أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


فـــــوائــــد

قبول المحل لما يوضع فيه مشروط بتفريغه من ضده . وهذا كما أنه في الذوات والأعيان فكذلك هو في الاعتقادات و الإِرادات . فإذا كان القلب ممتلئاً بالباطل اعتقاداً ومحبة ، لم يبق فيه لاعتقاد الحق ومحبته موضع ، كما أن اللسان إذا اشتغل بالتكلم بما لا ينفع ، لم يتمكن صاحبه من النطق بما ينفعه ، إلا إذا فرغ لسانه من النطق بالباطل . وكذلك الجوارح إذا اشتغلت بغير الطاعة لم يمكن شغلها بالطاعة إلا إذا فرغها من ضدها . فكذلك القلب المشغول بمحبة غير الله وإرادته ، والشوق إليه ، والأنس به ، لا يمكن شغله بمحبة الله وإرادته وحبه والشوق إلى لقائه إلا بتفريغه من تعلقه بغيره . ولا حركة اللسان بذكره ، والجوارح بخدمته إلا إذا فرغها من ذكر غيره وخدمته . فإذا امتلأ القلب بالشغل بالمخلوق ، والعلوم التي لا تنفع ، لم يبق فيها موضع للشغل بالله ومعرفة أسمائه وصفاته وأحكامه . وسرُّ ذلك : أن إصغاء القلب كإصغاء الأذن ، فإذا صغى إلى غير حديث الله ، لم يبق فيه إصغاء ، ولا فهم لحديثه ، كما إذا مال إلى غير محبة الله ، لم يبق فيه ميل إلى محبته ، فإذا نطق القلب بغير ذكره ، لم يبق فيه محل للنطق بذكره كاللسان . تـــنــبــيـه
الدنيا من أولها إلى أخرها لا تساوي غم ساعة ، فكيف بغم العمر ؟
محبوب اليوم يعقبه المكروه غداً ، ومكروه اليوم يعقبه المحبوب غداً .
أعظم الربح في الدنيا أن تشغل نفسك كل وقت بما هو أولى بها وأنفع لها في معادها .
كيف يكون عاقلاً من باع الجنة بما فيها بشهوة ساعة ؟
يخرج العارف من الدنيا ولم يقضِ وطره من شيئين : بكاؤه على نفسه ، وثناؤه على ربه .
المخلوق إذا خِفْتَهُ استوحشت من وهربت منه ، والرب تعالى إذا خفته أنِسْتَ به وقَرُبتَ إليه .
لو نفع العلم بلا عمل لما ذم الله سبحانه أحبار أهل الكتاب ، ولو نفع العمل بلا إخلاص لما ذم المنافقين .
دافع الخطرة ، فإن لم تفعل صارت فكرة ، فدافع الفكرة ، فإن لم تفعل صارت شهوة . فحاربها ، فإن لم تفعل صارت عزيمة وهمَّة ، فإن لم تدافعها صارت فعلاً ، فإن لم تتداركه بضدِّه صار عادة فيصعب عليك الانتقال عنها .
التقوى ثلاث مراتب :
إحداها : حمية القلب والجوارح عن الآثام والمحرمات .
الثانية : حميتها عن المكروهات .
الثالثة : الحمية عن الفضول وما لا يعني .
فالأولى تعطي العبد حياته ، والثانية تفيده صحته وقوته ، والثالثة تكسبه سروره وفرحه وبهجته.
لمَّا طلب آدم الخلود في الجنة من جانب الشجرة عوقب بالخروج منها ، ولمَّا طلب يوسف الخروج من السجن من جهة صاحب الرؤيا لبث فيه يضع سنين .
قلة التوفيق ، وفساد الرأي ، وخفاء الحق ، وفساد القلب ، وخمول الذكر ، وإضاعة الوقت ، ونفرة الخلق ، والوحشة بين العبد وبين ربه ، ومنع إجابة الدعاء ، وقسوة القلب ، ومحق البركة في الرزق والعمر ، وحرمان العلم ، ولباس الذلّ ، وإهانة العدوّ ، وضيق الصدر ، والابتلاء بقرناء السوء الذين يفسدون القلب ويضيعون الوقت ، وطول الهم والغم ، وضنك المعيشة ، وكسف البال … تتولد من المعصية والغفلة عن ذكر الله ، كما يتولد الزرعُ عن الماء ، والإحراق عن النار . وأضداد هذه تتولد عن الطاعة .
الذنوب جراحات ، وربَّ جرح ٍ وقع في مقتل .
لو خرج عقلك من سلطان هواك ، عادت الدولة له .
دخلت دار الهوى فقامرت بعمرك .
إذا عرضت نظرة لا تحل فاعلم أنها مُسَعَّر حرب ، فاستتر منها بحجاب {{ قل للمؤمنين … }} ( النور : 30 ) فقد سلمت من الأثر وكفى الله المؤمنين القتال .
