أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


لا قياس في التوحيد
صلاح فتحي هَلَل

11/7/1433
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبيِّنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عن آل بيته وأصحابه جميعًا .
أما بعد:
فقد وقع كثيرٌ من الناس صرعى أفكار وأوهام الفلاسفة والمشبهة، والحائدين عن منهاج أهل السنة و الحديث والأثر في الاعتقاد خاصة، وفي التلقِّي وفَهْم النصوص عامة.

سبب المشكلة :


وأكثر ما أدَّى بهم إلى هذا السقوط هو فَهْمهم العقيدة ونصوصها بضرب الأمثال والتشبيهات لله عز وجل، أو بعبارة أخرى: قياسهم هذه النصوص ومعانيها على المعاني المشهورة المتداولة بينهم فيما يخصهم هم.

فظنَّ هؤلاء اتِّفاق الصفات بناء على اتِّفاق الأسماء، وهذا أخطر المزالق التي تركتهم فريسة الخلط والتشبيه وتحريف المعاني والنصوص؛ إِذْ لا يمكن لأحدٍ ادِّعاء تشبيه الخالق بالمخلوق لمجرَّد اتفاق أسماء بعض الصفات كالرحيم مثلا، فمجرَّد اتِّفاق الاسم لا يستلزم اتِّفاق الصفة أو المسمَّى.
لكن زلَّت قدَم القوم حين ضربوا لله عز وجل الأمثال، وصرفوا معنى نصوص الصفات والأسماء على المعنى المعهود المشهور لهم، فوقعوا في قياس الخالق على المخلوق، وفهموا صفة الخالق وهو الأعلى بناء على فهمهم ومعرفتهم لصفة المخلوق وهو الأدنى.

اشتراك الأسماء لا يستلزم اتِّفاق الصفات:


وقد نَبَّه أهل العلم وأئمة السنة قديمًا على ضرورة تلافي هذا القياس وهذا التشبيه، بين الخالق وبين المخلوق، فالنزول مثلًا وإِن اتَّفقَ في اسم الصفة بين الخالق والمخلوق غير أنّ كيفية الصفة في شأن الخالق عز وجل تختلف عن كيفيتها في شأن المخلوق، واتِّفاق الاسمين لا يستلزم اتفاق المسمَّيَيْن، أو تماثل الكيفيَّتَيْن.

وفي نحو هذا يقول الإمام الْـمُزَنِيَّ: «حديثُ النُّزُولِ قد ثَبَتَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مِن وجوه صحيحة، ووردَ في التَّنْزيل ما يُصدِّقُه، وهو قولُه تعالى: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) [الفجر: 22]، وَالنُّزُولُ وَالْـمَجِيءُ صفتان مَنْفِيَّتَانِ عن الله تعالى مِن طريقِ الحركة والانتقال مِن حالٍ إلى حالٍ؛ بل هما صفتان مِن صفات الله تعالى بلا تشبيهٍ، جَلَّ اللهُ تعالى عَمَّا تقولُ الْـمُعَطِّلَةُ لصفاته، والْـمُشَبِّهَةُ بها عُلُوًّا كبيرًا»([1]).
يريد أنّ صفات الله عز وجل وإِن اشتركت في الاسم مع صفات المخلوقين فإِنّها لا تتماثل معها في كيفيتها، فليس النزول في حقه سبحانه هو كنزول المخلوقين بالحركة والانتقال، بل النزول في حقّه سبحانه صفة له سبحانه وتعالى، لا تُشبه في كيفيتها صفة المخلوقين، ولا تماثلها، وإنما نؤمن بها كما وردتْ ولا نُشَبِّه اللهَ عز وجل بخلقه، فليس هو كخلقه تعالى وتقدّس وتنزّه عن مشابهة المخلوقين.

