .تفسير السعدي (ص 623)
وقال صلى الله عليه وسلم : " إن لربك عليك حقا ولنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا فأعط كل ذي حق حقه ".رواه البخاري (1867) من حديث أبي جحيفة – وهب ابن عبد الله السوائي ( رضي الله عنه)
وقال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص-رضي الله عنه-: " فإن لجسدك عليك حقا وإن لعينك عليك حقا وإن لزوجك عليك حقا وإن لِزَوْركَ – ضيفك- عليك حقا ".رواه البخاري (1874) واللفظ له ، ومسلم (1159) وزاد:" وإن لولدك عليك حق " .
قال الحافظ ابن حجر– رحمه الله-:"(وإن لنفسك عليك حقا) أي: تعطيها ما تحتاج إليه ضرورة البشرية مما أباحه الله للإنسان من الأكل والشرب والراحة التي يقوم بها بدنه ليكون أعون على عبادة ربه ". فتح الباري ( 3 /38)
قال الشيخ ابن عثيمين– رحمه الله- :" وهذا من عدل الشريعة الإسلامية وكمالها،أن الله عز وجل له حق فيُعطى حقه عز وجل ،وكذلك للنفس حق فتعطى حقها ، وللأهل حق فيعطون حقوقهم ، وللزوار و الضيوف حق فيعطون حقوقهم،حتى يقوم الإنسان بجميع الحقوق التي عليه على وجه الراحة، ويتعبد لله براحة لأن الإنسان إذا أثقل على نفسه وشدد عليها ملَّ وتعب ، وأضاع حقوقا كثيرة ".شرح رياض الصالحين ( 2/236)
وعن حنظلة بن الربيع الأسدي (رضي الله عنه) – أحد كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال: لقيني أبو بكر -رضي الله عنه- فقال كيف أنت يا حنظلة؟ قلت نافق حنظلة! قال سبحان الله! ما تقول؟ قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يُذكرنا بالجنة والنار كأنا رأي عين فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عَافسنا– لا عبنا- الأزواج والأولاد والضَّيعات–معاش الرجل من حرفة أو صناعة-نسينا كثيرا.قال أبو بكر -رضي الله عنه-فو الله إنا لنلقى مثل هذا،فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت:نافق حنظلة يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"وما ذاك؟"قلت يا رسول الله:نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة كأنا رأي عين،فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضَّيعات نسينا كثيرا.فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"والذي نفسي بيده إن لو تَدُومُون على ما تكونون عندي،وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فُرشكم وفي طُرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة" ثلاث مرات ، رواه مسلم ( 2750 )
كثير من الناس اليوم ! -إلا من رحم الله- إذا وجدته ملتبسا بمعصية خاصة في فترة إجازته فأنكرت عليه ،رد عليك وقال :"ساعة وساعة !" أخذا بهذا الحديث!
فيقال له ليس المراد من هذا الحديث ساعة لربك وساعة لنفسك فتفعل المعاصي !، ثم لننظر في الحديث ، لقد كانت الساعة الأولى للصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم فيها تذكر الجنة و النار ،و الساعة الأخرى مع الزوجة و الأولاد و أمور الدنيا كالعمل في الحرف و الصناعات ،هل كانت ساعته الأولى طاعة و الأخرى معصية !
هل كانت الساعة الأولى في سماع القرآن والأخرى في سماع مزمار الشيطان !
نعم وقت المؤانسة و الملاطفة مع أهل البيت هو وقت مباح ، لكن من قوي إيمانه وحضرت نيته فإنه يعدُ هذه الساعة طاعة،وهذا هو حال سلفنا الصالح(رضوان الله عليهم) حيث كانوا يتعبدون الله حتى في وقت المباحات باستحضار نية التقوي على العبادة بها، فعن معاذ بن جبل –رضي الله عنه- قال:"إني أحتسب نومتي كما أحتسب قومتي" . رواه البخاري ( 4086)
فمن جالس أهله وتسامر معهم فليحتسب الأجر في ذلك ، لأنه مأمور بالإحسان إليهم ،قال صلى الله عليه وسلم : " ولأهلك عليك حق" .
ومن اشتغل بحرفة أو صناعة فلينوي أن يعينه التكسب من ورائها على طاعة الله وذلك بالإنفاق على أهله والتصدق في سبيل الله .
لنتأمل أيها الكرام كيف خاف هذين الصحابيين على نفسيهما النفاق مع أنهما لم يرتكبا محرما ، ولم يضيعا واجبا، فأين حالنا من حالهم!! ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
قال ابن القيم-رحمه الله-:"تالله لقد ملئت قلوب القوم إيمانا ويقينا وخوفهم من النفاق شديد وهمهم لذلك ثقيل وسواهم كثير منهم لا يجاوز إيمانهم حناجرهم وهم يدعون أن إيمانهم كإيمان جبريل وميكائيل".مدارج السالكين ( 1/358)
أيها الأحبة ها هي الإجازة بفضل الله الوهاب تَطرق الأبواب فما نحن فيها فاعلين؟ وهل لاغتنامها فيما يرضي رب العالمين مستعدين ؟
أحببت في ختام هذا المقال أن أذكر نفسي و إياكم ببعض بما يجب علينا فيها ، سائلا الله لي و لكم البركة في الأوقات و التوفيق لاغتنامها و الثبات.