تزخرفت الشهوات لأعين الطباع ، فغضَّ عنها الذين يؤمنون بالغيب ، ووقع تابعوها في بيداء الحسرات ، فـ {{ أولئك على هدىً من ربِّهمْ وأولئك هم المفلحون }} ( البقرة : 5 ) ، وهؤلاء يقال لهم {{ كلوا وتمتعوا قليلا ً إنكم مجرمون }} ( المرسلات : 46 ) . لما عرف الموفقون قدر الحياة الدنيا وقلة المقام فيها ، أماتوا فيها الهوى طلباً لحياة الأبد ، ولما استيقظوا من نوم الغفلة ، استرجعوا بالجد ما انتهبه العدو منهم زمن البطالة ، فلما طالت عليهم الطريق ، تلمحوا المقصد ، فقَّرب عليهم البعيد ، وكلما أمرَّت لهم الحياة ، حلي لهم تذكر {{ هذا يومكم الذي كنتم توعدون }} ( الأنبياء : 103 ) .
من أعجب الأشياء أن تعرفه ، ثم لا تحبه ، وأن تسمع داعيه ، ثم تتأخر عن الإجابة . وأن تعرف قدر الربح في معاملته ، ثم تعامل غيره . وأن تعرف قدر غضبه ، ثم تتعرض له . وأن تذوق عصرة القلب عند الخوض في غير حديثه والحديث عنه ، ثم لا تشتاق إلى انشراح الصدر بذكره ومناجاته . وأن تذوق العذاب عند تعلق القلب بغيره ، ولا تهرب منه إلى نعيم الإقبال عليه ، والإنابة إليه .
وأعجب من هذا علمك أنك لا بد لك منه ، وأنك أحوج شيء إليه ، وأنت عنه معرض ، وفيما يبعدك عنه راغب .
ما أخذ العبد ما حرم عليه إلا من جهتين : إحداهما : سوء ظنه بربه ، وأنه لو أطاعه وآثره لم يعطه خيراً منه حلالاً . والثانية : أن يكون عالماً بذلك ، وأن من ترك لله شيئاً أعاضه خيراً منه ، ولكن تغلب شهوته صبره ، وهواه عقله . فالأول من ضعف علمه ، والثاني من ضعف عقله وبصيرته .
لما رأى المتيقظون سطوة الدنيا بأهلها ، وخداع الأمل لأربابه ، وتملك الشيطان قياد النفوس ، ورأوا الدولة للنفس الأمارة ، لجأوا إلى حصن التضرع ولالتجاء ، كما يأوي العبد المذعور إلى حرم سيده .
كيف يسلم من له زوجة لا ترحمه ، وولد لا يعذره ، وجار لا يأمنه ، وصاحب لا ينصحه ، وشريك لا ينصفه ، وعدو لا ينام عن معاداته ، ونفس أمارة بالسوء ، ودنيا متزينة ، وهوى مردٍ ، وشهوة غالبة له ، وغضب قاهر ، وشيطان مزين ، وضعف مستولٍ عليه . فإن تولاه الله وجذبه إليه انقهرت له هذه كلها ، وإن تخلى عنه ووكله إلى نفسه اجتمعت عليه فكانت الهلكة . اقشعرت الأرض ، وأظلمت السماء ، وظهر الفساد في البر والبحر من ظلم الفجرة ، وذهبت البركات ، وقلت الخيرات ، وهزلت الوحوش ، وتكدرت الحياة من فسق الظلمة ، وبكى ضوء النهار وظلمة الليل من الأعمال الخبيثة والأفعال الفظيعة ، وشكا الكرام الكاتبون والمعقبات إلى ربهم من كثرة الفواحش وغلبة المنكرات والقبائح . وهذا والله منذر بسيل عذاب قد انعقد غمامه ، ومؤذن بليل بلاء قد ادلهم ظلامه . فاعزلوا عن طريق هذا السيل بتوبة نصوح مادامت التوبة ممكنة وبابها مفتوح . وكأنكم بالباب وقد أغلق ، وبالرهن وقد غلق وبالجناح وقد علق {{ وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون }} ( الشعراء : 227 ) .
اشتر نفسك اليوم ، فإن السوق قائمة ، والثمن موجود ، والبضائع رخيصة ، وسيأتي على تلك السوق والبضائع يوم لا تصل فيه إلى قليل ولا كثير {{ … ذلك يوم التغابن }} ( التغابن : 9 ) {{ يوم يعض الظالم على يديه }} ( الفرقان : 27 ) .
من تلمح حلاوة العافية هانت عليه مرارة الصبر .
إنما تفاوت القوم بالهمم لا بالصور .
بينك وبين الفائزين جبل الهوى ، نزلوا بين يديه ونزلت خلفه ، فاطوِ فضل منزل ، تلحق بالقوم .
إذا خرجت من عدوك لفظة سفهٍ ، فلا تلحقها بمثلها تلقحها ، ونسل الخصام نسل مذموم.
حميتك لنفسك أثر الجهل بها ، فلو عرفتها حق معرفتها أعنت الخصم عليها .