وما ذكره المزني في كلامه السابق قد وافقه عليه الإمام الخطابي فيما نقله عنه البيهقي عقب كلام المزني السابق؛ فقال البيهقي بعده: «وكانَ أبو سُليمانَ الْخَطَّابِيُّ رحمه الله يقولُ: إِنَّمَا يُنْكِرُ هذا وما أَشْبَهَهُ مِن الحديث مَن يَقِيسُ الأمورَ في ذلك بما يُشَاهِدُهُ مِن النُّزُولِ الذي هو تَدَلِّي مِن أعلى إلى أسفل، وَانْتِقَالٌ مِن فوقٍ إلى تحتٍ، وهذه صفةُ الأجسام والأَشْبَاحِ، فَأَمَّا نُزُولُ مَن لا تَسْتَوْلِي عليه صفاتُ الأجسامِ فَإِنَّ هذه المعاني غيرُ مُتَوَهَّمَةٍ فيه».

قلتُ: وهذا القَدْر مِن كلام الخطابي نوافقه عليه، وهو موافقٌ لما عليه أهل السنة والجماعة، غير أنّ القدْر الباقي مِن كلامه الذي نقله البيهقي في كتابه، وأعْرَضْنَا عنه؛ فقد تأَوَّل فيه الصفة على غير الوجه الصحيح، ولم يُمِرّها كما جاءت دون تأويلٍ؛ لأننا نقول: إِنَّ نفي التأويل عن الصفة لا يقل أهمية عن نفي التمثيل عنها، فلابد مِن إمرارها كما جاءت بغير تمثيلٍ أو تأويلٍ، فنؤمن بها كما جاءت، وندع الكيفية لله عز وجل؛ لمعرفتنا أن الكلام في الصفة فرعٌ على الكلام في الذات.

وقد ضرب الله عز وجل الأمثالَ لغيره سبحانه؛ فقال على سبيل المثال: «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ» (إبراهيم:24)، وقال: «ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» (النحل:75)، وقال: «ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» (الزُّمر:29)، وقال: «ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ» (التَّحريم:10)؛

لكن نهى سبحانه وتعالى عن ضرب الأمثال له فقال عز وجل: «فَلَا تَضْرِبُوا للهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ» (النحل:74)، ونفى عن نفسه سبحانه الشريكَ والمثيل في كل شيء، وقال تعالى: «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ» (الشُّورى:11).
وهذا يدل على خطورة ضرب المثل لله عز وجل، أو تشبيهه سبحانه بغيره.

معنى التَّشْبيه:


وحقيقة التشبيه الذي وقع فيه الـمُشَبِّهَةُ: هو التسوية في فَهْم الصِّفة بين صفات الخالق وصفات المخلوقين، فيقول الـمُشَبِّهون بلسانهم أو حالهم: يدٌ كيَدِي، يفهم هؤلاء النصوصَ الواردة في صفة اليد لله عز وجل، مثل فَهْمهم ومعرفتهم لأيدي المخلوقين، فيقعون في التسوية والتمثيل بين الخالق والمخلوق في هذه الصفة وغيرها مِن صفاته سبحانه وتعالى.

«وقد أَنْكَرَ أحمدُ([2]) التَّشْبِيهَ، فقالَ في رواية حَنْبَلٍ: الْـمُشَبَّهَةُ تقول: بَصَرٌ كَبَصَرِي، وَيَدٌ كَيَدِي، وَقَدَمٌ كَقَدَمِي، ومَن قال ذلك فقد شَبَّهَ اللهَ بخَلْقِهِ»([3]).

