صفحة 2 من 13 الأولىالأولى 1 2 3 4 12 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 16 إلى 30 من 183

الموضوع: (ملف)..خير الناااس.الصحب الأطهار رضي الله عنهم

  1. #16
    ~ [ نجم ماسي ] ~
    تاريخ التسجيل
    Jul 2010
    المشاركات
    860

    رد: (ملف)..خير الناااس.الصحب الأطهار رضي الله عنهم

    حياك الله ياسليمان

    أسعدني تواجدك وجزاك الله خير













  2. #17
    ~ [ نجم ماسي ] ~
    تاريخ التسجيل
    Jul 2010
    المشاركات
    860

    رد: (ملف)..خير الناااس.الصحب الأطهار رضي الله عنهم

    البراء بن معرور


    مقدمة

    البراء بن معرور بن صخر الأنصاري الخزرجي السلمي أبو بشر.
    قال موسى بن عقبة عن الزهري: كان البراء بن معرور من النفر الذين بايعوا البيعة الأولى بالعقبة وهو أول من بايع في قول ابن إسحاق، وأول من استقبل القبلة، وأول من أوصى بثلث ماله.


    بيعته

    كان نقيب قومه بني سلمة. وكان أول من بايع ليلة العقبة الأولى.
    وعن محمد بن سعد قال: إن البراء أول من تكلم من النقباء ليلة العقبة حين لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم السبعون من الأنصار فبايعوه، وأخذ منهم النقباء فقام البراء، فحمد الله وأثنى عليه فقال: الحمد لله الذي أكرمنا بمحمد وحيانا به فكنا أول من أجاب لإاجبنا الله ورسوله وسمعنا وأطعنا يا معشر الأوس والخزرج، قد أكرمكم الله بدينه، فإن أخذتم السمع والطاعة والمؤازرة بالشكر فأطيعوا الله ورسوله ثم جلس رضي الله عنه.
    قال ابن حجر في الإصابة: وكان أول من ضرب على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم البراء بن معرور.


    مواقف من حياته مع الرسول صلى الله عليه وسلم

    قال ابن إسحاق: حدثني معبد بن كعب بن مالك بن أبي كعب بن القين، أخو بني سلمة، أن أخاه عبد الله بن كعب، وكان من أعلم الأنصار، حدثه أن أباه كعبا حدثه، وكان كعب ممن شهد العقبة وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، قال: خرجنا في حجاج قومنا من المشركين، وقد صلينا وفقهنا، ومعنا البراء بن معرور، سيدنا وكبيرنا.
    فلما وجهنا لسفرنا، وخرجنا من المدينة، قال البراء لنا: يا هؤلاء، إني قد رأيت رأيا، فوالله ما أدري، أتوافقونني عليه، أم لا؟ قال: قلنا: وما ذاك؟ قال: قد رأيت أن لا أدع هذه البَنيِّة مني بظهر، يعني الكعبة، وأن أصلي إليها. قال: فقلنا: والله ما بلغنا أن نبينا صلى الله عليه وسلم يصلي إلا إلى الشام، وما نريد أن نخالفه. قال: فقال: إني لمصل إليها. قال: فقلنا له: لكنا لا نفعل.
    قال: فكنا إذا حضرت الصلاة صلينا إلى الشام، وصلى إلى الكعبة، حتى قدمنا مكة. قال: وقد كنا عبنا عليه ما صنع، وأبى إلا الإقامة على ذلك. فلما قدمنا مكة قال لي: يا ابن أخي، انطلق بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى نسأله عما صنعت في سفري هذا، فإنه والله لقد وقع في نفسي منه شيء، لما رأيت من خلافكم إياي فيه.
    قال: فخرجنا نسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنا لا نعرفه، ولم نره قبل ذلك، فلقينا رجلا من أهل مكة، فسألناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هل تعرفانه؟ فقلنا: لا ؛ قال: فهل تعرفان العباس بن عبد المطلب عمه؟ قال: قلنا: نعم - قال: و قد كنا نعرف العباس، وكان لا يزال يقدم علينا تاجرا - قال: فإذا دخلتما المسجد فهو الرجل الجالس مع العباس.
    قال: فدخلنا المسجد فإذا العباس جالس، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس معه، فسلمنا ثم جلسنا إليه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: هل تعرف هذين الرجلين يا أبا الفضل؟ قال: نعم، هذا البراء بن معرور، سيد قومه ؛ وهذا كعب بن مالك.
    قال: فوالله ما أنسى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: الشاعر؟ قال: نعم. قال: فقال له البراء بن معرور: يا نبي الله، إني خرجت في سفري هذا، وقد هداني الله للإسلام، فرأيت أن لا أجعل هذه البَنِيَّة مني بظهر، فصليت إليها، وقد خالفني أصحابي في ذلك، حتى وقع في نفسي من ذلك شيء، فماذا ترى يا رسول الله؟ قال: قد كنت على قبلة لو صبرت عليها. قال: فرجع البراء إلى قبلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلى معنا إلى الشام. قال: وأهله يزعمون أنه صلى إلى الكعبة حتى مات، وليس ذلك كما قالوا، نحن أعلم به منهم.
    قال ابن هشام: وقال عون بن أيوب الأنصاري:
    ومنا المُصلي أول الناس مُقبلا * على كعبة الرحمن بين المشاعر
    يعني البراء بن معرور. وهذا البيت في قصيدة له.
    من كلماته
    قال البراء بن معرور في موقف البيعة:
    يا أبا الفضل اسمع منا فسكت العباس فقال البراء لك والله عندنا كتمان ما تحب أن نكتم وإظهار ما تحب أن نظهر وبذل مهج أنفسنا ورضا ربنا عنا إنا أهل حلقة وافرة وأهل منعة وعز وقد كنا على ما كنا عليه من عبادة حجر ونحن كذا فكيف بنا اليوم حين بصرنا الله ما أعمى على غيرنا وأيدنا بمحمد صلى الله عليه وسلم ابسط يدك فكان أول من ضرب على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم البراء بن معرور


    وفاته

    روى أن البراء بن معرور مات قبل الهجرة فوجه قبره إلى الكعبة وكان قد أوصى عليه يعني على قبره وكبر أربعاً.
    وعن أبي قتادة: أن البراء بن معرور أوصى إلى النبي صلى الله عليه وسلم بثلث ماله يصرفه حيث شاء فرده النبي صلى الله عليه وسلم.
    قال ابن إسحاق وغيره: مات البراء بن معرور قبل قدوم النبي بشهر.
    المراجع:
    الإصابة في تمييز الصحابة................. ابن حجر
    صفة الصفوة............................ ابن الجوزي
    السيرة النبوية............................ ابن هشام
    نزهة الفضلاء تهذيب سير أعلام النبلاء...... محمد بن حسن بن عقيل
    <













  3. #18
    ~ [ نجم ماسي ] ~
    تاريخ التسجيل
    Jul 2010
    المشاركات
    860

    رد: (ملف)..خير الناااس.الصحب الأطهار رضي الله عنهم

    الحباب بن المنذر

    أهم ملامح شخصيته

    1- الشجاعة
    فهذا الصحابى قد شهد المشاهد كلها مع رسول الله ولعل ثباته يوم أحد من أكثر المواقف التي تدل على شجاعته
    فقد ثبت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم أحد في عصابة صبروا ومعه أربعة عشر رجلا سبعة من المهاجرين وسبعة من الأنصار أبو بكر وعبد الرحمن بن عوف وعلي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله وأبو عبيدة بن الجراح والزبير بن العوام ومن الأنصار الحباب بن المنذر وأبو دجانة وعاصم بن ثابت والحارث بن الصمة وسهل بن حنيف وأسيد بن الحضير وسعد بن معاذ.(1)
    2- الثقة بالنفس والذكاء والرأي الراجح وظهر ذلك جليا في موقفه في غزوة بدر الكبرى عندما أشار على الرسول بالمكان الأمثل للمسلمين.


    من مواقفه مع الرسول في حياته

    ففي يوم بدر " وسار رسول الله ( صلى الله عليه وسلم) يبادرهم يعني قريشا إليه يعني إلى الماء فلما جاء أدنى ماء من بدر نزل عليه فقال الحباب بن المنذر بن الجموح : يا رسول الله منزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتعداه ولا نقصر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " بل هو الرأي والحرب والمكيدة " قال الحباب : يا رسول الله ليس بمنزل ولكن انهض حتى تجعل القلب كلها من وراء ظهرك ثم غور كل قليب بها إلا قليبا واحدا ثم احفر عليه حوضا فنقاتل القوم ونشرب ولا يشربون حتى يحكم الله بيننا وبينهم فقال رسول الله( صلى الله عليه وسلم) : " قد أشرت بالرأي " ففعل ذلك.(2)
    ياله من موقف عظيم من رسول الله ( صلي الله عليه وسلم ) موقف يدل علي التواضع ، وقبول الرأي الصواب أينما كان ، وموقف رائع من الحباب ( رضي الله عنه ) ، فهو الذي رباه النبي ( صلي الله عليه وسلم ) علي مبدأ الشورى ، وأن الدين النصيحة .

    وفي غزوة أحد أظهر من البطولة والفتوة والتضحية بالنفس الشيء العجيب " روى سعد بن عبادة قال : بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم عصابة من أصحابه على الموت يوم أحد حتى انهزم المسلمون فصبروا وكرموا وجعلوا يسترونه بأنفسهم يقول الرجل منهم : نفسي لنفسك الفداء يا رسول الله وجهي لوجهك الوقاء يا رسول الله وهم يحمونه ويقونه بأنفسهم حتى قتل منهم من قتل وهم أبو بكر وعمر وعلي والزبير وطلحة وسعد وسهل بن حنيف وابن أبي الأفلح والحارث بن الصمة وأبو دجانة والحباب بن المنذر.



    بعض المواقف من حياتة مع الصحابة

    أبدي الحباب بن المنذر برأيه في سقيفة بني ساعدة فقد اجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة فقالوا منا أمير ومنكم أمير فذهب إليهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح فذهب عمر يتكلم فأسكته أبو بكر فكان عمر يقول والله ما أردت بذلك إلا أني قد هيأت كلاما قد أعجبني خشيت أن لا يبلغه أبو بكر ثم تكلم أبو بكر فتكلم أبلغ الناس فقال في كلامه نحن الأمراء وأنتم الوزراء فقال الحباب بن المنذر السلمي لا والله لا نفعل أبدا منا أمير ومنكم أمير قال فقال أبو بكر لا ولكنا الأمراء وأنتم الوزراء هم أوسط العرب دارا وأكرمهم أحسابا يعني قريشا فبايعوا عمر وأبا عبيدة فقال عمر بل نبايعك أنت فأنت سيدنا وأنت خيرنا وأحبنا إلى نبينا (صلى الله عليه وسلم) فأخذ عمر بيده فبايعه فبايعه الناس .


    من كلماته

    من شعر الحباب بن المنذر:
    ألم تعلما لله در أبيكما ... وما الناس إلا أكمه وبصير
    أنا وأعداء النبي محمد ... أسود لها في العالمين زئير
    نصرنا وآوينا النبي وماله ... سوانا من أهل الملتين نصير (3)

    تاريخ الوفاة
    توفي الحباب بن المنذر في خلافة عمر بن الخطاب وليس له عقب
    وقال ابن سعد:مات في خلافة عمر وقد زاد على الخمسين سنة .(4)

    المصادر .
    1- كنز العمال جـ 10 - صـ 717

    2- أسد الغابة جـ 1 - صـ 231

    3- الإصابة جـ 1صـ 454
    4- الطبقات الكبرى جـ 3 - صـ 567













  4. #19
    ~ [ نجم ماسي ] ~
    تاريخ التسجيل
    Jul 2010
    المشاركات
    860

    رد: (ملف)..خير الناااس.الصحب الأطهار رضي الله عنهم

    الصحابة واتباع الرسول


    مقدمة

    الصحابة واتباع الرسول
    حديثنا في هذا الفصل عن الصحابة رضوان الله عليهم، وكيف كانوا يتبعون سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
    وكيف كانوا يتعاملون مع هذه السنة سنة الرسول صلى الله عليه وسلم؟
    الحقيقة إن نظرة الصحابة إلى السنة كانت نظرة فريدة حقا، وتعظيم الصحابة للسنة كان بدرجة لا يتخيلها إلا من درس حياة الصحابة بعمق، ودرس كل نقطة من نقاط حياة الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم.
    ثم تفاوتت بعد ذلك نظرة اللاحقين إلى السنة الذين جاءوا بعد الصحابة، فاختلفت نظرتهم للسنة، فمنهم من عظمها، ولكن كشيء نظري جميل، تاريخ رائع لإنسان عظيم، لكن يأخذ منها، ويترك كيفما شاء, ومن الناس من اعتقد أنها شيء من الكماليات قد يجمل، ولكن ليس ضروريا, ومن الناس من اعتقد أن السنة كانت أشياء خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم، وليست لعموم الأمة، فإذا تكلمت معه عن عمل للرسول صلى الله عليه وسلم، أو قول له توضح له معاملة الرسول في أمر من الأمور، فيرد بأنه رسول، أما أنا فلست برسول, ومن الناس من تطاول على السنة، وطعن فيها، وألقى بالشبهات، واتبع المتشابه، وأعرض عن المحكم، فلذلك نجد تفاوتًا كبيرًا في تلقي معنى السُّنة في الأجيال التي لحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم.
    لذلك نريد أن نوضح نظرة الصحابة للسنة،
    كيف كانوا ينظرون إلى السنة؟
    لأن هذه هي النظرة الصحيحة التي نتمنى منها معرفة التعامل مع السنة النبوية المطهرة المشرفة.
    فارتباط الصحابة بالسنة كان سببًا مباشرا لوصول الصحابة إلى رضا الله عز وجل، وإلى حب الله عز وجل، فحب الله عز وجل لك، ومغفرة ذنوبك مرهون باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولقد صرح بذلك الله عز وجل في كتابه فقال:

    [قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]
    {آل عمران:31} .


    فحياة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت التفسير العملي للقرآن الكريم، كانت التطبيق الواقعي لما أراده الله عز وجل من العباد، كانت التطبيق الواقعي لما أراده الله عز وجل من العبادة، كل صغيرة، وكبيرة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت لهدف، كانت مقصودة، وكانت محسوبة، وكانت متابعة بالوحي، تستطيع أن تقول بمنتهى الاطمئنان أن كل أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت متابعة بالوحي الكريم من الله عز وجل، أعمال الرسول صلى الله عليه وسلم قد تكون بأمر من الله عز وجل, وقد يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ينزل الوحي إما بالتأكيد على هذا الفعل، وإما بتعديله إلى شيء آخر.
    فإذن كل نقطة من نقاط حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت متابعة بالوحي، ولا يحدث هذا الأمر إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقط، والأنبياء، فلا ينبغي أن يُقَلد إنسانًا تقليدًا مطلقًا إلا الرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن كل إنسان غير الرسول صلى الله عليه وسلم قد يصيب ويخطئ، فكل إنسان يصيب ويخطئ، وكل إنسان يؤخذ من كلامه ومن أفعاله ويُرَد، كل إنسان إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم.
    الصحابة كانوا يفقهون ذلك جيدا، وظهر ذلك في كثير من أفعالهم، أو قل ظهر ذلك في كل أفعالهم، كما سنرى إن شاء الله.


    معنى السُّنة

    بدايةً، قبل الخوض في غمار الموضوع، وقبل أن نعرف مدى كان اتباع الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم، نلقي الضوء على معنى السنة، وما المقصود بها.
    السُّنُّة هي: الطريقة، سنة فلان بمعنى: طريقة فلان في الحياة، سواء كانت هذه الطريقة محمودة، أم مذمومة، فكلمة سنة لغة تعني: طريقة فلان، فإن كانت طريقته محمودة، فهذه سنة محمودة، وإن كانت طريقته سيئة، إذن هذه سنة سيئة، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه:

    [قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ]
    {الأنفال:38}.


    سنة الأولين المكذبين الذين كذبوا بأنبيائهم، ورسلهم فكان عليهم العذاب والهلكة.
    الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
    مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، كُتِبَتْ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ.
    فالسنة هي الطريق، فمن فعل شيئًا حسنًا، وقلده الناس يأخذ من الأجر ما لهذا العمل، ويأخذ مثل أجور كل من قلده في ذلك العمل، وأيضًا من يفعل شيئًا مذمومًا، نفس الكلام يندرج عليه، لهذا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يأخذ حسنات على كل أمة الإسلام والمسلمين، فكل من يعمل خيرا في الإسلام، فهذا إنسان يقلد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ثَمّ يضاف لحسناته، نسأل الله عز وجل أن يلحقنا به صلى الله عليه وسلم في أعلى عليين.
    إذن عندما نقول سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإننا نقصد طريقته، ومنهاجه، وأسلوبه في الحياة صلى الله عليه وسلم، ولا نقصد هنا السنة كما عرفها الفقهاء، وهي:
    ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجوب، أي النوافل.
    الفقهاء قسموا الأحكام التكليفية التي كُلف بها البشر إلى خمسة أقسام:
    واجب، وحرام، وسنة، ومكروه، ومباح.
    ولما نتكلم عن موضوع السنة فليس المقصود بالسنة النافلة، ولكن المقصود بالسنة كما عَرّفها علماء الأصول، قالوا:
    السُّنة: هي كل ما نُقِل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول، أو فعل، أو تقرير.
    فكل ما نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى لو كان المنقول فرضا أو سنة، لا فرق ما دام قد نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواء كان يسمى فرضا أو يسمى نافلة، أصبح اسمه سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
    القول، أو الفعل، أو التقرير، ويقصد بالقول: أيّ كلمة تكلمها صلى الله عليه وسلم، فمثلًا قال:
    إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ.
    فأصبحت سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، قال:
    الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا.
    فأي حديث قاله ينطبق عليه هذا التعريف.
    ويقصد بالفعل مثل ما نقله الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أفعال فعلها، كأداء الصلاة، كان يصلي الظهر أربع ركعات، كل ركعة يقرأ الفاتحة، وكل ركعة يركع، ويسجد، من حركة لحركة يقول: الله أكبر. وفي رفعه من الركوع يقول: سمع الله لمن حمده. وكل ما ذكرناه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه ما هو فرض، وفيه ما هو نافلة، لكن كل هذه الأشياء تدخل تحت تعريف أفعال الرسول، وبالتالي كلها سنة من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم.
    ويقصد بالتقرير: شيء أقره الرسول صلى الله عليه وسلم، بمعنى أن صحابي من الصحابة فعل شيئًا أمام الرسول صلى الله عليه وسلم، والرسول سكت عنه، ولم يتكلم، فأصبحت سنة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لن يسكت عن باطل.
    أو أتى أحد الصحابة بشيء، واستحسنه الرسول صلى الله عليه وسلم، فأصبح هذا العمل سنة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم مدح هذا الفعل، حتى ولو لم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم.
    فالسنة من هذا التعريف: هي كل قول، أو فعل، أو تقرير، والأمثلة لا تحصى؛ لأن الأمثلة كلها عبارة عن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم بكاملها، فكل كلمة خرجت من فمه صلى الله عليه وسلم، وكل حركة تحركها، وكل سكنة سكنها صلى الله عليه وسلم، أي ابتسامة ابتسمها، وأي غضبة غضبها صلى الله عليه وسلم، وأي أمر حدث أمامه وسكت، أصبح سنة، وكل أمر حدث أمام الرسول صلى الله عليه وسلم، ونهى عنه يصبح عكس السنة.
    فأنت مطالب أن تعرف كل حياة الرسول لتكون متبع لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
    نؤكد مرة أخرى أننا لا نقصد بكلمة السنة النوافل، بل نقصد منهج الرسول صلى الله عليه وسلم وطريقته في الحياة.
    وهناك ظاهرة غريبة جدًا ما تكررت في حياة أي إنسان على وجه الأرض، إلا في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي أنه ليس في حياته صلى الله عليه وسلم مطلقا أي سر، ليس في حياته سر، فكل حياته مكشوفة أمامه لنتعلم كيف نقتدي به، ونقلده، ولعل هذا هو أحد الحكم التي من أجلها تزوج الرسول صلى الله عليه وسلم من إحدى عشرة زوجة، هو لم يجمع أكثر من تسعة في وقت واحد، لكن هذا العدد هو الذي ينقل كل صغيرة وكبيرة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، كانوا يعيشون معه في البيت، فرأوا كل شيء داخل البيت، زوجة واحدة لا تسطيع أن تنقل كل هذا الكم الضخم من معاملاته، ومن الحياة الشخصية التي داخل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله عز وجل يريد لحياته بكاملها أن تكون مكشوفة، ومعروفة للأمة، وكل نقطة في حياته صلى الله عليه وسلم ستضيف شيئا جديدًا.
    وبذلك لم يبق أي خبر في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم لا نعرفه، فكل شيء معروف، وبذلك نستطيع أن نحقق قول الله سبحانه وتعالى

    [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرً]
    {الأحزاب:21} .


    إذن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم هي الحياة بأسرها, له سنة صلى الله عليه وسلم في كيفية الاعتقاد في الله عز وجل، ولا بد أن نعتقد في الله كما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو خرجنا عن طريقته لضللنا, له سنة في الشعائر، ويقصد بالشعائر: الصلاة، الزكاة، الصيام، الحج، قيام الليل، قراءة القرآن، له سنة في كل ذلك لا بد أن تُتّبع, له سنة في طلب العلم, له سنة في نقل هذا العلم بضوابط معينة لا بد من السير عليها، وهذه الضوابط ليست نوافل وفقط، بل هناك فروض كثيرة جدا, له سنة في الدعوة، طريقة في امتلاك قلوب الآخرين, طريقة في التأثير عليهم، والوصول إليهم بدعوة الله عز وجل، له سنة في الطعام، والشراب، والذبح، والصيد، ولا يقصد بسنته في الطعام أن يقصد طريقته في الأكل فقط، بل هناك أكل حرام حرمه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يأت تحريمه في القرآن الكريم، فأصبح حرام، فالسنة شيء خطير فيها حلال، وفيها حرام، فيها أوامر، وفيها نواهٍ، ليست شيئًا اختياريًا نأخذ منها ونترك كما نريد.
    الرسول كانت له سنة في البيوع، والتجارة، والزراعة، والشركات، قوانين، وتشريعات، وأصول ينبغي على كل تاجر معرفتها، كانت له سنة في القضاء، وفي فض النزاع، وفي الفصل في الخصومات, له سنة في الجهاد، والقتال، والغزوات، والعلاقات مع العدو، متى تحارب ومتى تعاهد, له سنة في التعامل مع زوجاته، ومع أولاده، ومع أصحابه، وجيرانه، وضيوفه، حتى مع أعدائه، سنة في كل شيء من الأشياء التي تواجه الإنسان المسلم في كل حياته.
    لذا نستطيع القول بأن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم كلها ذات أهمية، ولم يكن في حياته أشياء خاصة، وأشياء عامة، فكل شيء قاله، أو فعله، أو أقره، هو سنة من سننه صلى الله عليه وسلم، فنحن لا نتكلم على حياة إنسان، أو تاريخ إنسان، نحن نتكلم عن دين، نتكلم عن شرع، عن قانون متكامل، عن دستور محكم، نتكلم عن وحي من رب العالمين سبحانه وتعالى، وهذا هو المقصود من السنة في الحديث الذي رواه الإمام أحمد رحمه الله، وابن ماجه عن العرباض بن سارية رضي الله عنه وأرضاه قال:
    وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، قلنا:
    يا رسول الله، إن هذه لموعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟
    قال: قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلِهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ.
    تركتكم على البيضاء الملة الواضحة النقية، لا يوجد فيها شيء واضح، وشيء مبهم، بل كلها بيضاء، ليس فيها ليل أسود، بل كلها نهار ساطع أبيض، وبعد هذا الكلام يحذر النبي صلى الله عليه وسلم تحذيرًا خطيرا جدًا فيقول:
    مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا.
    من يطل به العمر سيرى اختلافا كثيرا، كزماننا الآن، فما العمل عند الاختلاف، الشرق يقول كذا، والغرب يقول كذا، والمسلمون أنفسهم منهم من يقول كذا، أو كذا، أو كذا، اختلافات، وآراء، ومدارس، ما العمل؟
    مليون رأي، من يقول: إن الباليه فن راقي، وأن ما فيه من العري، والإباحية نوع من قمة الإبداع الفني الجميل.
    ومن يقول: الرشوة إكرامية، أو عمولة، أو سمسرة، ومشي حالك، وكَبّر دماغك.
    ومن يقول: إن كان لك عند الكلب حاجة قل له يا سيدي.
    وتسمع أمثلة ما تدل إلا على السلبية المقيتة كمن يقول: (ملناش دعوة يعني إحنا اللي هنصلح الكون يا عم أنا مالي خليني في حالي)
    وكل فريق من هؤلاء لديه حجة، وعنده منطق، ومن الممكن أن يجادلك ساعة وساعتين، فما العمل عند الاختلاف؟
    الرسول صلى الله عليه وسلم يقول:
    مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي.
    ولا يعقل أن تكون معنى السنة في الحديث النافلة، بل معناها طريق الحياة، منهج الرسول، كل أمر من أمور الدنيا كلها.
    فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ.
    الخلفاء الراشدون سيدنا أبو بكر، وسيدنا عمر، وسيدنا عثمان، وسيدنا علي رضي الله عنهم أجمعين.
    فإذا تعرض لك أمر في حياتك، ضع مكانك الرسول صلى الله عليه وسلم، أو أبو بكر، أو عمر، أو عثمان، أو علي، ولتنظر ماذا ممكن أن يفعل لو هنا، كحفلة بالية مثلا، هل كان سيحضرها الرسول صلى الله عليه وسلم؟
    هل كان من الممكن أن يسلم على الراقصين والراقصات، ويوزع هدايا؟ ويقول: ما شاء الله على الفن الجميل، والإبداع الراقي.
    أم كان سيمنعها ويحرمها؟
    تخيل أنه صلى الله عليه وسلم مكانك، وفي وقتها ستعرف الإجابة.
    هذا الكلام ليس سهلًا، بل من الصعب بمكان؛ لذا قال الرسول:
    عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِزِ.
    تمسكوا بكل ما تملكون من قوة، ومن عزيمة بهذه السنة، وبسنة الخلفاء الراشيدن المهديين، وإذا كان التمسك صعبًا، إلا أنه ليس مستحيل، عضوا عليها بالنواجز، تمسكوا بها، بكل طاقة عندكم.
    إن السنة التي نريدها هي التي جات في الحديث الشريف الذي رواه الحاكم، والبيهقي، وابن عبد البر، والإمام مالك عن عمرو بن عوف رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
    تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا كَتَابَ اللَّهِ، وَسُنَّتِي.
    فالسنة في هذا الحديث ليس المقصود بها النافلة، بل المقصود بها حياة الرسول صلى الله عليه وسلم كلها.
    وفي فهمنا لهذا المعنى الدقيق للسنة نستطيع أن نفهم الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه وقال فيه صلى الله عليه وسلم:
    كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى.
    قالوا: يا رسول الله، ومن يأبى أن يدخل الجنة؟
    قال: مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى.
    فالمسألة في غاية الخطورة، إن مخالفتك لسنة النبي صلى الله عليه وسلم مخاطرة بجنة عرضها السموات والأرض.
    فمن هذا المنطلق كانت السنة هي المصدر الثاني للتشريع في الإسلام، المصدر الثاني للقانون في الإسلام، للدستور في الإسلام، فمصدر القانون في الإسلام، أو الدستور في الإسلام أمرين رئيسين: أول أمر:
    القرآن الكريم، والأمر الثاني: السنة المطهرة.
    ولا يصلح دستور، أو قانون في الإسلام من غير قرآن وسنة، لا غنى أبدا عن أحدهما.
    ومع كل ما قلناه وتحدثنا عنه، لكن تجد كثيرا من الناس يعترض على السنة، يقولون: إن القرآن يكفي ولا نحتاج للسنة.
    يطعنون في قضايا كثيرة جدا جاءت في السنة المطهرة، فتجد من يطعن في الشفاعة، ومن يطعن في الحياة في القبر، ومن يطعن في الهدي الظاهر، ومن يطعن في الحدود، ويتاح لهم مساحة واسعة جدا في الإعلام، مع أن الرد عليهم سهل جدا، وميسور، ومستحيل أن تجد مؤمنا واحدا حريصا على دينه يستطيع أن يستغنى عن السنة.


    تعامل الصحابة مع السنة

    كيف كان الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم يتعاملون مع السنة ويتبعون الرسول صلى الله عليه وسلم؟
    كيف كان حرصهم على أن يعرفوا كل نقطة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم؟
    كم نالهم من التعب من أجل ألا تتركهم سنة من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم؟
    روى البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه قال: كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد- هذا الجار هو عتبان بن مالك- وكنا نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينزل يوما، وأنزل يوما، فإذا نزلت جئت بخبر ذلك اليوم من الوحي، وإذا نزل فعل مثل ذلك.
    فالقضية تهمه وتشغل باله، فحياته لم تقف، بل يعمل، ويتاجر، ويتزوج، لكنه حريص كل الحرص أن يعرف كل نقطة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم.
    إن من يسمع عن قصة سيدنا عمر، أو يسمع عن تاريخ الرسول صلى الله عليه وسلم يظن أن سيدنا عمر ليله ونهاره مع الرسول صلى الله عليه وسلم، لا يتركه لحظة من لحظات حياته، ولكن الأمر على عكس ذلك، فكانت لهم حياتهم الخاصة، ولكن في نفس الوقت كان حريصًا على معرفة كل شيء في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم.
    لماذا لا نتشبه بهم، ونقتفي أثرهم؟
    وإذا كنت تختلق أعذارًا بأنه ليس لديك وقت لتفعل كما كان يفعل سيدنا عمر وسيدنا عتبان بن مالك، فمن الممكن أن تقرأ في السنة، وتنقل ما قرأته لجارك، وينقل لك ما قرأه، وتسطيعون أن تقتسموا فروع العلم المختلفة، وتدارسوها، وبذلك تسطيع معرفة منهج، وسنة النبي صلى الله عليك وسلم.
    إن عمر بن الخطاب وهو من هو، كان يتعلم، ويتعاون لمعرفة السنة النبوية من عتبان بن مالك، يتعاون معه على البر والتقوى، مع أن هذا الجار كثير منا لا يعرفه، فمن منا يعرف عتبان بن مالك؟
    فليس أبا بكر، أو عثمان، ومع ذلك سيدنا عمر كان يستفيد منه، وأكيد عمر رضي الله عنه كان يفيده.
    ولنتذكر قصة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما التي ذكرناها في فصل الصحابة والعلم، كم كان حريصًا على السنة! وكان ينام على باب بيت الصحابة، يحكي عن نفسه، فيقول فيما رواه الدارمي بسند صحيح عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يقول عن نفسه:
    لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت لرجل من الأنصار:
    يا فلان هلم فلنسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فإنهم اليوم كثير.
    قال: واعجبا لك يا ابن عباس أترى الناس يحتاجون إليك، أترى الناس يحتاجون إليك وفي الناس أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟
    فيقول عبد الله بن عباس: فترك ذلك، وأقبلت أنا- يعني على المسألة- فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل، فآتيه، وهو قائل، فأتوسد ردائي على بابه، فتسفي الريح على وجهي التراب، فيخرج فيراني، فيقول:
    يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء بك؟ ألا أرسلت إلي فآتيك. فأقول: لا، أنا أحق أن آتيك.
    فأسأله عن الحديث. قال ابن عباس رضي الله عنهما:
    فبقي الرجل، حتى رأني، وقد اجتمع الناس علي.
    مرت الأيا وعبد الله بن عباس أصبح من علماء المسلمي واجتمع عليه الناس فقال الرجل الانصاري:
    كان هذا الفتى أعقل مني.
    روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه يقول عن نفسه:
    إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة.
    يستعجب الناس من رواية أبي هريرة لكل الأحاديث التي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد روى أكثر من سبعة آلاف حديث، حتى من عاصره كان يستعجب من هذا الكم الضخم الذي رواه أبو هريرة فقد أسلم في سنة سبعة من الهجرة، لم يصاحب النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من أربع سنين فقط، لكنه روى أكثر من سبعة آلاف حديث من صحبة أربع سنين فقط مع الرسول صلى الله عليه وسلم، أكثر من روى الصحابة، روى أكثر من كل الصحابة الذين عاشوا مع الرسول عشرين سنة، وأكثر من عشرين سنة،
    فيقول:
    إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة، ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت حديثا عن رسول الله صلى اله عليه وسلم قوله تعالى:

    [إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ(159)إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ]
    {البقرة:159،160} .