*********************** التوحيد مفزع أعدائه وأوليائه : فأما أعداؤه فينجيهم من كرب الدنيا وشدائدها {{ فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون }} ( العنكبوت : 65 ) . وأما أولياؤه فينجيهم من كربات الدنيا والآخرة . ولما فزع إليه يونس ، فنجاه الله من تلك الظلمات . وفزع إليه أتباع الرسل فنجوا به مما عذب به المشركون في الدنيا وما أعد لهم في الآخرة . ولما فزع إليه فرعون ، عند معاينة الهلاك وإدراك الغرق ، لم ينفعه ، لأن الإيمان عند المعاينة لا يقبل . هذه سنة الله في عباده . فما دفعت شدائد الدنيا بمثل التوحيد . ولذلك كان دعاء الكرب بالتوحيد ودعوة ذي النون التي ما دعا بها مكروب إلا فرج الله كربه بالتوحيد . فلا يلقي في الكرب العظام إلا الشرك ولا ينجي منها إلا التوحيد ، فهو مفزع الخليقة وملجؤها وحصنها وغياثها . وبالله التوفيق .
فائدة
اللذة تابعة للمحبة ، تقوى بقوتها وتضعف بضعفها ، فكلما كانت الرغبة في المحبوب والشوق إليه أقوى كانت اللذة بالوصول إليه أتم . والمحبة والشوق تابع لمعرفته والعلم به ، فكلما كان العلم به أتم كانت محبته أكمل ، فإذا رجع كمال النعيم في الآخرة وكمال اللذة إلى العلم والحب ، فمن كان يؤمن بالله وأسمائه وصفاته ودينه أعرف ، كان له أحب ، وكانت لذته بالوصول إليه ومجاورته والنظر إلى وجهه وسماع كلامه أتم . وكل لذة ونعيم وسرور وبهجة بالإضافة إلى ذلك كقطرة في بحر ، فكيف يؤثر من له عقل لذةً ضعيفةً قصيرة مشوبة بالآلام على لذة عظيمة دائمة الآباد ؟! وكمال العبد بحسب هاتين القوتين : العلم والحب ، وأفضل العلم العلم بالله ، وأعلى الحب الحب له ، وأكمل اللذة بحسبهما . والله المستعان .
قاعدة 24
طالب الله والدار الآخرة لا يستقيم له سيره وطلبه إلا بحبسين حبس قلبه في طلبه ومطلوبه ، وحبسه عن الالتفات إلى غيره . وحبس لسانه عما لا يفيد ، وحبسه على ذكر الله وما يزيد في إيمانه ومعرفته . وحبس جوارحه عن المعاصي والشهوات ، وحبسها على الواجبات والمندوبات ، فلا يفارق الحبس حتى يلقى ربه فيخلصه من السجن إلى أوسع فضاء وأطيبه . ومتى لم يصبر على هذين الحبسين وفر منهما إلى فضاء الشهوات أعقبه ذلك الحبس الفظيع عند خروجه من الدنيا ، فكل خارج من الدنيا إما متخلص من الحبس وإما ذاهب إلى الحبس . وبالله التوفيق .
فائدة جليلة
جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين تقوى الله وحسن الخلق ، لأن تقوى الله تصلح ما بين العبد وبين ربه ، وحسن الخلق يصلح ما بينه وبين خلقه . فتقوى الله توجب له محبة الله ، وحسن الخلق يدعو الناس إلى محبته .
الطريق إلى الله خال من أهل الشك ومن الذين يتبعون الشهوات ، وهو معمور بأهل اليقين والصبر ، وهم على الطريق كالأعلام {{ وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون }} ( السجدة : 24 )) . فهكذا الرب سبحانه لا يمنع عبده المؤمن شيئاً من الدنيا إلا ويؤتيه أفضل منه وأنفع له . وليس ذلك لغير المؤمن . فإنه يمنعه الحظ الأدنى الخسيس ، ولا يرضى له به ليعطيه الحظ الأعلى النفيس .والعبد لجهله بمصالح نفسه وجهله بكرم ربه وحكمته ولطفه ، لا يعرف التفاوت بين ما منع منه وبين ما أدخر له . بل هو مولع بحب العاجل وإن كان دنيئاً ، وبقلة الرغبة في الآجل وإن كان علياً . ولو أنصف العبد ربه ، وأنى له بذلك ، لعلم أن فضله عليه فيما منعه من الدنيا ولذاتها ونعيمها أعظم من فضله عليه فيما آتاه من ذلك ، فيما منعه إلا ليعطيه ، ولا ابتلاه إلا ليعافيه ، ولا امتحنه إلا ليصافيه ، ولا أماته إلا ليحيه ، ولا أخرجه إلى هذه الدار إلا ليتأهب منها للقدوم عليه وليسلك الطريق الموصلة إليه .
فـــ {{ جعل الليل والنهار خِلفة لمن أراد أن يذَّكَّر أو أراد شكورا }} ( الإسراء : 99 ) . والله المستعان .
من عرف نفسه اشتغل بإصلاحها عن عيوب الناس ، ومن عرف ربه اشتغل به عن هوى نفسه .