ويقول الإمام الترمذي: «وقد قال غير واحد من أهل العلم في هذا الحديث وما يُشبه هذا مِن الروايات مِن الصفات: ونزول الرب تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، قالوا: قد تَثْبُتُ الروايات في هذا وَيُؤْمَنُ بها ولا يُتَوَهَّمُ ولا يقال: كيف؟ هكذا رُوِيَ عن مالك، وسفيان بن عُيَيْنَةَ ، وعبد الله بن المبارك أنهم قالوا في هذه الأحاديث: أَمِرُّوهَا بِلَا كَيْفٍ، وهكذا قولُ أهل العلم مِن أهل السنة والجماعة، وأما الجَهْمِيَّةُ فَأَنْكَرَتْ هذه الروايات وقالوا: هذا تَشْبِيهٌ ، وقد ذكر الله عز وجل في غير موضع من كتابه اليَدَ وَالسَّمْعَ وَالبَصَرَ، فَتَأَوَّلَتِ الجَهْمِيَّةُ هذه الآيات ففسَّرُوها على غير ما فَسَّرَ أهلُ العلم، وقالوا: إِنَّ الله لم يخلُق آدمَ بيدِه، وقالوا: إنّ معنى اليد هاهنا القوة. وقال إسحاقُ بن إبراهيمَ: إِنَّمَا يكونُ التَّشْبِيهُ إذا قال: يَدٌ كَيَدٍ، أو مِثْلُ يَدٍ، أو سَمْعٌ كَسَمْعٍ، أو مِثْلُ سَمْعٍ، فإذا قال: سَمْعٌ كَسَمْعٍ، أو مِثْلُ سَمْعٍ، فهذا التَّشْبِيهُ، وَأَمَّا إذا قال كما قالَ اللهُ تعالى يَدٌ، وَسَمْعٌ، وَبَصَرٌ، ولا يقولُ كَيْفَ، ولا يقولُ مِثْلُ سَمْعٍ، ولا كَسَمْعٍ، فهذا لا يكون تَشْبِيهًا، وهو كما قال الله تعالى في كتبابه: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) [الشورى: 11]»(
[4]).

وقد سُئِلَ الإمام أبو زُرْعَةَ الرَّازي رحمه الله، «عن قول الله عز وجل: (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ) [المائدة:116]؛ قال: لا يُقال نفس كنفس؛ لأنه كفر، وقال: (لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) [سورة ص:75] أَنَّ الله عز وجل خَلَقَ آدمَ بيده، ولا يقال: يد مثل يدٍ، ولا يد كيد؛ لأنه كفرٌ، ولكن نؤمن بهذا كله. وسُئِل أبو زُرْعَةَ: أيحق أن يقال: الرب عز وجل له رجلين؟ قال: يقال كما جاء في الخبر، وهكذا ما جاء في الأخبار في مثل هذا. وسُئِل عن حديث ابن عباس: (الكرسي موضع القدمين) فقال: صحيحٌ ولا نُفسِّر، نقول كما جاء، وكما هو الحديث»(
[5]).

ولهذا قال الإمام أبو الحسين محمد بن أبي يعلى: «فإِنِ اعتقدَ مُعْتَقِدٌ في هذه الصفات ونظائرها مما وردَتْ به الآثارُ الصحيحةُ التشبيهَ في الجسم والنوع والشكل والطول = فهو كافرٌ، وإِنْ تأَوّلها على مُقتضى اللغة وعلى المجاز = فهو جَهْمِيٌّ، وإِنْ أَمَرَّهَا كما جاءتْ، مِن غير تأويل، ولا تفسير، ولا تجسيم، ولا تشبيه ــ كما فعلت الصحابة والتابعون ــ فهو الواجبُ عليه»(
[6]).

فلابد مِن إمرار الصفات كما جاءت في النصوص، دون تأويلٍ أو قياسٍ للصفة الواردة على صفات المخلوقين، أو فَهْم كيفيتها بناء على كيفية صفة المخلوقين، فهذا كله غير مقبول في باب الاعتقاد القائم على النص الوارد.