    تحذير خطير جدا للذي يكتم آيات الله عز وجل، أو يكتم أي علم وصل عن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبو هريرة يخاف من هذا التحذير، فكل معلومة عرفها من الرسول صلى الله عليه وسلم أحب أن يقولها، فقال كل الأحاديث التي عرفها، وكيف تسنى لأبي هريرة معرفة هذا الكم الهائل من الأحاديث عن غيره من الصحابة؟
    يفسر ذلك أبو هريرة بقوله:
    إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق في الأسواق- يعني التجارة- وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل بأموالهم، وإني كنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشبع بطني.
    فكان من الفقراء المحتاجين رضي الله عنه وأرضاه من أهل الصفة، فكان أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه يسد ثغرة مهمة جدًا، وهي نقل الأحاديث النبوية بمفرده كما ذكرنا أكثر من سبعة آلاف حديث، فجلوسه مع النبي صلى الله عليه وسلم كان مفيدًا جدا، ولكن لم يتفرغ كل الصحابة تفرغ أبو هريرة, بل عملوا في سد ثغرات أخرى، وليس المطلوب منك أن تكون كأبي هريرة، وتفرغ نفسك تفرغًا تامًا، وتترك أعمالك، وتجارتك، ولكن يتعاون كل المجتمع على سد كل الثغرات، فالصحابة لم يتفرغوا كلهم لنقل الحديث كأبي هريرة، لكنهم تعاونوا ليستفيدوا من بعضهم البعض، والصحابة لم يكن عندهم مانع أن يقطعوا المسافات، والمسافات، والبلاد، والبلاد، من أجل معرفة رأي الرسول صلى الله عليه وسلم في قضية من القضايا، حرص عجيب على السنة، وهذا المعنى هو الذي نريد ترسيخه فينا في هذا الفصل.
    روى البخاري عن عقبة، عن الحاكم رضي الله عنه وأرضاه أحد الصحابة كان يعيش في مكة، والرسول كان يعيش في المدينة، فتزوج عقبة ابنة أبي إيهاب بن عزيز رضي الله عنه، فأتته امرأة، قالت له:
    إيه، إني قد أرضعت عقبة، والذي تزوج.
    فقال لها عقبة: ما أعلم أنك أرضعتيني ولا أخبرتيني قبل الزواج.
    لكنه كان تزوج، فركب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، ذهب من مكة للمدينة ليسأله صلى الله عليه وسلم، فسأله ولم يكن يعرف ذلك قبل الزواج، وتزوج، وبعد ما تزوج عرف، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال:
    كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ.
    يعني أنت عرفت، ثم أمره أن يفارقها، ففارقها عقبة، ونكحت زوجا غيره، الشاهد هو حرص الصحابة الشديد على رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأي الشرع، لم يسأل أحد الصحابة في مكة، وينتهي الأمر، ولكنه يسافر من مكة للمدينة خمسمائة كيلوا في الصحراء؛ لكي يسأل عن مسألة واحدة، فالمسألة مهمة، وتستلزم، لكن ليس كل إنسان يحرص هذا الحرص على معرفة رأي الدين.
    كثير من الناس تسألني عن مسائل طلاق، وزواج، وتعرف منه بعد ما تسمع حكايته أنه طلق قبل ذلك مرة، واثنتين، وثلاثة، ولا يزال مع امرأته، وتسأله كيف ذلك؟
    فيقول: سألت واحد أعرفه، وقال لي لو كنت غضبان فليس ذلك بطلاق. ويمر الأمر ببساطة.
    قضايا ضخمة جدا في حياة الناس، لكن ببساطة شديدة تؤخذ الأمور، نحن نحتاج أن نبذل مجهودا ومجهودا كبيرا لنعرف رأي الدين في كل قضية من القضايا مهما صغرت هذه القضية في أعيننا، لا بد من معرفة رأي الدين، لا يوجد أمر صغير، وأمر كبير، بل يوجد أمر حلال، وأمر حرام، هذا ما نريد فهمه ودراسته من حياة الصحابة.
    روى الإمام أحمد، والطبراني، وأبو يعلى رحمهما الله جميعا عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: بلغني حديثا عن رجل سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    الرجل سيدنا جابر، ويعيش في المدينة المنورة، سمع أن هناك حديثا قاله أحد الصحابة في الشام، وكان عبد الله بن أنيس رضي الله عنه وأرضاه من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعيش في الشام، ويريد سيدنا جابر بن عبد الله أن يسمع بنفسه الحديث من عبد الله بن أنيس، وهذا ما يسميه علماء الحديث بعلو السند، بدلًا ما يسمع من فلان عن فلان عن عبد الله بن أنيس، بل يسمع منه مباشرة، فيكون أوثق في المعرفة، يقول:
    فاشتريت بعيرا، ثم شددت عليه رحلي، فسرت إليه شهرا، حتى قدمت عليه الشام، فإذا عبد الله بن أنيس الأنصاري رضي الله عنه، فقلت للبواب:
    قل له جابر على الباب.
    فقال: ابن عبد الله؟
    فقال: نعم.
    فخرج يطأ ثوبه، فاعتنقني، واعتنقته، فقلت:
    حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في القصاص، فخشيت أن تموت، أو أموت قبل أن أسمعه.
    فقال عبد الله بن أنيس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
    يُحَشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ- أَوْ قَالَ: الْعِبَادُ- عُرَاةً غُرْلًا بُهْمًا.
    فقالوا: وما بهمًا؟
    فقال: لَيْسَ مَعَهُمْ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ: أَنَا الْمَلِكُ، أَنَا الدَّيَّانُ، لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَنْ يَدْخُلَ وَلَهُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَقٌّ، حَتَّى أَقُصَّهُ مِنْهُ، وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ وَلِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ عِنْدَهُ حَقٌّ حَتَّى أَقُصَّهُ مِنْهَ حَتَّّى اللَّطْمَةُ.
    فكيف الحال بمن يظلم، ويعذب، ويشرد، بدون وجه حق؟
    يقول عبد الله بن أنيس: فقلنا: كيف وإنما نأتي الله عز وجل عراة غرلا بهما؟
    قال صلى الله عليه وسلم:
    بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ.
    فأخذه جابر بن عبد الله، ورجع إلى المدينة المنورة، حديث واحد يا ترى عندنا كم كتاب في المكتبة فيهم أحاديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم لم نقرأها، ونحتج بأنه لا وقت لدينا، فكيف استطاع جابر بن عبد الله أن يذهب إلى الشام في شهر ويعود في شهر من أجل حديث واحد؟
    الفارق أنه يعطي له أهمية كبيرة، أحيانًا يفرغ الإنسان منا نفسه أسبوعا كاملا ليذهب فيه للمصيف؛ لأنه يعرف قيمة المصيف, تجد عنده ساعتين يشاهد المباراة؛ لأنه يعرف قيمة المباراة، ومن الممكن يفرغ نفسه نصف يوم ليشاهد المباراة في الإستاد لأن الموضوع له قيمة عنده.
    فعلى قدر أهمية الموضوع تجد له وقت، فلو أعطيت لدراسة السنة، وعلم رأي الدين في قضية من القضايا أهمية ستجد وقت تعمل كجابر، وغيره من الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم.
    روى أحمد، والبيهقي عن عطاء بن أبي رباح رحمه الله- عطاء من التابعين- يقول:
    إن أبا أيوب الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه رحل إلى عقبة بن عامر رضي الله؛ ليسأله عن حديث سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم- أبو أيوب يعيش في المدينة المنورة، وعقبة بن عامر يعيش في مصر- يقول: فلما قدم إلى منزل مسلمة بن مخلد الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه، وكان أمير مصر في ذلك الوقت، خرج إليه، فعانقه، ثم قال له مسلمة:
    ما جاء بك يا أبا أيوب؟
    قال: حديث سمعه عقبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ستر المؤمن، دلني على عقبة أسمع منه الحديث.
    فقال: نعم.
    فذهب معه لسيدنا عقبة رضي الله عنه، قال عقبة لما رأى أبا أيوب:
    سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
    مَنْ سَتَرَ مُؤْمِنًا فِي الدُّنْيَا عَلَى كُرْبَتِهِ سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
    هذا السطر الذي من أجله جاء أبو أيوب من المدينة المنورة إلى مصر، فيقول راوي الحديث:
    ثم انصرف أبو أيوب إلى راحلته فركبها راجعًا إلى المدينة.
    لم يقعد في مصر، ولا لحظة، الهدف عنده واضح جدا، الهدف عنده أن يعرف السنة، ليس لديه وقت يصرفه في حاجة أخرى، هؤلاء هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    ليس المقصود أن تسافر من بلد لبلد لتتعلم السنة، وإن كان هذا أحيانا كثيرا جدًا يكون مطلوب، لكن المقصود منك أن تكون واسع الاطلاع على الكتب الموجودة في بيتك، وتقرأها، وتشتري إن لم يكن عندك في البيت، احضر درس العلم في مكانك الذي تسكن فيه، واسأل الشيخ الذي تعرفه عن القضايا التي تعرض لك في حياتك من قضايا الإسلام، وما أكثر هذه القضايا؛ لأن هذه القضايا فيها عمرك كله، كل صغيرة وكبيرة في حياتك، هذا هو المقصود من سماع هذه الحكايات عن جيل الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم.
    الصحابة كانوا يقاطعون من لم يلتزم بالسنة، والمقصود بمقاطعة من لم يلتزم بالسنة: هو مقاطعة من يصر على مخالفة نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، وليس من يترك النافلة.
    السنة هي حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو النواهي التي نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالصحابة حين يعرفون أحدا يصر على مخالفة نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقاطعونه.
    روى البخاري، ومسلم، وغيرهما عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه أنه رأى رجلا يقذف- يعني يرمي طيرا بحجر بالنبلة- بالمقلاع، فقال له:
    لا تقذف، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن القذف، ثم قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
    إِنَّه لَا يُصَادُ بِهِ صَيْدٌ، وَلَا يُنْكَى بِهِ عَدُوٌّ.
    يعني تعلمه لن يفيدك في الصيد، ولن ينفع في الجهاد، لكنها قد تكسر السن، وتفقأ العين، فليس هناك أي مصلحة في استعمال هذا القذف، والطير الذي قذف بالحجارة، لو وقع ميت، لن ينفع أكله، الشرع يسميه وقيذا، وأكل الوقيذ محرم؛ لأنه مات بقوة الرمي، لم يمت بحدها، فلا توجد مصالح في الموضوع، فالله سبحانه وتعالى لما ذكر المحرمات في الطعام في سورة المائدة ذكر منها [وَالمَوْقُوذَةُ] {المائدة:3} ، يعني فهو من أكثر من وجه ممنوع، فعبد الله بن مغفل رأى الرجل يقذف، فأمره ألا يقذف، وفسر ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم رأه بعد ذلك يقذف، بعد ما نصحه، وأمره، ونهاه، فقال له:
    أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن القذف، أو كره القذف، وأنت تقذف، لا أكلمك كذا وكذا.
    في رواية مسلم، قال:
    لا أكلمك أبدا.
    في الأول نصحه، ثم لما رآه يقوم بعمل في نظره كبير جدًا، رآه يخالف السنة، قرر أن يقاطعه.
    ومن هنا أجاز العلماء أن يُقَاطع الذي يخالف السنة عمدا، حتى، وإن كانت المقاطعة أكثر من ثلاثة أيام، طبعا بعد أن يقدم له النصح والإرشاد.


    اتباع دون سؤال عن الحكمة

    الشيء العظيم في الصحابة أنهم كانوا يتبعون رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دون أن يسألوا عن الحكمة، روى البخاري ومسلم وغيرهما عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه جاء إلى الحجر الأسود، ولا يعرف الحكمة من ذلك يقول:
    إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك.
    هذه الجملة أسلوب حياة، فالرسول إن قال شيئا، أو فعله، أعمله حتى لو لم أكن أفهم الحكمة.
    فالسنة كانت منهج حياة؛ لذا كانت الحياة سهلة عند الصحابة، ومواطن الحيرة كانت قليلة جدا، يصبح كل الهم هو البحث عن فعل الرسول، أو قول الرسول صلى الله عليه وسلم فإذا عرفنا رأيه تتبعناه.
    روى البخاري عن عمر رضي الله عنه قال:
    فما لنا وللرَّمَل إنما كنا راءينا به المشركين وقد أهلكهم الله.
    والرَّمَل هو المشي السريع مع تقارب الخطى، يعنى من ضمن مناسك الحج هذا الكلام أول ما فُعِل كان في عمرة القضاء سنة سبعة هجرية، الرسول صلى الله عليه وسلم كان يريد أن يري الكفار قوة المسلمين، فأمر الصحابة بالكشف عن الأكتاف، وبالرَّمَل السريع؛ ليُخَوّف المشركين من قوة المسلمين، فظن عمر انتهاء الأمر الآن؛ لأنه لا يوجد مشركون، كل الجزيرة أسلمت وكل الحجاج مسلمون، فليس له شأن، ثم رجع لنفسه بسرعة، وقال:
    شيء صنعه النبي صلى الله عليه وسلم، فلا نحب أن نتركه.
    حتى لو قال العقل غير ذلك، لا بد من اتباع عمل الرسول صلى الله عليه وسلم.
    روى البخاري، ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:
    اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتما من ذهب- قبل تحريم الذهب على الرجال- فاتخذ الناس خواتيم من الذهب.
    لم يقل لهم البسوا، لكن الصحابة حريصة على أن تقلد الرسول في كل شيء، ثم بعد ذلك قال:
    إِنِّي اتَّخَذْتُ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ، فَنَبَذْتُهُ.
    ثم قال: إِنِّي لَنْ أَلْبَسَهُ أَبَدًا.
    حُرّم على الرجال، فنبذ الناس خواتيمهم، فالموضوع في غاية البساطة عند الصحابة، فهم لم يسألوا النبي صلى الله عليه وسلم الحكمة من لبس الخاتم حينما لبسه، ولم يسألوه عن الحكمة لما نبذه.
    روى أبو داود، وأحمد، والدارمي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه قال:
    بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه، فوضعهما عن يساره، فلما رأى ذلك القوم، ألقوا نعالهم، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته، قال:
    مَا حَمَلَكُمْ عَلَى إِلْقَاءِ نِعَالِكُمْ؟
    قالوا: رأيناك ألقيت نعليك، فألقينا نعالنا.
    فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
    إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ آتَانِي فَأَخْبَرَنِي أَنَّ فِيهِمَا قَذَرٌ. أو قال: أَذًى.
    خلعهم صلى الله عليه وسلم لسبب مؤقت، وهذا السبب ليس عند الصحابة. لكن الشاهد هو حرص الصحابة على الاتباع، لم ينتظروا إلى انتهاء الصلاة، ثم يسألوا، فبمجرد رؤية الرسول يفعل شيئا، يعملونه.
    هناك كثير يظنون أن هذا الكلام مبالغة من الصحابة، أبدا الرسول صلى الله عليه وسلم ليس مجرد شخص معجبين به، أو انبهر الصحابة بأفعاله, فالرسول صلى الله عليه وسلم رسول من الله رب العالمين، كل خطوة من خطواته بأمر من الوحي، أو مراجعة بالوحي، ففي تقليده نحن نعمل ما أراده ربنا سبحانه وتعالى منا، وحينما نعمل ما أراده ربنا سبحانه وتعالى نسعد في الدنيا، ونسعد في الآخرة إن شاء الله، وندخل الجنة التي هي منتهى أحلام المؤمنين، لهذا كان الصحابة يحرصون جدا على تقليد الرسول في كل حركة من حركاته صلى الله عليه وسلم الرسول، وكان صلى الله عليه وسلم حريص جدا على ترسيخ هذا المعنى في قلوب، وعقول الصحابة، فتربى الصحابة على هذه الصورة.
    موقف من المواقف المهمة في حياة الصحابة يرويه الإمام مالك في موطأه عن عطاء بن يسار رحمه الله، وعطاء من كبار التابعين بالمدينة، روى أن رجل قَبّل امرأته، وهو صائم في رمضان، فوجد من ذلك وجدا شديدا- يعنى حزن حزنا كبيرا يخاف أن يكون قد ارتكب محظورا- فأرسل امرأته تسأل له عن ذلك.
    عنده مراقبة داخلية لله عز وجل، حريص أنه يعرف رأي الرسول صلى الله عليه وسلم.
    بعث امرأته تسأل إحدى زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم، فدخلت الزوجة على أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك لها، فأخبرتها أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقَبّل، وهو صائم فرجعت، فأخبرت زوجها، بذلك فزاده شرًا، وقال:
    لسنا مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم، الله يحل لرسوله صلى الله عليه وسلم ما شاء.
    وهذا اجتهاد من الرجل، فرجع امرأته إلى أم سلمة، فوجدت عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
    مَا لِهَذِهِ الْمَرْأَةِ؟
    فأخبرته أم سلمة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
    أَلَا أَخْبَرْتِيهَا أَنِّي أَفْعَلُ ذَلِكَ.
    فقالت السيدة أم سلمة له:
    قد أخبرتها، فذهبت إلى زوجها، فأخبرته، فزاده ذلك شرا، وقال: لسنا مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم، الله يحل لرسوله ما شاء.
    فغضب الرسول غضبا شديدا صلى الله عليه وسلم، ومواطن الغضب في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم قليلة جدا، لا يغضب إلا إذا انتهكت حرمة من حرمات الله عز وجل، وهذا الرجل يشدد على نفسه، ولكن لا بد من تقليد الرسول في كل نقطة من نقاط حياته، قال صلى الله عليه وسلم:
    وَاللَّهِ إِنِّي لَأَتْقَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمُكُمْ بِحُدُودِهِ.
    فما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الحلال، والذي منعه هو الحرام، من غير تكلف في شيء، فعمله صلى الله عليه وسلم في العبادة، في الطاعة، في التقرب إلى الله، وما دام أمر المسلمين به، أو لم يخص به رسول صلى الله عليه وسلم، فعلى المسلمين أن يعملوه من غير زيادة، ولا نقصان.
    وهذا الموقف خير دليل على اتباع أوامر النبي صلى الله عليه وسلم، الرسول صلى الله عليه وسلم أخرج جيشًا لحرب الروم قبل موته بأيام قليلة، ثم مات صلى الله عليه وسلم، وارتدت جزيرة العرب بكاملها إلا ثلاث مدن وقرية. وتخوف الناس على المدينة، بل تخوفوا على الإسلام، ولكن في هذا الجو المشحون، والمدينة وضعها في منتهى الخطورة، والجزيرة كلها مرتدة، وقد تهجم على المدينة في أي لحظة، في هذا الجو المشحون أصر أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه على إنفاذ جيش أسامة بن زيد لمحاربة الروم، ولم يوجهه لمحاربة المرتدين، أو لحماية المدينة، بل عمل على إنفاذه لمحاربة الروم، وإن كان خطر المرتدين على المدينة أوقع، ولكن لا بد من إنفاذه؛ لأن مُخْرِجه هو الرسول صلى الله عليه وسلم، فجاءت الناس تخاطب الصديق رضي الله عنه وأرضاه ليترك الجيش في المدينة لحمايتها، ولكنه أَبَى، وقال:
    لو أن الطير تخطفنا، ولو أن السباع حول المدينة، ولو جرت الكلاب بأرجل أمهات المؤمنين ما رددت جيشًا وجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا حللت لواء عقده.
    كيف يأمر الرسول بأمر، أو يعمل شيئًا، وأخالفه، وهذا من فهمه رضي الله عنه وأرضاه، ومن أعظم صفات الصديق رضي الله عنه وأرضاه, دقة الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
    ولما كلمه الناس، وقالت له:
    لو عزلت أسامة بن زيد من على رأس الجيش، ووضعت رجلًا آخر كبيرًا في السن مكانه.
    وكان يكلمه عمر بن الخطاب، فقال له كلمة شديدة جدا، قال له:
    ثكلتك أمك يا ابن الخطاب، يؤمره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزعه أنا.
    فكل خطوات الصديق كانت موفقة، لأنه كان يرى بعين الرسول صلى الله عليه وسلم.
    إن الصحابة كانت تقلد الرسول صلى الله عليه وسلم في أمور لا يجب فيها التقليد، كانت هناك أمور عفوية تلقائية، فعلها الرسول صلى الله عليه وسلم مرة أو اثنتين، وقد يفعله الإنسان من غير قصد ولا تعمد، مثل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عبد الله بن عمر كان يوقف القافلة، وينزل من على ناقته يصلى في بقعة ما أثناء سفرة ركعتين، فاستعجب الناس من هذا الموقف، ولما سئل في ذلك، قال:
    في هذا المكان صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    هذا المكان ليس فيه فضل معين، الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصلى ركعتين، ركعتين حاجة، أو ركعتين استخارة، لكن سيدنا عبد الله بن عمر رأى الرسول يفعل أمرًا، فهو يقلده في كل نقطة، بل أكثر من ذلك، فذات مرة أوقف القافلة، وكانت القافلة قائمة من راحتها، ولكنه نزل ليتبول في هذا المكان؛ لأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يتبول في هذا المكان.
    ولا نقلل من هذا الأمر، ولكن ندرك حرصه رضي الله عنه في تتبع كل نقطة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، دارت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم دورتين في مكان قبل أن ينيخها، فكان عبد الله بن عمر رضي الله عنه إذا وصل إلى ذلك المكان أدار ناقته دورتين قبل أن ينيخها، فهو مادام قد رأى الرسول صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، يفعل مثله.
    وهذه مبالغة، لكنه مأجور عليها إن شاء الله؛ لأنه حريص على الاتباع، ولا يترك أي أمر، من المفروض أنه إذا كان يتبع في هذه الأمور، فهو من المؤكد يتبع في كل أمر، وهذا هو المهم، وهذا هو السلوك الذي من الممكن أن ينجي صاحبه، وهو ما نريد تعلمه.
    الرسول صلى الله عليه وسلم كان يخطب فقال للناس بعد ما صعد على المنبر، قال لهم:
    اجْلِسُوا.
    بعض الصحابة كانوا واقفين، فقال لهم: اجلسوا.
    فسمع ذلك ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، وكان على باب المسجد، فجلس على باب المسجد، يوجد مكان بداخل المسجد، لكنه سمع كلمة اجلسوا، فنفذ أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وجلس على باب المسجد، فرآه الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال له:
    تَعَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ.
    قد أصبح في تكوين عبد الله بن مسعود، أنه لا يخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    وإذا استعجبتم من كل هذه الأمثلة، أختم به وهو أعجب من كل ما مضى روى مسلم، وغيره عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ذات يوم إلى منزله، فأخرج إليه فلقا من خبز- يعني كسرات من خبر- فقال صلى الله عليه وسلم ينادي على زوجاته، فقال: مَا مِنْ أُدْمٍ.
    والأُدم هو غموس، وفي رواية إدام.
    فقالوا: لا إلا شيئا من خل.
    فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: فَإِنَّ الْخَلَّ نِعْمَ الْأُدْمِ.
    وفي رواية:
    نِعْمَ الْأُدْمِ الْخَلُّ، نِعْمَ الْأًُدْمِ الْخَلُّ.
    وانتتهت القصة، وجلس سيدنا جابر يأكل خلًا مع سيدنا الرسول صلى الله عليه وسلم. وسمع سيدنا جابر هذه الكلمة، قال:
    فما زلت أحب الخل منذ سمعتها من نبي الله صلى الله عليه وسلم.
    مع أنه شيء فطري يختلف من إنسان لإنسان، لكنه سمع الرسول يمدح في الخل، ويقول: نعم الأدم الخل.
    بعدما سمع هذه الكلمة أصبح يحب الخل، ويقول طلحة بن نافع أحد رواة الحديث: ما زلت أحب الخل منذ سمعتها من جابر.
    فطلحة بن نافع رحمه الله أراد أن يقلد الرسول، حتى في حب الخل، فظل يحب الخل منذ سمع هذا الكلام من جابر، هذا اتباع دقيق لرسول صلى الله عليه وسلم وصل أحيانا إلى حد المبالغة، لكنهم حريصون جميعا على تقليد الحبيب صلى الله عليه وسلم.
    الصحابة كانوا يتبعون رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم كانوا يعلمون أن اتباعه هو خير الدنيا، والآخرة، وأنه لا مناص من اتباعه حتى يدخلوا الجنة، وأنهم لو اتبعوا أي مخلوق غيره، فلا سبيل إلى دخول الجنة، إلا خلفه صلى الله عليه وسلم، وفوق ذلك الصحابة كانوا يتبعون الرسول؛ لأنهم كانوا يحبونه حبا لا نستطيع أن نصفه، حتى لا يتخيل أحدنا أنه يخالف سنته، امتنزج حبه بدمائهم، ولحومهم، وعظامهم صلى الله عليه وسلم، فأصبح وكأنه فطري مزروع فيهم، فهم يحبونه، ولا بد من أن يتبعوه، وفوق ذلك، وأعظم منه، أنهم كانوا يتبعون الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم يحبون الله عز وجل الذي خلقهم، ورزقهم، وأحياهم، ثم يميتهم، وبعد الموت بعث، وبعد البعث حساب، والذي يحاسب هو الله عز وجل، والذي بيده الجنة والنار هو الله عز وجل، والذي عرفنا سبيل حب الله عز وجل، هو الله عز وجل قال في كتابه:

    [قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]
    {آل عمران:31} .


    فسبيل حب الله عز وجل هو اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، لا نجاة والله بغير اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، نسأل الله عز وجل أن يبصرنا بسنة نبينا، وحبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يضع أقدامنا على الطريق القويم، وأن يجمعنا معه،













  5. #20
    ~ [ نجم ماسي ] ~
    تاريخ التسجيل
    Jul 2010
    المشاركات
    860

    رد: (ملف)..خير الناااس.الصحب الأطهار رضي الله عنهم

    الحسن بن علي


    شرفه ونسبه

    هو أبو محمد الحسن بن علي بن أبي طالب الهاشمي القرشي، المدني الشهيد، سِبْط رسول اللهوريحانته من الدنيا، وهو سيِّد شباب أهل الجنة، فهو ابن السيدة فاطمة بنت رسول الله، وأبوه أمير المؤمنين علي. وقد ولد الحسنفي نصف رمضان سنة 3هـ.

    أثر الرسول في تربيته

    ظل الحسن بن علييتربى على يد المصطفىما يقرب من ثماني سنوات، ربّاه على عينه، وكان النبييحبه حبًّا جمًّا، وقد تولّى النبيتربيته منذ اليوم الأول لولادته؛ فسمَّاه الحسن، وأذَّنفي أذنه ليرسِّخ في قلبه معاني عظمة الله، وليطرد عنه الشيطان. كما برّك[1] النبيالحسن، وحنّكه[2]. وكان النبييداعب الحسن كثيرًا، ويقبِّله ويعانقه حبًّا له وعطفًا عليه.

    وكان النبييؤصِّل في الحسنمنذ الصغر حب الإصلاح بين المسلمين، ويربط هذا الأمر بالسيادة؛ فقد روى البخاري بسنده عن أبي بكرةأن النبيصعد بالحسن بن عليالمنبرَ فقال: "ابني هذا سيِّد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين". وقد تحققت هذه النبوءة التي تنبّأ بها رسول اللهبعد ذلك.

    أهم ملامح شخصيته

    جوانب العظمة والسمو البشري والأخلاقي في شخصية الحسن بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنهما- من الكثرة بمكان، لكن أهم ما يميّزه هو هذا الملمح العظيم في شخصيته، وهو الحرص الواضح والدائم على حقن دماء المسلمين ووحدتهم، ويكسو هذا الحرص حياة الحسنطولاً وعرضًا، ويؤكد ذلك المواقف الكثيرة التي عاشها الحسن، وتعايش معها انطلاقًا من هذا المبدأ العظيم.

    وخير شاهد على ذلك تنازل الحسنعن الخلافة لمعاويةحقنًا لدماء المسلمين، وأبرم الصلح معه بعد بضعة أشهر من مبايعته للخلافة، فكان ذلك فاتحة خير على المسلمين؛ إذ توحَّدت جهودهم، وسمِّي عام 41هـ عام الجماعة، وعاد المسلمون للجهاد والفتوحات.

    بعض المواقف من حياته مع الرسول

    روى الإمام أحمد بسنده عن أبي الحوراء السعدي قال: قلت للحسن بن علي: ما تذكر من رسول الله؟ قال: أذكر أني أخذت تمرة من تمر الصدقة، فألقيتها في فِيَّ، فانتزعها رسول اللهبلعابها فألقاها في التمر. فقال له رجل: ما عليك لو أكل هذه التمرة. قال: "إنَّا لا نأكلُ الصدقة".

    وروى البخاري بسنده عن أبي هريرةقال: كنت مع رسول اللهفي سوقٍ من أسواق المدينة فانصرف فانصرفت، فقال: "أَيْنَ لُكَعُ -ثَلاَثًا- ادْعُ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ". فقام الحسن بن علي يمشي وفي عنقه السِّخاب[3]، فقال النبيبيده هكذا، فقال الحسن بيده هكذا، فالتزمه فقال: "اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ، فَأَحِبَّهُ، وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُ". وقال أبو هريرة: "فما كان أحدٌ أحب إليَّ من الحسن بن علي بعدما قال رسول اللهما قال".

    بعض المواقف من حياته مع الصحابة

    مع أبي بكر

    عن عقبة بن الحارث أن أبا بكر الصديقلقي الحسن بن عليفضمَّه إليه، وقال: "بأبي، شبيهٌ بالنبي ليس شبيهٌ بعلي". وعليٌّ يضحك.