دخل الناس النار من ثلاثة أبواب :
باب شبهة أورثت شكاً في دين الله .
وباب شهوة أورثت تقديم الهوى على طاعته ومرضاته .
وباب غضب أورثت العدوان على خلقه .
فائدة30
قال تعالى : {{ والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا }} ( العنكبوت : 29 ) . علّق سبحانه الهداية بالجهاد ، فأكمل الناس هداية أعظمهم جهاداً ، وأفرض الجهاد جهاد النفس ، وجهاد الهوى ، وجهاد الشيطان ، وجهاد الدنيا . فمن جاهد هذه الأربعة في الله هداه الله سبل رضاه الموصلة إلى جنته ، ومن ترك الجهاد فاته من الهدى بحسب ما عطل من الجهاد .
يا مغروراً بالأماني : لُعن إبليس وأهبط من منزل العز بترك سجدة واحدة أُمر بها ، وأخرج آدم من الجنة بلقمة تناولها ، وحجب القاتل عنها بعد أن رآها عياناً بملء كفٍ من دم ، وأمر بقتل الزاني أشنع القتلات بإيلاج قدر الأنملة فيما لا يحل ، وأمر بإيساع الظهر سياطاً بكلمة قذف أو بقطرة من مسكر ، وأبان عضواً من أعضائك بثلاث دراهم فلا تأمنه أن يحبسك في النار بمعصية واحدة من معاصيه {{ ولا يخاف عقباها }} ( الشمس : 15 ) . دخلت امرأة النار في هرة . وإن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب ، وإن الرجل ليعمل بطاعة الله ستين سنة ، فإذا كان عند الموت جار في الوصية فيختم له بسوء عمله فيدخل النار .
كيف الفلاح بين إيمان ناقص ، وأمل زائد ، ومرض لا طبيب له ولا عائد ، وهوىً مستيقظٍ ، وعقل راقدٍ ، ساهياً في غمرته ، عمها في سكرته ، سابحاً في لجة جهله ، مستوحشاً من ربه ، مستأنساً بخلقه ، ذكر الناس فاكهته وقوته ، وذكر الله حبسه وموته ، لله منه جزء يسير من ظاهره ، وقلبه ويقينه لغيره .
يالها بصيرة عمياء ، جزعت من صبر ساعة ، واحتملت ذل الأبد . سافرت ف طلب الدنيا وهي عنها زائلة ، وقعدت عن السفر إلى الآخرة وهي إليها راحلة .
إذا رأيت الرجل يشتري الخسيس بالنفيس ويبيع العظيم بالحقير ، فاعلم بأنه سفيه .
إطلاق البصر ينقش في القلب صورة المنظور ، والقلب كعبة ، والمعبود لا يرضى بمزاحمة الأصنام .
لذات الدنيا كسوداء وقد غلبت عليك ، والحور العين يعجبن من سوء اختيارك عليهن ، غير أن زوبعة الهوى إذا ثارت سفت في عين البصيرة فخفيت الجادة .
سبحان الله ، تزينت الجنة للخطاب فجدوا في تحصيل المهر ، وتعرف رب العزة إلى المحبين بأسمائه وصفاته فعملوا على اللقاء وأنت مشغول بالجيف .
إحذر نفسك ، فما أصابك بلاء قط إلا منها ، ولا تهادنها فوالله ما أكرمها من لم يهنها ، ولا أعزها من لم يذلها ، ولا جبرها من لم يكسرها ، ولا أراحها من لم يتعبها ، ولا أمنها من لم يخوفها ، ولا فرّحها من لم يحزنها .
يدخل عليك لص الهوى وأنت في زاوية التعبد فلا يرى منك طرداً له ، فلا يزال بك حتى يخرجك من المسجد .
أصدق في الطلب وقد جاءتك المعونة .
فائدة جليلة
إذا أصبح العبد وأمسى وليس همه إلا الله وحده تحمل الله سبحانه حوائجه كلها ، وحمل عنه كل ما أهمه ، وفرغ قلبه لمحبته ، ولسانه لذكره ، وجوارحه لطاعته . وإن أصبح وأمسى والدنيا همه حمله الله همومها وغمومها و أنكادها ! ووكله إلى نفسه ، فشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق ، ولسانه عن ذكره بذكرهم ، وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وأشغالهم ، فهو يكدح كدح الوحش في خدمة غيره ، كالكير ينفخ بطنه ويعصر أضلاعه في نفع غيره . فكل من أعرض عن عبودية الله وطاعته ومحبته بُلي بعبودية المخلوق ومحبته وخدمته . قال تعالى {{ ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين }} ( الزخرف : 36 ) .
قال الله تعالى : {{ يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحيكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون }} ( الأنفال : 24 ) . فتضمنت هذه الآية أموراً ، أحدها : أن الحياة النافعة إنما تحصل بالاستجابة لله ورسوله ، فمن لم تحصل له هذه الاستجابة فلا حياة له ، وإن كانت له حياة بهيمية مشتركة بينه وبين أرذل الحيوانات . فالحياة الحقيقية الطيبة هي حياة من استجاب لله والرسول ظاهراً وباطناً . فهؤلاء هم الأحياء وإن ماتوا ، وغيرهم أموات وإن كانوا أحياء الأبدان . ولهذا كان أكمل الناس حياة أكملهم استجابة لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فإن كل ما دعا إليه ففيه الحياة ، فمن فاته جزء منه فاته جزء من الحياة ، وفيه من الحياة بحسب ما استجاب للرسول صلى الله عليه وسلم .
