جماليات السرد وتجلياته الانسانية


بقلم المؤرخ سلمان الأفنس


قراءة فى مكامن الابداع لمجموعة : " بكاء الليل "

للقاص السعودى / عبد الله الحضبى السبيعى






طالعنا القاص عبد الله الحضبى السبيعى فى مجموعته : " بكاء الليل " بمجموعة من القصص الاجتماعية الانسانية ، التى تفلسف الواقع وتضيف اليه أبعاداً شخصية واجتماعية وانسانية ، غاية فى الروعة والسموق ، والتأمل فى سيمفونية الحياة بآمالها وآلامها ، فهى تجسّد الواقع من منظور فلسفى ، فكرى وحياتى ، وربما خيالى رومانسى مفعم بالحزن كذلك .

وفى قصته : " مزهرية " يتعانق الحب بالرمز ، فالمزهرية دليل تذكار الحب الذى أتى به زوجها لها ، لذا نراها تحافظ على هذه المزهرية ، وتخاف عليها من الكسر ، فيضحك الزوج لهذا العشق الرائع ، وكما يقول : ( ثم يعيش الجميع فى حقول بيضاء ، ومخيمات من الحنان والبهجة ) .

ومع هذا الوصف الساحر للسرد ، الا أن القصة أضافت أبعاداً رومانسية نحتاجها الآن ، فى وقت طغت فيه الواقعية بصخبها وأحزانها على المبدعين ، فهنيئاً لكاتبنا - بداية - هذه الروح المفعمة بالحب والعشق والأمل والحنان والاخلاص أيضاً......

الا أننا نلحظ - للوهلة الأولى - ، كما فى قصته : " العفريت " ان العنوان قد فضح المضمون ، كما فى المزهرية ، وأغلب قصص المجموعة ، دلالات رامزة للموضوع ، ومع أن الحصافة تقتضى الايهام بالرمز ، واخفاء الموضوع ، حتى لايجد القارئ نفسه أمام العنوان الدال ، الا أن لغة السرد لديه تميل الى الشعر وتلك دلالة على تمكن واقتدار من اللغة ، واذا كان العنوان هو عتبة النص ـ كما يقولون ـ فان العنوان الرامز ـ كما أرى ـ الذى يخفى المكنون ، يستحث القارئ على أن يكتشف بنفسة القصة ليشارك الكاتب فى تتبع الأحداث ، ومع هذا فهى قصص تميل الى وصف الواقع ، دون الشروع الى الخيال المطلق ، فهى قصص وصفية واقعية مثيرة للجمال المنساب من روعة الوصف الممزوج بالشعر وبروح شاعرة تسيطر على مسيرة السرد وتميزه ، وتضيف اليه أبعاداً جمالية جديدة .

وفى قصته : " المعاناة الزمنية " ، نراه يأخذنا الى عالم الوصف الواقعى ، حيث ذكريات المكان تشى بروعة الزمن ، ذاك الزمن العتيق لذلك الشيخ الذى يعيش بين ذكرياته وحاجياته العتيقة ، فكأنه يذكرنا بروح الأصالة ، ليعبر بزمننا الى الزمن الجميل ، ذلك الزمن الذى يرمز الى الجمال الساحر ، والى روح الأصالة بعيداً عن المعاصرة الزائفة ، ولعمرى فانه يجيد الوصف ، وتبدو عبارات السرد لديه حالمة رقيقة ، منسابة كموسيقا تطنّ فى فؤاد الروح ، لتعيد للقلب خلجاتة الجميلة ، حيث يتعانق المكان مع عبق الزمن ليعبر به فوق الأيام يقول : ( سرت حتى منتصف الطريق وفى مخيلتى ذلك الصوت عدة مرات لاستقصاء ذلك ... مررت من هناك ... وما زال مشهد حركة المكان يغطى كل شئ ..!) .

هذا الشيخ يعيش بين اتساع الحنين ، وضيق الميادين يتمنى أن يجعل من أيام حياته مواسماً للحب ، يقول : ( لم يعد قادراً على الاقتراب من حقيبتة القديمة وما بها من أسمال رثة وأدوات ، وخزينة تراث ) .

هذا وتبدو جماليات السرد فى دقة الوصف الساحر الذى يتميز به الكاتب / عبد الله الحضبى السبيعى ، ويبدو ذلك الجمال بأوجه فى قصيدته : ( رحلة جميلة ) وان كان العنوان كذلك يفضح سر القصة منذ البداية ، وتبدو التقريرية سمة أرادها الكاتب لانتاجية قصص دالة ورامزة منذ بداية العنوان ، بعيدا عن الغموض وتكتنز الجماليات الوصف حيث يقول : ( فى ساعة صفاء عبرت السيارة بمجموعة من الرفاق ( عرق سبيع ) الرملى ، متجهين فى رحلة برية الى أحد الكهوف الداخلية ... كانت الشمس ترسل أولى بركاتها لتمسح عن الرمال اكتئاب المواجع .ز ساعتها كنت مع رفاقى فى قهقهات السعادة ، وفرح يعدل ابتهاج الطيور .

نزلنا من السيارة فى سفح رملة هلالية ، عبر سراديب النسيان التى ، تصحب عشاق الصحراء بعيداً عن تلك المدينة التى تنخفض بقامتها عن كل الأشياء ، وتحركت أشجان الوطنية لدى البعض للعودة الى شوارعها المضاءة ، وملامح مع رجالها الأوفياء .

بدا مخيمنا ممتلئاً بالسعادة التى تمحو الهموم وأكوام الرمل التى تعانى من الانكسار ، ولوعة رياح الزمن .

بين ركام الضجيج ارتفع صوته نقياً دافئاً وكأنه يحاكى نسمات رياح شمالية ، وحكايات الجنوب ).

