أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


صورة من الابداع الأدبي في الرد على الجهمية والمعطلة

للإمام ابن القيم قيمة علمية كبيرة لا ينكرها إلا من طمس الله بصيرته، وامتلأ قلبه حقدا على أهل السنة ودعاتها ..
فتجد كثير من المتصوفة والمخالفين لمذهب السلف ينقلون كلامه في جميع الأبواب ويرتضوه إلا في باب العقيدة ..
والرجل رحمه الله أعطي ملكة من هبات الله عزوجل بحيث تعشق القلوب كلامه، ويسترسل فيأتي بالعجائب والغرائب التي قد لا توجد عند أحد سواه ..
ومن هنا: نجد الكثير من المخالفين يصيحون بتكقير وتجهيل شيخ الاسلام ابن تيمية بما لا يصرحون بمثله لابن القيم..
وذلك - في نظري - يعود إلى أسلوب الشيخين .. فشيخ الاسلام لسعة علمه يصادم المخالف ويأتي بأشياء في مذهبه لا يعرفها أو لا يفهمها ويضعه في موضع المتهم بالتصريح مصاحبا ذلك بكلام قد لا يفهمه أو يصعب عليه رده.
وابن القيم له سهولة في اللفظ وانشاء أدبي يجعل المخالف يقر بأنه الحق الصرف، ويعلم أنه لو ناقشه لرد على عقبيه إذ كل أحد حتى العوام يرون صدق كلامه بالبديهة ..
وقد نقلت فصلين فقط من كتاب ابن القيم الصواعق المرسلة يتبين منهما هذا الأمر بوضوح ..
فالفصل الأول فيه أسلوب أدبي انشائي يعجز عن رده المخالف ..
والفصل التالي فيه تحقيق لحقيقة موقف الناس من الصفات الإلهية يراها القاريء فلا يختار إلا ما يقرره ابن القيم لأنه يرى في مذهبه شين يعلمه العامي قبل المتعلم ..
ولي هنا قصة .. فقد كنت أناظر بعض الأشاعرة، فطال الجدل وتبعثرت المواضيع .. فاخترت له كتاب الصواعق وقلت له: هذا الكتاب هو حجتي عند الله في هذا الباب .. فخذه واقرأه واكتب لي ما تنتقده فيه في ورقات خارجية ثم نتناقشها سويا وبعدها أظن أنك ستفارق مذهب أهل التأويل والتعطيل وتعود إلى مذهب الفطرة أهل السنة والجماعة ..
ومضى على هذا العرض ثلاث سنوات .. ولم ينبس ببنت شفة ويتعذر دوما بعدم قراءته .. وقدر لي أن أزوره في بيته فلما تركني ليجلب لي شيئا من الضيافة .. وجدت الكتاب على سطح مكتبه وفيه علامة تدل على أنه وصل الى ثلاثة أرباع الكتاب .. وبفضول مني فررت الكتاب فوجدت له علامات على كثير من الصفحات بالقلم الرصاص والأحمر أحيانا .. فلما عاد وضع كتابا آخر على الكتاب كي لا أراه أو أسأله عنه ...
فاستحييت بعد ذلك أن أساله ، غير أني دعوت الله أن يرده الى الحق طالما هذا الكتاب عنده ..
والحقيقة: أن هذا الكتاب هو مصرع المؤولة والمعطلة .. وأكاد أن أحلف على هذا وإني لصادق فيه ان شاء الله تعالى ...
وهاكم ما أود نقله ...
قال رحمه الله تعالى :
الفصل العاشر في أن التأويل شر من التعطيل فإنه يتضمن التشبيه والتعطيل والتلاعب بالنصوص وإساءة الظن بها.
فإن المعطل والمؤول قد اشتركا في نفي حقائق الأسماء والصفات ، وامتاز المؤول بتلاعبه بالنصوص وانتهاكه لحرمتها وإساءة الظن بها ونسبة قائلها إلى التكلم بما ظاهره الضلال والإضلال فجمعوا بين أربعة محاذير :
[ المحذور الأول ] : اعتقادهم أن ظاهر كلام الله ورسوله المحال الباطل ففهموا التشبيه أولا ثم انتقلوا عنه إلى :
المحذور الثاني: وهو التعطيل فعطلوا حقائقها بناء منهم على ذلك الفهم الذي يليق بهم ولا يليق بالرب جل جلاله.