فالعبرة في باب العقيدة على النص الوارد، لا اتِّفاق الأسماء، كما ذكرنا آنفًا.
وقد شرح هذا الإمام أبو الحسن الأشعري حين قال في «رسالته لأهل الثغر»: «وأجمعوا أنه تعالى لم يزل موجودًا، حيًّا، قادرًا، عالمًا، مريدًا، متكلِّمًا، سميعًا، بصيرًا؛ على ما وصف به نفسُه، وتسمَّى به في كتابه، وأخبرهم به رسولُه، ودلَّت عليه أفعالُه، وأنَّ وَصْفَه بذلك لا يُوجب شبهه لمن وُصِفَ مِن خلقه بذلك؛ مِن قِبَل الشيئين لا يُشَبَّهان بغيرهما، ولا باتِّفاق أسمائهما([7])، وإنما يُشَبَّهان بأنفسهما، فلما كانت نفس الباري تعالى غير مشبهة لشيء من العالم بما ذكرناه آنفًا([8])؛ لم يكن وصفه بأنه حَيٌّ وقادر وعالم يُوجب تشبهه لمن وصفناه بذلك منا، وإنما يُوجب اتفاقهما في ذلك اتفاقًا في حقيقة الحي والقادر والعالم، وليس اتفاقهما في حقيقة ذلك يوجب تشابهًا بينهما، ألا ترى أَنَّ وصف الباري عز وجل بأنه موجود؛ ووصف الإنسان بذلك؛ لا يوجب تشابهًا بينهما؛ وإنْ كانا قد اتفقا في حقيقة الموجود؟ ولو وجب تشابههما بذلك لوجب تشابه السواد والبياض بكونهما موجودين، فلما لم يجب بذلك بينهما تشابه وإن كانا قد اتفقا في حقيقة الموجود = لم يجب أنْ يُوصف الباري عز وجل بأنه حي عالم قادر ووصف الإنسان بذلك تشابههما، وإن اتفقا في حقيقة ذلك، وإن كان الله عز وجل لم يزل مستحقًّا لذلك، والإنسان مستحقًّا لذلك عند خَلْق الله ذلك له وخَلْق هذه الصفات فيه» أهـ([9]).

لا قياس في التوحيد:


وبناء عليه لم يكن القياس في باب العقيدة مقبولًا أبدًا؛ إِذ القياس بإيجاز يقوم على علاقة بين سابقٍ ولاحقٍ، بحيثُ يقاس اللاحق على السابق عند توفُّر العلة الرابطة بينهما، حسب التفصيل المذكور في كتب أهل العلم، وهو بهذا الإيجاز يقوم على وجود سابق، فالذين يقيسون أسماء الله عز وجل وصفاته على صفات وأسماء البشر يقعون في خطرٍ عظيم من جهتين:

الأولى: إما أن يُقِرُّوا بوجود سابق يقيسون عليه، وهذا كفرٌ محضٌ؛ لما فيه مِن نفي الأوليّة عن الله عز وجل، وتقدّس وتعالى عن هذا القول.
والثاني: وإما أنْ يُقِرُّوا بأوليَّة الله عز وجل، فيبطل بذلك قولُهم وقياسهم؛ لأنّ القياس يكون على مثالٍ سابقٍ، وليس لاحقًا على ما يُراد قياسه عليه؛ فلا يُعقل أن يُعلم حكم شيءٍ بناء على ما لم يكن بعدُ!.

فقياس فرعٍ على أَصْلٍ، يستلزم وجود الأصل وأسبقيّته على هذا الفرع.


فإِنْ زَعَمَ زاعِمٌ قياس ما هو كائنٌ على ما لم يكن بعدُ؛ فقد خرج عن حدِّ المعقولات، ولم يعد ممَّنْ يصلح معه الكلام.

وقد ورد عن أبي يوسف القاضي أنه قال: «ليس التوحيد بالقياس، ألم تسمع إلى قول الله عز وجل في الآيات التي يصف بها نفسه أنه عالم قادر قوي مالك؟ ولم يقل: إني قادر عالم لعلة كذا أقدر، ولسبب كذا أعلم، ولهذا المعنى أملك؟ فلذلك لا يجوز القياس في التوحيد، ولا يُعرف إلا بأسمائه، ولا يُوصف إلا بصفاته، وقد قال الله تعالى في كتابه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:21] الآية. وقال: (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) [الأعراف:185]. وقال: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي البَحْرِ) [البقرة:164] إلى قوله: (يَعْقِلُونَ)([10]) .

قال أبو يوسف: لم يقل الله تعالى: انظر كيف أنا العالم، وكيف أنا القادر، وكيف أنا الخالق، ولكن قال: انظر كيف خلقتُ، ثم قال: (وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ) [النحل:70]، وقال: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) [الذاريات:21]، أي تعلم أنّ هذه الأشياء لها ربٌّ يُقلبها ويُبدئها ويُعيدها، وأنك مُكَوَّنٌ ولك مَن كَوَّنَكَ، وإنما دَلَّ الله عز وجل خَلْقَه بخَلْقِه ليعرفوا أنّ لهم رَبًّا يعبدوه ويُطيعوه ويُوحّدوه، وليعلموا أنّه مُكَوّنهم، لا هم كانوا ثم تسمى فقال: أنا الرحمن، وأنا الرحيم، وأنا الخالق، وأنا القادر، وأنا المالك؛ أي هذا الذي كَوَّنَكُم يُسمى المالك، القادر، الله، الرحمن، الرحيم، بها يُوصف.

