موعظة أدبية دينية رائعة للعلامة ابن الجوزي ـ 597 هـ

إخواني اعلموا أن من عمل في الأيام خيرا حمد أمره. ومن اقترف فيها شرا أضاع عمره. سيندم غدا من قصر على تقصيره. ويتلهف من ترك العمل لمصيره. ويبكي هاجر الهدى بعد تبصيره.

إنما هي أوقات مبادرة تذهب. واغتنام أيام تنهب. فبادر بعمرك قبل الفوت. واغتنم حياتك قبل الموت. يا من يعصي مولاه على ما يريد. ويبارزه بالمعاصي وهو أقرب إليه من حبل الوريد. وهو في دار الأرباح لا يكسب ولا يستفيد. ولا يشوقه الوعد ولا يخوفه الوعيد.

أمله طويل وليس العمر بمديد. والمواعظ تقرع القلوب فتجدها أقسى من الصخور وأصلب من الحديد. تيقظ يا مغرور وافهم يا بليد. فالأمل طويل والأمن عريرٌ شريدٌ. وطريق العقاب بعيد مديد. كيف ترجو البقاء في دار الفناء والرحيل. تأمل الرضا والزمان قد مضى في غير الجميل.

أعددت الجواب وقد علمت أن الحساب يأتي على الكثير والقليل. فإلى متى تضيع الوقت الشريف. وحتى متى تتقرب إلى الملك اللطيف. وكيف أعرضت عن القيام بتخفيف التكليف. وأين تأثير الإنذار عندك والتخويف. يا من إذا دعي إلى صلاحه أبى وتخلف. وإذا وعد بتوبة تمادى وأخلف. وإذا هم بفعل الخير توانى وسوف. وإذا أدى واجبا شق عليه وتكلف. وإذا لاح له ما يهوى من المخازي لم يتأن ولم يتوقف. وإذا بارز بالمعاصي لم يتحذر ولم يتخوف.

هذا ميدان المجاهدة فأين اجتهادك. هذا الرحيل قد دنا فأين زادك. هذا الصراط قد مد فأين استعدادك. هذا ركن الفناء وثيق فأين اعتمادك. هذا الاعتبار قد لاح فأين أجدادك. هذا نذير الرحيل قد صاح فهل تم مرادك. وكيف نسيت مأربك فأثرت على يقينك ارتيابك. أفأمنت توبيخك وعتابك حتى ملأت من الخطايا. كتابك. ليت شعري ما الذي أصابك. حتى اخترت خطأك ورفضت صوابك. أنسيت حشرك وحسابك. أم أعددت للسؤال جوابك. يا هذا أبك على ذنوبك وكن حزيناً وجلا. قبل أن يأتي يوم الحسرة وأنت مطرق خجلا. وكن على طلب الخلاص بالإخلاص مستسهلا. قبل أن يصير دمعك إذا صغى سمعك منهملاً.

كيف يكون حالك إذا خرج الخلائق من القبور وفار البحر المسجور. وتدكدكت الجبال والصخور. وتمزقت السماء وهي تمور. وتقطعت الأرض وهي تحور. فهل ترى في ذلك اليوم من فتور. كيف يكون حالك إذا انكشفت غدا الأمور. وانهتكت من المذنبين الستور وبرز العدل الذي لا يجور. وذل كل جبار فجور. وتجلى العزيز الصبور. وحيل بينك وبينه يا مغرور. فناديت بالويل والثبور. كيف يكون حالك إذا قدمت غدا النجب للمطيعين. وانقطعت أنت في حملة المنقطعين.

كيف يكون حالك إذا نشرت غدا أعلام التائبين. وبقيت أنت مع الخائبين. كيف يكون حالك إذا حشر الناس سكارى. من هول يوم القيامة حيارى. وحسبت أنت مع الأسارى. ودمعك يسيح. وجفنك قريح. وعينك عبرى. وكبدك حرى. وعقلك مسلوب. وفؤادك يذوب. وظلم المعاصي قد انكشفت. والشدائد عليك قد تضاعفت. وصحيفتك قد ظهرت. والزبانية إليك قد تبادرت. والجحيم قد أزفرت. وأستارك قد انتهكت. وقبائحك قد برزت وذنوبك قد اشتهرت. ودموعك قد انهمرت. وعينك قد استعبرت. وتلتفت عن اليمين وعن الشمال. وقد خابت منك الآمال. تنادي في قلبك:
الحريق. كيف أمضي وأين الطريق. فحينئذ يهرب منك الأخ الشفيق. وينال الخل الودود والصاحب والرفيق. اللهم أجرنا من هول ذلك اليوم. واجعلنا من تباع الفائزين من القوم. يا من لا تأخذه سنة ولا نوم.

(من كتابه الموسوعيّ) :
(المنتظم في تاريخ الملوك والأمم)