أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


الكاتب: د.يحيى بن إبراهيم اليحيى


بسم الله الرحمن الرحيم
في أخلاقنا كفاية1
د.يحيى بن إبراهيم اليحيى
مفتاح الكتاب

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

فقد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعظم رسالة وأقوم منهج للإنسانية جمعاء، فكان الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والمنقذ للبشرية من الظلمات إلى النور، ومن الشقاء إلى السعادة، أنزل الله تعالى عليه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107] بياناً لمنهجه وتوضيحاً لهدف رسالته، وهو رحمة البشرية، وإنقاذها من الخنوع والذلة وعبادة العبيد إلى العزة والرفعة بعبادة الله تعالى.

لقد غرس رسول الله صلى الله عليه وسلم بسلوكه أرفع منهج للأخلاق العالية القائمة على مراقبة الله تعالى ورجاء ما عنده، البعيدة عن المصالح الشخصية والأخلاق النفعية، فكانت أخلاقاً ثابتةً غير متلونة أو متغيرة حسب الطقس أو المناخ السياسي أو المصلحي كما هي أخلاق الغرب في حضارته النفعية القاصرة.

لقد كاد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقصر مهمته على بعث الأخلاق الحسنة فقال: «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق». وفي رواية قال: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»([1]). كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم مثل حي للأخلاق الفاضلة والمعاملة الحسنة مع جميع الخلق حتى أثنى الله عليه بقوله: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4]، وقال سبحانه وتعالى ممتنًّا على المؤمنين بهذا النبي صلى الله عليه وسلم: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْـمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: 128].

فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المثل التطبيقي لهذا المنهج الأخلاقي الرفيع، فتربى أصحابه على يديه، وضربوا أروع الأمثلة في المعاملة الحسنة والخلق الفاضل، ففتحت البشرية لهم قلوبها قبل أبوابها، حتى انتشر الإسلام في أصقاع الأرض في أقصر وقت عرفه التاريخ في امتداد الحضارات والدول.

لقد عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ظهراني أعدائه من المشركين أكثر من نصف قرن، ثم أكمل مدة حياته يجاوره اليهود والمنافقون، فلم يستطع أولئك أن ينتقدوه بخلق من أخلاقه وقد بذلوا أموالهم وسفكوا دماءهم في حربه وقتاله.

جل العظماء حالتهم مع الناس غير حالتهم مع أهلهم وفي بيوتهم، ولا يرضون لزوجاتهم أن يخبرن عن أحوالهم، بل تعتبر حياتهم الخاصة سرًّا من الأسرار التي يعاقب على إفشائها، وكل الناس كذلك لا يرضون أبداً أن يطلع أحد على كثير من تفاصيل حياتهم الأسرية الخاصة.

أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو لم يرض بذلك فحسب، بل أمر أن ينقل عنه كل شيء، فبلغ عنه أزواجه كل ما رأوه منه، حتى إن إحداهن لتبلغ عنه بعض ما كان تحت اللحاف فيما بينه وبينها فيما يتعلق بأمر الدين، وعن اغتسالها معه من الجنابة، حتى أصبح المسلم يعرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر مما يعرفه عن أبيه الملاصق له والساكن معه!!

لقد عاش النبي صلى الله عليه وسلم بين صحابته وتزوج بتسع نسوة، وأمر أن يبلغ الشاهد منهم الغائب، وقال: «بلغوا عني ولو آية»([2])، وقال: «نضر الله امراً سمع مناَّ شيئاً فبلَّغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع»([3]). وما سافر وحده قط، ولا اعتزل الناس في يوم من الأيام أبدا. وقد تضافر الصحابة على نقل كل شيء عنه، بل تفرغ عدد منهم للرواية والمتابعة له، كأهل الصفة.

لقد وصفوه في قيامه وجلوسه، ومنامه، وهيئته في ضحكه وابتسامه، وكيفية اغتساله ووضوئه، وكيف يشرب ويأكل وما يعجبه من الطعام، ووصفوا جسده الطاهر كأنك تراه حتى ذكروا عدد الشعرات البيض في رأسه ولحيته. وبنظرة في كتاب من كتب السيرة والشمائل يأخذك العجب من ذلك الشمول وهذه الدقة في الوصف والنقل.