ثم قال أبو يوسف: يُعرف الله بآياته، وبخَلْقِه، ويُوصف بصفاته، ويُسمى بأسمائه؛ كما وُصِفَ في كتابه، وبما أَدَّى إلى الخَلْقِ رسولُه.
ثم قال أبو يوسف: إِنّ الله عز وجل خلَقَكَ، وجعلَ فيكَ آلات وجوارحَ، عجّز بعضَ جوارحك عن بعضٍ وهو ينقلك عن حالٍ إلى حالٍ لتعرفَ أنّ لك رَبًّا كَوَّنَكَ، وجعلَ فيك نفسكَ عليك حجةً بمعرفته؛ تتعرَّف بخَلْقه، ثم وصف نفسَه فقال: أنا الرب، وأنا الرحمن، وأنا الله، وأنا القادر، وأنا المالك، فهو يُوصف بصفاته، ويُسمى بأسمائه.
قال الله تعالى: (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى) [الإسراء:110]، وقال: (وَللهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ) [الأعراف:180]، وقال: (لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) [الحشر:24].
فقد أَمَرَنا الله أنْ نُوَحِّدَه، وليس التوحيد بالقياس؛ لأن القياس يكون في شيءٍ له شبه ومِثْل، والله تعالى وتقدَّسَ لا شبه له، ولا مِثْل له، تبارك الله أحسن الخالقين([11]).
ثم قال: وكيف يُدْرَكُ التوحيد بالقياس، وهو خالق الخَلْق بخلاف الخلق؟ ليس كمثله شيء تبارك وتعالى([12]).
وقد أَمَرَكَ الله أنْ تؤمن بكل ما أَتَى به نبيُّه صلى الله عليه وسلم؛ فقال: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [الأعراف:158] .
فقد أَمَرَكَ الله بأَنْ تكون تابعًا سامعًا مطيعًا، ولو تُوسِّعَ على الأمة التماس التوحيد ابتغاء الإيمان برأيه وقياسه وهواه = إذًا لضلُّوا، ألم تسمع إلى قول الله عز وجل: (وَلَوِ اتَّبَعَ الحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ) [المؤمنون:71]؟ فَافْهَم ما فُسِّرَ لكَ» أهـ([13]).

والخلاصة:

وخلاصة الأمر في قول الإمام الخطيب البغداديّ رحمه الله، حين قال في كلامه على الصفات: «مذهب السلف رضوان الله عليهم إثباتها وإجراؤها على ظواهرها ، ونفي الكيفية والتشبيه عنها».
قال الخطيب: «والأصلُ في هذا: أنَّ الكلام في الصفات فرعٌ على الكلام في الذات ، ويحتذى في ذلك حذوه ومثاله، فإذا كان معلومًا أَنَّ إثبات ربّ العالمين عز وجل إنما هو إثبات وجودٍ، لا إثبات كيفية؛ فكذلك إثبات صفاته إنما هو إثبات وجودٍ ، لا إثبات تحديد وتكييف. فإذا قلنا: لله تعالى يدٌ وسمعٌ وبصرٌ؛ فإِنما هي صفاتٌ أثبتها الله تعالى لنفسِه ، ولا نقول: إن معنى اليد: القدرة ، ولا أنَّ معنى السمع والبصر: العلم ، ولا نقول: إنها جوارح ، ولا نشبهها بالأيدي والأسماع والأبصار التي هي جوارح وأدوات للفعل. ونقول: إنما وجب إثباتها؛ لأنَّ التوقيف وَرَدَ بها. ووجبَ نفي التشبيه عنها؛ لقوله تبارك وتعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) [الشورى:11] ، وقوله عز وجل: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) [الإخلاص:4] » ([14]).
وقال في أقسام الأحاديث المروية في الصفات: «منها أخبارٌ ثابتةٌ أَجْمَعَ أئمةُ النقل على صحتها؛ لاستفاضتها وعدالة ناقليها ، فيجب قبولها ، والإيمان بها ، مع حِفْظِ القلب أنْ يسبقَ إليه اعتقاد ما يقتضي تشبيه الله بخلقه ، ووصفه بما لا يليق به من الجوارح والأدوات والتغيُّر والحركات([15])»أهـ
وقال الإمام الحافظ أبو القاسم الأصبهاني ، المعروف بـ «قوام السنة»: «الكلام في صفات الله عز وجل ما جاء فيها في كتاب الله ، أو رُوِيَ بالأسانيد الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فمذهب السلف رحمة الله عليهم أجمعين: إثباتها وإجراؤها على ظاهرها ، ونفي الكيفية عنها ، وقد نفاها([16]) قومٌ فأبطلوا ما أَثْبَتَهُ الله ، وذهب قومٌ من المُثْبِتين إلى البحث عن التكييف([17]) ، والطريقة المحمودة: هي الطريقة المتوسطة بين الأمرين ، وهذا؛ لأنَّ الكلام في الصفات فرعٌ على الكلام في الذات ، وإثبات الذات إثبات وجود ، لا إثبات كيفية؛ فكذلك إثبات الصفات؛ وإنما أثبتناها لأنَّ التوقيفَ وَرَدَ بها ، وعلى هذا مضى السلف»([18]).

وقال الإمام أبو عثمان الصابوني رحمه الله في «عقيدة السلف»: «ويعرفون ربهم عز وجل بصفاته التي نطق بها وحيه وتنزيلُه ، أو شَهِدَ له بها رسولهُ صلى الله عليه وسلم ، وعلى ما وَرَدَت الأخبارُ الصحاح به ، ونَقَلَتْهُ العدول الثقات عنه ، ويُثبتون له جل جلاله منها ما َأثْبَتَهُ لنفسهِ ، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولا يعتقدون تشبيهًا لصفاته بصفات خلقه»([19])أهـ .







([1]) «السنن الكبرى» للبيهقي (3/3).

([2]) يعني الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله.

([3]) تضمين مِن «إبطال التأويلات» لأبي يعلى (1/43).

([4]) «الجامع» للترمذي (662).

([5]) «» لابن منده (ص/811، ط: الوهيبي والغصن).

([6]) «الاعتقاد» لابن أبي يعلى (ص/31).

([7]) يريد أنَّ ما وصف الله عز وجل به نفسه، وتسمَّى به، لا يُشَبَّهان بغيرهما، للاختلاف بينهما وبين غيرهما، حتى ولو اتفقتْ الأسماء بينهما وبين غيرهما.

([8]) يعني في كتابه.

([9]) «رسالة إلى أهل الثغر» لأبي الحسن الأشعري (ص/213 ـ 214).

([10]) وتمام الآية الكريمة: «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي البَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ المُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» [البقرة:164].

([11]) إشارة لقوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ} (المؤمنون:14).

([12]) إشارة لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (الشُّورى:11).

([13]) «التوحيد» لابن منده (ص/806 ــ 807 رقم 990، ت: الوهيبي والغصن) (3/304 رقم890 ت الفقيهي)، «الحجة في بيان المحجة» (2/122)، وفي مطبوع كتاب ابن منده أخطاء صوَّبْتُها مِن «المحجة».

([14])«الكلام على الصفات» للخطيب(ص/20فما بعد ـ ط: مكتبة ابن تيمية).

([15]) السابق (ص/24).

[16]
يعني: الصفات الإلهية الواردة في الكتاب والسنة.

[17]
يعني: كيفية الصفات.

[18]
«الحجة في بيان المحجة» لأبي القاسم الأصبهاني (1/174) وعباراتُه هذه قريبةُ الشبه من العبارات السابقة هنا في كلام الخطيب الذي قبله.

[19]
«عقيدة السلف» للإمام أبي عثمان الصابوني (ص/43)