من أراد صفاء قلبه فليؤثر الله على شهوته
إذا غذي القلب بالتذكر ، وسقي بالتفكر ، ونقي من الدغل ( الفساد ) رأى العجائب وألهم الحكمة .
خراب القلب من الأمن والغفلة ، وعمارته من الخشية والذكر .
الإخلاص هو ما لا يعلمه ملك فيكتبه ولا عدو فيفسده ولا يعجب به صاحبه فيبطله .
فائدة جليلة
إنما يجد المشقة في ترك المألوفات والعوائد من تركها لغير الله . أما من تركها صادقاً مخلصاً من قلبه لله فإنه لا يجد في تركها مشقة إلا في أول وهلة ليمتحن أصادق هو في تركها أم كاذب ، فإن صبر على تلك المشقة قليلاً استحالت لذة . قال ابن سيرين :سمعت شريحاً يحلف بالله ما ترك عبد الله شياً فوجد فقده . وقولهم (( من ترك لله شيئاً عوضه خيراً منه )) حق ، والعوض أنواع مختلفة ، وأجل ما يعوض به الأنس بالله ومحبته ، وطمأنينة القلب به ، وقوته ونشاطه وفرحه ورضاه عن ربه تعالى . نصيحة
هلم إلى الدخول على الله ومجاورته في دار السلام بلا نصب ولا تعب ولا عناء بل من أقرب الطرق وأسهلها وذلك أنك في وقت بين وقتين ، وهو في الحقيقة عمرك ، وهو وقتك الحاضر بين ما مضى وما يستقبل ، فالذي مضى تصلحه بالتوبة والندم والاستغفار ،وذلك شيء لا تعب عليك فيه ولا نصب ، ولا معاناة عمل شاق ، إنما هو عمل قلب ، وتمتنع فيما يستقبل من الذنوب ، وامتناعك تر وراحة ليس هو عملاً بالجوارح يشق عليك معاناته ، وإنما هو عزم ونية جازمة تريح بدنك وقلبك وسرك ، فما مضى تصلحه بالتوبة ، وما يستقبل تصلحه بالامتناع والعزم والنية ، وليس للجوارح في هذين نصب ولا تعب ، ولكن الشأن في عمرك وهو وقتك الذي بين الوقتين ن فإن أضعته أضعت سعادتك ونجاتك ، وإن حفظته مع إصلاح الوقتين الذين قبله وبعده بما ذكر نجوت وفزت بالراحة واللذة والنعيم . وحفظه أشق من إصلاح ما قبله وما بعده ، فإن حفظته تلزم نفسك بما هو أولى بها وأنفع لها وأعظم تحصيلاً لسعادتها . وفي هذا تفاوت الناس أعظم تفاوت ، فهي والله أيامك الخالية التي تجمع فيها الزاد لمعادك ، إما إلى الجنة وإما إلى النار ، فإن اتخذت إليها سبيلاً إلى ربك بلغت السعادة العظمى ، والفوز الأكبر في هذه المدة اليسيرة التي لا نسبة لها إلى الأبد ، وإن آثرت الشهوات والراحات ، اللهو والعب ، انقضت عنك بسرعة ، وأعقبتك الألم العظيم الدائم الذي مقاساته ومعاناته أشق وأصعب وأدوم من معاناة الصبر عن محارم الله ، والصبر على طاعته ، ومخالفة الهوى لأجله .
علامة صحة الإرادة أن يكون هم المريد رضا ربه واستعداده للقائه ، وحزنه على وقت مر في غير مرضاته ، وأسفه على قربه والأنس به وجماع ذلك أن يصبح ويمسي وليس له هم غيره .
إذا استغنى الناس بالدنيا فاستعن أنت بالله ، وإذا فرحوا بالدنيا فافرح أنت بالله ، وإذا أنسوا بأحبابهم فاجعل أنسك بالله ، وإذا تعرفوا إلى ملوكهم وكبرائهم وتقربوا إليهم لينالوا بهم العزة والرفعة فتعرف أنت إلى الله ، وتودد إليه تنل بذلك غاية العز والرفعة .
وأفضل الزهد إخفاء الزهد ، وأصعبه الزهد في الحظوظ . والفرق بينه وبين الورع أن الزهد ترك مالا ينفع في الآخرة ، والورع ترك ما يخشى ضرره في الآخرة . والقلب المعلق بالشهوات لا يصح له زهد ولا ورع .