- تقوى الله في السر و العلانية وذلك بفعل المأمورات والابتعاد عن كل المحرمات صغيرها وكبيرها ، فمن الطرق المعينة على الابتعاد عن هذه المحرمات بإذن الله ،البعد وعدم السفر إلى الأماكن التي يعصى الله عز وجل فيها . أيها الأفاضل بعض الآباء يظن أنه لو أنفق على أبنائه في الملاهي بسخاء وزار بأبنائه الأماكن التي يجاهر فيها بمعصية الله ليرفه عنهم ،أنه قد أجزل لهم المثوبة بذلك وكافئهم على جدهم و اجتهادهم طوال العام ! وهذا فهم خاطئ و إفساد للأولاد وتضيع للأمانة ، سيسأل عنها يوم القيامة ،قال صلى الله عليه وسلم:" ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ..."رواه البخاري(6719) ومسلم(1829)واللفظ له من حديث ابن عمر -رضي الله عنه-
فالرابح في الإجازة هو من استغل وجوده بين أهله فنفس عليهم ورفَّه عنهم، وذَّكرهم بما يجب وحذرهم مما يجتنب.
- علينا أن نستغل أوقاتنا أحسن الاستغلال، ولا نضيعها ،ولا يكن همنا الوحيد كما يفعل بعض العاطلين مجرد قتلها وصرفها حتى لو كان ذلك فيما لا ينفع لا في الدنيا ولا في الآخرة،قال ابن الجوزي :"رأيت عموم الخلائق يدفعون الزمانَ دفعاً عجيباً: إن طال الليل، فبحديث لا ينفع, أو بقراءة كتاب فيه غزاة وسمر, وإن طال النَّهار فبالنوم, وهم في أطراف النهار على دجلة أو في الأسواق, فشبهتُهم بالمتحدثين في سفينة وهي تجري بهم, وما عندهم خبر, ورأيت النَّادرين قد فهموا معنى الوجود, فهم في تعبئة الزَّاد والتأهب للرحيل, إلا أنهم يتفاوتون, وسبب تفاوتهم قلة العلم وكثرته، بما ينفق في بلدِ الإقامة, فالغافلون منهم يحملُون ما اتفق, وربما خرجوا لا مع خفير, فكم ممن قد قطعت عليه الطريق فبقي مفلسا ، فالله الله في مواسم العمل و البدار البدار قبل الفوات " . صيد الخاطر ( ص46)
هذا في زمانه – رحمه الله- فكيف لو رأى هذا الزمان ،و اطلع على حال أهله ! ولا حول ولا قوة إلا بالله
وقال ابن القيم - رحمه الله-:"فالوقت منقض بذاته منصرم بنفسه،فمن غفل عن نفسه تصرمت أوقاته، وعظم فواته، واشتدت حسراته، فكيف حاله إذا علم عند تحقق الفوت مقدار ما أضاع، وطلب الرجعى فحيل بينه وبين الاسترجاع،وطلب تناول الفائت وكيف يرد الأمس في اليوم الجديد(وأنى لهم التناوش من مكان بعيد)[سبأ :52] ومنع مما يحبه ويرتضيه وعلم أن ما اقتناه ليس مما ينبغي للعاقل أن يقتنيه وحيل بينه وبين ما يشتهيه ". مدارج السالكين ( 3/50)
وأفضل ما تقضي به الأوقات وتستثمر به الإجازات وتزاد به الحسنات ، بإذن رب البريات ،زيارة المسجد الحرام، للاعتمار،ولا يخفى ما للعمرة من أجر عظيم عند رب كريم، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما ".رواه البخاري (1683) ،ومسلم(1349) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه-
- إن هذه الإجازات فرصة عظيمة؛ ليخلو الإنسان بنفسه ويراجع حساباته، فيجبر نقصه ويزيد من أجره ، كما أنها فرصة له لطلب العلم الشرعي؛ ورفع الجهل عنه ،فلنحرص على الدروس والدورات التي تقام في المساجد،وكذلك ليجتهد من لم يكن حافظا للقرآن منا في حفظه أو حفظ ما تيسر منه ، ومن يسر الباري له حفظه ، ففرصته تكون في مراجعته وتثبيته .
- وكذلك في العطل الصيفية فرصة لصلة الأرحام وتقوية العلاقات بهم ، ولا يخفاكم أيها الكرام ما لصلة الأرحام من أجور عظيمة عند الله تعالى، أهمها : أنها قربة إليه سبحانه ،فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله". رواه ومسلم (2555 )
فيجب علينا أيها الأحبة أن لا نضيع هذه الفرص،فالعمر يمضي والساعة تنقضي، ولنتزود من دنيانا لآخرتنا ولنشغل أنفسنا بما يحب ربنا ويرضى،قال ابن القيم-رحمه الله-:"النفس إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل وهو القلب إن لم تسكنه محبة الله عز وجل سكنه محبة المخلوقين ولا بد، وهو اللسان إن لم تشغله بالذكر شغلك باللغو وما هو عليك ولا بد فاختر لنفسك إحدى الخُطتين وأنزلها في إحدى المنزلتين". الوابل الصيب(ص111)
فالله أسأل أن يبارك لي ولكم في أعمارنا و أعمالنا ،و أن يشغلنا في طاعته و يعصمنا و إياكم من شرور الفتن ما ظهر منها وما بطن .
وصلي اللهم وسلم على نبينا محمد و على آله وصحبه أجمعين .
أبو عبد الله النايلي