أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


أ.د.ياسين المحيمد


رسالة عزاء
بمناسبة وفاة شيخي العلامة الرباني الشيخ طاهر البرزنجي ، طيب الله ثراه .

الحمد لله على كل حال ، والصلاة والسلام على الحبيب المصطفى والآل
] كل نفس ذائقة الموت ، وإنما توفون أجوركم يوم القيامة [ .
الأخ الحبيب الفاضل الدكتور: ( محمد طاهر البرزنجي ) حفظكم الله .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، أما بعد :
فلله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى ، وأحسن الله عزاءكم في وفاة شيخنا الحبيب ، المربي الكبير ، والعالم الجليل : ( الشيخ طاهر ) طيب الله ثراه ، وأسكنه فسيح جناته ؛ وأحسن الله الخلف من بعده بأمثالكم ، من العلماء العاملين ، والدعاة الراشدين ، والهداة المهديين .
الشيخ الحبيب الدكتور محمد طاهر حفظكم الله : ما من مصاب تصاب به الأمة الإسلامية بعد موت نبيها محمد - صلى الله عليه وسلم - بأوجع وآلم من مصابها بفقد علمائها ، وقد بلغني نبأ وفاة شيخنا الكبير المربي ( الشيخ طاهر) فكان الهول عظيماً عند وصول هذا النبأ المفجع ، فتمثلت قول الشاعر :
كذا فلْيَجِلّ الخطبُ ولْيفدحِ الأمرُ
فليس لعينٍ لم يفضْ ماؤها عذرُ

إن وفاة الشيخ ثلمة في عرى الإسلام ، ومصاب عظيم على الأمة الإسلامية ، إنا لله وإنا إليه راجعون ، اللهم أجرنا في مصيبتنا واخلفنا العوض :
عظمت لذاك مصائبي وشجوني

وتفجرت من بحـري المحـزون

حاولت كبت مشاعري لكنها
فاضت وأضحى السر غير مصون

إن الحزن على الشيخ عظيم ، في زمن يلتمس فيه الصالحون ، والأرض تخلو منهم شيئاً فشيئاً . وإذا كان الشيخ قد مات فإن ذكرياته لا تغيب عن البال . ولقد كان – رحمة الله عليه – يقطع مرحلة أمسه نحو غايته ، لأنه يعلم أن سلع المعالي غاليات الثمن ، ويعلم أن الثواء في هذه الأرض قليل ، والرحيل قريب ، والطريق مخوف ، والخطر عظيم ، والناقد بصير ، ولا مستراح إلا في دار الخلود . ولقد نحل جسده ، حتى صار لا يكاد يحمله ، وهذه ميزة العظماء ، فكلما تعاظمت الهمم نحلت الأجساد :
ولست ترى الأجسام وهي نحيلة
نـواحــف إلا والنـفـوس كـبـار
رحمك الله – شيخنا الحبيب – رحمة واسعة .
لقد رحل ركب المحبة ، فيا ديار الظاعنين أين سكانك ؟ ويا مرابع الأحباب أين قطانك ؟ وياجواهر الآداب أين خزانك ؟ فيا حسرة على علماء الأمة ويا حسرة على شيخي الحبيب العلامة (طاهر البرزنجي) .
قف بالديار فهذه آثارهم
تبكي الأحبة حسرة وتشوقا