الا أن طلاسم التمنى تكشف عن مغامرة مغايرة لما أطلقنا عليه " تقريرية العنوان" ، لنغير موقفنا الأول ، فنراه مع الطلاسم والوصف الجميل يبدأ فى سرد سيمفونية الهموم ، وتذكر أيام الحب والعشق مع الزوجة ، الا أننى - كما راهنت عليه - دقيق الوصف حتى فى سرد أحزانه .

انه الأديب الجيد الوصف ، يعتمد السرد على حساب الشخوص ، وتلك لعمرى حصافة كاتب ، يريد أن يفضى ويبوح عما به ، وعما بالحياة من آمال وآلام ، يقول : ( وترتاح فى أساطير الهوية ، ودائرة الحياة الرتبية ، الصامتة وهو يصارع مسافة من مدائن الارهاق

أحلامة متضخمة بخيوط المستقبل

يحلق بذاكرتة نحو القادم من الأيام.. .

استراحة الحديقة ورفاقه يسحبون من حياتة هموم التفكير !

تصاحبه آمال صادقة ،

تنطوى تحتها هيمنة الروح الأسرية

يعيش فى حياته الطبيعية

ينسى حياة الأصدقاء والجيران المترفة

وتعود به الذاكرة هناك ،

حيث النخيل ، والضياء ، ومياه القرية ، والبساطة ،

زوجته كانت معه فى كل لحظة

يملأها التحدى وحرفة العشاق

تتذكر منزلها الذى عاشت فية أيام الطفولة المدللة

بقرية تنطلق فى أزقتها المهجورة خطوات سعادة

قريتها سفينة بحارها القمر ، وأحلامها ذكريات مليئة بالأصالة

تخضر آلاف المنى ! ) .

هذا ويمتد الوصف عبرقصص المجموعة : " صوت النجاح " ، " سقط الرعب " ، " المعاناة الزمنية " ، " تواشيح الأحلام " ، " الهموم الصاغرة " ، " بكاء الليل" ، " شموخ " ، " اضاءات قصصية " ، " صفحة العشق " ،" قوة "، " الصمت والشكوى " ، " التائهة " ، " " السراج " ، " السكين " ، " حدود الصمت " ، " عناء التفكير " ، ونلحظ من سيمولوجيا عناوينه أنه قد بدأ بالأمل أولاً ، ثم نقلنا الى الألم والهموم
،حيث الصمت والشكوى والتوهان ، وحيث عناء التفكير ، وبكاء الليل وهى القصة التى اختارها عنواناً لمجموعته ، ولنتتبع هذه القصة لنرى ما ترمز اليه دلالة العنوان ليتم فك شيفرات نصوصه الجمالية ، الغاية فى الروعة والسموق ، ودقة الوصف ، لنشاهد تطابق العنوان مع مضامين قصصه السامقة .




ان القاص /عبد الله الحضبى السبيعى فى : " بكاء الليل " ، يسرد لنا تفاصيل الذات همسات الحلم ، ويسرح الفؤاد منذ أن استيقظ من نومه لتتوالى ديمومة الحزن والأصدقاء والأهل ، يهيم فى الوصف الشارح للكون والعالم والحياة ، ويسرح بنا معه فى تفاصيل أكثر من رائعة حول حياته ، وحياة المجتمع ، لتندمغ رؤية الذات ، بالواقع ، بالحلم الذى يصطدم معه ، ويصدمنا بالنهاية التى يفيق من حلمه على اثرها بارتطام السيارة بالحائط الأسمنتى ، وكأنه يفيق من أفق التأمل على مأساة الواقع : واقعه ، واقعنا الحياتى اليومى ، واقع العالم بصفة عامة ، فكأننا أمام قصة واقعية حالمة ، فى عالم يشى بروعة للوصف عبر المكان والزمن واللغة المتألقة ، فى بكاء الليل ، الذى يمثل نشيج القاص ، ونشيج القارئ ،الذى يلهث مع جمال السرد حتى آخر نقطة فى قصصه الرائعة .

فى النهاية : نحن أمام كاتب يعرف كيف يشكّل معجمه القصصى فيمزج بين روح الشعر ، وجمال السرد ودقته ، ويحكم معانى قصصه ومبانيها ، ويرصف للحب طريقاً ، وللسعادة منزلاً ، وللحياة عصفوراً يزقزق بالأمل ، ليزيل عنا الألم والهموم ،

انه القاص الذى اتخذ من التعبيرية ، ومدرسة الوصف ، طريقاً ليؤطر عبر عناوينه الدالة - مفارقات - ، وليؤسس منهجية للقص امتاز بها وميزته عن أقرانه ، ومع أنه لم يعتمد تنامى الأحداث ، ولم يأبه لحبكة القص ،واشاريته ، الا أن وصفه الدقيق قد جعلنا نتعاطى قصصاً تسكر الروح ، وتضيف للابداع رافداً جديداً ، لقاص يحاول نقش اسمه المغاير ، بين دوامات السرد وأشكاله الجديدة ، مع احتفاظه بنكهة القصة التقليدية ، الا أنه ركّز على التفاصيل الدقيقة للموضوع ، دون الشخصيات ، وهي مدرسة في القصة معروفة الطرق والمعالم ، الا أنة يحسب له احكام وسلاسة اللغة ، مع جماليات السرد المحكم ، والشديد الاحكام ، لنجد قاصاً ينطلق مع الحياة والعالم ، بروح سامقة ، وابداع متميز ، حالم وجميل .


بقلم سلمان الافنس ملفي

نائب الامين العام لرابطة ادباءالعرب

عضو هيئة الصحفيين السعوديين

العضو المؤسس لنادي منطقة الجوف الأدبي في دورته الاولى