ولما ابتعد المسلمون عن دينهم وعمَّ الجهل بسيرة نبيهم صلى الله عليه وسلم، شاع الفساد وانتشر الجهل وعمَّ الظلم وعزَّ العدل، وفسدت الأخلاق، فحل الكذب بدلاً من الصدق، والعنف بدلاً من الرحمة، والخيانة بدلاً من الوفاء، والغضب بدلاً من كظم الغيظ والعفو عن الناس، والأذى بدلاً من الإحسان، والبخل بدلاً من الكرم، والحرص على المكان أو الشراب أو الطعام بدلاً من الإيثار، والكبر بدلاً من التواضع، والظلم بدلاً من العدل.

حتى بدأ الكثير يتساءل أهؤلاء هم المسلمون؟ أين العفة؟ أين الأمانة؟ أين الحياء؟ أين الرحمة بالضعيف؟ وأين الشفقة على المسكين؟ أين الود؟ وأين العطف على المؤمنين؟!!

فاتجه كثير من المثقفين إلى موائد الغرب يغرفون منها وينهلون من ساقيتها الكدرة، ولما رأوا بعض الأخلاق الفاضلة والصفات الحميدة في كتابات بعض كُتَّابهم طاروا بها كل مطار وظنوا بكاتبها أنه وحيد زمانه وفريد عصره، وأنه جاء بما لم تأت به الأوائل.

ومن هؤلاء الكاتب الأمريكي دايل كارينجي في كتاباته الجميلة مثل كتاب «دع القلق وابدأ الحياة»، وكتاب «كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس».

وقد طبعت هذه الكتب مئات الطبعات، وترجمت إلى عدد كبير من اللغات، وطار الناس بها كل مطار، وأصبحت لا تكاد تجد مثقفاً إلا وقد قرأها وتعلق بها، وقررت في كثير من الدورات الإدارية في بلاد المسلمين فضلاً عن غيرهم.

فلما قرأت هذه الكتب أعجبني ما وصل إليه المؤلف من خلال التجارب حيث وصل إلى بعض الأخلاق الفاضلة التي قررها شرعنا الحنيف وتمثل بها نبينا الكريم منذ قرابة خمسة عشر قرنا من الزمان. إلا أن المؤلف صاغها بقالب المصلحة الشخصية، والمنفعة الذاتية القاصرة على الشخص نفسه في دنياه القصيرة، بينما جاء الإسلام بمراعاة تلك الأخلاق مراقبة لله تعالى ورجاء ما عنده، دون النظر إلى المصالح الآنية التي تخول للإنسان تعديلها وتبديلها متى لاح له في الأفق مصلحة أخرى تقتضي ذلك.

فرأيت اختصار تلك الكتب والاستدلال على الصحيح منها بما جاء به ديننا ليتبيَّن عدم حاجتنا له إذ هو موجود في ديننا، ورد الفاسد منها حتى يكون المسلم المثقف على بينة من دينه واطلاع على أخلاق نبيه صلى الله عليه وسلم. والعزم قائم إن شاء الله على إخراج كتاب مستقل في شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم الخاصة بجانب المعاملة.

فبدأت بكتاب «كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس»، وقمت بحذف القصص والتجارب التي ساقها المؤلف لتقرير صلاح ذلك الخلق الذي أراده، واقتصرت على أسهل وأقصر عبارة استخدمها، وكثيراً ما أذكر كلامه بالمعنى وأضيف إليه ما يوضحه ويبينه، ووضعت تحت كلامه والمعاني التي استفدت منه خطًّا يبينه ويميزه عن التعليقات التي علقتها عليه.

أسأل الله الكريم المنان التوفيق والسداد والنفع للجميع، وآمل من كل أخٍ فاضلٍ كريمٍ له ملاحظة أو فائدة حول الكتاب موافاتي به على العنوان التالي، جزاه الله خيراً وشكر له صنيعه وأحسن إليه.





المقدمة

- ذكر الكاتب عدة مقترحات في المقدمة، ومنها: أن الإنسان كي يستقيم سلوكه ويتطبع بالطباع الطيبة ويتخلق بالخلق الحسن الذي يسمعه ويقرأه يحتاج إلى يقظة ذاتية ومحاسبة دائمة.

وهذه هي المراقبة الذاتية عند المسلم، وهي تتجلى في أبهى صورها حين استشعاره أن الله يراه ومطلع عليه، ففي حديث جبريل الذي رواه البخاري ومسلم: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، وإن لم تكن تراه فإنه يراك...»([4]). وفي الحديث الذي رواه الترمذي عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئةَ الحسنةَ تمحها، وخالق الناس بخلق حسن»([5]). وقد نبَّه أنس بن مالك رضي الله عنه على أهمية المراقبة الذاتية في جيل الصحابة رضي الله عنهم، وآثار التهاون بها عند من بعدهم، فقال: «إِنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالًا هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْيُنِكُمْ مِنَ الشَّعَرِ إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْـمُوبِقَاتِ». قَالَ البخاري: يَعْنِي بِذَلِكَ الْـمُهْلِكَاتِ([6]).