    مع أبي هريرة

    عن سعيد بن أبي سعيد المقبري قال: كنا مع أبي هريرةفجاء الحسن بن علي بن أبي طالبفسلم علينا، فرددنا، ولم يعلم به أبو هريرة، فقلنا له: يا أبا هريرة، هذا الحسن بن عليقد سلم علينا. فلحقه وقال: وعليك السلام يا سيدي. ثم قال: سمعت رسول اللهيقول: "إنه سيِّد".

    مع ابن عباس

    روى الإمام أحمد بسنده أن جنازة مرّت على الحسن بن علي وابن عباس رضي الله عنهما، فقام الحسنوقعد ابن عباس، فقال الحسن لابن عباس: ألم تر إلى النبيمرّت به جنازة فقام؟! فقال ابن عباس: بلى، وقد جلس. فلم ينكر الحسن ما قال ابن عباس.

    من مواقفه مع التابعين

    وعن عليأنه خطب ثم قال: إن ابن أخيكم الحسن بن علي قد جمع مالاً، وهو يريد أن يقسمه بينكم. فحضر الناس، فقام الحسنفقال: إنما جمعته لفقرائكم. فقام نصف الناس، فكان أول من أخذ منه الأشعث بن قيس.

    وعن عبد الله بن شداد أن الحسن بن عليمر براعٍ يرعى، فأتاه بشاةٍ فأهداها له، فقال له: حرٌّ أنت أم مملوك؟ فقال: مملوك. فردَّها عليه، فقال: إنها لي. فقَبِلها منه، ثم اشتراه واشترى الغنم وأعتقه، وجعل الغنم له.

    أثره في الآخرين

    عن الحسن بن عليقال: علمني رسول اللهكلمات أقولهن في قنوت الوتر: "اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، تباركت ربنا وتعاليت".

    وعن سوادة بن أبي الأسود عن أبيه قال: دخل على الحسن بن عليٍّنفرٌ من أهل الكوفة وهو يأكل طعامًا، فسلموا عليه وقعدوا، فقال لهم الحسن: الطعام أيسر من أن يقسم عليه الناس، فإذا دخلتم على رجلٍ منزله فقرَّب طعامه، فكلوا من طعامه، ولا تنتظروا أن يقول لكم هلمُّوا؛ فإنما يوضع الطعام ليؤكل. قال: فتقدم القوم فأكلوا، ثم سألوه حاجتهم فقضاها لهم.

    بعض الأحاديث التي نقلها عن المصطفى

    روى الترمذي بسنده عن أبي الحوراء السعدي قال: قلت للحسن بن علي: ما حفظت من رسول الله؟ قال: حفظت من رسول الله: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك؛ فإن الصدق طمأنينة، وإن الكذب ريبة".

    وروى الإمام أحمد بسنده عن الحسن بن علي، عن أبيه -رضي الله عنهما- قال: كنت عند النبي، فأقبل أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فقال: "يا علي، هذان سيِّدا كهول أهل الجنة وشبابها بعد النبيين والمرسلين".

    بعض كلماته

    لما بويع لهبالخلافة قال: "والله لا أبايعكم إلا على ما أقول لكم". قالوا: ما هي؟ قال: "تسالمون من سالمت، وتحاربون من حاربت". ولما تمت البيعة خطبهم.

    وروي أنهكان يقول: "العَشاء قبل الصلاة يذهب النفس اللوَّامة". ومن كلماته: "الدنيا ظل زائل".

    ومن كلماته أيضًالبَنِيهِ وبني أخيه: "تعلموا؛ فإنكم صغار قوم اليوم، وتكونوا كبارهم غدًا، فمن لم يحفظ منكم فليكتب".

    وفاته

    توفيسنة 49 من الهجرة، وقيل سنة خمسين عن 47 عامًا. يقال: إنَّه مات مسمومًا، ودُفن في بقيع الغرقد بجانب أمِّه فاطمة الزهراء.
    [1] أي: دعا له بالبركة.
    [2] التحنيك أن يُمضغ التمر أو نحوه، ثم يُدلك به حنك الصغير.
    [3] السخاب: خيط من خرز يوضع في العنق كالقلادة.















  6. #21
    ~ [ نجم ماسي ] ~
    تاريخ التسجيل
    Jul 2010
    المشاركات
    860

    رد: (ملف)..خير الناااس.الصحب الأطهار رضي الله عنهم

    الصحابة والأخوة

    مقدمة

    ما زلنا نبحث عن معالم الطريق الذي سار فيه الصحابة نسأل الله عز وجل أن يلحقنا بهم في أعلى عليين، نتحدث عن مفهوم جديد، مفهوم جديد من المفاهيم الإسلامية، وكيف تعامل الصحابة مع هذا المفهوم، مفهوم لا يستقيم لأمة الإسلام أن تقوم بغيره هذا هو مفهوم الأخوة.
    دور النبي صلى الله عليه وسلم في إقامة الحب والأخوة:
    مما لا شك فيه أن الأخوة من دعامات المجتمع الصالح، ولبنة أساسية من لبنات إقامة الأمة الإسلامية الصالحة، فأي مجتمع صالح لا بد أن يقوم على أساس الأخوة.
    ويروى البخاري ومسلم عن أبي موسى رضي الله عنه قال:
    قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
    "الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا".
    وهذا من بلاغته، وجمال تشبيهه صلى الله عليه وسلم، بنيان الأمة الإسلامية كالعمارة الضخمة الكبيرة، فمن المستحيل أن تبني عمارة كبيرة، وضخمة، وتضع طوبة، بجوار أخرى، فوق طوبة، دون أن يكون بينهن رابط، وإذا كنت تسطيع عمل ذلك في ارتفاع متر، أو مترين، فلن تسطيع عمله في عمارة ضخمة، فالأسمنت الذي بين طوبة، وطوبة، والخراسانة التي بين طابق، وآخر هي الأخوة.
    فكذالك الأمة الإسلامية فلن تسطيع بناء أمة من غير أخوة؛ لذلك قال الله سبحانه وتعالى:
    [إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] {الحجرات:10}.
    على سبيل الحصر، فلا ينفع أن تكون هناك أمة للمؤمنين من غير أخوة، ولهذا السبب فإن أول الأساسات التي أنشأها رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة عندما هاجر إليها من مكة، كان أساس الإخوة، آخى بين الأوس والخزرج، وفَكّ النزاع القديم الأصيل في المدينة، وليس فك نزاع فقط، بل عمل على زرع الحب بين الطرفين، أخوة، ومودة، وحب، هذا العمل ما تعودت عليه المدينة من قبل، الرسول صلى الله عليه وسلم لم يرد مجرد التعايش السلمي، بل أراد أن تكون أخوة في الله، وحبا في الله، ثم عمل على المؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين التي وصلت إلى حد الميراث، مثلها كمثل أخوة النسب تماما، بل هي أشد من الأخوة في النسب، الأوس والخزرج قحطانيون من اليمن، وقريش عدنانيون من مكة، لكن الإسلام جمع بينهم، ولم يقم الإسلام بهم دولة فقط، بل عمل على أن يكون الحب في الله سمة بارزة بين الأفراد في هذه الدولة، هذا ما قام الإسلام بعمله في المدينة المنورة.
    ومعظم شعائر الإسلام تقوم على الجماعة، وتحض عليها، تقوم على المجتمع، ولا بد لهذا المجتمع أن يقوم على أواصر الحب والمودة.
    فصلاة الجماعة، الله سبحانه وتعالى يعطيك في صلاة الجماعة أكثر مما يعطيك وأنت تصلي نفس الصلاة في بيتك سبعة وعشرين ضعف من أجل أن ترتبط بجماعة المسلمين.
    والزكاة لا بد أن تكون من واحد لمجموعة، أو واحد لواحد، وما كانت الزكاة أمرا فرديا.
    أما الحج فمؤتمر جماعي كبير جدا من كل أقطار الأرض، يجتمع المسلمون ويقيمون هذا المؤتمر كل عام.
    والجهاد لا يقوم به إلا مجموعة، فلن يخرج جيش فيه فرد، أو فردان أو ثلاثة، لأن هذا العمل يشمل كل الأمة من كل الأقطار.
    والدعوة لا بد وأن يوجد داعية ومدعوين، والعلم كذلك عالم، ومتعلمين، والشورى لا تكون إلا بين مجموعة من المسلمين، وكل شيء يحتاج مجموعة، وكل شيء في الإسلام يحتاج عملًا جماعيًا.
    فقضية الاستخلاف على الأرض لن تكون إلا بعمل جماعي، فلا بد أن يكون هناك من يزرع، ومن يبني، ومن يبيع، ومن يعالج، ومن يخترع، ومن يحارب، ويدافع، ولا بد من تفاعل، وتنسيق بين كل هؤلاء، ومن المستحيل أن يخرج عملا نافعا وناضجا إذا لم توجد بين كل هؤلاء ألفة بين قلوبهم، ورابطة قوية تجمعهم.
    وهناك صراع حتمي سيحدث بين أهل الحق، وأهل الباطل، سنة من سنن الله في الأرض، وهذا الصراع سيحتاج إلى وحدة بين أهل الحق في مواجهة أهل الباطل، فهل من الممكن أن يتصارع أهل الحق، مع أهل الباطل، ويكون بين أهل الحق وبين بعضهم غل وشحناء وبغضاء، ثم بعد ذلك يستطيعون محاربة أهل الباطل، والانتصار عليهم.
    وإذا تصارع أهل الحق لن تكون هناك شرائع، ولا جهاد، ولا شورى، ولا استخلاف؛ لذلك أوجب الله عز وجل الأخوة بين أفراد المجتمع المسلم الصالح، أوجب الحب في الله، ونهى عن الشحناء، والبغضاء، والكراهية، وبذلك يستطيع المؤمنون بالله أن يقوموا بأمر الاستخلاف كما أراد الله عز وجل.


    مفهوم الأخوة عند الصحابة

    ولقد فقه الصحابة أهمية الأخوة بين بعضهم البعض دون ارتباط بنسب، ولا مال، ولا مصلحة، فهِموا أنهم لن تكون لهم أمة، ولن يعبدوا الله حق عبادته، ولن يقوموا بأمر الاستخلاف كما ينبغي أن يكون، إلا بأخوة بينهم، ولا ينكر أحد قيمة الأخوة، والألفة في بناء المجتمعات الصالحة كل البشر، لا ينكرون قيمة الأخوة، والمحبة بين أفراد المجتمع الواحد، لكن كل مجتمع له نظرة خاصة جدا لموضوع الأخوة، وموضوع المحبة، كلٌّ يفهمها بطريقة، فما هي نظرة الصحابة لمعنى الإخوة؟
    وكيف كان فهمهم لقضية الحب في الله؟
    ما مفهوم مجتمع الصحابة عن قضية الحب بين أفراد المجتمع، أو الأخوة بين أفراد المجتمع؟
    سنذكر أربع مفاهيم أعتقد أنها كانت تميز نظرة الصحابة في مسألة الأخوة.


    المفهوم الأول: الأخوة طريق للجنة

    الصحابة كانت تفهم أن الأخوة طريق للجنة، وهذا كان يعطيها قدرا عاليا مهيبا من القيمة، كانوا يفهمون الإخوة على أنها طريق من طرق الجنة، مثل الصلاة، والصوم، والجهاد، والدعوة، ومثل كل هذه الطرق، واستمدوا فهمهم لهذا الكلام من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    وتأكيدًا لهذا المعنى الجميل لأهمية الحب، والأخوة يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه الإمام مسلم، والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
    وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا.
    الرسول يقسم أن البشر لن يدخلوا الجنة حتى يؤمنوا، وهذا أمر معروف ولكن ما يثير عجب كثير من الناس قول صلى الله عليه وسلم:
    وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحابُّوا.
    إذن هذا شرط من شروط الإيمان.
    ويوجد كثير من الناس ليست لديهم مشكلة في قطع علاقاتها مع الآخرين، ولا يدري أنه يخاطر بقضية الإيمان، وبدخول الجنة، فالموضوع ليس هينًا أو سهلًا:
    وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِِهِ لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا.
    وثم يمنحك أحد الطرق بزيادة المحبة، أو تأصيل المحبة بين المسلمين:
    أَلَا أَدُّلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ، أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ.
    وهذا حديث آخر يرويه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
    إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ يَوْمَ الْقَيَامَةِ: أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلَالِي، الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلِّي.
    تخيل في هذا اليوم الصعب العسير، وعندما تدنو الشمس من الرءوس قرابة ميل، لا يدري رسول الله صلى الله عليه وسلم المقصود بالميل، هو ميل المسافة، أو الميل الذي تكتحل به العين، الشمس تدنو إلى هذه الدرجة، ومع ذلك، فهناك طائفة من الناس سينجيها الله من هذا الحر، وهم المتحابون بجلال الله عز وجل، الذين كان يحب بعضهم بعضا، دون نسب، ودون مصالح، ودون منافع.
    ويروى الترمذي، وقال: حديث صحيح. عن أنس رضي الله عنه قال:
    قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
    لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ.
    فكم صديق أو جار يحب أن يكون صديقه أو جاره ينال مثل ما عنده من أموال، أو يحب أن ينال ابن جاره عملًا كعمل ابنه، أو أولاد صديقه، فهل هناك من يشعر بتلك العواطف وهذه المشاعر، أم الكل يتمنى، ويحب دائما أن يكون أحسن، وأعظم، وأغنى، وأمهر من كل من حوله؟
    فالقضية خطيرة جدا لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وهذا الكلام صعب، بل شديد الصعوبة، ومن أجل صعوبته فثوابه أكبر من أن تتخيله.
    ويعظم لنا النبي صلى الله عليه وسلم من ثواب أولئك الذين غمرهم الحب إلى هذه الدرجة التي وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه، روى أبو داود عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
    إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ لَأُنَاسًا مَا هُمْ بِأَنْبِيَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ يَغْبِطُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَكَانِهِمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
    الأنبياء، والشهداء يغبطون هؤلاء الذين أعطوا درجة عالية جدا يوم القيامة بمكانهم من الله تعالى، فمكانتهم قريبة من الله سبحانه وتعالى لدرجة أن الأنبياء، والشهداء يغبطون هؤلاء الناس، فما العمل الضخم الذي رفع هؤلاء من درجتهم إلى هذه الدرجة، فتشوق الصحابة لمعرفة هؤلاء، فقالوا:
    يا رسول الله صلى الله عليه وسلم:
    تخبرنا من هم؟
    قال: هُمْ قَوْمٌ تَحَابُّوا ِبرُوحِ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ أَرْحَامٍ بِيْنَهُمْ وَلَا أَمْوَالٍ يَتَعَاطُونَهَا، فَوَاللَّهِ إِنَّ وُجُوهَهُمْ لَنُورٌ، وِإِنَّهُمْ عَلَى نُورٍ، لَا يَخَافُونَ إِذَا خَافَ النَّاسُ، وَلَا يَحْزَنُونَ إِذَا حَزِنَ النَّاسُ.
    ثم قرأ صلى الله عليه وسلم:
    [أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ] {يونس:62}.
    هؤلاء هم أولياء الله عز وجل، ليس الولي الذي يمشي فوق الماء، ويطير في الهواء، بل هؤلاء الأولياء، هم الذين يتحابون بروح الله على غير أنساب بينهم، أو على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها، وهذه هي المكانة العالية التي منحها الله عز وجل لقيمة الأخوة، ومفهوم الأخوة.
    وعلى الجانب الآخر التشاحن بين الإخوة، يمنع مغفرة الله عز وجل للعباد، فلقد روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
    تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ، وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا، إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا.
    فقد تُحْرم مغفرة الله لك، أو تؤخر عنك بسب شحناء، أو بغضاء، أو غل مع جارك، أو صاحبك، أو قريبك إلى أن تصطلحوا.
    وعلاقتك مع إخوانك هي التي تحدد تلك الأمور لذلك كان الشافعي يقول:
    أُحِبُّ الصَّالِحِينَ وَلَسْتُ مِنْهُمْ لَعَلِّي أَنْ أَنَالَ بِهِمْ شَفَاعَه
    وَأَكَرَهْ مَنْ تِجَارَتُهُ الْمَعَاصِي وَإِنْ كُنَّا سَوَاءً فِي الْبِضَاعَه
    يقول إن حبه للصالحين قد يكون سببًا في دخول الجنة، مفهوم راقي عند الشافعي رحمه الله، أحمد بن حنبل رحمه تلميذ الشافعي سمعه يقول هذين البيتين فقال له:
    تُحِبُّ الصَّالِحِينَ وَأَنْتَ مِنْهُمْ وَمِنْكُمْ سَوْفَ يَلْقَوْنَ الشَّفَاعَه
    وَتَكْرَهُ مَنْ تِجَارَتُهُ الْمَعَاصِي وَقَاكَ اللَّهُ مِنْ شَرِّ الْبِضَاعَه
    هذا المعنى معنى الأخوة، والحب في لله، وحب كل المسلمين زرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قلوب أصحابه، ورباهم على ذلك، مستغلًا لكل حديث ليوضح للصحابة أمور دينهم، بأسلوب بسيط جدًا، وبرقة معهودة منه صلى الله عليه وسلم.
    ومازلنا في المفهوم الأول للأخوة عند الصحابة، وهو أن الأخوة هي طريق من طرق الجنة، ويكلمهم النبي صلى الله عليه وسلم عن رجل من أهل الجنة في الحديث الذي يرويه الإمام أحمد بسند صحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
    كنا جلوسًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:
    يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ.
    وانظر، الصحابة في منتهى الاشتياق، فمن هو الصحابي الذي يمشي على وجه الأرض وهو من أهل الجنة؟
    فيقول أنس بن مالك راوي الحديث:
    فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوئه، قد تعلق نعليه في يده الشمال.
    ووصف سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه عن الرجل يدل على أن الرجل بسيط جدا، وغير معروف بين الصحابة، مجرد رجل من الأنصار كما يقول أنس، ولو كان معروفا لكان سماه باسمه، لكنه رجل غير معروف.
    فلما كان الغد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، قال نفس الكلمات: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة.
    وانتظر الصحابة، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى، نفس الرجل الأنصاري، وطلع بنفس الهيئة، فلما كان اليوم الثالث، قال الني صلى الله عليه وسلم مثل مقالته أيضا:
    يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة.
    فطلع ذلك الرجل على مثل حالته الأولى، فكان بإمكان الرسول أن يقول لهم في منتهى الوضوح عمل هذا الرجل، لكن أراد الرسول أن يشوقهم إلى أن يعرفوا قصة هذا الرجل، وما أرجى عمل عمله؛ ليكون من أهل الجنة وهو رجل بسيط لا يعرفه أحد؛ ليكون ذلك أبلغ في استيعاب الدرس، فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص، وقال له:
    إني لاحيت أبي- يعني خاصمت أبي- فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثا، فإن رأيت أن تئويني إليك، حتى تمضي فعلتَ.
    قال: نعم.
    قال أنس: وكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الليالي الثلاث.
    فأنس رواي الحديث رضي الله عنه وأرضاه يحكي أن عبد الله بن عمرو بن العاص كان يحكي حكايته مع هذا الرجل العجيب، فيقول أنس بن مالك يروي رواية عبد الله بن عمرو بن العاص أنه لم يره يقوم من الليل شيئا غير أنه إذا تعار استيقظ من نومه، وتقلب في فراشه ذكر الله عز وجل، وكبر، يذكر الله، ويكبر حتى يقوم لصلاة الفجر، غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرا، فلما مضت الثلاث اليالي، وكدت أن أحتقر عمله، هو لا يقصد الاحتقار بمعناه، ولكن استقله، فالرجل يصلي، ويذكر الله عز وجل، ولا يقول إلا خيرا ككل الصحابة، فلماذا خص الرسول هذا الرجل بالذات، ويؤكد ثلاث مرات أنه من أهل الجنة، وعبد الله بن عمرو بن العاص، كان من عباد الصحابة، كان يصوم معظم الأيام، ويقوم معظم الأيام، ويقرأ القرآن، ويختمه في ثلاثة أيام، ولم يرى عملًا للأنصاري يرفع درجاته في الدنيا إلى الدرجة التي أكدها الرسول صلى الله عليه وسلم مرة واثنتين وثلاثة، فبدأ يصارحه، فقلت:
    يا عبد الله، إني لم يكن بيني وبين أبي غضب، ولا هجر، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول لك ثلاث مرات:
    يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ.
    فطلعت أنت الثلاث مرات، فأردت أن آوي إليك؛ لأنظر ما عملك، فأقتضي بك، فلم أرك تعمل كثير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    فقال: ما هو إلا ما رأيت.
    يقول عبد الله بن عمرو العاص: فلما وليت دعاني، فقال:
    ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غِشا، ولا أحسد أحدا على خير أعطاه الله إياه.
    فقال عبد الله: هذه التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق.
    من الصعب جدا أن تحب الخير لكل الناس، لكن مع صعوبتها، فإن أجرها الجنة، حتى ولو كنت رجلا بسيطا، لست عالم من العلماء، أو عظيم من العظماء.
    فإذن ترسخ في أذهان الصحابة أن دخول الجنة مقرون بحبك لأخيك، دون مصلحة، أو رحم، وترسخ لديهم أن الشحناء، والبغضاء، والهجر، معوقات واضحة لدخول الجنة، وعلى قدر حبهم للجنة، أحبوا بعضهم البعض، وعلى قدر اشتياقهم للجنة غفر بعضهم لبعض، فهذا هو المفهوم الأول في أذهان الصحابة عن مسألة الإخوة في الله، أو عن معنى الإخوة في الله، أنها طريق واضح للجنة.