المحذور الثالث: نسبة المتكلم الكامل العلم الكامل البيان التام النصح إلى ضد البيان والهدى والإرشاد وإن المتحيرين المتهوكين أجادوا العبارة في هذا الباب وعبروا بعبارة لا توهم من الباطل ما أوهمته عبارة المتكلم بتلك النصوص ولا ريب عند كل عاقل أن ذلك يتضمن أنهم كانوا أعلم منه أو أفصح أو أنصح للناس .
المحذور الرابع : تلاعبهم بالنصوص وانتهاك حرماتها فلو رأيتها وهم يلوكونها بأفواههم وقد حلت بها المثلات وتلاعبت بها أمواج التأويلات وتقاذفت بها رياح الآراء واحتوشتها رماح الأهواء ونادى عليها أهل التأويل في سوق من يزيد فبذل كل واحد في ثمنها من التأويلات ما يريد فلو شاهدتها بينهم وقد تخطفتها أيدي الاحتمالات ثم قيدت بعدما كانت مطلقة بأنواع الإشكالات وعزلت عن سلطنة اليقين وجعلت تحت حكم تأويل الجاهلين هذا وطالما نصبت لها حبائل الإلحاد وبقيت عرضة للمطاعن والإفساد وقعد النفاة على صراطها المستقيم بالدفع في صدورها والأعجاز وقالوا لا طريق لك علينا وإن كان لا بد فعلى سبيل المجاز فنحن أهل المعقولات وأصحاب البراهين وأنت أدلة لفظية وظواهر سمعية لا تفيد العلم ولا اليقين فسندك آحاد وهو عرضة للطعن في الناقلين وإن صح وتواتر ففهم مراد المتكلم منه موقوف على انتفاء عشرة أشياء لا سبيل إلى العلم بانتفائها عند الناظرين والباحثين فلا إله إلا الله والله أكبر كم هدمت بهذه المعاول من معاقل الإيمان وثلمت بها حصون حقائق السنة والقرآن وكم أطلقت في نصوص الوحي من لسان كل جاهل أخرق ومنافق أرعن وطرقت لأعداء الدين الطريق وفتحت الباب لكل مبتدع وزنديق ومن نظر في التأويلات المخالفة لحقائق النصوص رأى من ذلك ما يضحك عجبا ويبكي حزنا ويثير حمية للنصوص وغضبا قد أعاد عذب النصوص ملحا أجاجا وخرجت الناس من الهدى والعلم أفواجا فتحيزت كل طائفة إلى طاغوتها وتصادمت تصادم النصارى في شأن ناسوتها ولاهوتها ثم تمالأ الكل على غزو جند الرحمن ومعاداة حزب السنة والقرآن فتداعوا إلى حربهم تداعي الأكلة إلى قصعتها وقالوا نحن وإن كنا مختلفين فإنا على محاربة هذا الجند متفقون فميلوا بنا عليهم ميلة واحدة حتى تعود دعوتهم باطلة وكلمتهم خامدة وغر المخدوعين كثرتهم التي ما زادتهم عند الله ورسوله وحزبه إلا قلة وقواعدهم التي ما زادتهم إلا ضلالا وبعدا عن الملة وظنوا أنهم بجموعهم المعلولة يملأون قلوب أهل السنة إرهابا منهم وتعظيما . ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما الأحزاب22
وأنت إذا تأملت تأويلات القرامطة والملاحدة والفلاسفة والرافضة والقدرية والجهمية ومن سلك سبيل هؤلاء من المقلدين لهم في الحكم والدليل ترى الإخبار بمضمونها عن الله ورسوله لا يقصر عن الإخبار عنه بالأحاديث الموضوعة المصنوعة التي هي مما عملته أيدي الوضاعين وصاغته ألسنة الكذابين فهؤلاء اختلقوا عليه ألفاظا وضعوها وهؤلاء اختلقوا في كلامه معاني ابتدعوها فيا محنة الكتاب والسنة بين الفريقين وما نازلة نزلت بالإسلام إلا من الطائفتين فهما عدوان للإسلام كائدان وعن الصراط المستقيم ناكبان وعن قصد السبيل جائران فلو رأيت ما يصرف إليه المحرفون أحسن الكلام وأبينه وأفصحه وأحقه بكل هدى وبيان وعلم من المعاني الباطلة والتأويلات الفاسدة لكدت تقضي من ذلك عجبا وتتخذ في بطن الأرض سربا فتارة تعجب وتارة تغضب وتارة تبكي وتارة تضحك وتارة تتوجع لما نزل بالإسلام وحل بساحة الوحي ممن هم أضل من الأنعام فكشف عورات هؤلاء وبيان فضائحهم وفساد قواعدهم من أفضل الجهاد في سبيل الله وقد قال النبي لحسان