وبيَّن ابن مسعود رضي الله عنه الفرق بين المؤمن صاحب المراقبة الذاتية، والمنافق الغافل المنهمك في مصالحه الشخصية فقال: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ فَقَالَ بِهِ هَكَذَا، قَالَ أَبُو شِهَابٍ: بِيَدِهِ فَوْقَ أَنْفِهِ»([7]).

* * *

واقترح المؤلف أن يجعل الإنسان في جيبه مفكرة ليحاسب نفسه على أخطائها، ثم يقوم الأخطاء بعد ذلك.

وهذا ما يعرف بالمصطلح الشرعي بالمحاسبة، كما قال الحسن البصري في قوله تعالى: ﴿وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾ [القيامة: 2]: «لا تجد المسلم إلا ويلوم نفسه، يقول: ما أردت بكلمتي؟ ما أردت بأكلتي؟ ما أردت بمشيتي؟ أما المنافق فيمضي قدماً لا يحاسب نفسه»([8]).

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزِنوها قبل أن توزنوا وتعرضوا للعرض الأكبر يوم تعرضون لا تخفى منكم خافية»([9]).

* * *

واقترح أن يبدأ بتطبيق ذلك على زوجته وأولاده، وأن يجعل منهم رقباء عليه، كأن يضع لهم جائزة إن وجدوه يتصرف بخلاف هذه الأخلاق.

وقد فعل هذا أمير المؤمنين العالم التقي الراشد عمر بن عبد العزيز مع مولاه، قال عمر بن عبد العزيز لمولاه مزاحم: «إن الولاة جعلوا العيون على العوام، وأنا أجعلك عيني على نفسي، فإن سمعت مني كلمةً تربأ بي عنها، أو فعلاً لا تحبه، فعظني عنده، وانهني عنه»([10]). فلم يستنكف أن يجعل على نفسه رقيبًا ومتابعًا، وهو أمير المؤمنين العالم التابعي الزاهد الجليل، والمراقب لربه جل في علاه.



الجزء الأول: كيف تعامل الناس؟

- الفصل الأول: اجن العسل دون أن تحطم خلية النحل.
ذكر قصتين لأكبر مجرمين في أميركا وأنهما ينظران إلى نفسيهما أنهما لم يخطئا، وأن المجتمع هو الذي أجبرهما على فعل ما فعلا، وأنهما يريدان بذلك إصلاحاً. ثم عقب على ذلك بأنه إن كان هذان المجرمان لم يرغبا في أن يوجَّه لهما لومٌ، فهل ينتظر من الرجال المحترمين أن يفعلوا ذلك بسبب هفوة طفيفة أو خطأ عادي! إذن من العبث أن تحاول توجيه اللوم إلى أحد.

صحيح أن كل إنسان لا يحب أن يلام، ولكن لو ترك المجتمع هكذا لخرقت السفينة وغرق المجتمع كله، نعم، يعرف لذوي الإحسان إحسانهم، ولعل هفواتهم أن تكون نقطة في بحار حسناتهم، كما في الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَقِيلُوا ذَوِي الْـهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ إِلَّا الْـحُدُودَ»([11]).

أما أهل الإجرام فإنه يؤخذ الحق منهم، ولكن لا تزاد العقوبة على الحد الشرعي مهما فعل من جرم. جلد رجلٌ في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مراتٍ في الخمر، فسبَّه أحد الصحابة فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك؛ فعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلاً عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللهِ وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ جَلَدَهُ فِي الشَّرَابِ فَأُتِيَ بِهِ يَوْمًا فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: اللهُمَّ الْعَنْهُ مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ! فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَلْعَنُوهُ، فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ»([12]).

* * *

وفي آخر الفصل قال: أتمم نقص نفسك أولاً.

لقد شنع الإسلام على من أهمل عيبه والتفت إلى عيوب الناس، أو أرشد الناس وغفل عن نفسه. قال تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 44].

وقال عتبة بن غزوان رضي الله عنه: «وَأَنْ تَكُونُوا مَعَ ذَلِكَ بِعُيُوبِ أَنْفُسِكُمْ أَعْنَى مِنْكُمْ بِعُيُوبِ غَيْرِكُمْ»([13]).