    المفهوم الثاني: الأخوة مسئولية

    وهذا المفهوم في منتهى الخطورة، وفيه تميز شديد عند الصحابة، وأشعر أن هناك نقص شديد في زماننا في هذا المفهوم.
    فلابد أن تعرف عن الأخوة أنها مسئولية، فالأخوة ليست مجرد كلمة تقال، أو إحساس يشعر به الإنسان، الأخوة ليست أخذا بلا عطاء، ليست مصالح تقضى لك كلما ازدادت معارفك، ليست قوة في سلطانك كلما ازدادت علاقاتك، بل الأخوة تبعات، على العكس من مفهوم كثير من الناس تماما عن الأخوة.
    فالأُخُوّة مسئولية، وتضحية، وبذل، وعطاء، وإنفاق بلا مردود، أو بلا طلب مردود، الأخوة إيثار على النفس، وحب خالص من القلب، لا يراد به إلا وجه الله تعالى، عمل الرسول صلى الله عليه وسلم على تربية الصحابة على معاني الأخوة، أو معاني الحب في الله، أو التعاون في المجتمع الذي تعيش فيه مع إخوانك.
    والحديث الذي جاء بروايات كثيرة متكاملة، وكلها في البخاري، ومسلم، وأبي داود، والترمذي، وغيرها من كتب، وهذا الحديث يوضح تلك المعاني التي غرسها الرسول صلى الله عليه وسلم في أصحابه، والحديث في رواية البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
    قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
    كُلُّ سُلَامَى عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، كُلَّ يَوْمٍ يُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ يُحَامِلُهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ، وَكُلُّ خَطْوَةٍ يَمْشِيهَا إِلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ، وَدَلُّ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ.
    والسلامى هو العظم، أو المِفْصَل.
    وعند أبي داود وأحمد، واللفظ لأبي داود حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، قَالَ سَمِعْتُ أَبِي، بُرَيْدَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
    فِي الْإِنْسَانِ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَسِتُّونَ مَفْصِلًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَنْ كُلِّ مَفْصِلٍ مِنْهُ بِصَدَقَةٍ.
    عدد المفاصل في الجسم ثلاثمائة، وستون، فعليك كل يوم ثلاثمائة وستون صدقة، ويوضح صلى الله صلى الله عليه وسلم مفهوم الصدقة، فيقول:
    كُلَّ يَوْمٍ يُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ يُحَامِلُهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ. وهذا أول مثل ضربه الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو مساعدة الناس، تعين الرجل ليركب دابته، أو ترفع متاعه عليه، ثم يقول:
    وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ.
    والكلمة الطيبة حتمًا ستكون بينك وبين إنسان، فالكلمة الطيبة صدقة،
    وَكُلُّ خَطْوَةٍ يَمْشِيهَا إِلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ.
    وهذا عمل، وإن كان من الأعمال الفردية، إلا أنه يلتقي بالمسلمين في صلاة الجماعة.
    وَدَلُّ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ.
    فدلك الطريق لمن لا يعرفه صدقة.
    وهذه إحدى الروايات للحديث في البخاري، وهناك روايات أخرى متكاملة كثيرة جدا، ففي رواية يقول:
    يعدل بين الاثنين صدقة.
    الإصلاح بين الناس، وبين المتخاصمين صدقة. وفي رواية:
    ويميط الأذى عن الطريق صدقة. فيها مساعدة الناس.
    وفي رواية:
    يعين ذا الحاجة الملهوف.
    وفي رواية:
    فليعمل المعروف، وليمسك عن الشر، فإنها له صدقة، فهو إما خير تفعله في الناس، أو شر تكفه عنهم.
    وفي رواية:
    تسليمه على من لقي صدقة.
    وفي رواية:
    وتبسمك في وجه أخيك صدقة.
    وفي رواية:
    وبصرك للرجل الرديء البصر لك صدقة.
    وفي رواية:
    وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة.
    الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يوضح لنا مفهوم الصدقة الحقيقية التي تدفعها عن أعضائك، وعن النعم التي مَنّ الله بها عليك، وهي مساعدتك لغيرك، وهي أن تشعر بالمسئولية تجاة الناس في المجتمع الذي تعيش فيه، أو الأمة التي تحيا فيها.
    فلو أن المجتمع يفقه الأخوة كما فقهها الصحابة على أنها اختبار، وامتحان، وبذل، وعطاء، ومجهود، وأنها مسئولية، وليست منافع، ومصالح أكتسبها من معارفي، وكلما ازدادت معارفك ازدادت مكاسبك، بل العكس على ذلك تمامًا، فكلما ازدادت معارفك كثرت أعمالك وتضحياتك من أجل إخوانك. وهذا المعنى وضحه النعمان بن مقرن رضي الله عنه وأرضاه من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب خطبته المشهورة في موقعة نهاواند وقال للصحابة في هذه الموقعة في خطبته قال لهم:
    ولا يكل أحدكم قرنه إلى أخيه.
    فلا يُلقي أحد مسئوليته على إخوانه، بل عليه أن يحمل عن من لا يستطيع. ثم قال كلمة في منتهى الصعوبة:
    فإن الكلب يدافع عن صاحبه.
    شيء صعب جدا أن يتدنى المؤمن إلى درجة أقل من الحيوان، فالحيوان يدافع عن أصحابه، فأولى بالمؤمن أن يدافع عن إخوانه، هذا مفهوم المسئولية عند النعمان بن مقرن صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعند عموم الصحابة.
    روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال:
    قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
    مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
    فالجزاء من جنس العمل، لكن لو نفست عن مؤمن كربة، فربنا سبحانه وتعالى بنفسه هو الذي ينفس عنك يوم القيامة، وإذا يسرت على معسر، فربنا سبحانه وتعالى بنفسه هو الذي ييسر عليك في الدنيا، وفي الآخرة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا وفي الآخرة.
    ثم يقول صلى الله عليه وسلم جملة في منتهى الجمال، وتشمل كل ما مضى: وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ.
    فمساعدتك لإخوانك، وبَذْلِك لهم، وقضاؤك لحوائجهم، ولو كان شيئًا بسيطًا، ومحدودًا إلا أن الله يكون في عونك كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ.
    فمهما ألمت بك أزمات، أو وقعت بك ضائقات، أو نزلت نازلة، كان الله في عونك، ولهذا كان الصحابة يبذلون حياتهم كلها لنفع الآخرين، لمساعدة الآخرين، وللتضحية من أجل الآخرين، يقومون بكل هذه الأشياء؛ لأن المردود عندهم أعلى، وأعظم؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يعطيهم، فالأخوة عند الصحابة مسئولية وتضحية.
    وتجد هذه المعاني راسخة في طائفة من الصحابة، وهي قبيلة الأشعريين، القبيلة التي منها أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، هذه القبيلة كان لها عادة جميلة جدا، فالرسول عليه الصلاة والسلام علق على هذه العادة، وشكر في هذه العادة، روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
    إِنَّ الْأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الْغَزْوِ- يعني فني زادهم وطعامهم- أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ- سواء كانوا في سفر أو في غزو أو حتى وهم داخل المدينة- جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي َثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيِّةِ.
    ويعلق الرسول فيقول:
    فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ.
    الأشعريون من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو منهم، ومع أن الأشعريين من اليمن، لكن فعلتهم هي التي رفعت درجتهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    ذكر ابن عباس رضي الله عنها أن الناس قحطوا في زمان أبي بكر، وفي هذا الوقت جاءت قافلة لعثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه إلى المدينة المنورة، جاءت هذه القافلة فتسارع التجار لشراء هذه القافلة الكبيرة، فسألهم عثمان: كم تربحوني؟
    قالوا: العشرة اثني عشر.
    قال: قد زادني على هذا الربح.
    قالوا: فالعشرة خمسة عشر.
    وهذا ربح ضخم جدا، أمام كل عشرة دراهم سيكون المكسب خمسة عشر درهم، قال:
    قد زادني.
    قالوا: من الذي زادك ونحن تجار المدينة؟
    قال: الله عز وجل زادني بكل درهم عشرة، فهل لديكم أنتم المزيد. ثم قال: اللهم إني وهبتها فقراء المدينة.
    بلا ثمن، وبلا حساب تبرع بكل القافلة الضخمة إلى فقراء المدينة.
    فلو لم يكن لديه مشاعر تجاه المسلمين، فقد يخرج الزكاة 2.5%، ثم بعد ذلك لا يهتم بأمر المسلمين، لكن سيدنا عثمان فَقِه أن الأخوة تضحية، وبذل، وعطاء لفقراء المسلمين، ولعموم المسلمين، ولأمة الإسلام، ولجيش الإسلام، وهذا هو ديدن عثمان بن عفان في كل عمره، وهذه حياة الصحابة.
    وليست المسئولية مادية، وفقط، بل كان الصحابي يعين إخوانه على الطاعة، على طاعة الله عز وجل، روى البخاري أن معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه كان يقول للرجل من إخوانه:
    اجلس بنا نؤمن ساعة.
    وليس كل الأعمال انغماس في الدنيا، لكن أنا أساعد إخواني في الدروس، وأساعدهم في طاعة الله، هذا هو المعنى الذي ذكره الله عز وجل على لسان موسى عليه السلام في سورة طه قال:
    [وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي(29)هَارُونَ أَخِي(30)اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي(31)وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي(32)كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا(33)وَنَذْكُرَكَ كَثِيرً] {طه:29: 34}
    هكذا فالمؤمن يتعاون مع أخيه، يعين أخاه، وأخوه يعينه، في يوم من الأيام كل واحد يتبادل مع أخيه منفعة المعاونة على الطاعة، وهذا هو العون الحقيقي، ولم يكن الصحابي سلبيا أبدا في تعليم إخوانه الخير الذي عرفه، والقصة الجملية التي يرويها البخاري توضح لنا أنهم كان لا يدخرون وسعًا في نصح إخوانهم، فعن وهب بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه قال:
    آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان، وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة- أي رثة الهيئة والثياب وكان ذلك قبل فرض الحجاب، فقال لها:
    ما شأنك؟
    قالت: أخوك أبا الدرداء ليس له حاجة في الدنيا.
    فأبو الدرداء صوام للنهار، قوام في الليل.
    فلما سمع سيدنا سلمان ذلك الكلام قرر أن ينصح أخاه ويعلمه.
    فيقول الراوي وهب بن عبد الله رضي الله عنه يقول:
    وجاء له أبو الدرداء، فصنع له طعاما، فقال له سلمان:
    كل.
    قال: فإني صائم.
    فقال سلمان:
    ما أنا بآكل حتى تأكل.
    فقطع صيامه وأكل، وهذا الصيام صيام تطوع، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم الليل من أول الليل، فقال سلمان:
    نم.
    فنام، وأبو الدرداء لا يستطيع النوم؛ لأنه قد تعود على القيام
    [تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ] {السجدة:16}.
    ثم ذهب ليقوم، فأمره سلمان بالنوم، فلما كان من آخر الليل، قال سلمان:
    قم الآن.
    فصليا، فقال له سلمان بعد ما صلى ينصحه ويعلمه درس في منتهى الرقي فيقول له:
    إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا- وفي رواية الترمذي: وإن لضيفك عليك حقا- ثم قال: فأعط كل ذي حق حقه.
    ولم يقتنع أبو الدرداء، فذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يشكو سلمان، وذكر له كل هذه القصة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
    صَدَقَ سَلْمَانُ، صَدَقَ سَلْمَانُ.
    فأقر سلمان على التعليم اللطيف الذي عمله لأبي الدرداء رضي الله عنهم أجمعين.
    والشاهد أن سلمان الفارسي رضي الله عنه فرغ من وقته يوما وليلة؛ ليعلم آخاه درسا ينفعه؛ ليحافظ على بيته، قد يوقف الإنسان أشغاله، وحياته، ونظامه، كله من أجل أن يحافظ لأخوه على بيته، وقد يرى الإنسان مشاكل طاحنة في بيت أخيه، ولا يسعى لحلها وتمر حياته بصورة طبيعية، وهذا لم يفهم الأخوة على أنها مسئولية، توجب عليه التناصح، وبذل نفسك له، وقضاء حوائجه، حتى لو اضطررت إلى أن تقطع من وقتك، وتسافر لأخيك، أو تدخل معه في قضية من القضايا، تساعده في حلها، وهذا ما فقهه الصحابة عن الأخوة.
    وأخرج الطبراني، والبيهقي، والحاكم، وقال: صحيح.
    عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان معتكف، في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    وأمر الاعتكاف أمر هام جدا، وأمر خطير جدا، والمؤمن لا يخرج من الاعتكاف إلا لضرورة شديدة.
    فآتاه رجل، فسلم عليه، ثم جلس، فقال له ابن عباس- الرجل قاعد جنب ابن عباس، لم يتكلم، لكن شكله مكتئب جدا، شكله حزين، فقال له ابن عباس رضي الله عنهما:
    يا فلان أراك حزينًا.
    قال: نعم يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم لفلان علي حق، وحان أجله، وليس معي ما يقضيه.
    فقال له ابن عباس رضي الله عنهما:
    إن أحببت أن أكلمه لك.
    ولم يكن معه مال ليساعده بالإنفاق، ولكن أكلم الرجل ليصبر عليك، فقال الرجل:
    نعم.
    فخرج ابن عباس رضي الله عنهما من اعتكافه ليقضي حاجة الرجل، فقال الرجل: أنسيت ما كنت فيه؟
    فقال ابن عباس رضي الله عنهما:
    سمعت صاحب هذا القبر، الكلام والعهد به قريب، فدمعت عين ابن عباس رضي الله عنهما فدمعت عيناه وهو يقول، وهذا الكلام للرسول صلى الله عليه وسلم:
    مَنْ مَشَى فِي حَاجَةِ أَخِيهِ، وَبَلَغَ فِيهَا- أي قضاها- كَانَ خَيْرًا لَهُ مِنْ اعْتِكَافِ عَشْرِ سِنِينَ.
    فقه عال جدا لمعنى الأخوة، والبذل من أجل الآخرين، فالاعتكاف يعود على الفرد، أما خدمة الآخرين فتعود على المجتمع بأسره.
    والرسول صلى الله عليه وسلم يقدم خدمة الناس على اعتكاف عشر سنين، وفي مسجده صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث صحيح رواه الحاكم والطبراني، والبيهقي، وكذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، يقول:
    السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلِةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ كَالَّذِي يَصُومُ النَّهَارَ، وَيَقُومُ اللَّيْلَ.
    كثير من يعظم أمر الجهاد في سبيل الله، وهو أمر عظيم حقا، ويعظم الصيام، ويعظم القيام، لكن كم فرد يعظم السعي على الأرملة، والسعي على المسكين.
    والسعي على الأرملة والمسكين ليس مرة في العام، بل الساعي المتكفل بأرمله، أو المتكفل بمسكين، يسعى عليه إلى أن يبلغ رشده، وهذا هو المجتمع المسلم، وهذه أسس راسخة لبناء المجتمع المسلم القوي، وما كان هذا كلام وفقط، بل كان أفعال متكررة، فالرسول صلى الله عليه وسلم لما جاءه نعي جعفر يقول برقة مشاعره المعهوده:
    اصْنَعُوا لِأَهْلِ جَعْفَرَ طَعَامًا، فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ.
    وهذا فقه الشعور بالآخرين، يغرسه النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه، وليس كما يحدث الآن أن أهل الميت هم الذين يصنعون الطعام، ويستقبلون الناس، وهذا الأمر على خلاف السنة.
    فالأخوة مسئولية، وبذل، وعطاء، وليست مكاسب، ومنافع تعود عليك من أخيك.
    ومن عظم مسؤليتها تجد الصحابي لا يقبل أن يقال في حق أخيه كلمة فيها قدح، أو فيها جرح، وهو غائب ويرد غيبة أخيه، ويدافع عنه، وروى أبو داود، وأحمد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وعن أبي طلحة بن سهل الأنصاري رضي الله عنه أنهما قالا:
    قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
    مَا مِنْ امِرِئٍ يَخْذِلُ امْرَأً مُسْلِمًا في مَوْضِعٍ تُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتَهُ، وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ إِلَّا خَذَلَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتِهِ، وَمَا مِنِ امْرِِئٍ يَنْصُرُ مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ، وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ إِلَّا نَصَرَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ نَصْرَتَهُ.
    وهذا ما ترسخ فهمه لدى الصحابة، فلهذا لم يقبل الصحابي أبدا أن أحدا من الصحابة يُجْرح إلى جواره بكلمة، أو بقدح، أو بطعن، ولا يرد، وروى البخاري ومسلم موقفًا يوضح ذلك الأمر، فعن كعب بن مالك رضي الله عنه وأرضاه، وكعب بن مالك من الثلاثة المخلفين في غزوة تبوك، وهو نفسه كان يحكي هذه القصة في صحيح البخاري، فيقول رضي الله عنه وأرضاه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما اكتشف غيابه في الغزوة، قال:
    مَا فَعَلَ كَعْبٌ.
    يطمئن على أصحابه، فقال رجل من بني سَلِمة:
    يا رسول الله صلى الله عليه وسلم حبسه برداه- يعني ثيابه، أي حبسته ثيابه- ونظره في عطفه.
    أي حسن وبهاء الثوب الذي عليه، أي شغلته الدنيا عن القدوم إلى الغزوة، قال معاذ بن جبل رضي الله عنه:
    بئس ما قلت، والله يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما علمنا عليه إلا خيرا. يدافع عن أخيه كعب، حتى وكعب متخلف عن غزوة من أهم غزوات في حياة المؤمنين، لكن يعذر أخاه إلى أن يعرف ما السبب الذي خلفه عن هذه الموقعة، أو عن هذه الغزوة، هذه هي الأخوة، والمعنى الذي ترسخ في أذهان الصحابة عن قضية الأخوة.
    ولما وقع الناس في عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها في حادثة الأفك المشهورة قالت أم أيوب لزوجها أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنهما:
    يا أبا أيوب أما تسمع ما يقوله الناس في عائشة؟
    قال: نعم وذلك الكذب.
    يدافع وهو في بيته مع زوجته، ثم قال لزوجته:
    أكنتِ فاعلة ذلك يا أم ايوب؟
    قالت: والله ما كنت لأفعله.
    قال: وعائشة والله خيرا منك.
    أبو أيوب الأنصاري يدافع عن السيدة عائشة في غياب كل الناس، وهو مع زوجته، لكن من حق السيدة عائشة رضي الله عنها على أبي أيوب الأنصاري أن يدافع عنها في غيبتها، وهذا ما يحفظ فعلا حرمة المؤمنين ويحفظ حرمة المؤمنات.
    والكلام في هذا المفهوم كثير، مفهوم أن الأخوة مسئولية، والأخوة تضحية، ولن نستطيع أن نستفيض في كل الروايات في هذا الموضوع؛ لأن هذا معناه أننا نتكلم عن حياة الصحابة من أولها لآخرها، وهذا كان المفهوم الثاني للصحابة عن قضية الأخوة، أو عن معنى الأخوة، الأخوة مسؤلية، وبذل وعطاء.


    المفهوم الثالث: الأخوة لكل من آمن بالله

    الأخوة لكل من آمن بالله العظيم ربا، وبرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم نبيا، وبالإسلام دينا، ولمن قَرُب، ومن بَعُد، لمن كان عربيا، أو كان أعجميا، لمن كان حديث الإسلام، أو سابقا بالإيمان، لمن تعرف ومن لا تعرف، فأي مسلم من المسلمين يستحق كل حقوق الأخوة، حتى وإن كنت لا تعرفه من قبل، شمول رائع في مفهوم الأخوة.
    عمر بن الخطاب كلنا نعرف قصة إسلامة يطرق الباب على رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم يوم أن أسلم يطرقه، وله تاريخ طويل مؤلم مع المسلمين، تعذيب، وإيذاء، ومعاداة، وكراهية، وفي آخر لحظة من لحظات كفره، كان ذاهبا ليقتل الرسول صلى الله عليه وسلم، يطرق الباب، ولما نظروا من ثقب الباب، وقالوا: عمر.
    قال حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه:
    افتحوا له الباب، فإن كان يريد خيرا، بذلناه له، وإن جاء يريد شرا قتلناه بسيفه.
    ثم دخل عمر وآمن عمر، وبعد إيمانه انقلب كل البغض، وتحولت كل الكراهية الشديدة التي كانت لعمر بن الخطاب في قلوب المؤمنين إلى حب لعمر رضي الله عنه، وكيف ارتضوا أن يخرجوا خلف عمر بن الخطاب، وخلف حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنهما في صفين إلى الكعبة، مع أنه كان من وقت قريب يعذبهم، ويحاربهم، وهذه هي معجزة هذا الدين، أصبح عمر أخًا لكل المسلمين، يدافع عنهم، ويدافعون عنه، هذه هي الأمة التي رضي الله عنها، والتي أنعم عليها بهذه النعمة، نعمة الأخوة، استفاد عمر رضي الله عنه وأرضاه من هذا الدرس الذي فعله معه المؤمنون، فأصبح مقياس الحب، والكره في قلب عمر مربوطا بالإيمان، والإيمان فقط.
    ويروي الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه عندما أسلم ثمامة بن أثال رضي الله عنه قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، أسلم ثمامة بن أثال في أواخر حياة الرسول صلى الله عليه وسلم بعد حياة طويلة من محاربة الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول عمر بن الخطاب:
    لقد كان والله في عيني أصغر من الخنزير، وإنه في عيني الآن أعظم من الجبل.
    اختلفت النظرة بمجرد أن دخل ثمامة بن أثال رضي الله عنه وأرضاه في دين الإسلام بمجرد أن آمن، أصبح له كل حقوق الأخوة، وأولها الحب في الله، الحب الخالص لهذا الأخ في الله لأنه آمن، وقد تحدث هذه العاطفة الأخوية الراقية مع مؤمن لم يره الإنسان من قبل مطلقا، وتشعر ناحية هذا الرجل بهذه العاطفة القوية، وذلك في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال:
    آتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرجل لا يعرفه الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال:
    يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابني الجهد.
    بلغ به الجوع مبلغًا حتى أصابه الجهد، فأرسل صلى الله عليه وسلم إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والرسول، لم ينسى القضية فهو يشعر بأخوة حقيقية له مع أنه لم يره من قبل، قال:
    أَلَا رَجُلٌ يُضَيِّفُهُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ يَرْحَمُهُ اللَّهُ.
    فقام رجل من الأنصار، فقال:
    أنا يا رسول الله.
    فذهب إلى أهله، فقال لامراته:
    ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تدخري شيئا.
    قالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية.
    قال: فإذا أرادت الصبية العشاء فنوميهم، فأطفئ السراج وأريه أنّا نأكل، ونطوي بطوننا الليلة.
    ففعلت، ثم غدى الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم الثاني، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا الكلام في البخاري:
    لَقَدْ عَجِبَ اللَّهُ مَنْ صَنِيعِكُمَا بَضَيْفِكُمَا اللَّيْلَةَ.
    مع أن الأنصاري لا يعرف هذا الرجل من قبل، ولكن ترسخ هذا الفهم لدى الصحابة، حتى وإن لم يكن يعرفه، أو قابله من قبل، لكن المهم أن هذا الإنسان مؤمن بالله عز وجل.
    ومن أجل هذه الإخوة في الإيمان دون سابق معرفة، فإن الله عز وجل أوجب على المسلمين أن ينفروا لنجدة إخوانهم المسلمين في البلاد الأخرى، إن إحتاج أهل هذه البلاد إلى مساعدة، واتفق الفقهاء على أنه لو سبيت امراة من أهل المشرق، امرأة من أهل المشرق لا تعرفها، ولن يستطيع أهل هذه البلاد تخليصها، وجب ذلك على أهل المغرب، كل المسلمين عليهم تحرير امرأة واحدة فقط، فكيف لو سبي شعب من المسلمين؟
    أجلى الرسول صلى الله عليه وسلم بني قينقاع من المدينة دفاعًا عن رجل مسلم واحد قتل، وعن امرأة مسلمة واحدة كشفت عورتها، هذا هو المفهوم الذي زرعه الرسول صلى الله عليه وسلم في الصحابة، قد لا يعرف جيش المسملين الذي ذهب لمحاربة بني قينقاع من المدينة المنورة الرجل الذي قتل أو المرأة التي كشفت عورتها.
    وخرّج المعتصم جيشا لإنقاذ امرأة واحدة في بلاد الروم، امرأة مؤمنة واحدة صفعت في بلاد الروم لم تقتل في بلاد الروم، بل صُفِعت، فخرّج جيشًا كاملًا لفك أسر هذه المرأة، وكان المعتصم على رأس الجيش من أجل امرأة قد لا يعرفها أحد، وقد لا يعرفها المعتصم نفسه.
    وخرّج الحاجب المنصور وكان في الخلافة الأموية في الأندلس خرج جيشا لفك أسر ثلاث نساء مؤمنات، ثلاث نساء فقط، هذا هو مفهوم الإسلام عن الإخوة في الإيمان، لا فرق بين مصري، ولا سوري، ولا فلسطيني، ولا شيشاني، ولا كشميري، ولا بوسنوي، ولا أي أحد من المسلمين، لا فرق، الكل إخوة في الله، إخوة في الإيمان، إخوة في الإسلام، والله عز وجل سائلك عن أي تقصير في حقوق من ارتبطوا معنا برباط عقائدي واحد.


    المفهوم الرابع: الأخوة نعمة من نعم الله

    والمفهوم الأخير بإيجاز سريع هو أن هذه الأخوة في الله، هي نعمة من الله عز وجل، نسعد بها في دنيانا، وكذلك نسعد بها في آخرتنا، فأنا أقوم بهذه الأعمال ليس للثواب في الآخرة وفقط، بل يعطيني الله عز وجل في الدنيا سعادة، وقد يتصارع أهل الأرض جميعا على الدنيا، ولا يجدوا هذه السعادة التي أجدها مع أخي المسلم، نعمة حقيقية، يقول الله عز وجل:
    [وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانً] {آل عمران:103} نعمة كبيرة جدا من الله عز وجل، وهذه النعمة والله لا تعدلها أموال الأرض جميعا، فكل أموال الدنيا، وكل نعيم الدنيا لا يساوي هذه النعمة، وهذا الكلام ليس فيه مبالغات؛ لأنه كلام ربنا سبحانه وتعالى، ويقول في كتابه سبحانه وتعالى:
    [وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] {الأنفال:63} فهذه نعمة واحدة أغلى من كل ما في الأرض.
    الأخوة نعمة، ونعمة جليلة جدا، وعظيمة جدا، وأحيانا لا يدرك هذه النعمة إلا الذي فقدها، أمم الأرض جميعا تحسد المسلمين على هذه المنة العظيمة، مَن في الأرض يضحي لأجل إخوانه، إلا المسلمين، قال الله عز وجل في حق اليهود:
    [بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ] {الحشر:14}.
    وقال في حق النصارى:
    [وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ] {المائدة:14}.
    لكن أمة الإسلام تعيش فعلا في نعمة، تعيش فعلا في سعادة في الدنيا بسبب هذه الأخوة.
    فمن المستحيل أن يضحي المؤمن الفاهم العاقل بهذه السعادة ويطلب أي نعيم في الدنيا، أو أي مال في الدنيا في نظير هذه الأخوة، إن أعلى معدلات الاكتئاب النفسي توجد عند الرجال، والنساء أو الأطفال الذين يعانون من الوحدة، وراجعوا إحصائيات الاكتئاب النفسي الموجودة في أمريكا، والموجودة في إنجلترا، والموجودة في السويد، وفي الدانمارك، وفي البلاد التي يقال عنها بلاد راقية جدا، راجعوا معدلات الاكتئاب النفسي تجدوا أنها عالية جدا، وكلها مربوطة بموضوع الوحدة، وهو انعدام هذه النعمة التي حبانا الله به، الابن أول ما يبلغ 16 -17 سنة يترك بيت أبيه، وأمه، ولا يسأل عنهم، وكأن الأمر لا يعنيه.
    وعلى النقيض تخيل مجتمع الإسلام بهذه الصورة التي شرحناها سعادة ما بعدها سعادة في الدنيا قبل الآخرة، هذه نعمة الإسلام الكبرى.
    هذا بإيجاز هو المفهوم الرابع للصحابة عن معنى الأخوة، وعن قضية الأخوة، إن الأخوة تورث السعادة في الدنيا، قبل الآخرة، ولذلك كان من المستحيل أنهم يضحوا بهذه السعادة من أجل أي شيء في الدنيا، أي شيء مهما كان كبيرا في عين الناس، هذه هي مفاهيم الصحابة عن الأخوة، وكيف تعاملوا مع هذه المسألة الهامة في بناء الأمة الإسلامية.
    فالأخوة طريق للجنة.
    الأخوة مسئولية.
    الأخوة لكل مؤمن مهما بعد أو قرب عرفته أم لم تعرفه.
    الأخوة تورث السعادة في الدنيا وفي الآخرة.
    أختم حديثي بالحديث القدسي الذي رواه الإمام أحمد عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال:
    قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
    "قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: حَقَّتْ -وفي رواية: وَجَبَتْ- مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ، وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ، وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ، وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَجَالِسِينَ فِيَّ".
    نسأل الله عز وجل حبه، وحب من يحبه، وحب عمل يقربنا إلى حبه.
    <













  7. #22
    ~ [ نجم ماسي ] ~
    تاريخ التسجيل
    Jul 2010
    المشاركات
    860

    رد: (ملف)..خير الناااس.الصحب الأطهار رضي الله عنهم

    الحسين بن علي

    شرفه ونسبه

    هو الحسين بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم، أبو عبد الله القرشي الهاشمي السِّبْط الشهيد بكَرْبَلاء، ابن بنت رسول اللهفاطمة الزهراء رضي الله عنها، وريحانته من الدنيا. وُلِدَ الحسينُ سنة أربع من الهجرة، وله من الولد: علي الأكبر، وعلي الأصغر، وله العَقِب، وجعفر، وفاطمة، وسكينة.

    مكانته وفضله

    رُوِيَت أحاديث عديدة تدل على فضله وتعلق الرسول الكريمبه وبأخيه الحسن، منها عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله: "هما ريحانتاي من الدنيا" يعني الحسن والحسين رضي الله عنهما.

    وعن أبي سعيدٍ قال: قال رسول الله: "الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة".

    وعن زر، عن عبد الله قال: قال رسول الله: "هذان ابناي فمن أحبهما فقد أحبني"، يعني الحسن والحسين رضي الله عنهما.

    مما روى عن رسول الله

    عن علي بن الحسين، عن الحسين بن علي بن أبي طالب، عن النبيقال: "يصلي المريض قائمًا إن استطاع، فإن لم يستطع صلى قاعدًا، فإن لم يستطع أن يسجد أومأ وجعل سجوده أخفض من ركوعه، فإن لم يستطع أن يصلي قاعدًا صلى على جنبه الأيمن مستقبل القبلة، فإن لم يستطع أن يصلي على جنبه الأيمن صلى مستلقيًا رجله مما يلي القبلة".

    وعن أبي محمد بن علي قال: حدثني أبي علي بن الحسين، قال: حدثني أبي الحسين بن علي، قال: حدثني أبي علي بن أبي طالب، قال: قال رسول الله: "من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم، فهو ممن كملت مروءته، وظهرت عدالته، ووجبت أخوته، وحرمت غيبته".

    يزيد بن معاوية ومحاولة أخذ البيعة من الحسين

    بعد وفاة معاويةسنة ستين، وَلِي الخلافة يزيد بن معاوية فلم يكن له همٌّ حين ولي إلا بيعة النفر الذين أبوا على معاوية البيعة له؛ فكتب إلى عامله على المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان يأمره بأخذ البيعة من هؤلاء النفر الذين أبوا على معاوية استخلاف ولده، وعلى رأسهم الحسين بن علي.

    وقد خرج الحسينتحت جنح الظلام متجهًا إلى مكة، واستصحب معه بنيه وإخوته وجُلّ أهل بيته، وفي الطريق لقي ابنُ عمر وابن عباس الحسينَ وابن الزبير -رضي الله عنهم- في طريقهما إلى مكة، وكان ابن عمر وابن عباس قادمَيْن منها إلى المدينة فسألاهما عما وراءهما، فقالا: قد مات معاوية، والبيعة ليزيد. فقال لهما ابن عمر: "اتقيا الله، ولا تفرقا جماعة المسلمين".

    وعندما قدما المدينة وجاءت البيعة ليزيد من البلدان بايع ابن عمر وابن عباس، ولم تكد أخبار وفاة معاوية ولجوء الحسين وابن الزبير إلى مكة ممتنعين عن البيعة ليزيد، تصل إلى أهل الكوفة حتى حَنُّوا إلى تمردهم وانتقاضهم القديم، فراسلوا الحسين ودعوه إليهم ووعدوه النصرة.

    إرسال الحسين ابن عمه مسلم بن عقيل إلى الكوفة

    لقد كثر إرسال الكتب من أهل العراق إلى الحسين، وخاصة بعد ذهابه إلى مكة يحثونه فيها على سرعة المجيء إليهم، فقد كتب إليه بعض أهلها: "أما بعد، فقد اخضرت الجنان، وأينعت الثمار، وطمت الجمام، فإذا شئت فأقدم على جندٍ مجندة لك، والسلام".

    فالتزم الحسينالحذر والحيطة، وأرسل ابن عمه مسلم بن عقيل إلى العراق ليكشف له حقيقة هذا الأمر والاتفاق، فإن كان متحتمًا وأمرًا حازمًا محكمًا بعث إليه ليركب في أهله وذويه. فسار مسلم من مكة فاجتاز بالمدينة، حتى وصل إلى مشارف الكوفة.

    فلما دخل مسلم بن عقيل الكوفة، تسامع أهل الكوفة بقدومه فجاءوا إليه فبايعوه على إمرة الحسين، وحلفوا له لينصرنه بأنفسهم وأموالهم، فاجتمع على بيعته من أهلها ثمانية عشر ألفًا. ولقد كان الشيعة في الكوفة يبايعون مسلم بن عقيل سرًّا؛ مستغلين ورع عامل يزيد على الكوفة النعمان بن بشير الأنصاريالذي لم تُجْدِ نصائحه لهم بالطاعة ولزوم الجماعة حتى كتب بعض أهل الكوفة الموالين لبني أمية إلى يزيد بما يحدث، فأرسل إلى عبيد الله بن زياد عامله على البصرة يضم إليه الكوفة أيضًا؛ لكي يقضي على بوادر هذا التمرد، ويطلب من أهل الكوفة النصرة والبيعة.

    ولقد استطاع ابن زياد أن يكتشف أمر مسلم بن عقيل ومقره وأعوانه عن طريق مولى لهم، فقبض ابن زياد على بعض أتباع مسلم بن عقيل وحبسهم، ثم تمكّن ابن زياد من مسلم بن عقيل فضرب عنقه.

    مسير الحسين إلى العراق

    عندما تتابعت الكتب إلى الحسين من جهة أهل العراق، وتكرَّرت الرسل بينهم وبينه، وجاءه كتاب مسلم بن عقيل بالقدوم عليه بأهله، ثم وقع في غضون ذلك ما وقع من قتل مسلم بن عقيل، والحسينلا يعلم بشيء من ذلك، فعزم على المسير إليهم، وكان ذلك أيام التروية قبل مقتل مسلم بيوم واحد -فإن مسلمًا قُتِلَ يوم عرفة- وعندما استشعر الناس خروجه أشفقوا عليه من ذلك، وحذَّرُوه منه، وأشار عليه ذوو الرأي منهم والمحبة له بعدم الخروج إلى العراق، وأمروه بالمقام في مكة، وذكّروه ما حدث لأبيه وأخيه معهم.

    فقد جاء ابن عباس إلى الحسين فقال له: يابن عم، إني أَتَصَبَّرُ ولا أَصْبِر، إني أتخوف عليك في هذا الوجه الهلاك، إن أهل العراق قوم غُدر فلا تغترَنَّ بهم، أقم في هذا البلد حتى ينفي أهل العراق عدوهم ثم أقدم عليهم، وإلا فَسِرْ إلى اليمن فإن به حصونًا وشعابًا ولأبيك به شيعة، وكن عن الناس في مَعزِل، واكتب إليهم وبثَّ دعاتك فيهم، فإني أرجو إذا فعلت ذلك أن يكون ما تحب. فقال الحسين: يابن عم، والله إني لأعلم أنك ناصح شفيق، ولكني قد أزمعت المسير. فقال له: فإن كنت ولا بد سائرًا فلا تسر بأولادك ونسائك، فوالله إني لخائف أن تُقتَلَ كما قُتِلَ عثمانُ ونساؤه وولده ينظرون إليه.

    أما ابن الزبيرفقد تعجب من مسير الحسينإلى أهل العراق وهو يعلم علم اليقين أنهم قتلوا أباه وطعنوا أخاه، فقال له: أين تذهب، إلى قوم قتلوا أباك وطعنوا أخاك؟! فقال: لأن أقتل بمكان كذا وكذا أحب إليَّ من أن تُستَحَلَّ بي (يعني مكة).

    أما يزيد بن معاوية فقد كتب إلى ابن زياد قائلاً: "قد بلغني أن الحسين قد توجّه إلى نحو العراق، فضع المراصد والمسالح واحترس، واحبس على الظِّنة، وخذ على التهمة، غير أن لا تقتل إلا من قاتلك، واكتب إليَّ في كل ما يحدث من خبر، والسلام". وهذا القول واضح وظاهر في أن لا يقتل عبيدُ الله الحسينَ وأصحابه إلا إذا قاتلوه.

    وأثناء سير الحسينفي طريقه إلى العراق بلغه خبر مقتل ابن عمه مسلم، فأثناه ذلك، واعتزم العودة إلى مكة، لكن إخوة مسلم قالوا: "والله لا نرجع حتى نصيب بثأرنا أو نُقتَلَ". فقال: "لا خير في الحياة بعدكم".

    استشهاد الحسين

    عندما أشرف الحسينُ على العراق، رأى طليعة لابن زياد، فلما رأى ذلك رفع يديه فقال: "اللهم أنت ثقتي في كل كرب، ورجائي في كل شدة، وأنت لي من كل أمر نزل ثِقةً وعُدَّة، فكم من همٍّ يضعف فيه الفؤاد، وتقل فيه الحيلة، ويخذل فيه الصديق، ويشمت فيه العدو، فأنزلته بك وشكوته إليك، رغبة فيه إليك عمّن سواك، ففرجته وكشفته وكفيتنيه، فأنت لي وليُّ كل نعمة، وصاحب كل حسنة، ومنتهى كل غاية".

    وكان قوام هذه الطليعة ألف فارس بقيادة الحر بن يزيد التميمي، فقال لهم الحسين: أيها الناس، إنها معذرة إلى الله وإليكم، إني لم آتكم حتى أتتني كتبكم ورسلكم أنِ اقْدِمْ علينا، فليس لنا إمام، لعل الله أن يجعلنا بكم على الهدى؛ فقد جئتكم، فإن تعطوني ما أطمئن إليه من عهودكم أقدم مصركم، وإن لم تفعلوا وكنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي أقبلنا منه. فلم يجيبوه بشيء في ذلك، ثم قال له الحر: إنا أُمِرْنا إذا نحن لقيناك أن لا نفارقك حتى نقدمك الكوفة على عبيد الله بن زياد. فقال الحسين: الموت أدنى إليك من ذلك. ثم أمر أصحابه فركبوا لينصرفوا، فمنعهم الحر من ذلك، حتى أتى الجيش الذي أرسله عبيد الله بن زياد وعدته أربعة آلاف فارس، والتقوا في كربلاء جنوبي بغداد. وعندما التقوا خيَّرهم الحسينُ بين ثلاث فقال: "إما أن تَدَعُوني فأنصرف من حيث جئت، وإما أن تدعوني فأذهب إلى يزيد، وإما أن تدعوني فألحق بالثغور".

    وكان أمير الجيش عمر بن سعد بن أبي وقاص، وعندما سمع عمر بن سعد كلام الحسين استحسنه، وأرسل إلى ابن زياد بذلك يحسِّن له أن يختار أحد الاقتراحات الثلاثة، وكاد عبيد الله أن يقبل لولا أن شِمْر بن ذي الجَوْشن -وهو من الطغاة أصحاب الفتن- قال له: "لئن رحل من بلادك، ولم يضع يده في يدكم، ليكوننَّ أولى بالقوة والعز، ولتكوننَّ أولى بالضعف والعجز، فلا تعطه هذه المنزلة؛ فإنها من الوهن، ولكن لينزل على حكمك هو وأصحابه، فإن عاقبت فأنت ولي العقوبة، وإن غفرت كان ذلك لك".