بن ثابت إن روح القدس معك ما دمت تنافح عن رسوله وقال أهجهم أو هاجهم وجبريل معك وقال اللهم أيده بروح القدس ما دام ينافح عن رسولك وقال عن هجائه لهم والذي نفسي بيده لهو أشد فيهم من النبل وكيف لا يكون بيان ذلك من الجهاد في سبيل الله وأكثر هذه التأويلات المخالفة للسلف الصالح من الصحابة والتابعين وأهل الحديث قاطبة وأئمه الإسلام الذين لهم في الأمة لسان صدق يتضمن من عبث المتكلم بالنصوص وسوء الظن بها من جنس ما تضمنه طعن الذين يلمزون الرسول ودينه وأهل النفاق والإلحاد لما فيه من دعوى أن ظاهر كلامه إفك ومحال وكفر وضلال وتشبيه وتمثيل أو تخييل ثم صرفها إلى معان يعلم أن إرادتها بتلك الألفاظ من نوع الأحاجي والألغاز لا يصدر ممن قصده نصح وبيان فالمدافعة عن كلام الله ورسوله والذب عنه من أفضل الأعمال وأحبها إلى الله وأنفعها للعبد ومن رزقه الله بصيرة نافذة علم سخافة عقول هؤلاء المحرفين وأنهم من أهل الضلال المبين وأنهم إخوان الذين ذمهم الله بأنهم يحرفون الكلم عن مواضعه الذين لا يفقهون ولا يتدبرون القول وشبههم بالحمر المستنفرة تارة وبالحمار الذي يحمل أسفارا تارة ومن قبل التأويلات المفتراة على الله ورسوله التي هي تحريف لكلام الله ورسوله عن مواضعه فهو من جنس الذين قبلوا قرآن مسيلمة المختلق المفترى وقد زعم أنه شريك لرسول الله وكان رئيسا كبيرا مطاعا بجعله شريكا له في التصديق والطاعة والقبول إن لم يقدمه عليه لا سيما الغالية من الجهمية والباطنية والرافضة والاتحادية فإن عندهم من كلام ساداتهم وكبرائهم ما يضاهون به كلام الله ورسوله وكثيرا ما يقدمونه عليه علما وعملا ويدعون فيه من التحقيق والتدقيق والعلم والعرفان ما لا يثبتون مثله للسنة والقرآن ومن تلبس منهم بالإسلام يقول كلامنا يوصل إلى الله والقرآن وكلام الرسول يوصل إلى الجنة وكلامنا للخواص والقرآن للعوام وكثير منهم يقول كلامنا برهان وطريق القرآن خطابة ومنهم من يقول القرآن والسنة طريق السلامة وكلامنا طريق العلم والتحقيق وكثير منهم يقول لم يكن الصحابة معنيين بهذا الشأن بل كانوا قوما أميين فتحوا البلاد وأقاموا الدين بالسيف وسلموا إلينا النصوص نتصرف فيها ونستنبط منها فلهم علينا مزية الجهاد والزهد والورع ولنا عليهم مزية العلم بالحقائق والتأويل وإن لم يعلموا هذا من قلوبهم والله يشهد به عليهم ويعلمه كامنا في صدورهم يبدو على فلتات لسان من لم يصرح به منهم ومن محققي هؤلاء من يدعي أن الرسل يستفيدون العلم بالله من طريقهم ويتلقونه من مشكاتهم ولكن يخاطبون الناس على قدر عقولهم فلم يصرحوا لهم بالحق ولم ينصحوا لهم به وكل من هؤلاء قد نصب دون الله ورسوله طاغوتا يعول عليه ويدعو عند التحاكم إليه فكلامه عنده محكم لا يسوغ تأويله ولا يخالف ظاهره وكلام الله ورسوله إذا لم يوافقه فهو مجمل متشابه يجب تأويله أو يسوغ فضابط التأويل عندهم ما خالف تلك الطواغيت ومن تدبر هذا الموضع انتفع به غاية النفع وتخلص به من أشراك الضلال فإن الذين يقرون برسالة النبي وفيهم نوع إيمان به منهم من يجعل له شريكا في الطاعة كما كان المنافقون يطيعون عبدالله بن أبي رأس المنافقين وكبيرهم وكان كثير ممن في قلبه نوع مرض وإن لم يكن منافقا خالصا يطيعه في كثير من الأمور ويقبل منه كما قال تعالى وفيكم سماعون لهم التوبة47
والمعنى على أصح القولين وفيكم مستجيبون لهم قابلون منهم كما قال الله تعالى سماعون للكذب المائدة42
أي قابلون له ومن حمل الآية على العيون والجواسيس فقوله ضعيف لوجوه كثيرة ليس هذا موضعها .