الصبر عن الشهوة أسهل من الصبر على ما توجبه الشهوة ، فإنها إما أن توجب ألماً وعقوبة ، وإما تقطع لذة أكمل منها ، وإما أن تضيع وقتاً إضاعته حسرة وندامة ، وإما أن تثلم عرضاً توفيره أنفع للعبد من ثلمه ، وإما أن تذهب ملاً بقاؤه خير له من ذهابه ، وإما أن تضع قدراً وجاهاً قيامه خير من وضعه ، وإما أن تسلب نعمة بقاؤها ألذ وأطيب من قضاء الشهوة ، وإما أن تطرق لوضيع إليك طريقاً لم يكن يجدها قبل ذلك ، وإما أن تجلب هماً وغماً وحزناً وخوفاً لا يقارب لذة الشهوة ، وإما أن تشمت عدواً وتحزن ولياً ، وإما أن تقطع الطريق على نعمة مقبلة ، وإما أن تحدث عيباً يبقى صفة لا تزول ، فإن الأعمال تورث الصفات والأخلاق .
ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون ، وبنهاره إذا الناس مفطرون ، وبحزنه إذا الناس يفرحون ، وببكائه إذا الناس يضحكون ، وبصمته إذا الناس يخوضون ، وبخشوعه إذا الناس يختالون . وينبغي لحامل القرآن أن يكون باكياً محزوناً حكيماً حليماً سكيناً ، ولا ينبغي لحامل القرآن أن يكون جافياً ولا غافلاً ولا سخاباً ولا صياحاً ولا حديداً .
إني لأحسب الرجل ينسى العلم كان يعلمه بالخطيئة يعملها .
اطلب قلبك في ثلاثة مواطن : عند سماع القرآن ، وفي مجال الذكر ، وفي أوقات الخلوة . فإن لم تجده في هذه المواطن فسل الله أن يمن عليك بقلب ، فإنه لا قلب لك .
لذة كل أحد على حسب قدره وهمّته وشرف نفسه ، فأشرف الناس نفساً وأعلاهم همة وأرفعهم قدراً من لذته في معرفة الله ومحبته والشوق إلى لقائه والتودد إليه بما يحبه و يرضاه . فلذته في إقباله عليه وعكوف همته عليه ودون ذلك مراتب لا يحصيها إلا الله ، حتى تنتهي إلى من لذته في أخس الأشياء من القاذورات والفواحش في كل شيء من الكلام والفِعال والأشغال . فلو عرض عليه ما يلتذ به الأول لم تسمح نفسه بقبوله ولا التفتت إليه وربما تألمت من ذلك ، كما أن الأول إذا عرض عليه ما يلتذ به هذا لم تسمح نفسه به ولم تلتفت إليه ونفرت نفسه منه .
وأكمل الناس لذة من جمع له بين لذة القلب والروح ولذة البدن ، فهو يتناول لذاته المباحة على وجه لا ينقص حظه من الدار الآخرة ولا يقطع عليه لذة المعرفة والمحبة والأنس بربه فهذا ممن قال تعالى فيه : {{ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}} (لأعراف:32) . وأبخسهم حظاً من تناولها على وجه يحول بينه وبين لذات الآخرة ، فيكون ممن يقال لهم يوم استيفاء اللذات : {{ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا}} (الاحقاف: من الآية20) . فهؤلاء تمتعوا بالطيبات ، وأولئك تمتعوا بالطيباب ، وافترقوا في وجه التمتع ، فأولئك تمتعوا بها على الوجه الذي أذن لهم فيه ، فجمع لهم بين لذة الدنيا والآخرة ، وهؤلاء تمتعوا بها على الوجه الذي دعاهم إليه الهوى والشهوة ، وسواء أذن لهم فيه أم لا ، فانقطعت عنهم لذة الدنيا وفاتتهم لذة الآخرة ، فلا لذة الدنيا دامت ولا لذة الآخرة حصلت لهم .
فمن أحب اللذة ودوامها والعيش الطيب فليجعل لذة الدنيا موصلاً له إلى لذة الآخرة ، بان يستعين بها على فراغ قلبه لله [ في ] إرادته وعبادته ، فيتناولها بحكم الاستعانة والقوة على طلبه لا بحكم مجرد الشهوة والهوى ، وإن كان ممن زويت عنه لذات الدنيا وطيباتها فليجعل ما نقص منها زيادة في لذة الآخرة ، ويجم نفسه هاهنا بالترك ليستوفها كاملة هناك . فطيبات الدنيا ولذاتها نعم العون لمن صح طلبه لله والدار الآخرة وكانت همه لما هناك ، وبئس القاطع لمن كانت هي مقصوده وهمته ، وحولها يدندن ، وفواتها في الدنيا نعم العون لطالب الله والدار الآخرة ، وبئس القاطع النازع من الله والدار الآخرة . فمن أخذ منافع الدنيا على وجه لا ينقص حظه من الآخرة ظفر بهما جميعاً وإلا خسرهما جميعاً .