    وقد استثار شمر بكلامه هذا ابن زياد، فوافق على كلام شمر، وأرسله ومعه كتاب إلى عمر بن سعد بأن يقاتل الحسين إذا لم يستسلم، وإذا لم يُرِدْ عمر أن يقاتله، فليتنحَّ عن إمرة الجيش وليسلمها إلى شمر.

    وعندما ورد شمر على عمر بن سعد بن أبي وقاص وأفهمه رسالته، خاف عمر على نفسه من ابن زياد، ولم يقبل بأن يتنحَّى لشمر، واستمر قائدًا للجيش، فطلب إلى الحسين تسليم نفسه، لكن الحسين لم يفعل ونشب القتال. ويجب أن نلحظ هنا أن الحسين لم يبدأ بالقتال، بل إن موقفه كان عدم الاستسلام فقط.

    وقع القتال بين فئة صغيرة لا تبلغ الثمانين رجلاً وبين خمسة آلاف فارس وراجل، على أنه انضم إلى الحسين أفراد رأوا أن أهل العراق خانوا الحسين، وأن من واجبهم الاستماتة بين يديه، فانتقلوا إليه مع معرفتهم بالموت الذي ينتظرهم، وكانت الواقعة، فقُتِلَ رجال الحسين على بكرة أبيهم (حوالي 72 رجلاً)، وقتل الحسين معهم.

    وفي أثناء القتال كان يُستحث أهل العراق على حرب الحسين، فكان يقال لهم: "يا أهل الكوفة، الزموا طاعتكم وجماعتكم، ولا ترتابوا في قتل من مَرَقَ من الدين وخالف الإمام". فكان أهل الكوفة إذن يستحثون على الطاعة ولزوم الجماعة، ويُبيَّن لهم أن الحسين وأصحابه إنما هم مارقون من الدين.

    ثم بعث ابن زياد بالرءوس، ومن بينها رأس الحسين إلى يزيد بن معاوية بالشام، فدمعت عينا يزيد بن معاوية وقال: كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين، لعن الله ابن سمية (عبيد الله بن زياد)، أَمَا واللهِ لو أني صاحبُه لعفوت عنه، ورَحِمَ اللهُ الحسين.

    ثم أكرم يزيد بن معاوية نساء الحسين وأهله وأدخلهنَّ على نساء آل معاوية وهُنَّ يبكين ويَنُحْنَ على الحسين وأهله، واستمر ذلك ثلاثة أيام، ثم أرسل يزيد بن معاوية إليهن يسأل كل امرأة عما أُخِذَ منها، فليس منهنَّ امرأةٌ تدَّعي شيئًا بالغًا ما بلغ إلا أضعفه لها. ثم أمر يزيد بن معاوية النعمان بن بشير أن يبعث معهنَّ رجلاً أمينًا معه رجال وخيل يصحبهن أثناء السفر إلى المدينة.

    وعندما ودعهن يزيد قال لعلي بن الحسين (علي الأصغر): قبَّح الله ابن سمية! أما والله لو أني صاحب أبيك ما سألني خصلة إلا أعطيته إياها، ولدفعت الحتف عنه بكل ما استطعت ولو بهلاك بعض ولدي، ولكنَّ الله قضى ما رأيت. ثم جهَّزه وأعطاه مالاً كثيرًا، وكساهم وأوصى بهم ذلك الرسول. وقال لعلي: كاتِبْنِي بكل حاجة تكون لك.













  8. #23
    ~ [ نجم ماسي ] ~
    تاريخ التسجيل
    Jul 2010
    المشاركات
    860

    رد: (ملف)..خير الناااس.الصحب الأطهار رضي الله عنهم

    الصحابة والدعوة


    مقدمة

    الصحابة والدعوة
    مما لا شك فيه أن الدعوة إلى الله عز وجل عملٌ من أشرف الأعمال التي يمكن أن يقوم بها كلُّ مؤمن ومؤمنة.
    يقول الله عز وجل في كتابة الكريم:
    [وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ] {فصِّلت:33} . فمن كل الأقوال التي يمكن أن يقولها الإنسان، ومن كل الكلمات التي يمكن أن ينطق بها بشر، تظل كلمة الدعوة هي أحسن الأقوال، وأحسن الكلمات [وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ] {فصِّلت:33}.
    هذه الكلمة العظيمة (الدعوة) هي وظيفة الأنبياء، والمرسلين، فأنبياء الله سبحانه وتعالى وظيفتهم الأولى هي الدعوة إلى الله عز وجل يقول الله تعالى في كتابه:
    [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ] {إبراهيم:4} .
    فالهداية بيد الله عز وجل، لكن لا بد أن تقام الحجة على العبد، لا بد أن تصل الدعوة إلى العباد، فمن الذي يصل بالدعوة إلى العباد؟
    الأنبياء، وبعد آخر الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، من الذي يصل بالدعوة إلى الناس؟
    إنهم أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، المؤمنون بهذا الدين، المسلمون إسلاما حقيقيا صادقا، هم الذين يتحركون بالدعوة، لقد ختم الأنبياء بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وليس هناك نبي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا بد أن يحمل المؤمنون الصادقون هذه المهمة العظيمة التي كان يحملها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن سبقه من أنبياء الله عز وجل [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ] {إبراهيم:4} .
    ويقول عز وجل:
    [بِالبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ] {النحل:44} .
    والآيات في هذا المعنى كثيرة.
    إن من يبين للناس الحلال والحرام، ومن يعرف الناس بالمعروف، ويأمرهم به، ويبين للناس المنكر، وينهاهم عنه، إن من يفعل ذلك إنما يعمل بعمل الأنبياء والمرسلين.
    لذلك جعل الله عز وجل هذه الصفة، صفة الدعوة، أو صفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، صفة لازمة لمن حمل لقب (مؤمن) فما دمت مؤمنا فلا بد أن تكون داعية إلى الله عز وجل، إذا أردت أن تستكمل صفة الإيمان فلا بد من الدعوة إلى الله.
    يقول الله عز وجل:
    [وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ] {التوبة:71}.
    وذكر الله عز وجل أن أول ما يتصفون به أنهم:
    [يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]
    {التوبة:71} .

    وتستطيع أن تلاحظ أن الله تعالى قدم صفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، مع كونهما ركني الدين العظيمين، فالصلاة كما نعلم هي أعظم أركان الإسلام، وهي عمود الدين، من أقامها فقد أقام الدين، ومن هدمها فقد هدم الدين، ومع هذه المكانة العظيمة للصلاة يقدم الله عز وجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على أمرها.
    كذلك الزكاة ركن من الأركان الإسلام الأساسية، ولكن قدم الأمر بالمعروف والنهي على أمرها أيضا.
    الله عز وجل يريد أن يربي المؤمنين على ألا يعيشوا لأنفسهم فقط، لا يقبل من المؤمن بحال أن يصلي، ويزكي، ويقوم بأعمال فردية، دون أن يدعو غيره إلى الله عز وجل.
    إن الإنسان إذا شعر بعظمة هذه الرسالة أصبح مقتنعا بأهمية نقلها إلى غيره من الناس، فهذه هي الغاية من هذه الرسالة، ومن هذه الأمة.
    ولا يقبل من المؤمن أيضا أن يأخذ هذه الرسالة، ويستوعبها فحسب، بل لا بد بعد هذا الاستيعاب أن ينقل هذه الخير إلى من حوله من الناس سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين.
    ثم لاحظ التعليق الرباني اللطيف الجميل في هذه الآيات:
    [أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ] {التوبة:71}.
    أي أولئك الذين يتصفون بهذه الصفات من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وطاعة الله عز وجل ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم [أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ] {التوبة:71}.
    ولم خصهم الله تعالى بالرحمة؟
    لأنهم رحموا عباد الله عز وجل، فالجزاء من جنس العمل، فهؤلاء لما رأوا الناس يتجهون إلى هاوية سحيقة، ويتجهون إلى النيران، ويتجهون إلى البعد عن الله عز و جل، ويتجهون إلى المعيشة الضنك، لما رأوا هؤلاء يتجهون إلى هذا الطريق ما استراحوا إلا بعد أن وضحوا لهم طريق الدعوة، وطريق الإسلام، طريق الله عز وجل، فقد رحموا عباد الله عز وجل، وأوضحوا لهم الطريق، فلا بد أن يرحمهم الله عز وجل، ويهديهم طريقهم، ويدخلهم الجنة سبحانه وتعالى، والجزاء من جنس العمل.
    ما من شك أن المسلمين جميعا يفقهون قيمة الدعوة إلى الله تعالى، وقيمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكننا في هذه السطور نريد أن نتعرف على نظرة الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم لقضية الدعوة إلى الله عز وجل، قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.


    كيف تكون صحابيا في دعوتك؟

    كيف تكون صحابيا في أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر؟
    وهي بلا شك قضية في غاية الأهمية، لأنه لا يمكن على الإطلاق أن تبنى أمة من دون دعوة، ربما وجد أفراد قلائل وعظماء أيضا، لكن أن تبنى أمة بكاملها من غير دعوة، وأمر بمعروف ونهي عن منكر بين المسلمين أنفسهم وبينهم وبين غيرهم من غير المسلمين، هذا في الواقع أمر مستحيل تماما، لأن الأمة أفراد كثيرة، ومجتمع كبير وهائل من البشر، فلا بد إذن من أن تصل الدعوة إلى الناس جميعا.
    تعالوا بنا نرى كيف كان صحابة النبي صلى الله عليه وسلم يفكرون في قضية الدعوة؟
    وكيف كانت الدعوة هي القضية الأساسية في حياتهم؟
    إنك إذا طالعت سيرة أي صحابي سوف تجد حتما أن الدعوة أحد الأركان الأساسية في حياته، ولن تجد في حياة أي من الصحابة رضي الله عنهم جميعا يوما، أو يومين، أو شهرا، أو شهرين، أو سنة، أو سنتين من دون دعوة، فكل حياتهم موجهة إلى تعليم الآخرين، ودعوتهم إلى الإيمان بالله عز وجل وطاعته، وطاعة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.
    من المستفيد الأول من الدعوة؟
    ومن الأشياء المهمة في نظرة الصحابة إلى الدعوة أنهم كانوا يعرفون من هو المستفيد الأول من الدعوة إلى الله تعالى.
    ترى من هو؟
    هل هو الداعية أم أنه المدعو؟
    في الحقيقة المستفيد الأول من الدعوة هو الداعية نفسه، هذا الرجل الذي يدعو الناس إلى الله هو المستفيد الأول، سواء استجاب الناس له، أو لم يستجيبوا، وسواء سمعوا له حال دعوته لهم، أو لم يسمعوا، فهو مستفيد على كل الأحوال.
    فأنت كما تصلي، وتصوم، وتزكي، وتجاهد في سيل الله، وكما تقوم بأي عمل من أعمال الخير، وتطلب الأجر، والثواب من الله عز وجل، فكذلك الحال بالنسبة للدعوة إلى الله، فأنت عندما تدعو تأخذ الأجر من الله تعالى.
    وإذا كان بإمكانك أن تتخيل حجم الثواب على الصلاة، والزكاة، والحج، والإنفاق في سبيل الله، وقد أخبرنا الله عز وجل في كتابه الكريم وأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم في السنة النبوية بأجر هذه الأعمال، فإنه لا يمكن لعقل أن يتخيل ثواب الدعوة إلى الله عز وجل.
    تعالوا بنا نطالع هذا الحديث، لنرى هذا الحجم الهائل من الحسنات، في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:</SPAN>
    مَنْ دَعَا إِلَى هَدْيٍ كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مَنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا.
    فإذا أردت أن تحصي ما يحصل عليه الداعية من الأجر، سوف تجد كَمّا هائلا من الحسنات.
    فعلى سبيل المثال إذا دعوت إنسانا إلى الصلاة، ولم يكن يصلي مطلقا، وأذن الله بهدايته على يديك، فإن كل الصلوات التي يصليها هذا الرجل، والتي ربما تخفى عليك تماما، هي في ميزان حسناتك، وقد يسافر هذا الرجل الذي علمته الصلاة من بلدك، ولا تراه بعد ذلك، ويعيش ما شاء الله له أن يعيش عشرين سنة، أو خمسين، أو مائة، وتكتب كل صلواته الفرض منها، والنافلة، ما صلاه بالليل، أو النهار يكتب كله في ميزان حسناتك.
    أيضا هذا الرجل إذا علم أولاده الصلاة، فكل صلوات أولاده تكتب في ميزان حسناتك أيضا، وكذا إذا علم جيرانه، وإذا عمل بالدعوة إلى الله في أي مكان، أو أي زمان فكل من يدعوهم في ميزان حسناتك، ولا ينقص من أجورهم شيء.
    ربما تظل هذه الدائرة تتسع حتى بعد موتك بسنين طويلة، بل ربما تظل تكتب لك الحسنات إلى يوم القيامة، وعن طريق أناس لم تعرفهم، ولم ترهم، ولم تعش في زمانهم، كما هو الحال بالنسبة لنا، فالأمة كلها تضيف الحسنات لمن دعوها، وأوصلوا إليها ما هي عليه من الخير، تضيف الحسنات في ميزان الصديق، وعمر، وعثمان، وعلي، وبقية الصحابة، وبقية التابعين، وبقية من حملوا هذه الرسالة، وأوصلوها إلينا.
    كم هو كثير هذا الخير الذي يعود على الإنسان من الدعوة إلى الله عز وجل!
    لأجل هذا كان صحابة النبي صلى الله عليه وسلم يضحون بكل شيء في سبيل الدعوة إلى الله تعالى، يبذلون العرق، والجهد، والمال، والنفس، وكل شيء في سبيل، هذه القضية العظيمة؛ قضية الدعوة إلى الله تعالى لما لها من الأجر العظيم والثواب الجزيل عند الله عز وجل.
    ومن هنا نستطيع أن نفهم جيدا كلام ربنا سبحانه وتعالى:
    [وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ]
    {فصِّلت:33} .

    لا أحد على الإطلاق، فإن الذاكر لله تعالى، والقائم يصلي، وقارئ القرآن، أعمالهم لا شك فاضلة، ولكن تبقى الدعوة إلى الله أفضل، وأعظم، وأعلى قيمة من هذا كله؛ لأن الداعية إلى الله لا يكتفي بهذه الأعمال من ذكر، وصلاة، وقراءة للقرآن، بل يدعو غيره إليها، وهذا فضل عظيم، وكبير.


    عقوبة ترك الدعوة

    وعلى الجانب الآخر فإن ترك أمر الدعوة إلى الله تعالى هو أمر في غاية الخطورة، ليس على العبد فحسب، بل على الأمة كلها.
    روى أحمد في مسنده، والترمذي رحمه الله، وقال: حديث حسن.</SPAN>
    عن حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
    وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ.
    يقسم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو لا يقسم إلا على أمر عظيم، لأننا نصدقه صلى الله عليه وسلم دون أن يقسم، ولكن عليه الصلاة والسلام يريد أن يعمق معنى الأمر بالمعروف في نفوس الصحابة، وفي نفوس الأمة كلها ومن ثم يقول صلى الله عليه وسلم:
    وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ، ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ.</SPAN>
    فإذا وجدت نفسك في أزمات كثيرة، وتدعو الله عز وجل كثيرا، وهو سبحانه لا يستجيب لك، فلتراجع نفسك في أمر الدعوة إلى الله جيدا، فربما يكون تأخير استجابة الدعاء بسبب هذا الأمر.
    في الواقع هذه مشكلة كبيرة، وهي أن كثيرا منا يعبدون الله عز وجل، لكن دون أن يدعو الناس إليه سبحانه وتعالى، ربما يكون جاره بعيدا عن الله، أو زميله في العمل، وربما زوجته، أو أولاده، أو أمه، أو أبوه، أو إخوته، ومع هذا كله لا يشغله كثيرا هذا الأمر.
    فلماذا يعيش الناس إذن؟
    هل يعيشون لأنفسهم فحسب؟
    ما استحق أن يولد من عاش لنفسه فقط.
    صحابة النبي صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يعيشيون لأنفسهم، ولم يكونوا يعيشيون لأولادهم، وأهليهم، وإخوانهم، وعشيرتهم فحسب، بل إنهم كانوا يعيشون لأهل الأرض جميعا، وسنرى تطبيق ذلك عمليا في السطور القادمة.
    روى الإمام أحمد، وابن ماجه، وابن حبان، وحسنه الألباني عن عائشة قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرفت في وجهه أن قد حفزه شيء- أي أنه صلى الله عليه وسلم قد همه شيء- فتوضأ، ثم خرج، فلم يكلم أحدا، فدنوت من الحجرات، فسمعته يقول:</SPAN>
    يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: مُرُوا بِالْمَعْرَوفِ وْانْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ مِنْ قَبْلَ أَنْ تَدْعُونِي فَلَا أُجِيبُكُمْ، وَتَسْأَلُونِي فَلَا أُعْطِيكُم وَتَسْتَنْصِرُونِي فَلَا أَنْصُرُكُمْ.
    أليس من الجائز أن يكون السبب في الانهيار الذي نرى عليه الأمة الإسلامية هو التقصير الكبير في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؟
    أليس من الجائز أن يكون تأخير النصر عن الأمة، وما تتعرض له من أزمات طاحنة، ومشكلات كبيرة، إنما هو بسبب إهمالها في قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
    ربما كنا نعمل وفي مرحلة إعداد، ولكن عندنا قصور في هذا الجانب، وهذا من الممكن أن يؤخر الأمة كلها، بل إنه من الممكن أن يكون سببا في استئصال أمة كاملة.
    ترى ما هي أول مشكلة وقع فيها بنو إسرائيل؟
    ألم يكن بينهم مؤمنون؟
    في الواقع كان في بني إسرائيل مؤمنون، ولكنهم لم يقوموا بواجبهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكانت الهلكة لهم، لنرى وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم لبني إسرائيل وكيف كان سقوطهم وهلاكهم:
    روى أبو داود، والترمذي، وابن ماجه عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:</SPAN>
    إِنَّ أَوَّلَ مَا دَخَلَ النَّقْصُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولَ: يَا هَذَا اتَّقِ اللَّهَ وَدَعْ مَا تَصْنَعُ، فِإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَكَ. ثُمَّ يَلْقَاهُ مِنَ الْغَدِ فَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وَقَعِيدَهُ.
    أي يجده على نفس المعصية التي نهاه عنها ولا يؤثر ذلك على العلاقة بينهما، وتنسى قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
    فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ.</SPAN>
    ثم قال:
    [لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ(78)كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ(79)تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي العَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ(80)وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ]
    {المائدة:78: 81} .

    ثم قال:</SPAN>
    كَلَا وَاللَّهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدِي الظَّالِمِ، وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا، وَلَتَقْصُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ قَصْرًا، أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللَّهُ بِقُلُوبِ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ، ثُمَّ لَيَلْعَنَنِّكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ.
    إننا أمة الإسلام لا نملك كرامات معينة من عرق، أو نسب، وخيريتنا إنما هي لأسباب معروفة، ولصفات معروفة، ولنهج معروف، أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نسير عليه، ولو خالفناه، أو قصرنا فيه، فما من شك أن يحدث لنا ما حدث لبني إسرائيل، وغيرهم من الهلاك.
    إننا لسنا قريبين من الله لأجل أننا من جنس العرب، أو لأننا من أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم اسما فقط، لا، بل لا بد من العمل، ولا بد أن أن نتصف بالصفات التي ذكرها الله عز وجل في كتابه الكريم موضحا لنا السبب الذي لأجله كانت هذه الأمة هي خير أمة أخرجت للناس، فلو لم تتبع الأمة أمر ربها كان اللعن، والطرد كما حدث مع بني إسرائيل.
    أمة الإسلام أمة باقية إلى يوم القيامة، ولن تهلك بكاملها على الإطلاق لأجل الرسالة الباقية التي تحملها إلى الخلق أجمعين، لكن من الممكن أن تستبدل، نعم يستبدل الله عز وجل الجيل الفاسد الذي لا يأمر بمعروف، ولا ينهى عن منكر بجيل صالح يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويقوم بأمر الله عز وجل [وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ] {محمد:38} .
    فالأمة التي لا تستوفي شروط الخيرية تستبدل بأمة أخرى غيرها، فكم من الأمم الإسلامية السابقة قد استبدلها الله بغيرها، دول إسلامية سقطت، وأخرى قامت قياما تحافظ فيه على شروط الخيرية التي ذكرها الله عز وجل في كتابه الكريم بقوله:
    [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ]
    {آل عمران:110}.

    ومع أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جزء من الإيمان بالله، إلا أن الله عز وجل قدمهما لبيان أهميتهما، وعظم أمرهما، وأن المؤمن، وإن كان من أصحاب الأعمال الكثيرة الصالحة، لكنه لا يلزم هذين الأمرين، فلن يكون في الأمة خيرية، ولن تتصف الأمة بهذه الصفة العظيمة.
    إن من أهم مهام هذه الأمة إصلاح الأوضاع على وجه الأرض كلها، ليس في بلاد المسلمين فحسب، بل تعليم الناس جميعا في كل مكان في الأرض، ولتعلم يقينا أن عليك واجبا لمن يعيشون في الصين، وفي روسيا، وفي أوربا، وفي أمريكا، وفي استراليا، وفي بريطانيا، ولمن يعيشون في الجزر النائية في المحيطات البعيدة، عليك أن تبلغهم هذه الرسالة العظيمة، وأن تعلمهم، وأن تصبر على آذاهم، ويحاربونك، وتظل تعلمهم، وتدعوهم، ويرفضون، وتظل تعلمهم، وتدعوهم، وأنت بهذا لا تتفضل عليهم، وإنما هو واجبك تجاههم.
    هذه هي خيرية هذه الأمة، وإذا كنت لا تريد أن تكون من خير الأمم فلا عليك، شرط أن تتخلى عن القول بأنك من خير أمة أخرجت للناس مع تركك لأمر الدعوة إلى الله.
    الأمر في غاية الخطورة، يقول أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه كما في البخاري:
    خير الناس للناس- يصف رضي الله عنه أمة الإسلام- تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام.
    ويقصد أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه بكلامه هذا الفتوحات الإسلامية، التي كانت مهمتها الأولى هي تعليم الناس الخير، ودعوتهم إلى الله عز وجل، ودخل كثير من الناس الإسلام، وهم كارهون في البداية لأمر هذه الجيوش الإسلامية التى دخلت بلادهم، وربما دخل بعضهم الإسلام؛ لأنه الدين العظيم والمهيمن على الأرض في ذلك الوقت، وله دولة قوية قاهرة، ولكنهم عرفوا بعد ذلك عظمة هذا الدين، وحسن إسلامهم، وأصبحوا من أهل الجنة، وكان من الممكن أن يكونوا من أهل النار لو ظلوا يعبدون النار طوال حياتهم، أو يعبدون المسيح، أو الشجر، أو الحشرات كما كان يحدث في الهند، فقد عبد الناس كل شيء إلا الله عز وجل، فكان من واجب المسلمين أن يعلموهم وأن يبلغوهم رسالة الله، وبعد أن كانوا كارهين أصبحوا من أهل الجنة، وهذا خير عظيم.
    فهذه هي مهمة الأمة المسلمة أن تعلم الناس جميعا الخير، وهذا هو سبب خيريتها، فهي أمة لا تقيم العدل في إطار دولتها فقط، أو في إطار حدودها فحسب، وتترك العالم من حولها يظلم كما يريد، ويسرق كما يحب، ويعصي الله عز وجل حسب ما يرى هواه.
    روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:</SPAN>
    عَجِبَ اللَّهُ مِنْ قَوْمٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ فِي السَّلَاسِلِ.
    وهؤلاء هم من جاءوا بلاد المسلمين، وهم أسرى مع المسلمين العائدين من المعارك والفتوحات الإسلامية، فلما عرفوا حقيقة الإسلام وأحبوه دخلوا فيه، وحسن إسلامهم فصاروا من أهل الجنة مع أنهم كانوا لا يريدون، لكن أمة الإسلام الآمرة بالمعروف، والناهية عن المنكر كانت هي السبب في دخولهم الجنة، وهذا فضل كبير وعظيم.
    ولأجل هذا [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ] {آل عمران:110}.
    الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم كانوا يفهمون هذه الحقائق جيدا ويعرفون ما الذي يمكن أن يحدث لو لم يكن هناك أمر بالمعروف ونهي عن المنكر.
    حديث رائع ومثل عظيم يضربه النبي صلى الله عليه وسلم يوضح هذا الأمر جيدا:
    روى البخاري عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:</SPAN>
    مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ، وَالْوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا، وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا، وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا. فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ، وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا، وَنَجَوْا جَمِيعًا.
    فالسفينة كلها ستنجو بلا شك بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا ما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمه لصحابته رضي الله عنهم جميعا ولأمته كلها.
    وقد استوعب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الأمر جيدا، وتحركوا به في حياتهم، وتولد عن هذه المشاعر التي دخلت في نفوس الصحابة إحساس عميق بالمسئولية الكبيرة في تبيلغ هذه الرسالة العظيمة، وأنه ما دمت مؤمنا فلا بد أن تدعو غيرك إلى الخير، تدعو غيرك إلى الإسلام، إلى الله عز وجل، ليس لأجل تكثير الحسنات، وتثقيل الميزان، وإن كان هذا مهما، ولكن لأن هذه وظيفة إجبارية على كل مؤمن، فكما أن الإنسان لا يكون مؤمنا إذا امتنع عن الصلاة، أو الزكاة، فكذلك الحال، فما دمت مؤمنا لا بد من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
    وبغير الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر يفسد الأفراد، وتفسد الأمة، بل تفسد الأرض كلها، ولأجل هذا كانت الفتوحات الإسلامية التي انسابت في الأرض كلها شمالا، وجنوبا، شرقا، وغربا، فتوح فارس، والروم، وشمال أفريقيا، وفتوح الأندلس، وفتوح الهند.
    كل البلاد التي فتحت بالإسلام كان الهدف الأساسي من الفتح هو تعليم الناس دينهم، وكان الصحابة رضي الله عنهم يرون هذا الأمر أحد واجباتهم الأساسية، وليس من نوافل الأعمال.
    ربعي بن عامر رضي الله عنه، لنتدبر كلامه رضي الله عنه وأرضاه وهو من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم الذين فتحوا بلاد فارس.
    ماذا قال هذا الصحابي الجليل عندما دخل على رستم قائد الفرس؟
    هذا القائد اسمه هكذا (رَسْتَمْ) وليس (رُسْتُم) كما هو مشهور بين الناس، وهو اسم فارسي.
    لما قال لسيدنا ربعي بن عامر رضي الله عنه:
    ما جاء بكم؟
    قال له ربعي رضي الله عنه بفهمه الدقيق العميق لمهمة المسلم في الحياة:
    لقد ابتعثنا الله.
    تدبر كلامه رضي الله عنه، فإن البعث لا يكون إلا للأنبياء، والمرسلين، وقد ختموا بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فتحملت الأمة هذه المسئولية إلى يوم القيامة، وأصبح أفراد هذه الأمة مبعوثين كالأنبياء، والمرسلين لتعليم الناس ودعوتهم إلى الله عز وجل.
    يقول رضي الله عنه:
    لقد ابتعثنا الله لنخرج العباد.
    كل العباد في مشارق الأرض ومغاربها على اختلاف الأزمنة، والأمكنة مسئولية في رقبة كل المسلمين.
    لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.
    ومن المعروف أن أهل فارس لم يكونوا يعبدون كسرى، كما أن أهل الروم لم يكونوا يعبدون قيصر، لكن هؤلاء الزعماء كسرى وقيصر، ومن على شاكلتهم كانوا يشرعون لأقوامهم، وشعوبهم، ويضعون لهم القوانين المخالفة لما أمر الله عز وجل به، وباتباع هذه الشعوب لهذا التشريع كأنهم يعبدونهم، فلما جاء الإسلام أمر الله المسلمين أن يذهبوا إلى هؤلاء ليعلموهم أن الأمر والحكم لله عز وجل، وأن الناس جميعا لا بد، وأن يسيروا على منهج الله عز وجل، ولا يخالفوا أمره، وأن يبتعدوا عن كل ما نهى الله عز وجل عنه، وهذه هي العبادة الحقيقية، فالمسلمون لهم مهمة في منتهى الوضوح:
    لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.
    سواء كانت هذه العبادة حسية، أو كانت طاعة مخالفة لما أمر الله عز وجل به.
    ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.
    هذه هي مهمة الأمة المسلمة، التي فهمها الصحابي الجليل ربعي بن عامر، وفهمها كل صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الفهم هو ما نريده أن نصل به إلى كل مسلم.
    لا يأس مع الدعوة
    شيء آخر من الأهمية بمكان في قضية الدعوة عند الصحابة رضوان الله عليهم:
    اليأس لم يتطرق على الإطلاق إلى قلب أحد من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم في قضية الدعوة، إذا دعوت إنسانا إلى الله مرة، واثنتين، وثلاثة، وعشرين، ومائة، ولم يستجب، فلا تيأس لأنه لا يوجد في قضية الأجر على الدعوة ما يسمى بالجهد الضائع، ولا يصح أن يقال أن فلانا بعينه لا رجاء فيه ولن يهتد أبدا.
    لماذا؟
    لأن القلوب بين أصابع الرحمن سبحانه وتعالى يقلبها كيف يشاء، وأجرك كداع إلى الله لن يضيع منه شيء، سواء استجاب المدعو، أو لم يستجب، أجرك واقع على الله عز وجل.
    [إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالمُهْتَدِينَ]
    {القصص:56}.

    إذن فكل الناس يدعون إلى الله عز وجل، ندعو المسلمين البعيدين عن طريق الله ندعوهم إلى الله عز وجل، ندعو اليهود والنصارى والمجوس والمشركين والهنود وكل الناس ندعوهم إلى الله عز وجل، هذه هي مهمة المسلمين الأساسية.
    لنرى كيف كان صحابة النبي صلى الله عليه وسلم يتعاملون مع قضية الدعوة، ونقتدي بهم.