وكما كان أصحاب مسيلمة يقولون إنه شريكه في الطاعة وإنه يقبل منه كما يقبل عن النبي وكان عبدالله بن أبي يقدم سياسته ورأيه على ما جاء به أحيانا ويغضب إذا لم يسمع منه ويغضب له قومه وكذلك رئيس الخوارج السجاد العباد الذي بين عينيه أثر السجود قدم عقله ورأيه على ما جاء به في قسمة المال وزعم أنه لم يعدل فيها وكذلك غلاة الرافضة قدموا عقولهم وآرائهم على ما جاء به وزعموا أنه لم يعدل حيث أمر أبا بكر أن يصلي بالناس وابن عمه حاضر ولم يعدل حيث أثنى على أبي بكر وعمر وعظمهما فأوجب أن الأمة بعده ولوهما دون ابن عمه وكذلك الجهمية قدموا عقولهم وآراءهم على ما جاء به وزعموا أنه لم يعدل في العبارة حيث عدل عن العبارة التي عبروا هم بها عن الله سبحانه وعبر بما أوقع الأمة في اعتقاد التشبيه والتجسيم وحملهم كلفة التأويل وجشمهم مشقته وأوقع الخلاف بين الأمة بتلك العبارات التي عباراتهم بزعمهم أعظم تنزيها لله وأقل إيهاما للمحال منها فهؤلاء وأمثالهم هم السلف لكل خلف يدعي أن لغير الله ورسوله معه حكما في مضمون الرسالة إما في العلميات وإما في العمليات وإما في الإرادات والأحوال وإما في السياسات وأحكام الأموال فيطاع هذا الغير كما يطاع الرسول بل الله يعلم أن كثيرا منهم أو أكثرهم قد قدموا طاعته على طاعة الرسول وكل هؤلاء فيهم شبه من أتباع مسيلمة وابن أبي وذي الخويصرة فلكل خلف سلف ولكل تابع متبوع ولكل مرؤوس رئيس فمن قرن بالرسالة رئاسة مطاعة أو سياسة حاكمة بحيث يجعل طاعتها كطاعة الرسالة ففيهم شبه من اتباع عبدالله بن أبي ومن اعترض على الكتاب والسنة بنوع تأويل من قياس أو ذوق أو عقل أو حال ففيه شبه من الخوارج أتباع ذي الخويصرة ومن نصب طاغوتا دون الله ورسوله يدعو ويحاكم إليه ففيه شبه من أتباع مسيلمة وقد يكون في هؤلاء من هو شر من أولئك كما كان فيهم من هو خير منهم أو مثلهم وهؤلاء كلهم قد أعقبهم هذا الصنيع نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقون ربهم وإنما تبين لهم حقيقته إذا بليت السرائر ومدت الضمائر وبعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور ولا يستقر للعبد قدم في الإسلام حتى يعقد قلبه وسره على أن الدين كله لله لا رب سواه ولا متبوع غيره وأن كلام غيره يعرض على كلامه فإن وافقه قبلناه لا لأنه قاله بل لأنه أخبر به عن الله ورسوله وإن خالفه رددناه واطرحناه ولا يعرض كلامه على آراء القياسيين ولا عقول الفلاسفة والمتكلمين ولا على سياسة الولاة الحاكمين والسلاطين ولا أذواق المتزهدين والمتعبدين بل تعرض هذه كلها على ما جاء به عرض الدراهم المجهول حاملها على أخبر الناقدين فما حكم بصحته منها فهو المقبول وما حكم برده فهو المردود والله الموفق للصواب . اهـ
[انظر الصواعق المرسلة 1/309]

الفصل الثامن عشر: في انقسام الناس في نصوص الوحي إلى أصحاب تأويل وأصحاب تخييل وأصحاب تجهيل وأصحاب تمثيل وأصحاب سواء السبيل .