* * *



ثم بين أن النقد مر المذاق، ثقيل على النفس البشرية تتهرب منه ما استطاعت.

وهذا ما كان يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم من البعد عن النقد الجارح والمباشر، ولهذا نادرًا ما ينسب النبي صلى الله عليه وسلم الخطأ إلى شخص بعينه، بل يقول: «ما بال أقوام يقولون كذا وكذا»([14]).

* * *

وذكر أن الانتقاد واللوم في آخر الأمر لا يحتاج إلى موهبة خاصة أو بذل نشاط كبير، ففي وسع أي أحمق أن يشنع على أي رجل عبقري، وأن يتهمه، ويسخر منه، ويجعله أضحوكة في وسط معين من الناس. (لو نُبِّه إلى أن عموم اللفظ غير مراد كما سيأتي)

وقد صدق في هذا، فكل يحسن الشتم، ولكن القليل الذي يحسن الخلق الحسن والكلام الجميل.

* * *

وختم الفصل بقوله: دعنا نحاول أن نفهم الآخرين، وننتحل لهم الأعذار عند تقصيرهم، فهذا أمتع من اللوم، كما أنه أقرب إلى الإنصاف وأجدر بالرجال المحترمين.. فلماذا تأخذنا الحمية والطيش فنسرع إلى لوم الآخرين وانتقادهم دون روية ولا تبصر! إن علي وعليك ألا نعجل بمحاسبة الناس.

فهم نفسيات الآخرين منهج تربوي نبوي، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم ينصح ويوجِّه ويوصي كل شخص حسب حاله، ولهذا تعددت صيغ الوصايا الصادرة من مقام النبوة لأفراد قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: «أوصني» فهذا يقول له: «لا تغضب»([15])، وآخر قال له: «أوصيك بتقوى الله، والتكبير على كل شرف»([16])، وقال لآخر: «لا تحقرن من المعروف شيئا، ولو أن تلقى أخاك ووجهك منبسط إليه»([17])، وقال لآخر: «أوصيك أن لا تكون لعانا»([18])، وقال للمرأة لما قالت له: أوصني، قال: «إياكِ وما يسوء الأذن»([19]).

وفي المسند عَنْ أَبِي جُرَيٍّ جَابِرِ بْنِ سُلَيْمٍ رضي الله عنه قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُحْتَبٍ بِشَمْلَةٍ لَهُ، وَقَدْ وَقَعَ هُدْبُهَا عَلَى قَدَمَيْهِ، فَقُلْتُ: أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ أَوْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى نَفْسِهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ، وَفِيَّ جَفَاؤُهُمْ فَأَوْصِنِي. فَقَالَ: «لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْـمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ وَوَجْهُكَ مُنْبَسِطٌ، وَلَوْ أَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ الْـمُسْتَسْقِي، وَإِنِ امْرُؤٌ شَتَمَكَ بِمَا يَعْلَمُ فِيكَ فَلاَ تَشْتُمْهُ بِمَا تَعْلَمُ فِيهِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ لَكَ أَجْرُهُ وَعَلَيْهِ وِزْرُهُ، وَإِيَّاكَ وَإِسْبَالَ الإِزَارِ، فَإِنَّ إِسْبَالَ الإِزَارِ مِنَ الْـمَخِيلَةِ، وَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لاَ يُحِبُّ الْـمَخِيلَةَ، وَلاَ تَسُبَّنَّ أَحَدًا»، فَمَا سَبَبْتُ بَعْدَهُ أَحَدًا وَلاَ شَاةً وَلاَ بَعِيرًا([20]).

والتبيُّن والتثبُّت من أهمِّ ميزات الأمة المسلمة، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ﴾ [الحجرات: 6].

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول للفرد من أصحابه إذا أراد محاسبته: «ألم أخبر أنك كذا وكذا»([21])، فيتبين منه قبل أن يناقشه.



- الفصل الثاني: السر في كيف تعامل الناس
ذكر أن مقاصد الناس في كل أعمالهم هو حب الظهور، يستوي في ذلك مجرمهم وسويهم.

ولا شك أن هذه طبيعة النفس البشرية في حبها للذكر والعلو، إلا من كان ينشد أمرًا أكبر من ذلك، وهو رضا الله والفوز بجنته، فتجده يقوم بأعمالٍ عظيمةٍ من إعانة الناس أو السعي في الخير عامة سرًّا، ويكره أن يطلع عليه أحد، كما قال تعالى: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً﴾ [الإنسان: 9]، وقصة صاحب النقب غير خافية على من اطلع على التاريخ (يفترض في الأمثلة أن تذكر للقارئ ولو باختصار شديد يشتمل على المقصود من إيرادها).