    أبو بكر الصديق رضي الله عنه والدعوة إلى الله

    كانت حياة الصديق رضي الله عنه وأرضاه كلها قائمة على قضية الدعوة، فمن أول يوم آمن فيه الصديق، وهو يتحرك لهذا الدين، ولهذه الدعوة، منذ أن شعر بحلاوة هذا الدين أراد أن ينقل هذا الإحساس إلى كل الناس، ومع أن عمره رضي الله عنه في الإسلام لم يتجاوز ساعات قليلة، إلا أنه كانت لديه حمية عظيمة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتحرك رضي الله عنه ليأتي بعثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الرحمن بن عوف، هؤلاء الخمسة من أعاظم الصحابة والمسلمين والمجاهدين، هؤلاء هم من حملوا على أكتافهم أمانة الرسالة وأمانة الدعوة، وأمانة التبليغ، هؤلاء هم من علموا أهل الأرض جميعا الإسلام.
    جاء بهم الصديق رضي الله عنه وأرضاه في أول يوم، وفي اليوم الثاني جاء بأبي عبيدة بن الجراح، وعثمان بن مظعون، والأرقم بن أبي الأرقم، وأبي سلمة بن عبد الأسد.
    أي جهد هذا وأي بذل هذا وأي خير هذا!
    إن كل ما يفعله هؤلاء من الخير يأخذ الصديق رضي الله عنه مثل أجورهم، عندما يتبرع عثمان بن عفان بتجهيز جيش العسرة يأخذ الصديق رضي الله عنه مثل أجره، عندما يبني عثمان رضي الله عنه مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ الصديق رضي الله عنه مثل أجره، عندما يشتري بئر رومة من حر ماله يأخذ الصديق رضي الله عنه مثل أجره، كَمّ من الحسنات لا يمكن تخيله بحال من الأحوال.
    عندما يخرج الزبير بن العوام رضي الله عنه مجاهدا في سبيل الله محاربا ومدافعا عن دين الله في شمال مصر، وفي الشام وفي العراق، وهنا، وهناك يأخذ الصديق رضي الله عنه مثل أجره، عندما يربي ابنه عبد الله بن الزبير على الخير يأخذ الصديق رضي الله عنه مثل أجره، عندما يربي ابنه عروة بن الزبير على الخير يأخذ الصديق رضي الله عنه مثل أجره، وأي أمر من أمور الخير يفعله الزبير بن العوام رضي الله عنه يأخذ الصديق رضي الله عنه مثل أجره.
    وتخيل معي أسماء من ذكرناهم قريبا، وما لهم من الأعمال العظيمة، والتي يأخذ الصديق رضي الله عنه مثل أجورهم عليها، ومع هذا كله أنفق ماله كله أيضا على الدعوة إلى الله، فقد أعتق عبيدا كثيرين من ماله، وكما أن هواية بعض الناس جمع الطوابع، أو التحف، كانت هواية الصديق رضي الله عنه وأرضاه هي جمع المؤمنين، كان رضي الله عنه وأرضاه يفهم جيدا طبيعة الدنيا، ويفهم رسالته في الحياة:
    ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.
    يرى بلال بن رباح يعبد غير الله، فيذهب إليه سريعا، ويدعوه إلى عبادة الله، ويؤمن بلال، ويعذب في سبيل الله، ويدفع أبو بكر ماله ليعتقه، ويستنقذه من العذاب، لا يرجو منه جزاء ولا شكورا، إلا مرضاة الله عز وجل.
    أعتق رضي الله عنه عامر بن فهيرة، وأدخله في الإسلام، الزنيرة، وابنة الزنيرة، وكثير من المعذبين، والمعذبات من الصحابة، والصحابيات في أرض مكة، أدخلهم رضي الله عنه في دين الإسلام، وأعتقهم، أي خير هذا وأي عظمة هذه!
    إنها الدعوة إلى الله عز وجل، أدخل الصديق رضي الله عنه وأرضاه عائلته كلها في الإسلام، أم رومان زوجته رضي الله عنها، أولاده أسماء، وعبد الله، أما السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها فقد ولدت في الإسلام، ثم دخلت أمه في الإسلام، ثم أكبر أبنائه عبد الرحمن، ثم دخل أبوه في الإسلام رضي الله عنهم وأرضاهم جميعا، خير عظيم، وأجر ضخم، وكبير في ميزان الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
    لأجل هذا لو وزنت إيمان الصديق بأي إيمان لا بد أن يرجح إيمان الصديق، بل لو وزنت إيمان الصديق بإيمان الأمة لرجح إيمان الصديق.
    لماذا؟
    لأن الأمة عندما تعمل إنما تضيف لحسنات الصديق، وأي مسلم يعمل خيرا إنما يعمل عن طريق دعوة الصديق رضي الله عنه في بداية الدعوة، فلو قمت فصليت ركعتين يأخذ الصديق رضي الله عنه مثل أجرك، لو أنفقت شيئا في سبيل الله يأخذ الصديق رضي الله عنه مثل أجرك، لو أن إنسانا جاهد في فلسطين، أو العراق، أو الشيشان، يأخذ الصديق رضي الله عنه مثل أجره، لو كتب عالم كتابا ينتفع الناس به، أو ألقى محاضرة وتناقلها الناس عبر شرائط الكاسيت، أو الفيديو، أو عبر الإنترنت، يأخذ الصديق رضي الله عنه مثل أجره.
    هل تخيلت معي هذا الحجم الهائل الضخم الكبير من الحسنات؟
    هذه هي الدعوة إلى الله، وهذا هو الصديق، وهؤلاء هم صحابة النبي صلى الله عليه وسلم.


    الطفيل بن عمرو الدوسي والدعوة إلى الله

    بعدما أسلم، وقصة إسلامه من القصص الجميلة الرائعة لا يتسع المجال لذكرها، لكنه بعد أن أسلم بسماعه بعض الكلمات من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسماعه بعض آيات من كتاب الله عز وجل، قال:
    فوالله ما سمعت قولا قط أحسن، ولا أمرا أعدل منه، قال:
    فأسلمت وشهدت شهادة الحق ثم قال، وهو ليس من لأهل مكة، وإنما دوس قبيلة مشهورة من قبائل اليمن وهي بعيدة عن مكة بمئات الأميال، قال:
    يا نبي الله، إني امرؤ مطاع في قومي، وأنا راجع إليهم، وداعيهم إلى الإسلام.
    أي شيء عرفه الطفيل رضي الله عنه عن الإسلام حتى يدعو قومه إليه؟!
    إنني على يقين أن الكثير من المسلمين لديه من العلم، ومن المعرفة عن الإسلام أكثر مما لدى الطفيل في هذا الوقت، فهو رضي الله عنه لم يسلم إلا منذ دقائق قليلة جدا، نحن قرأنا القرآن كله كثيرا، وعرفنا أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرفنا الصلاة، والصوم، والزكاة، وتفاصيل أخرى كثيرة عن هذا الدين، لم يكن الطفيل رضي الله عنه قد عرفها بعد، لكن هل تحركنا كما تحرك الطفيل لهذا الدين؟
    فارق ضخم، وشاسع بين الطفيل رضي الله عنه بعلمه المحدود في ذلك الوقت، وبين من عنده العلم الكثير لكنه لا يتحرك لهذا الدين.
    الطفيل بن عمرو الدوسي منذ أن شعر بحلاوة هذا الدين، أراد أن ينقله إلى أهله، وإلى أحبابه، وإلى عشيرته، وإلى قومه، وإلى الناس أجمعين، فهو لا يتحمل أن ينفرد بهذا الخير لنفسه فقط، بل لا بد من أن يدعو الآخرين، ويعلمهم، ويفيض عليهم من هذا الخير، ومع أنه لم يسلم إلا منذ دقائق، لكنه أصبح داعية يفقه معنى الدعوة، وحقيقة الدعوة، وقيمة الدعوة، وتعالوا بنا نذهب معه في هذه الرحلة إلى اليمن، لنرى هذه القصة الجميلة في دعوته لأهله وقومه، يقول الطفيل رضي الله عنه: فلما نزلت أتاني أبي، وكان شيخا كبيرا، فقلت: إليك عني أبت، فلست منك، ولست مني.
    قال: ولم أي بني؟!
    قلت: إني أسلمت.
    قال: أي بني فديني دينك.
    فأسلم.
    لا شك أن هذه الطريقة في الدعوة طريقة حادة وقاسية، ولكن على أي حال قد آتت ثمارها في هذا الموقف، ولذا استعمل الطفيل رضي الله عنه نفس الوسيلة مع زوجته يقول:
    ثم أتتني صاحبتي- أي زوجته- فقلت لها مثل ذلك، فأسلمت، وقالت:
    أيخاف عليّ من ذي الشرى- صنم لهم- فقلت: لا، أنا ضامن لذلك.
    إذن فهذه الوسيلة التي يستعملها في الدعوة مع حدتها، وقسوتها نجحت مرتين، فلا بأس إذن- من وجهة نظره رضي الله عنه- لا بأس أن يستعملها مع باقي القوم، ولكن في هذه المرة لم يكتب لوسيلته النجاح، يقول رضي الله عنه: ثم دعوت دوسا فأبطئوا عن الإسلام.
    وظل يدعو الناس بهذه الحدة فلم يسلم أحد، فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة وقال له:
    يا رسول الله، إن دوسا قد عصت، وأبت، فادع الله عليها.
    إن الإيمان وعدمه هو الذي يحدد الرابطة القلبية عند الطفيل رضي الله عنه، فقد كان يحب قومه كثيرا، ويريد أن ينقل إليهم حلاوة هذا الدين، ولذة هذه الدعوة، ولكنهم عندما رفضوا الاستجابة لأمر الله انقطعت الرابطة بينه وبينهم، وأصبح يكرههم في الله عز وجل إلى درجة أنه يطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو عليهم، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده وظن الناس أنه يدعو عليهم، وقيل: هلكت دوس.
    لكن الرسول صلى الله عليه وسلم الرحمة المهداة، والحريص على كل نفس، وعلى كل بشر رآه، أو لم يره، كان أحرص على قوم الطفيل، وعشيرته من الطفيل نفسه، رفع الحبيب صلى الله عليه وسلم يده وقال:</SPAN>
    اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا، وائْتِ بِهِمْ.
    ثم قال للطفيل:
    ارْجِعْ إِلَى قَوْمِكِ فَادْعُهُمْ.
    وقال له كلمة في منتهى الروعة قال له:
    وَارْفُقْ بِهِمْ.</SPAN>
    ويبدو أن الطفيل رضي الله عنه قص على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حدث بينه وبين أبيه، زوجته، وما حدث مع قومه، ووجد النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الطريقة الحادة القاسية لا تجدي في الدعوة، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالرفق، فالرفق بالناس، والرحمة بهم، ومحاولة لإيصال الخير لهم بألطف الطرق، وأيسرها هي الوسيلة المثلى في الدعوة إلى الله عز وجل.
    يقول الطفيل رضي الله عنه وأرضاه:</SPAN>
    فرجعت، فلم أزل بأرض دوس أدعوهم للإسلام، حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
    فقد مرت الأيام، والشهور، والسنين، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، والطفيل رضي الله عنه في اليمن يعلم الناس، ويدعوهم إلى الإسلام،
    ثم هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، يقول الطفيل رضي الله عنه:
    لم أزل بأرض دوس، أدعوها حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ومضى بدر، وأحد، والخندق، ثم قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن أسلم من قومي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر، حتى نزلت المدينة بسبعين، أو ثمانين بيتا من دوس، ثم لحقنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر فأسهم لنا مع المسلمين.
    فهل كان الطفيل رضي الله عنه جالسا في اليمن يضيع الوقت، في حال كان المسلمون يجاهدون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقومون بهذه المعارك الضخمة، إنه كان يقوم بمهمة من أعظم المهمات، إنها مهمة الدعوة إلى الله، وتعليم قبيلة دوس الإيمان والخير، وإذا كان رضي الله عنه قد ذهب إلى المدينة المنورة بمن أسلم معه من قومه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر، أي في السنة السابعة للهجرة، يكون رضي الله عنه قد استمر في دعوته لقومه دوس ما لا يقل عن عشر سنوات.
    دور في منتهى الخطورة وفي منتهى الأهمية، وبعد نجاحه في القيام بهذا الأمر الذي أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل المدينة بمن معه، سبعين، أو ثمانين بيتا، أو عائلة من دوس، فهم ليسوا سبعين أو ثمانين فردا، وإنما هم عائلات.
    وتخيل معي، هذا الكم الهائل من الحسنات التي تكتب في ميزان الطفيل رضي الله عنه وأرضاه، كلما صلى أحدهم صلاة، أو أنفق نفقة، أو جاهد في سبيل الله، أخذ الطفيل مثل أجره، بل لو استشهد أحد منهم في سبيل الله كتب للطفيل رضي الله عنه أجر الشهادة، حقق الطفيل رضي الله عنه هذا الخير العظيم في هذه السنين القليلة بعلمه القليل، فكم من السنين مرت علينا؟
    وكم من العلم نعرف؟
    فهل أدينا زكاة ما نعرف من العلم؟
    هل أدينا زكاة العمر؟
    هل أدينا زكاة الإسلام؟
    هل أدينا زكاة الهداية إلى دين الله عز وجل؟
    هل أدينا زكاة الإيمان بالله عز وجل؟
    كم من الناس عرفنا لهم الإسلام؟
    كم من الناس أوصلنا لهم هذا الدين؟
    كم من الناس جعلناهم يحبون الإسلام؟
    أتدرون من أتى به الطفيل ضمن هؤلاء السبعين عائلة الذين أتى بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
    إنه أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه، فكل ما جاء من الخير العظيم على يد أبي هريرة رضي الله عنه، يكتب في ميزان حسنات الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه وأرضاه، وتخيل كل الأحاديث التي نقلها أبو هريرة رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أكثر من سبعة آلاف حديث، وبعض الأقاويل أنها أكثر من عشرة آلاف حديث نقلها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، انظر إلى هذا الكم الهائل الضخم الذي جاء عن هذا الصحابي العظيم أبي هريرة، كل هذا العلم يكتب في ميزان حسنات الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه وأرضاه، وتخيل أيضا حياة أبي هريرة رضي الله عنه، لو لم يوجه إليه الطفيل رضي الله عنه هذه الدعوة إلى الإسلام، فقد كان يعيش فقيرا معدما في قبيلة بعيدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ماذا كان سيفعل أبو هريرة لو لم تصله هذه الدعوة كان سيعيش- مهما عاش- حياة لا معنى لها، ولا هدف لها، ولا قيمة لها، ثم يموت، ولا يسمع به أحد، ولن ينتفع به أحد، ولن يحفر اسمه في أي صفحة من صفحات التاريخ، لكن بعد أن كلمه الطفيل في أمر الإسلام والإيمان وآمن بالله ورسوله، فلتفتح الآن ليس صفحة واحدة، بل صفحات، وصفحات من التاريخ، افتح صحيح البخاري ومسلم،
    افتح سنن الترمذي، والنسائي، وأبي داود وابن ماجه،
    افتح مسند الإمام أحمد بن حنبل، وموطأ الإمام مالك، ومعجم الطبراني،
    افتح أي كتاب من كتب السيرة، أو من كتب السنة، قلما تجد صفحة تخلو من اسم أبي هريرة، كل هذا في ميزان حسنات الطفيل بن عمرو الدوسي، وما كان كل هذا ليحدث لولا الدعوة إلى الله عز وجل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
    هذه هي الدعوة إلى الله.
    [وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ]
    {فصِّلت:33}.

    ومن ثم لم يترك صحابة النبي صلى الله عليه وسلم الدعوة في أي حال من الأحوال، ولا لأي ظرف من الظروف، بل في حروبهم، ومع أعدائهم لا ينسون قضية الدعوة إلى الله تعالى، ويكونون في حرص تام على دعوة أعدائهم إلى الله تعالى.
    وقد تعلموا هذا النهج الأخلاقي الرفيع من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    انظر ما يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب في خيبر:
    انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُّ عَلَيْهِمْ.</SPAN>
    هذا الكلام في ميدان المعركة ومع من؟
    مع اليهود أشد الناس عداوة للمؤمنين، وبعد خيانات عظيمة من بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة، وما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى الإسلام، ثم يقول صلى الله عليه وسلم:</SPAN>
    فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِي اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ.
    وهي أبل عظيمة جدا كانت تتفاخر بها العرب، فلو أن واحدا فقط أسلم من هذا الحصن العظيم، وبه الآلاف من اليهود لكان خيرا عظيما، وفي رواية: خَيْرٌ لَكَ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ أَوْ غَرَبَتْ.</SPAN>
    شيء في منتهى العظمة، أن يهدي الله بك رجلا واحدا، خير من الدنيا، وما فيها، فما بالك إذا كانوا عشرة، أو عشرين، أو ألفا، أو ملايين؟
    لهذا لم يكن الصحابة رضي الله عنهم يضيعون أي فرصة دون أن يدعوا إلى الله عز وجل.
    الأمثلة كثيرة ويصعب حصرها، وهذا مثل أخير نختم به.


    خالد بن الوليد رضي الله عنه في موقعة اليرموك

    كانت موقعة اليرموك- كما نعرف جميعا- بقيادة خالد بن الوليد، وأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهما، وعن الصحابة أجمعين.
    الجيوش مصطفة على الناحيتن، جيش الرومان، وأمامه جيش المسلمين، تقول الرواية:
    وخرج (جرجه) وهو أحد الأمراء الرومان الكبار من الصف- أي من صف المشركين في ميدان المعركة- واستدعى خالد بن الوليد، وكان من الممكن أن يقول سيدنا خالد، وهو قائد الجيش إن هذه مؤامرة أو مكيدة تدبر له، ويراد منها قتله، ولكنه رضي الله عنه ما كان يتردد على الإطلاق إذا طلب أحد لقاءه أو منازلته في ميدان الحرب، فجاء اليه حتى اختلفت أعناق فرسيهما، وقد أمن كل منهما صاحبه، فقال جرجه:
    يا خالد، أخبرني فاصدقنى، ولا تكذبني، فان الحر لا يكذب، ولا تخادعني، فان الكريم لا يخادع المسترسل بالله، هل أنزل الله على نبيكم سيفا من السماء، فأعطاكه فلا تسله على أحد إلا هزمتهم؟
    سؤال في منتهى الغرابة يقوله هذا القائد الروماني في تعجب شديد، وانتصارات سيدنا خالد رضي الله عنه بالفعل كثيرة جدا، سواء في بلاد فارس، أو بلاد الروم، وبأعداد، وعُدد قليلة على أعداد من المشركين، وعُدد هائلة وضخمة.
    هذا القائد الروماني في استغرابه الشديد يستحلف خالدا أن يصدقه القول، قال خالد: لا.
    قال: فبم سميت سيف الله؟
    ورد عليه سيدنا خالد ردا في منتهى البراعة، وفي منتهى الحكمة، ومنتهى الفقه لقضية الدعوة فقد أحس أن جرجه الروماني هذا يتكلم بلسان غريب عن قومه، وفي قلبه نوع من الميل إلى الإسلام، في قلبه نوع من الشك فيما عليه الرومان من دين، نوع من التفاؤل، نوع من الطموح، والجيوش مصطفة على الناحيتين، جيش الرومان وأمامه جيش المسلمين، فبماذا رد سيدنا خالد رضي الله عنه؟
    قال رضي الله عنه:
    إن الله بعث فينا نبيه، فدعانا، فنفرنا منه، ونأينا عنه جميعا، ثم إن بعضنا صدقه، وتابعه، وبعضنا كذبه، وباعده، فكنت فيمن كذبه، وباعده.
    لماذا يقول سيدنا خالد هذا الكلام؟ ويذكر أنه كان ممن كذب وباعد رسول الله في بداية الأمر؟
    إنه يريد أن يقول لهذا القائد إني كنت مثلك أحارب المسلمين، وأقاتلهم، ولكن هداني الله إلى الإسلام، وربما تكون أنت كذلك، ويكمل خالد رضي الله عنه يقول:
    ثم إن الله أخذ بقلوبنا، ونواصينا، فهدانا به، وبايعناه، فقال لي:
    أَنْتَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ سَلَّهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ.
    ودعا لي بالنصر، فسميت سيف الله، بذلك فأنا من أشد المسلمين على المشركين.
    فقال جرجه: يا خالد إلام تدعون؟
    قال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله والإقرار بما جاء به من عند الله عز وجل.
    قال: فمن لم يجبكم؟
    قال: فالجزية ونمنعهم.
    قال: فإن لم يعطها؟
    قال: نؤذنه بالحرب، ثم نقاتله.
    قال: فما منزلة من يجيبكم، ويدخل في هذا الأمر اليوم؟
    قال: منزلتنا واحدة فيما افترض الله علينا شريفنا، ووضيعنا، وأولنا، وآخرنا.
    قال جرجه: فلمن دخل فيكم اليوم من الأجر مثل ما لكم من الأجر، والذخر؟
    قال: نعم وأفضل.
    قال: وكيف يساويكم وقد سبقتموه؟
    فقال خالد: إنا قبلنا هذا الأمر عنوة، وبايعنا نبينا، وهو حي بين أظهرنا، تأتيه أخبار السماء، ويخبرنا بالكتاب، ويرينا الآيات، وحق لمن رأى ما رأينا، وسمع ما سمعنا أن يسلم ويبايع، وإنكم أنتم لم تروا ما رأينا، ولم تسمعوا ما سمعنا من العجائب، والحجج، فمن دخل في هذا الأمر منكم بحقيقة، ونية كان أفضل منا.
    فقال جرجه: بالله، لقد صدقتني، ولم تخادعني، ولم تآلفني؟
    قال: تالله لقد صدقتك، وإن الله وليّ ما سألت عنه.
    فعند ذلك قلب جرجه الترس- فهو حتى هذه اللحظة على استعداد للقتال ولكنه بعد أن سمع هذا الكلام وبعد أن دعاه خالد إلى الإسلام- قلب الترس ومال مع خالد وقال: علمنى الإسلام، فمال به خالد إلى فسطاطه، فشن عليه قربة من ماء، ثم صلى به ركعتين وحملت الروم مع انقلابه مع خالد، فركب خالد وجرجه معه، فضرب فيهم خالد، وجرجه من لدن ارتفاع النهار إلى جنوح الشمس للغروب، وصلى المسلمون صلاة الظهر، وصلاة العصر إيماء وأصيب جرجه رحمه الله.
    وسبحان الله استشهد رحمه الله، ولم يصل إلا الركعتين اللتين صلاهما عندما أسلم.
    هذه هي الدعوة بمفهوم الصحابة رضي الله عنهم، فليس هناك على الإطلاق ما يمنع من الدعوة، إن إيمان الأفراد أغلى عند الصحابة من كنوز الدنيا كلها، والعدو الكافر الذي يبغضونه ينقلب أحب الناس إلى قلوبهم، إذا آمن بالله تعالى، فهم رضي الله عنهم يحبون الخير لأهل الأرض جميعا، ويعرفون مهمتهم بوضوح تام، وهي تعبيد الناس لرب العالمين، ووظيفتهم استنقاذ الناس من نار الجحيم.
    ماذا لو قاتل جرجه في صفوف الرومان؟
    ماذا لو لم يفرغ له خالد رضي الله عنه من وقته، وجهده، وفكره، ودعوته؟
    ماذا تكون النتيجة؟
    كان سيصبح من قتلى الرومان، مجرد واحد من قتلى الرومان في موقعة اليرموك، وتكون حياته قد انتهت على حرب ضد الإسلام والمسلمين.
    هذا هو الفرق الشاسع بين الدعوة إلى الله تعالى، وبين ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
    ماذا لو فقدت هذه الأمة هذه الصفة النبيلة؛ الدعوة إلى الله عز وجل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
    ماذا لو فقدت الأمة هذه الصفات الرائعة؟
    هذا هو مفهوم الدعوة عند الصحابة، هذا هو فقه الدعوة إلى الله عز وجل وقضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى قدر هذا الفقه كان عمل الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
    لذلك سبق الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم.
    نسأل الله عز وجل أن يجعلنا هداه مهديين، وأن يبصرنا بسنة حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم.













  9. #24
    ~ [ نجم ماسي ] ~
    تاريخ التسجيل
    Jul 2010
    المشاركات
    860

    رد: (ملف)..خير الناااس.الصحب الأطهار رضي الله عنهم

    الصحابة والدعوة


    مقدمة

    الصحابة والدعوة
    مما لا شك فيه أن الدعوة إلى الله عز وجل عملٌ من أشرف الأعمال التي يمكن أن يقوم بها كلُّ مؤمن ومؤمنة.
    يقول الله عز وجل في كتابة الكريم:
    [وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ] {فصِّلت:33} . فمن كل الأقوال التي يمكن أن يقولها الإنسان، ومن كل الكلمات التي يمكن أن ينطق بها بشر، تظل كلمة الدعوة هي أحسن الأقوال، وأحسن الكلمات [وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ] {فصِّلت:33}.
    هذه الكلمة العظيمة (الدعوة) هي وظيفة الأنبياء، والمرسلين، فأنبياء الله سبحانه وتعالى وظيفتهم الأولى هي الدعوة إلى الله عز وجل يقول الله تعالى في كتابه:
    [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ] {إبراهيم:4} .
    فالهداية بيد الله عز وجل، لكن لا بد أن تقام الحجة على العبد، لا بد أن تصل الدعوة إلى العباد، فمن الذي يصل بالدعوة إلى العباد؟
    الأنبياء، وبعد آخر الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، من الذي يصل بالدعوة إلى الناس؟
    إنهم أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، المؤمنون بهذا الدين، المسلمون إسلاما حقيقيا صادقا، هم الذين يتحركون بالدعوة، لقد ختم الأنبياء بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وليس هناك نبي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا بد أن يحمل المؤمنون الصادقون هذه المهمة العظيمة التي كان يحملها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن سبقه من أنبياء الله عز وجل [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ] {إبراهيم:4} .
    ويقول عز وجل:
    [بِالبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ] {النحل:44} .
    والآيات في هذا المعنى كثيرة.
    إن من يبين للناس الحلال والحرام، ومن يعرف الناس بالمعروف، ويأمرهم به، ويبين للناس المنكر، وينهاهم عنه، إن من يفعل ذلك إنما يعمل بعمل الأنبياء والمرسلين.
    لذلك جعل الله عز وجل هذه الصفة، صفة الدعوة، أو صفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، صفة لازمة لمن حمل لقب (مؤمن) فما دمت مؤمنا فلا بد أن تكون داعية إلى الله عز وجل، إذا أردت أن تستكمل صفة الإيمان فلا بد من الدعوة إلى الله.
    يقول الله عز وجل:
    [وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ] {التوبة:71}.
    وذكر الله عز وجل أن أول ما يتصفون به أنهم:
    [يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]
    {التوبة:71} .

    وتستطيع أن تلاحظ أن الله تعالى قدم صفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، مع كونهما ركني الدين العظيمين، فالصلاة كما نعلم هي أعظم أركان الإسلام، وهي عمود الدين، من أقامها فقد أقام الدين، ومن هدمها فقد هدم الدين، ومع هذه المكانة العظيمة للصلاة يقدم الله عز وجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على أمرها.
    كذلك الزكاة ركن من الأركان الإسلام الأساسية، ولكن قدم الأمر بالمعروف والنهي على أمرها أيضا.
    الله عز وجل يريد أن يربي المؤمنين على ألا يعيشوا لأنفسهم فقط، لا يقبل من المؤمن بحال أن يصلي، ويزكي، ويقوم بأعمال فردية، دون أن يدعو غيره إلى الله عز وجل.
    إن الإنسان إذا شعر بعظمة هذه الرسالة أصبح مقتنعا بأهمية نقلها إلى غيره من الناس، فهذه هي الغاية من هذه الرسالة، ومن هذه الأمة.
    ولا يقبل من المؤمن أيضا أن يأخذ هذه الرسالة، ويستوعبها فحسب، بل لا بد بعد هذا الاستيعاب أن ينقل هذه الخير إلى من حوله من الناس سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين.
    ثم لاحظ التعليق الرباني اللطيف الجميل في هذه الآيات:
    [أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ] {التوبة:71}.
    أي أولئك الذين يتصفون بهذه الصفات من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وطاعة الله عز وجل ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم [أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ] {التوبة:71}.
    ولم خصهم الله تعالى بالرحمة؟
    لأنهم رحموا عباد الله عز وجل، فالجزاء من جنس العمل، فهؤلاء لما رأوا الناس يتجهون إلى هاوية سحيقة، ويتجهون إلى النيران، ويتجهون إلى البعد عن الله عز و جل، ويتجهون إلى المعيشة الضنك، لما رأوا هؤلاء يتجهون إلى هذا الطريق ما استراحوا إلا بعد أن وضحوا لهم طريق الدعوة، وطريق الإسلام، طريق الله عز وجل، فقد رحموا عباد الله عز وجل، وأوضحوا لهم الطريق، فلا بد أن يرحمهم الله عز وجل، ويهديهم طريقهم، ويدخلهم الجنة سبحانه وتعالى، والجزاء من جنس العمل.
    ما من شك أن المسلمين جميعا يفقهون قيمة الدعوة إلى الله تعالى، وقيمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكننا في هذه السطور نريد أن نتعرف على نظرة الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم لقضية الدعوة إلى الله عز وجل، قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.


    كيف تكون صحابيا في دعوتك؟

    كيف تكون صحابيا في أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر؟
    وهي بلا شك قضية في غاية الأهمية، لأنه لا يمكن على الإطلاق أن تبنى أمة من دون دعوة، ربما وجد أفراد قلائل وعظماء أيضا، لكن أن تبنى أمة بكاملها من غير دعوة، وأمر بمعروف ونهي عن منكر بين المسلمين أنفسهم وبينهم وبين غيرهم من غير المسلمين، هذا في الواقع أمر مستحيل تماما، لأن الأمة أفراد كثيرة، ومجتمع كبير وهائل من البشر، فلا بد إذن من أن تصل الدعوة إلى الناس جميعا.
    تعالوا بنا نرى كيف كان صحابة النبي صلى الله عليه وسلم يفكرون في قضية الدعوة؟
    وكيف كانت الدعوة هي القضية الأساسية في حياتهم؟
    إنك إذا طالعت سيرة أي صحابي سوف تجد حتما أن الدعوة أحد الأركان الأساسية في حياته، ولن تجد في حياة أي من الصحابة رضي الله عنهم جميعا يوما، أو يومين، أو شهرا، أو شهرين، أو سنة، أو سنتين من دون دعوة، فكل حياتهم موجهة إلى تعليم الآخرين، ودعوتهم إلى الإيمان بالله عز وجل وطاعته، وطاعة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.
    من المستفيد الأول من الدعوة؟
    ومن الأشياء المهمة في نظرة الصحابة إلى الدعوة أنهم كانوا يعرفون من هو المستفيد الأول من الدعوة إلى الله تعالى.
    ترى من هو؟
    هل هو الداعية أم أنه المدعو؟
    في الحقيقة المستفيد الأول من الدعوة هو الداعية نفسه، هذا الرجل الذي يدعو الناس إلى الله هو المستفيد الأول، سواء استجاب الناس له، أو لم يستجيبوا، وسواء سمعوا له حال دعوته لهم، أو لم يسمعوا، فهو مستفيد على كل الأحوال.
    فأنت كما تصلي، وتصوم، وتزكي، وتجاهد في سيل الله، وكما تقوم بأي عمل من أعمال الخير، وتطلب الأجر، والثواب من الله عز وجل، فكذلك الحال بالنسبة للدعوة إلى الله، فأنت عندما تدعو تأخذ الأجر من الله تعالى.
    وإذا كان بإمكانك أن تتخيل حجم الثواب على الصلاة، والزكاة، والحج، والإنفاق في سبيل الله، وقد أخبرنا الله عز وجل في كتابه الكريم وأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم في السنة النبوية بأجر هذه الأعمال، فإنه لا يمكن لعقل أن يتخيل ثواب الدعوة إلى الله عز وجل.
    تعالوا بنا نطالع هذا الحديث، لنرى هذا الحجم الهائل من الحسنات، في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:</SPAN>
    مَنْ دَعَا إِلَى هَدْيٍ كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مَنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا.
    فإذا أردت أن تحصي ما يحصل عليه الداعية من الأجر، سوف تجد كَمّا هائلا من الحسنات.
    فعلى سبيل المثال إذا دعوت إنسانا إلى الصلاة، ولم يكن يصلي مطلقا، وأذن الله بهدايته على يديك، فإن كل الصلوات التي يصليها هذا الرجل، والتي ربما تخفى عليك تماما، هي في ميزان حسناتك، وقد يسافر هذا الرجل الذي علمته الصلاة من بلدك، ولا تراه بعد ذلك، ويعيش ما شاء الله له أن يعيش عشرين سنة، أو خمسين، أو مائة، وتكتب كل صلواته الفرض منها، والنافلة، ما صلاه بالليل، أو النهار يكتب كله في ميزان حسناتك.
    أيضا هذا الرجل إذا علم أولاده الصلاة، فكل صلوات أولاده تكتب في ميزان حسناتك أيضا، وكذا إذا علم جيرانه، وإذا عمل بالدعوة إلى الله في أي مكان، أو أي زمان فكل من يدعوهم في ميزان حسناتك، ولا ينقص من أجورهم شيء.
    ربما تظل هذه الدائرة تتسع حتى بعد موتك بسنين طويلة، بل ربما تظل تكتب لك الحسنات إلى يوم القيامة، وعن طريق أناس لم تعرفهم، ولم ترهم، ولم تعش في زمانهم، كما هو الحال بالنسبة لنا، فالأمة كلها تضيف الحسنات لمن دعوها، وأوصلوا إليها ما هي عليه من الخير، تضيف الحسنات في ميزان الصديق، وعمر، وعثمان، وعلي، وبقية الصحابة، وبقية التابعين، وبقية من حملوا هذه الرسالة، وأوصلوها إلينا.
    كم هو كثير هذا الخير الذي يعود على الإنسان من الدعوة إلى الله عز وجل!
    لأجل هذا كان صحابة النبي صلى الله عليه وسلم يضحون بكل شيء في سبيل الدعوة إلى الله تعالى، يبذلون العرق، والجهد، والمال، والنفس، وكل شيء في سبيل، هذه القضية العظيمة؛ قضية الدعوة إلى الله تعالى لما لها من الأجر العظيم والثواب الجزيل عند الله عز وجل.
    ومن هنا نستطيع أن نفهم جيدا كلام ربنا سبحانه وتعالى:
    [وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ]
    {فصِّلت:33} .