هذه خمسة أصناف انقسم الناس إليها في هذا الباب بحسب اعتقادهم ما أريد بالنصوص :
الصنف الأول أصحاب التأويل: وهم أشد الأصناف اضطرابا إذ لم يثبت لهم قدم في الفرق بين ما يتأول وما لا يتأول ولا ضابط مطرد منعكس تجب مراعاته وتمنع مخالفته بخلاف سائر الفرق فإنهم جروا على ضابط واحد وإن كان فيهم من هو أشد خطأ من أصحاب التأويل كما سنذكره .
الصنف الثاني أصحاب التخييل: وهم الذين اعتقدوا أن الرسل لم تفصح للخلق بالحقائق إذ ليس في قواهم إدراكها وإنما خيلت لهم وأبرزت المعقول في صورة المحسوس قالوا ولو دعت الرسل أممهم إلى الإقرار برب لا داخل العالم ولا خارجه ولا محايثا له ولا مباينا له ولا متصلا به ولا منفصلا عنه ولا فوقه ولا تحته ولا عن يمينه ولا عن يساره لنفرت عقولهم من ذلك ولم تصدق بإمكان وجود هذا الموجود فضلا عن وجوب وجوده وكذلك لو أخبروهم بحقيقة كلامه وأنه فيض فاض من المبدأ الأول على العقل الفعال ثم فاض من ذلك العقل على النفس الناطقة الزكية المستعدة لم يفهموا ذلك ولو أخبروهم عن المعاد الروحاني بما هو عليه لم يفهموه فقربوا لهم الحقائق المعقولة في إبرازها في الصور المحسوسة وضربوا لهم الأمثال بقيام الأجساد من القبور في يوم العرض والنشور ومصيرها إلى جنة فيها أكل وشرب ولحم وخمر وجوار حسان أو نار فيها أنواع العذاب تفهيما للذة الروحانية بهذه الصورة والألم الروحاني بهذه الصورة وهكذا فعلوا في وجود الرب وصفاته وأفعاله ضربوا لهم الأمثال بموجود عظيم جدا أكبر من كل موجود وله سرير عظيم وهو مستو فوق سريره يسمع ويبصر ويتكلم ويأمر وينهى ويرضى ويغضب ويأتي ويجيء وينزل وله يدان ووجه ويفعل بمشيئته وإرادته وإذا تكلم العباد سمع كلامهم وإذا تحركوا رأى حركاتهم وإذا هجس في قلب أحد منهم هاجس علمه وأنه ينزل كل ليلة إليهم إلى سمائهم هذه فيقول من يسألني فأعطيه ومن يستغفرني فأغفر له إلى غير ذلك مما نطقت به الكتب الإلهية قالوا ولا يحل لأحد أن يتأول ذلك على خلاف ظاهره للجمهور لأنه يفسد ما وضعت له الشرائع والكتب الإلهية ،،
وأما الخاصة فهم يعلمون أن هذه أمثال مضروبة لأمور عقلية تعجز عن إدراكها عقول الجمهور فتأويلها جناية على الشريعة والحكمة وإقرارها إقرار للشريعة والحكمة ،،
قالوا: وعقول الجمهور بالنسبة إلى هذه الحقائق أضعف من عقول الصبيان بالنسبة إلى ما يدركه عقلاء الرجال وأهل الحكمة منهم والحكيم إذا أراد أن يخوف الصغير أو يبسط أمله خوفه ورجاه بما يناسب فهمه وطبعه .
وحقيقة الأمر عند هذه الطائفة أن الذي أخبرت به الرسل عن الله وصفاته وأفعاله وعن اليوم الآخر لا حقيقة له يطابق ما أخبروا به ولكنه أمثال وتخييل وتفهيم بضرب الأمثال وقد ساعدهم أرباب التأويل على هذا المقصد في باب معرفة الله وأسمائه وصفاته وصرحوا في ذلك بمعنى ما صرح به هؤلاء في باب المعاد وحشر الأجساد بل نقلوا كلماتهم بعينها إلى نصوص الاستواء والفوقية ونصوص الصفات الخبرية لكن هؤلاء أوجبوا أو سوغوا تأويلها بما يخرجها عن حقائقها وظواهرها وظنوا أن الرسل قصدت ذلك من المخاطبين تعريضا لهم إلى الثواب الجزيل ببذل الجهد في تأويلها أو استخراج معان تليق بها وحملها عليها، وأولئك [ أهل التخييل ] حرموا التأويل ورأوه عائدا على ما قصدته الأنبياء بالإبطال والطائفتان متفقتان على انتفاء حقائقها المفهومة منها في نفس الأمر .