*******************
سبحان الله رب العالمين . لو لم يكن في ترك الذنوب والمعاصي إلا إقامة المروءة وصون العرض وحفظ الجاه وصيانة المال الذي جعله الله قواماً لمصالح الدنيا والآخرة ، ومحبة الخلق وجواز القول بينهم وصلاح المعاش وراحة البدن وقوة القلب وطيب النفس ونعيم القلب وانشراح الصدر ، والأمن من مخاوف الفسّاق والفجّار ، وقلة الهم والغم والحزن ، وعزُّ النفس عن احتمال الذلّ ، وصون نور القلب أن تطفئه ظلمة المعصية ، وحصول المخرج له مما ضاق على الفسّاق والفجار ، وتيسير الرزق عليه من حيث لا يحتسب ، وتيسير ما عسر على أرباب الفسوق والمعاصي ، وتسهيل الطاعات عليه ، وتيسير العلم والثناء الحسن في الناس ، وكثرة الدعاء له ، والحلاوة التي يكتسبها وجهه ، والمهابة التي تلقى له في قلوب الناس ، وانتصارهم وحميتهم له إذا أوذي وظلم ، وذبُّهم عن عرضه إذا اغتابه مغتاب ، وسرعة إجابة دعائه ، وزوال الوحشة التي بينه وبين الله ، وقرب الملائكة منه ، وبعد شياطين الإنس والجن منه ، وتنافس الناس على خدمته وقضاء حوائجه ، وخطبتهم لمودته وصحبته ، وعدم خوفه من الموت ، بل يفرح به لقدومه على ربه ولقائه له ومصيره إليه ، وصغر الدنيا في قلبه ، وكبر الآخرة عنده ، وحرصه على المُلك الكبير ، والفوز العظيم فيها ، وذوق حلاوة الطاعة ، ووجد حلاوة الإيمان ، ودعاء حملة العرش ومن حوله من الملائكة له ، وفرح الكاتبين به ودعاؤهم له في كل وقت ، والزيادة في عقله وفهمه وإيمانه ومعرفته ، وحصول محبة الله له وإقباله عليه ، وفرحه بتوبته ، وهكذا يجازيه بفرح وسرور لا نسبه له إلى فرحه وسروره بالمعصية بوجه من الوجوه . فهذه بعض آثار ترك المعاصي في الدنيا . فإذا مات تلقته الملائكة بالبشرى من ربه بالجنة ، وبأنه لا خوف عليه ولا حزن ، وينتقل من سجن الدنيا وضيقها إلى روضة من رياض الجنة ينعم فيها إلى يوم القيامة . فإذا كان يوم القيامة كان الناس في الحر والعرق ، وهو في ظل العرش . فإذا انصرفوا من بين يدي الله أخذ به ذات اليمين مع أوليائه المتقين وحزبه المفلحين . و {{ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }} (الحديد: من الآية21) . من علامات السعادة والفلاح أن العبد كلما زيد في علمه زيد في تواضعه ورحمته . وكلما زيد في عمله زيد خوفه وحذره . وكلما زيد في ماله زيد سخائه وبذله . وكلما زيد في قدره وجاهه زيد في قربه من الناس وقضاء حوائجهم والتواضع لهم .
وعلامات الشقاوة أنه كلما زيد في علمه زيد في كبره وتيهه ، وكلما زيد في عمله زيد فخره واحتقاره للناس وحسن ظنه بنفسه ، وكلما زيد في قدره وجاهه زيد كبره وتيهه . وهذه الأمور ابتلاء من الله وامتحان يبتلي بها عباده فيسعد بها أقوام ويشقى بها أقوام .
وكذلك الكرامات امتحان وابتلاء ، كالملك والسلطان والمال . قال تعالى عن نبيه سليمان لما رأى عرش بلقيس عنده : {{ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ }}(النمل: من الآية40)
فالنعم ابتلاء من الله وامتحان يظهر بها شكر الشكور وكفر الكفور . كما أن المحن بلوى منه سبحانه ، فهو يبتلي بالنعم كما يبتلي بالمصائب ، قال تعالى : {{ فَأَمَّا الْأِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ* وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ }} (الفجر:15-16) أي ليس كل من وسعت عليه وأكرمته ونعمته يكون ذلك إكراماً مني له ، ولا كل من ضيقت عليه رزقه وابتليته يكون ذلك إهانة مني له .
السنة شجرة ، والشهور فروعها ، والأيام أغصانها ، والساعات أوراقها ، والأنفاس ثمرها . فمن كانت أنفاسه في طاعة ، فثمرة شجرته طيبة ، ومن كانت في معصية فثمرته حنظل . وإنما يكون الجذاذ يوم المعاد ، فعند الجذاذ يتبين حلو الثمار من مرها .
والإخلاص والتوحيد شجرة في القلب ن وفروعها الأعمال ، وثمرها طيب الحياة في الدنيا والنعيم في المقيم في الآخرة . وكما أن ثمار الجنة لا مقطوعة ولا ممنوعة ، فثمرة التوحيد والإخلاص في الدنيا كذلك .
والشرك والكذب والرياء شجرة في القلب ، ثمرها في الدنيا والخوف والهم والغم وضيق الصدر وظلمة القلب ، وثمرها في الآخرة الزقوم والعذاب المقيم وقد ذكر الله هاتين الشجرتين في سورة إبراهيم .