وقال الحسن البصري: «أدركت أقواماً لا يستطيع أحد منهم أن يخفي عمله إلا أخفاه. إن الرجل ليأتيه زوره فيبيت عنده فيقوم ويصلي من الليل لا يعلم به زوره، وإن الرجل لتأتيه العَبرة فيقوم من المجلس خشية أن يروه».

ومن ذلك قصة زين العابدين علي بن الحسين، وتصدقه على فقراء المدينة ليلاً، ولا يعلم به أحد منهم حتى مات، فاكتشفوا أنه المتصدِّق لما انقطعت الصدقة.

وكان عامر بن عبد الله بن الزبير يضع الذهب في أحذية العلماء والمتعبدين خشية أن يروه.

* * *

ثم ذكر الكاتب أن الرغبة في الظهور هي وراء تشييد القصور الباذخة التي لا يحتاجها أصحابها لسكناها، إذ تكفيهم حجيرات معدودات لو قصدوا الانتفاع السكني لا غير. وأنها وراء الكثير من انحرافات بعض الشباب وفساد سلوكهم.

وهذا معروف ومشهور عند أهل الدنيا من غير أهل الهمم العالية، وهو مصداق قوله تعالى حكاية عن هود عليه السلام: ﴿أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ﴾ [الشعراء: 128]، وقال فرعون: ﴿أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَـٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾ [الزخرف: 51].

وأما الشباب فغالباً ما يظهر هذا ممن فقدوا التربية السليمة، حيث يشعرون بالنقص والدونية، فيحاولون تكميل ذلك بأي عمل يبرزهم. ولهـٰذا ينبغي أن نعلم أن كل شاب أو طفل يحبُّ التميز على أقرانه بأي عمل وأي صفة كانت، فينبغي أن نشبع هذا الجانب بمهاراتٍ وأعمالٍ صالحةٍ تقوم بنفس الميزة من التميز على أقرانه.

ومن أشبع هذه الغريزة في ولده بالمظاهر كالسيارات أو الأثاث فقد قتل موهبة التميز عنده، حيث إنه سيكتفي بهذه المظاهر في ابتزاز أقرانه، ويستهتر بكل ميزة حقيقية من التفوق العلمي، أو التميز الأخلاقي، أو محاولة التفرد بالمهارات.

* * *

ثم قال: وبما أن حب الظهور رغبة جامحة عند الناس أفليس خدمة كبيرة أن نشبع فيهم هذه الرغبة! وذلك عن طريق الثناء والمديح، وعدم التفتيش عن الأخطاء، أو رفع العقيرة باللوم والانتقاد.

هذا إذا كان المديح يبني خصالاً طيبةً عند الممدوح، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم الرجل عبد الله، لو كان يصلي من الليل»([22]).

أما إن كان المدح يقود إلى الغرور والترفع وزرع عقدة العظمة في نفس الممدوح فلا، كما في الحديث: «أَهْلَكْتُمْ أَوْ قَطَعْتُمْ ظَهْرَ الرَّجُلِ»([23])، «احثوا في وجوه المداحين التراب»([24]).

* * *

ثم قال: إذا كان الخطأ والتقصير قد وقع.. فلا فائدة من اجتراره. بل الفائدة كل الفائدة في إنقاذ ما يمكن إنقاذه منه.

وكان هذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم في تصحيح الأخطاء، إذ كان المنهج هو تعديل الخطأ في حينه وتداركه قبل استفحاله، وطي صحيفته بعد ذلك وعدم اجتراره وقطع الحديث عنه، وكان من أكبر الأخطاء التي وقعت هو تلك الخيانة العسكرية العظمى في رسالة حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه إلى قريش يخبرهم بتحرك الجيش الإسلامي تجاههم.

فماذا ترى فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم تجاه هذا الرجل، وكيف تعامل مع هذه الخيانة، هل جعله عرضة يلوكه كل لسان؟ أم سارع بإيقاع عقوبة القتل عليه؟ لقد دعاه واستفسر منه عن سبب فعلته هذه، ولما تبين له صدقه نظر إلى أعماله السابقة فوجد فيها من الأعمال العظيمة ما ينغمر فيه ذلك الخطأ. وأنهى ملف القضية بقوله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أشار بقتله: «إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللهَ أَنْ يَكُونَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ»([25]).