[ حقيقة مذهب أهل التفويض ]
والصنف الثالث أصحاب التجهيل: الذين قالوا نصوص الصفات ألفاظ لا تعقل معانيها ولا ندري ما أراد الله ورسوله منها ولكن نقرأها ألفاظا لا معاني لها ونعلم أن لها تأويلا لا يعلمه إلا الله وهي عندنا بمنزلة : [كهيعص] مريم، و [حم عسق] الشورى, و [المص] الأعراف.
فلو ورد علينا منها ما ورد لم نعتقد فيه تمثيلا ولا تشبيها ولم نعرف معناه وننكر على من تأوله ونكل علمه إلى الله،
وظن هؤلاء أن هذه طريقة السلف وأنهم لم يكونوا يعرفون حقائق الأسماء والصفات ولا يفهمون معنى قوله : [ لما خلقت بيدي ] وقوله [ والأرض جميعا قبضته يوم القيامة ] الزمر67 وقوله [ الرحمن على العرش استوى ] طه5 ، وأمثال ذلك من نصوص الصفات ، وبنوا هذا المذهب على أصلين :
أحدهما: أن هذه النصوص من المتشابه .
والثاني: أن للمتشابه تأويلا لا يعلمه إلا الله.
فنتج من هذين الأصلين استجهال السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وسائر الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأنهم كانوا يقرأون : [ الرحمن على العرش استوى ] طه5 و [ بل يداه مبسوطتان ] المائدة64
ويروون ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا ولا يعرفون معنى ذلك ولا ما أريد به.
ولازم قولهم أن الرسول كان يتكلم بذلك ولا يعلم معناه!!
ثم تناقضوا أقبح تناقض فقالوا: تجري على ظواهرها وتأويلها مما يخالف الظواهر باطل ومع ذلك فلها تأويل لا يعمله إلا الله !
فكيف يثبتون لها تأويلا ويقولون تجر على ظواهرها؟ ويقولون الظاهر منها غير مراد والرب منفرد بعلم تأويلها وهل في التناقض أقبح من هذا
وهؤلاء غلطوا في المتشابه وفي جعل هذه النصوص من المتشابه وفي كون المتشابه لا يعلم معناه إلا الله فأخطأوا في المقدمات الثلاث واضطرهم إلى هذا التخلص من تأويلات المبطلين وتحريفات المعطلين وسدوا على نفوسهم الباب وقالوا لا نرضى بالخطأ ولا وصول لنا إلى الصواب .
فهؤلاء تركوا التدبر المأمور به والتذكر والعقل لمعاني النصوص الذي هو أساس الإيمان وعمود اليقين وأعرضوا عنه بقلوبهم وتعبدوا بالألفاظ المجردة التي أنزلت في ذلك وظنوا أنها أنزلت للتلاوة والتعبد بها دون تعقل معانيها وتدبرها والتفكر فيها .
فأولئك جعلوها عرضة للتأويل والتحريف كما جعلها أصحاب التخييل أمثالا لا حقيقة لها وقابلهم :
المشبهة
الصنف الرابع وهم أصحاب التشبيه والتمثيل:
ففهموا منها مثل ما للمخلوقين وظنوا أن لا حقيقة لها سوى ذلك وقالوا محال أن يخاطبنا الله سبحانه بما لا نعقله ثم يقول : [ لعلكم تعقلون ] البقرة73 [ لعلكم تتفكرون ] البقرة219 [ ليدبروا آياته ] ص29 ونظائر ذلك ، وهؤلاء هم المشبهة ..
فهذه الفرق لا تزال تبدع بعضهم بعضا وتضلله وتجهله وقد تصادمت كما ترى فهم كزمرة من العميان تلاقوا فتصادموا كما قال أعمى البصر والبصيرة منهم:
ونظيري في العلم مثلي أعمى ... فترانا في حندس نتصادم.