من الآفات الخفية العامة أن يكون العبد في نعمة أنعم الله بها عليه واختارها له ، فيملها العبد ويطلب الانتقال منها إلى ما يزعم لجهله أنه خير له منها ، وربه برحمته لا يخرجه من تلك النعمة ، ويعذره بجهله وسوء اختياره لنفسه ، حتى إذا ضاق ذرعاً بتلك النعمة وسخطها و تبرم بها واستحكم ملله لها سلبه الله إياها . فإذا انتقل إلى ما طلبه ورأى التفاوت بين ما كان فيه وما صار إليه ، اشتد قلقه وندمه وطلب العودة إلى ما كان فيه ، فإذا أراد الله بعبده خيراً ورشداً أشهده أن ما هو فيه نعمة من نعمه عليه ورضاه به ، وأوزعه شكره عليه ، فإذا حدثته نفسه بالانتقال عنه ، استخار ربه استخارة جاهلٍ بمصلحته عاجز عنها ، مفوض إلى الله طالب منه حسن اختياره له .
وليس على العبد أضر من ملله لنعم الله ، فإنه لا يراها نعمة ، ولا يشكره عليها ، ولا يفرح بها ، بل يسخطها ، ويشكوها ويعدها مصيبة .
اللذة المحَّرمة ممزوجة بالقبح حال تناولها ، مثمرة للألم بعد انقضائها ، فإذا اشتدت الداعية منك إليها ، ففكر في انقطاعها ، وبقاء قبحها وألمها ، ثم وازن بين الأمرين ، وانظر ما بينهما من التفاوت . والتعب بالطاعة ممزوجة بالحسن ، مثمر للذة والراحة ، فإذا ثقلت على النفس ، ففكر في انقطاع تعبها ، وبقاء حسنها ولذتها وسرورها ، ووازن بين الأمرين ، وآثر الراجح على المرجوح ، فإن تألمت بالسبب ، فانظر إلى ما في المسبب من الفرحة والسرور واللذة ، يهن عليك مقاساته ، وإن تألمت بترك اللذة المحرمة ، فانظر إلى الألم الذي يعقبه ، ووازن بين الألمين . وخاصية العقل تحصيل أعظم المنفعتين بتفويت أدناهما واحتمال أصغر الألمين لدفع أعلاهما . وهذا يحتاج إلى علم بالأسباب ومقتضياتها ، وإلى عقل يختار به الأولى والأنفع له منها ، فمن وفر قسمه من العقل والعلم اختار الأفضل وآثره ، ومن نقص حظُّه منهما أو من أحدهما اختار خلافه ، ومن فكر في الدنيا والآخرة علم أنه لا ينال واحداً منهما إلا بمشقة ، فليتحمل المشقة لخيرهما وأبقاهما .
لله على العبد في كل عضو من أعضائه أمر ، وله عليه فيه نهي ، وله فيه نعمة ، وله به منفعة ولذة . فإن قام لله في ذلك العضو بأمره ، واجتنب فيه نهيه ، فقد أدى شكر نعمته عليه فيه ، وسعى في تكميل انتفاعه ولذته به ، وإن عطل أمر الله ونهيه فيه ، عطله الله من انتفاعه بذلك العضو ، وجعله من أكبر أسباب ألمه ومضرته . وله عليه في كل وقت من أوقاته عبودية تقدمه إليه ، وتقربه منه ، فإن شغل وقته بعبودية الوقت ، تقدم إلى ربه ، وإن شغله بهوى أو راحة وبطالة تأخر ، فالعبد لا يزال في تقدم أو تأخر ، ولا وقوف في الطريق البتة .
قال تعالى :{{ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ}} (المدثر:37)
للعبد بين يدي الله موقفان : موقف بين يديه في الصلاة ، وموقف بين يديه يوم لقائه . فمن قام بحق الموقف الأول هون عليه الموقف الآخر ، ومن استهان بهذا الموقف ولم يوفه حقه ، شدد عليه ذلك الموقف . قال تعالى : {{ وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً }} (الإنسان:26،27)
اللذة من حيث هي مطلوبة للإنسان ولكل حي ، فلا تذم من جهة كونها لذة ، وإنما تذم ويكون تركها خيراً من نيلها وأنفع إذا تضمنت فوات لذة أعظم منها وأكمل ، أو أعقبت ألماً حصوله اعظم من ألم فواتها . فها هنا يظهر الفرق بين العاقل الفطن والأحمق الجاهل . فمتى عرف العقل التفاوت بين اللذتين لتحصيل أعلاها ، واحتمال أيسر الألمين لدفع أعلاهما .
وإذا تقررت هذه القاعدة فلذة الآخرة أعظم وأدوم ن ولذة الدنيا أصغر وأقصر ، وكذلك ألم الآخرة وألم الدنيا . والمعول في ذلك على الإيمان واليقين ، فإذا قوي اليقين وباشر القلب ، آثر الأعلى على الأدنى في جانب اللذة ، وأحتمل الألم الأسهل على الأصعب ، والله المستعان .