ولكن هذا الأسلوب ليس على إطلاقه، فالرسول صلى الله عليه وسلم منهجه التربوي حسب الخطأ والمقام والشخص الذي تقع منه المخالفة، فهنا قال عن حاطب رضي الله عنه: «صدق، فلا تقولوا إلا خيرا»([26]). ولكن أسامة رضي الله عنه لما قتل الرجل بعد ما قال: «لا إله إلا الله» عاتبه ولامه لوماً شديداً، حتى أثر هذا على أسامة وتمنى أنه لم يسلم إلا تلك الساعة([27])، وتبرأ مما فعله خالد رضي الله عنه([28]).

عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى بَنِي جَذِيمَةَ، فَدَعَاهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ، فَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا: أَسْلَمْنَا، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: صَبَأْنَا صَبَأْنَا، فَجَعَلَ خَالِدٌ يَقْتُلُ مِنْهُمْ وَيَأْسِرُ، وَدَفَعَ إِلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمٌ أَمَرَ خَالِدٌ أَنْ يَقْتُلَ كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ، فَقُلْتُ: وَاللهِ لاَ أَقْتُلُ أَسِيرِي، وَلاَ يَقْتُلُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِي أَسِيرَهُ. حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرْنَاهُ فَرَفَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ، فَقَالَ: «اللهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ» مَرَّتَيْنِ([29]).

* * *

وبيَّن أن التقدير من الغير غذاء للنفس أعظم عندها من الطعام والشراب الَّذَيْنِ يمكنه أن يصوم عنهما، وليس المقصود من ذلك التملق والكذب.

إن احترام الناس وتوقيرهم وإنزالهم منازلهم مِن أهمِّ الأخلاق التي جاء بها الإسلام، فأمر بحفظ حقوق المسلم على أخيه، وحق الجار على جاره، والضيف على مضيفه، وبيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الإنسان يكفيه شرًّا وخسةً ومهانةً أن يزدري أخاه المسلم أو يتنقصه فقال: «بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم»([30]).

* * *

ثم قال: فكل إنسان يفضلك في شيء فهو كفء أن يعلمك إياه.

بل إنه في الحقيقة أن كل إنسان أمامك يفضلك في خصلة من الخصال، فعليك أولاً بالعمل على اكتشافها والاستفادة منها وتوظيفها في المجال المناسب.

قال سفيان بن عيينة: «لا يكون الرجل من أهل الحديث حتى يأخذ عمن فوقه وعمن هو دونه وعمن هو مثله»([31]).

(وفي القرآن قصة موسى عليه السلام مع الخضر عند كثير من العلماء)


([1]) حديث صحيح، أخرجه البخاري في الأدب، والحاكم والبيهقي عن أبي هريرة. صحيح الجامع: 5432.

([2]) رواه البخاري (ح3202).

([3]) رواه الترمذي (ح2580)، وأبو داود (ح3175).

([4]) رواه البخاري (ح48) من حديث أبي هريرة، ومسلم (ح9) من حديث عمر بن الخطاب.

([5]) رواه الترمذي (ح1987).

([6]) رواه البخاري (ح6011).

([7]) رواه البخاري (ح5833).

([8]) انظر: الدر المنثور (8/343).

([9]) مصنف ابن أبي شيبة (7/96).

([10]) عيون الأخبار (2/18).

([11]) رواه أحمد (ح24300)، وأبو داود (ح3803).

([12]) رواه أبو يعلى في المسند (1/161)، وأصل الحديث في صحيح البخاري (ح6282) (أي ترقيم هذا؟).

([13]) رواه الدارمي: (ح647).

([14]) رواه أبو داود: (ح4788).

([15]) رواه البخاري (ح5621).

([16]) رواه الترمذي (ح3267).

([17]) رواه أحمد (ح19717).

([18]) رواه أحمد (ح19757).

([19]) رواه أحمد (ح16103).

([20]) رواه أحمد (ح19717).

([21]) انظر البخاري (ح1085، 4800)، ومسلم (ح1966).

([22]) رواه البخاري (ح1070).

([23]) رواه البخاري عن أبي موسى الأشعري (ح2469).

([24]) رواه أحمد (ح22707).

([25]) رواه البخاري (ح2845).

([26]) رواه البخاري (ح5789).

([27]) رواه البخاري (ح3935).

([28]) رواه البخاري (ح3994).

([29]) رواه البخاري (ح3994).

([30]) رواه مسلم (ح4650).

([31]) الجامع لأخلاق الراوي (2/218).