طريقة السلف:
وهدى الله أصحاب سواء السبيل للطريقة المثلى فلم يتلوثوا بشيء من أوضار هذه الفرق وأدناسها وأثبتوا لله حقائق الأسماء والصفات ونفوا عنه مماثلة المخلوقات فكان مذهبهم مذهبا بين مذهبين وهدى بين ضلالتين خرج من بين مذاهب المعطلين والمخيلين والمجهلين والمشبهين كما خرج اللبن من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين وقالوا نصف الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تشبيه ولا تمثيل بل طريقتنا إثبات حقائق الأسماء والصفات ونفي مشابهة المخلوقات فلا نعطل ولا نؤول ولا نمثل ولا نجهل ولا نقول ليس لله يدان ولا وجه ولا سمع ولا بصر ولا حياة ولا قدرة ولا استوى على عرشه ولا نقول له يدان كأيدي المخلوق ووجه كوجوههم وسمع وبصر وحياة وقدرة واستوى كأسماعهم وأبصارهم وقدرتهم واستوائهم بل نقول له ذات حقيقة ليست كالذوات وله صفات حقيقة لا مجازا ليست كصفات المخلوقين وكذلك قولنا في وجهه تبارك وتعالى ويديه وسمعه وبصره وكلامه واستوائه ولا يمنعنا ذلك أن نفهم المراد من تلك الصفات وحقائقها كما لم يمنع ذلك من أثبت لله شيئا من صفات الكمال من فهم معنى الصفة وتحقيقها فإن من أثبت له سبحانه السمع والبصر أثبتهما حقيقة وفهم معناهما فهكذا سائر صفاته المقدسة يجب أن تجري هذا المجرى وإن كان لا سبيل لنا إلى معرفة كنهها وكيفيتها فإن الله سبحانه لم يكلف عباده بذلك ولا أراده منهم ولم يجعل لهم إليه سبيلا بل كثير من مخلوقاته أو أكثرها لم يجعل لهم سبيلا إلى معرفة كنهه وكيفيته وهذه أرواحهم التي هي أدنى إليهم من كل دان قد حجب عنهم معرفة كنهها وكيفيتها وجعل لهم السبيل إلى معرفتها والتمييز بينها وبين أرواح البهائم وقد أخبرنا سبحانه عن تفاصيل يوم القيامة وما في الجنة والنار فقامت حقائق ذلك في قلوب أهل الإيمان وشاهدته عقولهم ولم يعرفوا كيفيته وكنهه فلا يشك المسلمون أن في الجنة أنهارا من خمر وأنهارا من عسل وأنهارا من لبن ولكن لا يعرفون كنه ذلك ومادته وكيفيته إذ كانوا لا يعرفون في الدنيا الخمر إلا ما اعتصر من الأعناب والعسل إلا ما قذفت به النحل في بيوتها واللبن إلا ما خرج من الضروع والحرير إلا ما خرج من فم دود القز وقد فهموا معاني ذلك في الجنة من غير أن يكون مماثلا لما في الدنيا كما قال ابن عباس ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء ولم يمنعهم عدم النظير في الدنيا من فهم ما أخبروا به من ذلك فهكذا الأسماء والصفات لم يمنعهم انتفاء نظيرها في الدنيا ومثالها من فهم حقائقها ومعانيها بل قام بقلوبهم معرفة حقائقها وانتفاء التمثيل والتشبيه عنها وهذا هو المثل الأعلى الذي أثبته سبحانه لنفسه في ثلاثة مواضع من القرآن :
أحدها قوله [ للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم ] النحل60
الثاني قوله [ وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم ] الروم27
الثالث قوله تعالى [ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ] الشورى11
فنفى سبحانه المماثلة عن هذا المثل الأعلى وهو ما في قلوب أهل سمواته وأرضه من معرفته والإقرار بربوبيته وأسمائه وصفاته وذاته فهذا المثل الأعلى هو الذي آمن به المؤمنون وأنس بها العارفون وقامت شواهده في قلوبهم بالتعريفات الفطرية المكملة بالكتب الإلهية المقبولة بالبراهين العقلية فاتفق على الشهادة بثبوته العقل والسمع والفطرة فإذا قال المثبت يا الله قام بقلبه ربا قيوما قائما بنفسه مستويا على عرشه مكلما متكلما سامعا رآئيا قديرا مريدا فعالا لما يشاء يسمع دعاء الداعين ويقضي حوائج السائلين ويفرج عن المكروبين ترضيه الطاعات وتغضبه المعاصي تعرج الملائكة بالأمر إليه وتنزل بالأمر من عنده وإذا شئت زيادة تعريف بهذا المثل الأعلى فقدر قوى جميع المخلوقات اجتمعت لواحد منهم ثم كان جميعهم على قوة ذلك الواحد فإذا نسبت قوته إلى قوة الرب تبارك وتعالى لم تجد لها نسبة وإياها ألبتة كما لا تجد نسبة بين قوة البعوضة وقوة الأسد فإذا قدرت علوم الخلائق اجتمعت لرجل واحد ثم قدرت جميعهم بهذه المثابة كانت علومهم بالنسبة إلى علمه تعالى كنقرة عصفور من بحر وإذا قدرت حكمة جميع المخلوقين على هذا التقدير لم يكن لها نسبة إلى حكمته وكذلك إذا قدرت كل جمال في الوجود اجتمع لشخص واحد ثم كان الخلق كلهم بذلك الجمال كان نسبته إلى جمال الرب تعالى وجلاله دون نسبة السراج الضعيف إلى جرم الشمس .