    لا أحد على الإطلاق، فإن الذاكر لله تعالى، والقائم يصلي، وقارئ القرآن، أعمالهم لا شك فاضلة، ولكن تبقى الدعوة إلى الله أفضل، وأعظم، وأعلى قيمة من هذا كله؛ لأن الداعية إلى الله لا يكتفي بهذه الأعمال من ذكر، وصلاة، وقراءة للقرآن، بل يدعو غيره إليها، وهذا فضل عظيم، وكبير.


    عقوبة ترك الدعوة

    وعلى الجانب الآخر فإن ترك أمر الدعوة إلى الله تعالى هو أمر في غاية الخطورة، ليس على العبد فحسب، بل على الأمة كلها.
    روى أحمد في مسنده، والترمذي رحمه الله، وقال: حديث حسن.</SPAN>
    عن حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
    وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ.
    يقسم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو لا يقسم إلا على أمر عظيم، لأننا نصدقه صلى الله عليه وسلم دون أن يقسم، ولكن عليه الصلاة والسلام يريد أن يعمق معنى الأمر بالمعروف في نفوس الصحابة، وفي نفوس الأمة كلها ومن ثم يقول صلى الله عليه وسلم:
    وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ، ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ.</SPAN>
    فإذا وجدت نفسك في أزمات كثيرة، وتدعو الله عز وجل كثيرا، وهو سبحانه لا يستجيب لك، فلتراجع نفسك في أمر الدعوة إلى الله جيدا، فربما يكون تأخير استجابة الدعاء بسبب هذا الأمر.
    في الواقع هذه مشكلة كبيرة، وهي أن كثيرا منا يعبدون الله عز وجل، لكن دون أن يدعو الناس إليه سبحانه وتعالى، ربما يكون جاره بعيدا عن الله، أو زميله في العمل، وربما زوجته، أو أولاده، أو أمه، أو أبوه، أو إخوته، ومع هذا كله لا يشغله كثيرا هذا الأمر.
    فلماذا يعيش الناس إذن؟
    هل يعيشون لأنفسهم فحسب؟
    ما استحق أن يولد من عاش لنفسه فقط.
    صحابة النبي صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يعيشيون لأنفسهم، ولم يكونوا يعيشيون لأولادهم، وأهليهم، وإخوانهم، وعشيرتهم فحسب، بل إنهم كانوا يعيشون لأهل الأرض جميعا، وسنرى تطبيق ذلك عمليا في السطور القادمة.
    روى الإمام أحمد، وابن ماجه، وابن حبان، وحسنه الألباني عن عائشة قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرفت في وجهه أن قد حفزه شيء- أي أنه صلى الله عليه وسلم قد همه شيء- فتوضأ، ثم خرج، فلم يكلم أحدا، فدنوت من الحجرات، فسمعته يقول:</SPAN>
    يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: مُرُوا بِالْمَعْرَوفِ وْانْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ مِنْ قَبْلَ أَنْ تَدْعُونِي فَلَا أُجِيبُكُمْ، وَتَسْأَلُونِي فَلَا أُعْطِيكُم وَتَسْتَنْصِرُونِي فَلَا أَنْصُرُكُمْ.
    أليس من الجائز أن يكون السبب في الانهيار الذي نرى عليه الأمة الإسلامية هو التقصير الكبير في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؟
    أليس من الجائز أن يكون تأخير النصر عن الأمة، وما تتعرض له من أزمات طاحنة، ومشكلات كبيرة، إنما هو بسبب إهمالها في قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
    ربما كنا نعمل وفي مرحلة إعداد، ولكن عندنا قصور في هذا الجانب، وهذا من الممكن أن يؤخر الأمة كلها، بل إنه من الممكن أن يكون سببا في استئصال أمة كاملة.
    ترى ما هي أول مشكلة وقع فيها بنو إسرائيل؟
    ألم يكن بينهم مؤمنون؟
    في الواقع كان في بني إسرائيل مؤمنون، ولكنهم لم يقوموا بواجبهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكانت الهلكة لهم، لنرى وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم لبني إسرائيل وكيف كان سقوطهم وهلاكهم:
    روى أبو داود، والترمذي، وابن ماجه عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:</SPAN>
    إِنَّ أَوَّلَ مَا دَخَلَ النَّقْصُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولَ: يَا هَذَا اتَّقِ اللَّهَ وَدَعْ مَا تَصْنَعُ، فِإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَكَ. ثُمَّ يَلْقَاهُ مِنَ الْغَدِ فَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وَقَعِيدَهُ.
    أي يجده على نفس المعصية التي نهاه عنها ولا يؤثر ذلك على العلاقة بينهما، وتنسى قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
    فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ.</SPAN>
    ثم قال:
    [لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ(78)كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ(79)تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي العَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ(80)وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ]
    {المائدة:78: 81} .

    ثم قال:</SPAN>
    كَلَا وَاللَّهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدِي الظَّالِمِ، وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا، وَلَتَقْصُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ قَصْرًا، أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللَّهُ بِقُلُوبِ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ، ثُمَّ لَيَلْعَنَنِّكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ.
    إننا أمة الإسلام لا نملك كرامات معينة من عرق، أو نسب، وخيريتنا إنما هي لأسباب معروفة، ولصفات معروفة، ولنهج معروف، أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نسير عليه، ولو خالفناه، أو قصرنا فيه، فما من شك أن يحدث لنا ما حدث لبني إسرائيل، وغيرهم من الهلاك.
    إننا لسنا قريبين من الله لأجل أننا من جنس العرب، أو لأننا من أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم اسما فقط، لا، بل لا بد من العمل، ولا بد أن أن نتصف بالصفات التي ذكرها الله عز وجل في كتابه الكريم موضحا لنا السبب الذي لأجله كانت هذه الأمة هي خير أمة أخرجت للناس، فلو لم تتبع الأمة أمر ربها كان اللعن، والطرد كما حدث مع بني إسرائيل.
    أمة الإسلام أمة باقية إلى يوم القيامة، ولن تهلك بكاملها على الإطلاق لأجل الرسالة الباقية التي تحملها إلى الخلق أجمعين، لكن من الممكن أن تستبدل، نعم يستبدل الله عز وجل الجيل الفاسد الذي لا يأمر بمعروف، ولا ينهى عن منكر بجيل صالح يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويقوم بأمر الله عز وجل [وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ] {محمد:38} .
    فالأمة التي لا تستوفي شروط الخيرية تستبدل بأمة أخرى غيرها، فكم من الأمم الإسلامية السابقة قد استبدلها الله بغيرها، دول إسلامية سقطت، وأخرى قامت قياما تحافظ فيه على شروط الخيرية التي ذكرها الله عز وجل في كتابه الكريم بقوله:
    [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ]
    {آل عمران:110}.

    ومع أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جزء من الإيمان بالله، إلا أن الله عز وجل قدمهما لبيان أهميتهما، وعظم أمرهما، وأن المؤمن، وإن كان من أصحاب الأعمال الكثيرة الصالحة، لكنه لا يلزم هذين الأمرين، فلن يكون في الأمة خيرية، ولن تتصف الأمة بهذه الصفة العظيمة.
    إن من أهم مهام هذه الأمة إصلاح الأوضاع على وجه الأرض كلها، ليس في بلاد المسلمين فحسب، بل تعليم الناس جميعا في كل مكان في الأرض، ولتعلم يقينا أن عليك واجبا لمن يعيشون في الصين، وفي روسيا، وفي أوربا، وفي أمريكا، وفي استراليا، وفي بريطانيا، ولمن يعيشون في الجزر النائية في المحيطات البعيدة، عليك أن تبلغهم هذه الرسالة العظيمة، وأن تعلمهم، وأن تصبر على آذاهم، ويحاربونك، وتظل تعلمهم، وتدعوهم، ويرفضون، وتظل تعلمهم، وتدعوهم، وأنت بهذا لا تتفضل عليهم، وإنما هو واجبك تجاههم.
    هذه هي خيرية هذه الأمة، وإذا كنت لا تريد أن تكون من خير الأمم فلا عليك، شرط أن تتخلى عن القول بأنك من خير أمة أخرجت للناس مع تركك لأمر الدعوة إلى الله.
    الأمر في غاية الخطورة، يقول أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه كما في البخاري:
    خير الناس للناس- يصف رضي الله عنه أمة الإسلام- تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام.
    ويقصد أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه بكلامه هذا الفتوحات الإسلامية، التي كانت مهمتها الأولى هي تعليم الناس الخير، ودعوتهم إلى الله عز وجل، ودخل كثير من الناس الإسلام، وهم كارهون في البداية لأمر هذه الجيوش الإسلامية التى دخلت بلادهم، وربما دخل بعضهم الإسلام؛ لأنه الدين العظيم والمهيمن على الأرض في ذلك الوقت، وله دولة قوية قاهرة، ولكنهم عرفوا بعد ذلك عظمة هذا الدين، وحسن إسلامهم، وأصبحوا من أهل الجنة، وكان من الممكن أن يكونوا من أهل النار لو ظلوا يعبدون النار طوال حياتهم، أو يعبدون المسيح، أو الشجر، أو الحشرات كما كان يحدث في الهند، فقد عبد الناس كل شيء إلا الله عز وجل، فكان من واجب المسلمين أن يعلموهم وأن يبلغوهم رسالة الله، وبعد أن كانوا كارهين أصبحوا من أهل الجنة، وهذا خير عظيم.
    فهذه هي مهمة الأمة المسلمة أن تعلم الناس جميعا الخير، وهذا هو سبب خيريتها، فهي أمة لا تقيم العدل في إطار دولتها فقط، أو في إطار حدودها فحسب، وتترك العالم من حولها يظلم كما يريد، ويسرق كما يحب، ويعصي الله عز وجل حسب ما يرى هواه.
    روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:</SPAN>
    عَجِبَ اللَّهُ مِنْ قَوْمٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ فِي السَّلَاسِلِ.
    وهؤلاء هم من جاءوا بلاد المسلمين، وهم أسرى مع المسلمين العائدين من المعارك والفتوحات الإسلامية، فلما عرفوا حقيقة الإسلام وأحبوه دخلوا فيه، وحسن إسلامهم فصاروا من أهل الجنة مع أنهم كانوا لا يريدون، لكن أمة الإسلام الآمرة بالمعروف، والناهية عن المنكر كانت هي السبب في دخولهم الجنة، وهذا فضل كبير وعظيم.
    ولأجل هذا [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ] {آل عمران:110}.
    الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم كانوا يفهمون هذه الحقائق جيدا ويعرفون ما الذي يمكن أن يحدث لو لم يكن هناك أمر بالمعروف ونهي عن المنكر.
    حديث رائع ومثل عظيم يضربه النبي صلى الله عليه وسلم يوضح هذا الأمر جيدا:
    روى البخاري عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:</SPAN>
    مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ، وَالْوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا، وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا، وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا. فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ، وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا، وَنَجَوْا جَمِيعًا.
    فالسفينة كلها ستنجو بلا شك بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا ما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمه لصحابته رضي الله عنهم جميعا ولأمته كلها.
    وقد استوعب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الأمر جيدا، وتحركوا به في حياتهم، وتولد عن هذه المشاعر التي دخلت في نفوس الصحابة إحساس عميق بالمسئولية الكبيرة في تبيلغ هذه الرسالة العظيمة، وأنه ما دمت مؤمنا فلا بد أن تدعو غيرك إلى الخير، تدعو غيرك إلى الإسلام، إلى الله عز وجل، ليس لأجل تكثير الحسنات، وتثقيل الميزان، وإن كان هذا مهما، ولكن لأن هذه وظيفة إجبارية على كل مؤمن، فكما أن الإنسان لا يكون مؤمنا إذا امتنع عن الصلاة، أو الزكاة، فكذلك الحال، فما دمت مؤمنا لا بد من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
    وبغير الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر يفسد الأفراد، وتفسد الأمة، بل تفسد الأرض كلها، ولأجل هذا كانت الفتوحات الإسلامية التي انسابت في الأرض كلها شمالا، وجنوبا، شرقا، وغربا، فتوح فارس، والروم، وشمال أفريقيا، وفتوح الأندلس، وفتوح الهند.
    كل البلاد التي فتحت بالإسلام كان الهدف الأساسي من الفتح هو تعليم الناس دينهم، وكان الصحابة رضي الله عنهم يرون هذا الأمر أحد واجباتهم الأساسية، وليس من نوافل الأعمال.
    ربعي بن عامر رضي الله عنه، لنتدبر كلامه رضي الله عنه وأرضاه وهو من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم الذين فتحوا بلاد فارس.
    ماذا قال هذا الصحابي الجليل عندما دخل على رستم قائد الفرس؟
    هذا القائد اسمه هكذا (رَسْتَمْ) وليس (رُسْتُم) كما هو مشهور بين الناس، وهو اسم فارسي.
    لما قال لسيدنا ربعي بن عامر رضي الله عنه:
    ما جاء بكم؟
    قال له ربعي رضي الله عنه بفهمه الدقيق العميق لمهمة المسلم في الحياة:
    لقد ابتعثنا الله.
    تدبر كلامه رضي الله عنه، فإن البعث لا يكون إلا للأنبياء، والمرسلين، وقد ختموا بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فتحملت الأمة هذه المسئولية إلى يوم القيامة، وأصبح أفراد هذه الأمة مبعوثين كالأنبياء، والمرسلين لتعليم الناس ودعوتهم إلى الله عز وجل.
    يقول رضي الله عنه:
    لقد ابتعثنا الله لنخرج العباد.
    كل العباد في مشارق الأرض ومغاربها على اختلاف الأزمنة، والأمكنة مسئولية في رقبة كل المسلمين.
    لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.
    ومن المعروف أن أهل فارس لم يكونوا يعبدون كسرى، كما أن أهل الروم لم يكونوا يعبدون قيصر، لكن هؤلاء الزعماء كسرى وقيصر، ومن على شاكلتهم كانوا يشرعون لأقوامهم، وشعوبهم، ويضعون لهم القوانين المخالفة لما أمر الله عز وجل به، وباتباع هذه الشعوب لهذا التشريع كأنهم يعبدونهم، فلما جاء الإسلام أمر الله المسلمين أن يذهبوا إلى هؤلاء ليعلموهم أن الأمر والحكم لله عز وجل، وأن الناس جميعا لا بد، وأن يسيروا على منهج الله عز وجل، ولا يخالفوا أمره، وأن يبتعدوا عن كل ما نهى الله عز وجل عنه، وهذه هي العبادة الحقيقية، فالمسلمون لهم مهمة في منتهى الوضوح:
    لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.
    سواء كانت هذه العبادة حسية، أو كانت طاعة مخالفة لما أمر الله عز وجل به.
    ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.
    هذه هي مهمة الأمة المسلمة، التي فهمها الصحابي الجليل ربعي بن عامر، وفهمها كل صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الفهم هو ما نريده أن نصل به إلى كل مسلم.
    لا يأس مع الدعوة
    شيء آخر من الأهمية بمكان في قضية الدعوة عند الصحابة رضوان الله عليهم:
    اليأس لم يتطرق على الإطلاق إلى قلب أحد من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم في قضية الدعوة، إذا دعوت إنسانا إلى الله مرة، واثنتين، وثلاثة، وعشرين، ومائة، ولم يستجب، فلا تيأس لأنه لا يوجد في قضية الأجر على الدعوة ما يسمى بالجهد الضائع، ولا يصح أن يقال أن فلانا بعينه لا رجاء فيه ولن يهتد أبدا.
    لماذا؟
    لأن القلوب بين أصابع الرحمن سبحانه وتعالى يقلبها كيف يشاء، وأجرك كداع إلى الله لن يضيع منه شيء، سواء استجاب المدعو، أو لم يستجب، أجرك واقع على الله عز وجل.
    [إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالمُهْتَدِينَ]
    {القصص:56}.

    إذن فكل الناس يدعون إلى الله عز وجل، ندعو المسلمين البعيدين عن طريق الله ندعوهم إلى الله عز وجل، ندعو اليهود والنصارى والمجوس والمشركين والهنود وكل الناس ندعوهم إلى الله عز وجل، هذه هي مهمة المسلمين الأساسية.
    لنرى كيف كان صحابة النبي صلى الله عليه وسلم يتعاملون مع قضية الدعوة، ونقتدي بهم.


    أبو بكر الصديق رضي الله عنه والدعوة إلى الله

    كانت حياة الصديق رضي الله عنه وأرضاه كلها قائمة على قضية الدعوة، فمن أول يوم آمن فيه الصديق، وهو يتحرك لهذا الدين، ولهذه الدعوة، منذ أن شعر بحلاوة هذا الدين أراد أن ينقل هذا الإحساس إلى كل الناس، ومع أن عمره رضي الله عنه في الإسلام لم يتجاوز ساعات قليلة، إلا أنه كانت لديه حمية عظيمة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتحرك رضي الله عنه ليأتي بعثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الرحمن بن عوف، هؤلاء الخمسة من أعاظم الصحابة والمسلمين والمجاهدين، هؤلاء هم من حملوا على أكتافهم أمانة الرسالة وأمانة الدعوة، وأمانة التبليغ، هؤلاء هم من علموا أهل الأرض جميعا الإسلام.
    جاء بهم الصديق رضي الله عنه وأرضاه في أول يوم، وفي اليوم الثاني جاء بأبي عبيدة بن الجراح، وعثمان بن مظعون، والأرقم بن أبي الأرقم، وأبي سلمة بن عبد الأسد.
    أي جهد هذا وأي بذل هذا وأي خير هذا!
    إن كل ما يفعله هؤلاء من الخير يأخذ الصديق رضي الله عنه مثل أجورهم، عندما يتبرع عثمان بن عفان بتجهيز جيش العسرة يأخذ الصديق رضي الله عنه مثل أجره، عندما يبني عثمان رضي الله عنه مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ الصديق رضي الله عنه مثل أجره، عندما يشتري بئر رومة من حر ماله يأخذ الصديق رضي الله عنه مثل أجره، كَمّ من الحسنات لا يمكن تخيله بحال من الأحوال.
    عندما يخرج الزبير بن العوام رضي الله عنه مجاهدا في سبيل الله محاربا ومدافعا عن دين الله في شمال مصر، وفي الشام وفي العراق، وهنا، وهناك يأخذ الصديق رضي الله عنه مثل أجره، عندما يربي ابنه عبد الله بن الزبير على الخير يأخذ الصديق رضي الله عنه مثل أجره، عندما يربي ابنه عروة بن الزبير على الخير يأخذ الصديق رضي الله عنه مثل أجره، وأي أمر من أمور الخير يفعله الزبير بن العوام رضي الله عنه يأخذ الصديق رضي الله عنه مثل أجره.
    وتخيل معي أسماء من ذكرناهم قريبا، وما لهم من الأعمال العظيمة، والتي يأخذ الصديق رضي الله عنه مثل أجورهم عليها، ومع هذا كله أنفق ماله كله أيضا على الدعوة إلى الله، فقد أعتق عبيدا كثيرين من ماله، وكما أن هواية بعض الناس جمع الطوابع، أو التحف، كانت هواية الصديق رضي الله عنه وأرضاه هي جمع المؤمنين، كان رضي الله عنه وأرضاه يفهم جيدا طبيعة الدنيا، ويفهم رسالته في الحياة:
    ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.
    يرى بلال بن رباح يعبد غير الله، فيذهب إليه سريعا، ويدعوه إلى عبادة الله، ويؤمن بلال، ويعذب في سبيل الله، ويدفع أبو بكر ماله ليعتقه، ويستنقذه من العذاب، لا يرجو منه جزاء ولا شكورا، إلا مرضاة الله عز وجل.
    أعتق رضي الله عنه عامر بن فهيرة، وأدخله في الإسلام، الزنيرة، وابنة الزنيرة، وكثير من المعذبين، والمعذبات من الصحابة، والصحابيات في أرض مكة، أدخلهم رضي الله عنه في دين الإسلام، وأعتقهم، أي خير هذا وأي عظمة هذه!
    إنها الدعوة إلى الله عز وجل، أدخل الصديق رضي الله عنه وأرضاه عائلته كلها في الإسلام، أم رومان زوجته رضي الله عنها، أولاده أسماء، وعبد الله، أما السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها فقد ولدت في الإسلام، ثم دخلت أمه في الإسلام، ثم أكبر أبنائه عبد الرحمن، ثم دخل أبوه في الإسلام رضي الله عنهم وأرضاهم جميعا، خير عظيم، وأجر ضخم، وكبير في ميزان الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
    لأجل هذا لو وزنت إيمان الصديق بأي إيمان لا بد أن يرجح إيمان الصديق، بل لو وزنت إيمان الصديق بإيمان الأمة لرجح إيمان الصديق.
    لماذا؟
    لأن الأمة عندما تعمل إنما تضيف لحسنات الصديق، وأي مسلم يعمل خيرا إنما يعمل عن طريق دعوة الصديق رضي الله عنه في بداية الدعوة، فلو قمت فصليت ركعتين يأخذ الصديق رضي الله عنه مثل أجرك، لو أنفقت شيئا في سبيل الله يأخذ الصديق رضي الله عنه مثل أجرك، لو أن إنسانا جاهد في فلسطين، أو العراق، أو الشيشان، يأخذ الصديق رضي الله عنه مثل أجره، لو كتب عالم كتابا ينتفع الناس به، أو ألقى محاضرة وتناقلها الناس عبر شرائط الكاسيت، أو الفيديو، أو عبر الإنترنت، يأخذ الصديق رضي الله عنه مثل أجره.
    هل تخيلت معي هذا الحجم الهائل الضخم الكبير من الحسنات؟
    هذه هي الدعوة إلى الله، وهذا هو الصديق، وهؤلاء هم صحابة النبي صلى الله عليه وسلم.


    الطفيل بن عمرو الدوسي والدعوة إلى الله

    بعدما أسلم، وقصة إسلامه من القصص الجميلة الرائعة لا يتسع المجال لذكرها، لكنه بعد أن أسلم بسماعه بعض الكلمات من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسماعه بعض آيات من كتاب الله عز وجل، قال:
    فوالله ما سمعت قولا قط أحسن، ولا أمرا أعدل منه، قال:
    فأسلمت وشهدت شهادة الحق ثم قال، وهو ليس من لأهل مكة، وإنما دوس قبيلة مشهورة من قبائل اليمن وهي بعيدة عن مكة بمئات الأميال، قال:
    يا نبي الله، إني امرؤ مطاع في قومي، وأنا راجع إليهم، وداعيهم إلى الإسلام.
    أي شيء عرفه الطفيل رضي الله عنه عن الإسلام حتى يدعو قومه إليه؟!
    إنني على يقين أن الكثير من المسلمين لديه من العلم، ومن المعرفة عن الإسلام أكثر مما لدى الطفيل في هذا الوقت، فهو رضي الله عنه لم يسلم إلا منذ دقائق قليلة جدا، نحن قرأنا القرآن كله كثيرا، وعرفنا أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرفنا الصلاة، والصوم، والزكاة، وتفاصيل أخرى كثيرة عن هذا الدين، لم يكن الطفيل رضي الله عنه قد عرفها بعد، لكن هل تحركنا كما تحرك الطفيل لهذا الدين؟
    فارق ضخم، وشاسع بين الطفيل رضي الله عنه بعلمه المحدود في ذلك الوقت، وبين من عنده العلم الكثير لكنه لا يتحرك لهذا الدين.
    الطفيل بن عمرو الدوسي منذ أن شعر بحلاوة هذا الدين، أراد أن ينقله إلى أهله، وإلى أحبابه، وإلى عشيرته، وإلى قومه، وإلى الناس أجمعين، فهو لا يتحمل أن ينفرد بهذا الخير لنفسه فقط، بل لا بد من أن يدعو الآخرين، ويعلمهم، ويفيض عليهم من هذا الخير، ومع أنه لم يسلم إلا منذ دقائق، لكنه أصبح داعية يفقه معنى الدعوة، وحقيقة الدعوة، وقيمة الدعوة، وتعالوا بنا نذهب معه في هذه الرحلة إلى اليمن، لنرى هذه القصة الجميلة في دعوته لأهله وقومه، يقول الطفيل رضي الله عنه: فلما نزلت أتاني أبي، وكان شيخا كبيرا، فقلت: إليك عني أبت، فلست منك، ولست مني.
    قال: ولم أي بني؟!
    قلت: إني أسلمت.
    قال: أي بني فديني دينك.
    فأسلم.
    لا شك أن هذه الطريقة في الدعوة طريقة حادة وقاسية، ولكن على أي حال قد آتت ثمارها في هذا الموقف، ولذا استعمل الطفيل رضي الله عنه نفس الوسيلة مع زوجته يقول:
    ثم أتتني صاحبتي- أي زوجته- فقلت لها مثل ذلك، فأسلمت، وقالت:
    أيخاف عليّ من ذي الشرى- صنم لهم- فقلت: لا، أنا ضامن لذلك.
    إذن فهذه الوسيلة التي يستعملها في الدعوة مع حدتها، وقسوتها نجحت مرتين، فلا بأس إذن- من وجهة نظره رضي الله عنه- لا بأس أن يستعملها مع باقي القوم، ولكن في هذه المرة لم يكتب لوسيلته النجاح، يقول رضي الله عنه: ثم دعوت دوسا فأبطئوا عن الإسلام.
    وظل يدعو الناس بهذه الحدة فلم يسلم أحد، فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة وقال له:
    يا رسول الله، إن دوسا قد عصت، وأبت، فادع الله عليها.
    إن الإيمان وعدمه هو الذي يحدد الرابطة القلبية عند الطفيل رضي الله عنه، فقد كان يحب قومه كثيرا، ويريد أن ينقل إليهم حلاوة هذا الدين، ولذة هذه الدعوة، ولكنهم عندما رفضوا الاستجابة لأمر الله انقطعت الرابطة بينه وبينهم، وأصبح يكرههم في الله عز وجل إلى درجة أنه يطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو عليهم، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده وظن الناس أنه يدعو عليهم، وقيل: هلكت دوس.
    لكن الرسول صلى الله عليه وسلم الرحمة المهداة، والحريص على كل نفس، وعلى كل بشر رآه، أو لم يره، كان أحرص على قوم الطفيل، وعشيرته من الطفيل نفسه، رفع الحبيب صلى الله عليه وسلم يده وقال:</SPAN>
    اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا، وائْتِ بِهِمْ.
    ثم قال للطفيل:
    ارْجِعْ إِلَى قَوْمِكِ فَادْعُهُمْ.
    وقال له كلمة في منتهى الروعة قال له:
    وَارْفُقْ بِهِمْ.</SPAN>
    ويبدو أن الطفيل رضي الله عنه قص على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حدث بينه وبين أبيه، زوجته، وما حدث مع قومه، ووجد النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الطريقة الحادة القاسية لا تجدي في الدعوة، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالرفق، فالرفق بالناس، والرحمة بهم، ومحاولة لإيصال الخير لهم بألطف الطرق، وأيسرها هي الوسيلة المثلى في الدعوة إلى الله عز وجل.
    يقول الطفيل رضي الله عنه وأرضاه:</SPAN>
    فرجعت، فلم أزل بأرض دوس أدعوهم للإسلام، حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
    فقد مرت الأيام، والشهور، والسنين، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، والطفيل رضي الله عنه في اليمن يعلم الناس، ويدعوهم إلى الإسلام،
    ثم هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، يقول الطفيل رضي الله عنه:
    لم أزل بأرض دوس، أدعوها حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ومضى بدر، وأحد، والخندق، ثم قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن أسلم من قومي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر، حتى نزلت المدينة بسبعين، أو ثمانين بيتا من دوس، ثم لحقنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر فأسهم لنا مع المسلمين.
    فهل كان الطفيل رضي الله عنه جالسا في اليمن يضيع الوقت، في حال كان المسلمون يجاهدون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقومون بهذه المعارك الضخمة، إنه كان يقوم بمهمة من أعظم المهمات، إنها مهمة الدعوة إلى الله، وتعليم قبيلة دوس الإيمان والخير، وإذا كان رضي الله عنه قد ذهب إلى المدينة المنورة بمن أسلم معه من قومه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر، أي في السنة السابعة للهجرة، يكون رضي الله عنه قد استمر في دعوته لقومه دوس ما لا يقل عن عشر سنوات.
    دور في منتهى الخطورة وفي منتهى الأهمية، وبعد نجاحه في القيام بهذا الأمر الذي أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل المدينة بمن معه، سبعين، أو ثمانين بيتا، أو عائلة من دوس، فهم ليسوا سبعين أو ثمانين فردا، وإنما هم عائلات.
    وتخيل معي، هذا الكم الهائل من الحسنات التي تكتب في ميزان الطفيل رضي الله عنه وأرضاه، كلما صلى أحدهم صلاة، أو أنفق نفقة، أو جاهد في سبيل الله، أخذ الطفيل مثل أجره، بل لو استشهد أحد منهم في سبيل الله كتب للطفيل رضي الله عنه أجر الشهادة، حقق الطفيل رضي الله عنه هذا الخير العظيم في هذه السنين القليلة بعلمه القليل، فكم من السنين مرت علينا؟
    وكم من العلم نعرف؟
    فهل أدينا زكاة ما نعرف من العلم؟
    هل أدينا زكاة العمر؟
    هل أدينا زكاة الإسلام؟
    هل أدينا زكاة الهداية إلى دين الله عز وجل؟
    هل أدينا زكاة الإيمان بالله عز وجل؟
    كم من الناس عرفنا لهم الإسلام؟
    كم من الناس أوصلنا لهم هذا الدين؟
    كم من الناس جعلناهم يحبون الإسلام؟
    أتدرون من أتى به الطفيل ضمن هؤلاء السبعين عائلة الذين أتى بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
    إنه أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه، فكل ما جاء من الخير العظيم على يد أبي هريرة رضي الله عنه، يكتب في ميزان حسنات الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه وأرضاه، وتخيل كل الأحاديث التي نقلها أبو هريرة رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أكثر من سبعة آلاف حديث، وبعض الأقاويل أنها أكثر من عشرة آلاف حديث نقلها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، انظر إلى هذا الكم الهائل الضخم الذي جاء عن هذا الصحابي العظيم أبي هريرة، كل هذا العلم يكتب في ميزان حسنات الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه وأرضاه، وتخيل أيضا حياة أبي هريرة رضي الله عنه، لو لم يوجه إليه الطفيل رضي الله عنه هذه الدعوة إلى الإسلام، فقد كان يعيش فقيرا معدما في قبيلة بعيدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ماذا كان سيفعل أبو هريرة لو لم تصله هذه الدعوة كان سيعيش- مهما عاش- حياة لا معنى لها، ولا هدف لها، ولا قيمة لها، ثم يموت، ولا يسمع به أحد، ولن ينتفع به أحد، ولن يحفر اسمه في أي صفحة من صفحات التاريخ، لكن بعد أن كلمه الطفيل في أمر الإسلام والإيمان وآمن بالله ورسوله، فلتفتح الآن ليس صفحة واحدة، بل صفحات، وصفحات من التاريخ، افتح صحيح البخاري ومسلم،
    افتح سنن الترمذي، والنسائي، وأبي داود وابن ماجه،
    افتح مسند الإمام أحمد بن حنبل، وموطأ الإمام مالك، ومعجم الطبراني،
    افتح أي كتاب من كتب السيرة، أو من كتب السنة، قلما تجد صفحة تخلو من اسم أبي هريرة، كل هذا في ميزان حسنات الطفيل بن عمرو الدوسي، وما كان كل هذا ليحدث لولا الدعوة إلى الله عز وجل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
    هذه هي الدعوة إلى الله.
    [وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ]
    {فصِّلت:33}.