كم قد وقفت بها أسائل مخبراً
عن أهلها أو صادقاً أو مشفقا

فأجابني داعي الهوى في رسمها
فارقت من تهوى فعز الملتقى

فرّغ الشيخ الحبيب قلبه من الشواغل فهان عليه طول الطريق ، لعلمه أين المقصد ، وحلت له مرارات البلى حباً بعواقب السلامة ، فيا بشراه يوم النداء الخالد :
] سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار [ .
إي والله ؛ رجال سبقوا على خيل ضمّر إلى المليك العلام ، وكحلوا أعينهم بالسهر ، وشغلوا خواطرهم بالفكر ، وأشغلوا قلوبهم بالعبر ، فإذا جن عليهم الليل تراهم ساجدين ، وإذا هبت رياح الأسحار مالوا مستغفرين .
سل الليل عنهم فعنده الخبر … أيعلم سالٍ كيف بات المتيّم ؟
سلام عليك شيخنا الحبيب في الخالدين ويوم تبعث حياً ، ورحم الله أعظماً طالما نصبت لله ، حتى إذا تمكن منها الليل وثبت ، فإن ذكرت عدله رهبت ، وإن ذكرت فضله فرحت .
هيه شيخنا الحبيب ، لقد حركت نفوساً أبية إلى دار السلام ، وشّنفت أسماعاً إلى منازل الأبرار ، وحدا بك حادي الشوق في طريق سيرك ، فما حطت بك رحالك إلا في دار القرار :
فحيهلا إن كنت ذا همة فقد
حدا بك حادي الشوق فاطو المراحلا

وقل لمنادي حبهم ورضاهم
إذا ما دعا لبيك ألفاً كواملا

وخذ قبساً من نورهم ثم سر به
فنورهم يهديك ليس المشاعلا

نعم … حسبنا أن نكون على جادتكم _ أيها الشيخ الجليل _ وإن أبطأ بنا السير ، وتأخرت بنا القافلة . وإن الشرف كل الشرف أن نتبع سنتكم ، لأنكم وراث النبوة ، فقد صّوت حاديكم بنا في أيام طلب العلم منادياً فلبينا النداء وتعلمنا من علمكم، وقرأنا كتباً نادرة عليكم،فما أطيب تلك اللحظات وما أجمل تلك الساعات التي كنا نقتبس من أنواركم .
لقد كنت - يا شيخنا الحبيب - زينة الدنيا وبهجتها ، وقد طالت بنا الأشواق إلى مجالستك ، وإن القلوب لتحن إلى تلك المرابع ، إلا أنكم - أيها الشيخ الحبيب - لبيتم النداء العاجل إلى دار الخلود ،فصارت بعدكم الديار بلقعاً :
محت بعدكم تلك العيونَََ دموعُها
فهل من عيون بعدكم نستعيرها

أعد ذكرهم فهو الشفاء وربما
شفى النفسَ أمرٌ ثم عاد يضيرها

سقى الله أياماً مضت وليالياً
تضوّع ريّاها وفاح عبيرُها

لقد كان شيخنا الحبيب قليل الكلام كثير البركة ، وإن للكلمات التي تنفرج عنها شفتاه مذاقاً فريداً سلاسة وإشراقاً ، لقد كان في همته أبين ممن نطق ، فكيف به إذا نطق قطرات من ندى ، وعبيراً لا يفنيه مدى ، ورحاباً من الكلمات الحسنى ، تحملها من نور أسنى ، تضيء الروح ، وتطفئ نار القلب المُعَنّى :
إذا ذكرته النفس زال عناؤها
وزال عن القلب المعنى ظلامه

أخي الحبيب الغالي الدكتور محمد طاهر: حسبك أن قوماً موتى تحيا بذكرهم القلوب ، وأن قوماً أحياء تقسو برؤيتهم القلوب ، فاصبروا واحتسبوا ، إن الله مع الصابرين . وإنني لأعزي نفسي قبل أن أعزيك، وأعزي العالم الإسلامي بأكمله .
ألا فسلام الله على تلك القبور ، ورضوان الله على تلك اللحود ، أماكن تعبدهم باكية ، ومواطن تهجدهم شاكية ، زال التعب ، وبقي الأجر ، وذهب ليل النصب ، فرحمة الله على أولئك الرجال ، الذين طواهم الفناء ، ونشرهم الثناء ، ركبوا مطايا الشوق إلى دار السلام ، نورهم تخجل منه شمس الضحى وبدر التمام , فسلام عليكم - شيخنا الحبيب - في الخالدين ، ويوم تبعث حياً وإنا لله وإنا إليه راجعون .
كتبها بدموعه تلميذكم
أ . د . ياسين جاسم المحيمد
مكة المكرمة
الأحد، الثالث عشر من ربيع الأول/1433 هـ ،الموافق 6 / 2 / 2012م