وقد نبهنا الله سبحانه على هذا المعنى بقوله : [ ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم ] لقمان27
فقدر البحر المحيط بالعالم مدادا ووراءه سبعة أبحر تحيط به كلها مداد تكتب به كلمات الله نفدت البحار وفنيت الأقلام التي لو قدرت جميع أشجار الأرض من حين خلقت إلى آخر الدنيا ولم تنفد كلمات الله .
وقد أخبر النبي إن السموات السبع في الكرسي كحلقة ملقاة بأرض فلاة والكرسي في العرش كحلقة ملقاة في أرض فلاة والعرش لا يقدر قدره إلا الله وهو سبحانه فوق عرشه يرى ما عباده عليه فهذا هو الذي قام بقلوب المؤمنين المصدقين العارفين به سبحانه من المثل الأعلى فعرفوه به وعبدوه به وسألوه به فأحبوه وخافوه ورجوه وتوكلوا عليه وأنابوا إليه واطمأنوا بذكره وأنسوا بحبه بواسطة هذا التعريف فلم يصعب عليهم بعد ذلك فهم استوائه على عرشه وسائر ما وصف به نفسه من صفات كماله إذ قد أحاط عليهم بأنه لا نظير لذلك ولا مثل له ولم يخطر بقلوبهم مماثلته لشيء من المخلوقات وقد أعلمهم سبحانه على لسان رسوله أنه يقبض سماواته بيده والأرض باليد الأخرى ثم يهزهن وأن السماوات السبع والأرضين السبع في كفه تعالى كخردلة في كف أحدكم وأنه يضع السماوات على أصبع والأرضين على أصبع والجبال على أصبع والشجر على أصبع وسائر الخلق على أصبع فأي أيدي للخلق وأي أصبع تشبه هذه اليد وهذه الأصبع حتى يكون إثباتها تشبيها وتمثيلا فقاتل الله أصحاب التحريف والتأويل وأصحاب التخييل وأصحاب التجهيل وأصحاب التشبيه والتمثيل ماذا حرفوه من الحقائق الإيمانية والمعارف الإلهية وماذا تعوضوا به من زبالة الأذهان ونخالة الأفكار فما أشبههم بمن كان غذاؤهم المن والسلوى بلا تعب ولا كلفة فآثروا عليه الفوم والعدس والبصل وقد جرت عادة الله سبحانه أن يذل من آثر الأدنى على الأعلى ويجعله عبرة للعقلاء .
فأول هذا الصنف إبليس ترك السجود لآدم كبرا فابتلاه الله بالقيادة لفساق ذريته .
وعباد الأصنام لم يقروا بنبي من البشر ورضوا بإله من الحجر .
والجهمية نزهوا الله عن عرشه لئلا يحويه مكان ثم جعلوه في الآبار والأنجاس وفي كل مكان .
وهكذا طوائف الباطل لم يرضوا بنصوص الوحي فابتلوا بزبالة أذهان المتحيرين وورثة الصابئين وأفراخ الفلاسفة الملحدين و [ من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا ] الكهف17 . اهـ
[انظر الصواعق المرسلة 2/434]

شكر الله لكم.