    ومن ثم لم يترك صحابة النبي صلى الله عليه وسلم الدعوة في أي حال من الأحوال، ولا لأي ظرف من الظروف، بل في حروبهم، ومع أعدائهم لا ينسون قضية الدعوة إلى الله تعالى، ويكونون في حرص تام على دعوة أعدائهم إلى الله تعالى.
    وقد تعلموا هذا النهج الأخلاقي الرفيع من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    انظر ما يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب في خيبر:
    انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُّ عَلَيْهِمْ.</SPAN>
    هذا الكلام في ميدان المعركة ومع من؟
    مع اليهود أشد الناس عداوة للمؤمنين، وبعد خيانات عظيمة من بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة، وما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى الإسلام، ثم يقول صلى الله عليه وسلم:</SPAN>
    فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِي اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ.
    وهي أبل عظيمة جدا كانت تتفاخر بها العرب، فلو أن واحدا فقط أسلم من هذا الحصن العظيم، وبه الآلاف من اليهود لكان خيرا عظيما، وفي رواية: خَيْرٌ لَكَ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ أَوْ غَرَبَتْ.</SPAN>
    شيء في منتهى العظمة، أن يهدي الله بك رجلا واحدا، خير من الدنيا، وما فيها، فما بالك إذا كانوا عشرة، أو عشرين، أو ألفا، أو ملايين؟
    لهذا لم يكن الصحابة رضي الله عنهم يضيعون أي فرصة دون أن يدعوا إلى الله عز وجل.
    الأمثلة كثيرة ويصعب حصرها، وهذا مثل أخير نختم به.


    خالد بن الوليد رضي الله عنه في موقعة اليرموك

    كانت موقعة اليرموك- كما نعرف جميعا- بقيادة خالد بن الوليد، وأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهما، وعن الصحابة أجمعين.
    الجيوش مصطفة على الناحيتن، جيش الرومان، وأمامه جيش المسلمين، تقول الرواية:
    وخرج (جرجه) وهو أحد الأمراء الرومان الكبار من الصف- أي من صف المشركين في ميدان المعركة- واستدعى خالد بن الوليد، وكان من الممكن أن يقول سيدنا خالد، وهو قائد الجيش إن هذه مؤامرة أو مكيدة تدبر له، ويراد منها قتله، ولكنه رضي الله عنه ما كان يتردد على الإطلاق إذا طلب أحد لقاءه أو منازلته في ميدان الحرب، فجاء اليه حتى اختلفت أعناق فرسيهما، وقد أمن كل منهما صاحبه، فقال جرجه:
    يا خالد، أخبرني فاصدقنى، ولا تكذبني، فان الحر لا يكذب، ولا تخادعني، فان الكريم لا يخادع المسترسل بالله، هل أنزل الله على نبيكم سيفا من السماء، فأعطاكه فلا تسله على أحد إلا هزمتهم؟
    سؤال في منتهى الغرابة يقوله هذا القائد الروماني في تعجب شديد، وانتصارات سيدنا خالد رضي الله عنه بالفعل كثيرة جدا، سواء في بلاد فارس، أو بلاد الروم، وبأعداد، وعُدد قليلة على أعداد من المشركين، وعُدد هائلة وضخمة.
    هذا القائد الروماني في استغرابه الشديد يستحلف خالدا أن يصدقه القول، قال خالد: لا.
    قال: فبم سميت سيف الله؟
    ورد عليه سيدنا خالد ردا في منتهى البراعة، وفي منتهى الحكمة، ومنتهى الفقه لقضية الدعوة فقد أحس أن جرجه الروماني هذا يتكلم بلسان غريب عن قومه، وفي قلبه نوع من الميل إلى الإسلام، في قلبه نوع من الشك فيما عليه الرومان من دين، نوع من التفاؤل، نوع من الطموح، والجيوش مصطفة على الناحيتين، جيش الرومان وأمامه جيش المسلمين، فبماذا رد سيدنا خالد رضي الله عنه؟
    قال رضي الله عنه:
    إن الله بعث فينا نبيه، فدعانا، فنفرنا منه، ونأينا عنه جميعا، ثم إن بعضنا صدقه، وتابعه، وبعضنا كذبه، وباعده، فكنت فيمن كذبه، وباعده.
    لماذا يقول سيدنا خالد هذا الكلام؟ ويذكر أنه كان ممن كذب وباعد رسول الله في بداية الأمر؟
    إنه يريد أن يقول لهذا القائد إني كنت مثلك أحارب المسلمين، وأقاتلهم، ولكن هداني الله إلى الإسلام، وربما تكون أنت كذلك، ويكمل خالد رضي الله عنه يقول:
    ثم إن الله أخذ بقلوبنا، ونواصينا، فهدانا به، وبايعناه، فقال لي:
    أَنْتَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ سَلَّهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ.
    ودعا لي بالنصر، فسميت سيف الله، بذلك فأنا من أشد المسلمين على المشركين.
    فقال جرجه: يا خالد إلام تدعون؟
    قال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله والإقرار بما جاء به من عند الله عز وجل.
    قال: فمن لم يجبكم؟
    قال: فالجزية ونمنعهم.
    قال: فإن لم يعطها؟
    قال: نؤذنه بالحرب، ثم نقاتله.
    قال: فما منزلة من يجيبكم، ويدخل في هذا الأمر اليوم؟
    قال: منزلتنا واحدة فيما افترض الله علينا شريفنا، ووضيعنا، وأولنا، وآخرنا.
    قال جرجه: فلمن دخل فيكم اليوم من الأجر مثل ما لكم من الأجر، والذخر؟
    قال: نعم وأفضل.
    قال: وكيف يساويكم وقد سبقتموه؟
    فقال خالد: إنا قبلنا هذا الأمر عنوة، وبايعنا نبينا، وهو حي بين أظهرنا، تأتيه أخبار السماء، ويخبرنا بالكتاب، ويرينا الآيات، وحق لمن رأى ما رأينا، وسمع ما سمعنا أن يسلم ويبايع، وإنكم أنتم لم تروا ما رأينا، ولم تسمعوا ما سمعنا من العجائب، والحجج، فمن دخل في هذا الأمر منكم بحقيقة، ونية كان أفضل منا.
    فقال جرجه: بالله، لقد صدقتني، ولم تخادعني، ولم تآلفني؟
    قال: تالله لقد صدقتك، وإن الله وليّ ما سألت عنه.
    فعند ذلك قلب جرجه الترس- فهو حتى هذه اللحظة على استعداد للقتال ولكنه بعد أن سمع هذا الكلام وبعد أن دعاه خالد إلى الإسلام- قلب الترس ومال مع خالد وقال: علمنى الإسلام، فمال به خالد إلى فسطاطه، فشن عليه قربة من ماء، ثم صلى به ركعتين وحملت الروم مع انقلابه مع خالد، فركب خالد وجرجه معه، فضرب فيهم خالد، وجرجه من لدن ارتفاع النهار إلى جنوح الشمس للغروب، وصلى المسلمون صلاة الظهر، وصلاة العصر إيماء وأصيب جرجه رحمه الله.
    وسبحان الله استشهد رحمه الله، ولم يصل إلا الركعتين اللتين صلاهما عندما أسلم.
    هذه هي الدعوة بمفهوم الصحابة رضي الله عنهم، فليس هناك على الإطلاق ما يمنع من الدعوة، إن إيمان الأفراد أغلى عند الصحابة من كنوز الدنيا كلها، والعدو الكافر الذي يبغضونه ينقلب أحب الناس إلى قلوبهم، إذا آمن بالله تعالى، فهم رضي الله عنهم يحبون الخير لأهل الأرض جميعا، ويعرفون مهمتهم بوضوح تام، وهي تعبيد الناس لرب العالمين، ووظيفتهم استنقاذ الناس من نار الجحيم.
    ماذا لو قاتل جرجه في صفوف الرومان؟
    ماذا لو لم يفرغ له خالد رضي الله عنه من وقته، وجهده، وفكره، ودعوته؟
    ماذا تكون النتيجة؟
    كان سيصبح من قتلى الرومان، مجرد واحد من قتلى الرومان في موقعة اليرموك، وتكون حياته قد انتهت على حرب ضد الإسلام والمسلمين.
    هذا هو الفرق الشاسع بين الدعوة إلى الله تعالى، وبين ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
    ماذا لو فقدت هذه الأمة هذه الصفة النبيلة؛ الدعوة إلى الله عز وجل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
    ماذا لو فقدت الأمة هذه الصفات الرائعة؟
    هذا هو مفهوم الدعوة عند الصحابة، هذا هو فقه الدعوة إلى الله عز وجل وقضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى قدر هذا الفقه كان عمل الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
    لذلك سبق الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم.
    نسأل الله عز وجل أن يجعلنا هداه مهديين، وأن يبصرنا بسنة حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم.













  10. #25
    ~ [ نجم ماسي ] ~
    تاريخ التسجيل
    Jul 2010
    المشاركات
    860

    رد: (ملف)..خير الناااس.الصحب الأطهار رضي الله عنهم

    أبو جندل بن سهيل بن عمرو


    نسبه وقبيلته

    هو أبو جندل بن سهيل بن عمرو القرشي العامري[1]. أسلم قديمًا بمكة، فحبسه أبوه وأوثقه في الحديد، ومنعه الهجرة[2].

    من مواقفه مع رسول الله

    في صلح الحديبية والصحيفة تكتب إذ طلع أبو جندل بن سهيل يرسف في الحديد وكان أبوه حبسه فأفلت، فلما رآه أبوه سهيل بن عمرو قام إليه فضرب وجهه، وأخذ بتلابيبه وقال: يا محمد، قد لجت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا!

    قال: صدقت. فصاح أبو جندل بأعلى صوته: يا معشر المسلمين، أرد إلى المشركين يفتنوني في ديني!
    وقد كانوا خرجوا مع رسول اللهلا يشكون في الفتح، فلما صنع أبو جندل ما صنع وقد كان دخل -لما رأوا رسول اللهحمل على نفسه في الصلح ورجعته- أمر عظيم، فلما صنع أبو جندل ما صنع زاد الناس شرًّا على ما بهم، فقال رسول الله لأبي جندل: "أبا جندل، اصبر واحتسب؛ فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا. وإنا صالحنا القوم وإنا لا نغدر"[3].

    من مواقفه مع الصحابة

    له موقف مع أبي بصير فقد انفلت أبو جندل بن سهيل بن عمرو الذي ردَّهيوم الحديبية، وخرج من مكة في سبعين راكبًا أسلموا فلحقوا بأبي بصير، وكرهوا أن يقدموا على رسول اللهفي مدة الهدنة خوفًا من أن يردهم إلى أهلهم، وانضم إليهم ناس من غفار وأسلم وجهينة وطوائف من العرب ممن أسلم حتى بلغوا ثلاثمائة مقاتل، فقطعوا مارة قريش لا يظفرون بأحد منهم إلا قتلوه، ولا تمر بهم عير إلا أخذوها، حتى كتبت قريش لهتسأله بالأرحام إلا آواهم ولا حاجة لهم بهم، فكتب رسول اللهإلى أبي جندل وأبي بصير أن يقدما عليه، وأن من معهم من المسلمين يلحق ببلادهم وأهليهم ولا يتعرضوا لأحدٍ مر بهم من قريش ولا لعيرهم، فقدم كتاب رسول اللهعليهما وأبو بصير مشرف على الموت لمرضٍ حصل له، فمات وكتاب رسول اللهفي يده يقرؤه، فدفنه أبو جندل مكانه وجعل عند قبره مسجدًا[4].

    من كلماته

    قال أبو جندل وهو مع أبي بصير[5]:
    أبلغ قريشًا من أبي جندل *** أني بذي المروة بالساحل
    في معشر تخفق أيمـانهم *** بالبيض فيها والقنى الذابل
    يأبون أن تبقى لهم رفقة *** من بعد إسلامهم الواصل
    أو يجعل الله لهم مخرجا *** والحق لا يغلب بالباطـل
    فيسلـم المرء بإسلامه *** أو يقتل المـرء ولم يأتـل

    الوفاة

    مات بالشام في طاعون عمواس سنة ثماني عشرة في خلافة عمر بن الخطاب[6].
    [1] ابن عبد البر: الاستيعاب 4/1621.

    [2] ابن سعد: الطبقات الكبرى 7/405.

    [3] ابن الأثير: أسد الغابة 6/59.

    [4] المصدر السابق 6/40.

    [5] ابن عبد البر: الاستيعاب 4/1622.

    [6] الحاكم النيسابوري: المستدرك (5209)، 3/311.













  11. #26
    ~ [ نجم ماسي ] ~
    تاريخ التسجيل
    Jul 2010
    المشاركات
    860

    رد: (ملف)..خير الناااس.الصحب الأطهار رضي الله عنهم

    النعيمان بن عمرو الأنصارى


    هو النعيمان بن عمرو بن رفاعة بن الحارث بن سواد بن مالك بن النجار الأنصاري، وقد تمتع النعيمان بن عمرو بكثير من الصفات العذبة والشمائل الكريمة منها: الشجاعة والإقدام على مواطن الجهاد قال ابن سعد شهد بدرا وأحد والخندق والمشاهد كلها.
    وكان من صفاته كذلك حب الفكاهة والطرفة وخاصة مع النبي صلى الله عليه وسلم قالت أم سلمة رضي الله عنها: (كان الضحاك مضحاكا مزاحا)
    بعض مواقفه مع النبي (صلى الله عليه وسلم):
    كان لا يدخل المدينة إلا اشترى منها ثم جاء بها إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) فيقول هذا أهديته لك فإذا جاء صاحبها يطلب نعيمان بثمنها أحضره إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم) وقال أعط هذا ثمن متاعه فيقول أوَ لم تهده لي فيقول: إنه والله لم يكن عندي ثمنه، ولقد أحببت أن تأكله، فيضحك ويأمر لصاحبه بثمنه.
    ودخل أعرابي على النبي (صلي الله عليه وسلم) وأناخ ناقته بفنائه فقال بعض الصحابة للنعيمان الأنصاري لو عقرتها فأكلناها فإنا قد قرمنا اللحم ففعل فخرج وصاح وعقره يا محمد فخرج النبي (صلى الله عليه وسلم) وقال من فعل هذا فقالوا هو النعيمان فأتبعه يسأل عنه حتى وجده قد دخل دار ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب واستخفي تحت سرب لها فرقة جريد فأشار إلى النبي حيث هو فأخرجه فقال ما حملك على ما صنعت قال الذين دلوك على يا رسول الله هم الذين أمروني بذلك قال فجعل يمسح التراب عن وجهه ويضحك ثم غمها للأعرابي.(1)
    وهنا تتجلي عظمة النبي ( صلي الله عليه وسلم ) فلم ينكر علي هذا الصحابي الذي عقر الناقة ما فعله لأنه يحب المزاح، فالرسول يعلم أن النفس البشرية تتفاوت من إنسان إلي آخر فهناك من هو جاد في كل شيء وهناك من يحب المزاح ؛ ولكنه ( صلي الله عليه وسلم ) قد حكم للأعرابي بثمن الناقة.
    بعض مواقفه مع الصحابة
    كان من السمات المميزة لهذا الصحابي الجليل، كثرة المزاح، وحب الضحك حتى قال عنه النبي (عليه الصلاة والسلام ) ( يدخل الجنة وهو يضحك)
    وكثيرة هي المواقف الضاحكة من نعيمان، فعن أم سلمة (رضي الله عنها) أن أبا بكر الصديق (رضي الله عنه) خرج في تجارة له إلى بُصري (بلدة من بلاد الشام) ومعه نعيمان الأنصاري، وسليط بن حرملة - وكلاهما ممن شهد بدراً - وكان سليط هو المسئول عن الزاد وتدبيره في الرحلة، فبينما هم في استراحة من الاستراحات أثناء الطريق، إذا بنعيمان جاع جوعا شديدا، فطلب من سليط أن يطعمه فأبى عليه ذلك إلا في حضرة أبي بكر من الخارج - الذي يبدو أنه خرج لبعض شأنه - فاغتاظ منه نعيمان وقال له لأغيظنك.
    وفي سفرهم ذاك مروا بقوم من العرب فاختلى بهم نعيمان وقال لهم: أتشترون مني عبد، قالو:نعم وفرحوا كثيراً بذلك، لأنه - على ما يبدو - من النادر أن يجدوا عرضاً كهذا والعرب، كانوا يحتاجون لمن يسترقونهم لخدمتهم، فأشار نعيمان للقوم على صاحبه سليط وقال لهم: إن هذا عبدي وله كلام، فسوف يقول لكم لست عبداً وأنني ابن عمه، فإذا كنتم ستصدقونه فلا داعي لهذه الصفقة ولا تفسدوا على عبدين، قالوا: ل... بل نشتريه ولا نكترث لقوله، فدفعوا إليه عشرة من الإبل لحرصهم على شراء العبد المزعوم ثم جاءوا معه ليستلموا الصفقة فامتنع سليط منهم وقال للقوم إنه يستهزئ بي فلم يصدقوه وقالوا له: لقد أخبرنا خبرك وأخذوه بالقوة ووضعوا فوق عنقه عمامة كعادة زي العبيد.
    ولما حضر أبو بكر (رضي الله عنه) وأخبروه بالخبر لحق بالقوم وأكد لهم أن صاحبه يمزح ورد عليهم إبلهم قال ابن عبد البر: فلما قدموا على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وقصوا عليه قصة نعيمان وبيعه لسليط ضحك رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وأصحابه حولا كاملا، أي أنهم كان يتملكهم الضحك كلما تذكروا القصة لحول بأكمله.
    تقول بعض الروايات أن اسم ذلك الصحابي الذي باعه نعيمان - مزاحا - هو سويبط وليس سليطا.
    ولقي نعيمان أبا سفيان بن الحارث فقال يا عدو الله أنت الذي تهجو سيد الأنصار نعيمان بن عمرو؟ فاعتذر له فلما ولى قيل لأبى سفيان إن نعيمان هو الذي قال لك ذلك فعجب منه.
    الوفاة:
    وقد بقى النعيمان حتى توفي في خلافة معاوية رضي الله عنهم جميعا.(2)

    المصادر:
    1- الإصابة ج 5 ط.دار الفكر
    2- ابن سعد في الطبقات 3 / 494













  12. #27
    ~ [ نجم ماسي ] ~
    تاريخ التسجيل
    Jul 2010
    المشاركات
    860

    رد: (ملف)..خير الناااس.الصحب الأطهار رضي الله عنهم

    الزبير بن العوام


    اسمه وشرف منزلته

    هو الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب القرشي الأسدي، أبو عبد الله حواريّ رسول الله، وهو ابن عمة رسول اللهصفية بنت عبد المطلب، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى بعد مقتل عُمر.

    ولد الزبير بن العوامسنة 28 قبل الهجرة، وقد أسلم بمكة قديمًا على يد الصِّدِّيق، وكان عمره حينئذٍ 15 سنة، وعذّبه قومه لإسلامه، فقد كان عم الزبير يعلقه في حصير، ويدخن عليه بالنار ليرجع إلى الكفر، فيقول: لا أكفر أبدًا.

    هجرته

    كان من المهاجرين بدينهم إلى الحبشة، تزوج أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها، وهاجرا إلى المدينة، فولدت له أول مولود للمسلمين في المدينة عبد الله بن الزبير، ثم مصعب.

    قلة روايته للحديث

    كانحريصًا على ملازمة رسول الله، إلا أنه لم يروِ الكثير من الأحاديث؛ فعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ لِلزُّبَيْرِ: مَا لِي لاَ أَسْمَعُكَ تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِكَمَا أَسْمَعُ ابْنَ مَسْعُودٍ وَفُلاَنًا وَفُلاَنًا؟! قَالَ: أَمَا إِنِّي لَمْ أُفَارِقْهُ مُنْذُ أَسْلَمْتُ، وَلَكِنِّي سَمِعْتُ مِنْهُ كَلِمَةً "مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ".

    من مناقبه

    1- كان أول من سلَّ سيفًا في سبيل الله؛ فعن عروة وابن المسيب قالا: أول رجل سلَّ سيفه في الله الزبير، وذلك أن الشيطان نفخ نفخة، فقال: أُخذ رسول الله. فأقبل الزبيريشق الناس بسيفه، والنبيبأعلى مكة.

    2- حواري رسول الله؛ فعَنْ جَابِر بن عبد اللهقَالَ: قَالَ النَّبِيُّيَوْمَ الأَحْزَابِ: "مَنْ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ؟" قَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا. ثُمَّ قَالَ: "مَنْ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ؟" قَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا. فَقَالَ النَّبِيُّ: "إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا، وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ".

    3- نزلت بسيماه الملائكة؛ فعن عروة بن الزبير -رضي الله عنهما- قال: كانت على الزبير يوم بدر عمامة صفراء، فنزل جبريل على سيماء الزبير.

    4- في "يوم قريظة" جمع له رسول اللهبين أبويه؛ فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ -رضي الله عنهما- عَنِ الزُّبَيْرِقَالَ: جَمَعَ لِي رَسُولُ اللَّهِأَبَوَيْهِ يَوْمَ قُرَيْظَةَ، فَقَالَ: "بِأَبِي وَأُمِّي".

    في غزوة بدر

    كان الزبيرأحد مغاوير الإسلام وأبطاله في يوم الفرقان، وكان على الميمنة، وقد قتل الزبير في هذا اليوم العظيم عبيدة بن سعيد بن العاص، كما قتل السائب بن أبي السائب بن عابد، ونوفل بن خويلد بن أسد عمه.

    من أخلاقه

    كان وقافا عند أوامر رسول الله

    عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ -رضي الله عنهما- أَنَّهُ حَدَّثَهُ أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ خَاصَمَ الزُّبَيْرَ عِنْدَ النَّبِيِّفِي شِرَاجِ الْحَرَّةِ الَّتِي يَسْقُونَ بِهَا النَّخْلَ، فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: سَرِّحْ الْمَاءَ يَمُرُّ. فَأَبَى عَلَيْهِ، فَاخْتَصَمَا عِنْدَ النَّبِيِّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِلِلزُّبَيْرِ: "اسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ أَرْسِلْ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ". فَغَضِبَ الأَنْصَارِيُّ فَقَالَ: أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ. فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: "اسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْجَدْرِ". فَقَالَ الزُّبَيْرُ: وَاللَّهِ إِنِّي لأَحْسِبُ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65].

    متوكلا على الله

    كان توكله على الله منطلق جوده وشجاعته وفدائيته، وحين كان يجود بروحه أوصى ولده عبد اللهبقضاء ديونه قائلاً: "إذا أعجزك دين، فاستعن بمولاي". فسأله عبد الله: "أي مولى تعني؟" فأجابه: "الله، نعم المولى ونعم النصير". يقول عبد اللهفيما بعد: فوالله ما وقعت في كربةٍ من دَيْنِهِ إلا قلت: يا مولى الزبير، اقضِ دينه. فيقضيه.

    ومما روى عن رسول الله

    عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: "دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمْ الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ، وَالْبَغْضَاءُ هِيَ الْحَالِقَةُ حَالِقَةُ الدِّينِ لاَ حَالِقَةُ الشَّعَرِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَفَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِشَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ، أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ".

    موقعة الجمل

    بعد استشهاد عثمان بن عفانأتمَّ المبايعة الزبير وطلحة لعليٍّ، وخرجوا إلى مكة معتمرين، ومن هناك خرجوا إلى البصرة للأخذ بثأر عثمان، وكانت وقعة الجمل عام 36هـ؛ طلحة والزبير -رضي الله عنهما- في فريق، وعليٌّفي الفريق الآخر. وانهمرت دموع عليعندما رأى أم المؤمنين عائشة في هودجها بأرض المعركة، وصاح بطلحة: "يا طلحة، أجئت بعرس رسول اللهتقاتل بها، وخبأت عرسك في البيت؟" ثم قال للزبير: "يا زبير، نشدتك الله، أتذكر يوم مر بك رسول اللهونحن بمكان كذا، فقال لك: (يا زبير، ألا تحب عليًّا؟) فقلت: ألا أحب ابن خالي، وابن عمي، ومن هو على ديني؟ فقال لك: (يا زبير، أما والله لتقاتلنه وأنت له ظالم). فقال الزبير: نعم أذكر الآن، وكنت قد نسيته، والله لا أقاتلك".

    وأقلع طلحة والزبير -رضي الله عنهما- عن الاشتراك في هذه الحرب، ولكن دفعا حياتهما ثمنًا لانسحابهما، ولقيا ربهما قريرة أعينهما بما قررا؛ فالزبيرتعقبه رجل اسمه عمرو بن جرموز وقتله غدرًا وهو يصلي، وطلحة رماه مروان بن الحكم بسهمٍ أودى بحياته.

    موقف استشهاده

    لما كان الزبيربوادي السباع نزل يصلي فأتاه ابن جرموز من خلفه فقتله، وسارع قاتل الزبير إلى عليٍّ يبشره بعدوانه على الزبير ويضع سيفه الذي استلبه بين يديه، لكن عليًّاصاح حين علم أن بالباب قاتل الزبير يستأذن، وأمر بطرده قائلاً: "بشِّرْ قاتلَ ابن صفية بالنار". وحين أدخلوا عليه سيف الزبيرقبَّله الإمام علي، وأمعن في البكاء وهو يقول: "سيف طالما والله جلا به صاحبه الكرب عن رسول الله".

    وبعد أن انتهى عليمن دفنهما ودعهما بكلمات أنهاها قائلاً: إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير وعثمان من الذين قال الله فيهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر: 47]. ثم نظر إلى قبريهما وقال: سمعت أذناي هاتان رسول اللهيقول: "طلحة والزبير جاراي في الجنة".

    وقد قُتل الزبير بن العوامفي جمادى الأولى سنة ست وثلاثين من الهجرة، وله ست أو سبع وستون سنة.













  13. #28
    ~ [ نجم ماسي ] ~
    تاريخ التسجيل
    Jul 2010
    المشاركات
    860

    رد: (ملف)..خير الناااس.الصحب الأطهار رضي الله عنهم

    السائب بن الأقرع


    مقدمة

    هو السائب بن الأقرع بن عوف بن جابر بن سفيان بن سالم بن مالك الثقفي.(1)
    كان السائب بن الأقرع صغيرا عندما رأي الرسول ( صلي الله عليه وسلم ) فلذلك لم يدرك الجاهلية.
    وقد تمتع بصفات عذبه وخلال كريمة منها:
    1- الأمانة فكان مسئولا عن الغنائم في فتح نهاوند مع حذيفة بن اليمان.
    2- الشجاعة والإقدام فقد اشترك مع النعمان بن مقرن في فتح نهاوند.
    من مواقفه مع الرسول

    دخلت أمه مليكة تبيع العطر مع النبي( صلى الله عليه وسلم) فقال لها: " يا مليكة ألك حاجة " قالت: نعم قال: " فكلميني فيها أقضها لك ". فقالت: لا والله إلا أن تدعو لابني وهو معها وهو غلام فأتاه فمسح برأسه ودعا له.(2) وبذلك نال السائب شرف وضع يد النبي ( صلي الله عليه وسلم ) علي رأسه.
    من مواقفه مع الصحابة:
    له موقف مع مسروق عندما تزوج ابنته فقد حدثنا أبو إسحاق أن مسروقا زوج ابنته للسائب بن الأقرع على عشرة آلاف اشترطها لنفسه وقال جهز امرأتك من عندك قال وجعلها مسروق في المجاهدين والمساكين والمكاتبين.(3)
    وله موقف آخر مع عمر بن الخطاب " بعث عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) السائب بن الأقرع مولى ثقيف وكان رجلا كاتبا حاسبا فقال الحق بهذا الجيش فكن فيهم فإن فتح الله عليهم فاقسم على المسلمين فيئهم وخذ خمس الله وخمس رسوله وإن هذا الجيش أصيب فاذهب في سواد الأرض فبطن الأرض خير من ظهرها.
    قال السائب فلما فتح الله على المسلمين نهاوند أصابوا غنائم عظاما فوالله إني لأقسم بين الناس إذ جاءني علج من أهلها فقال أتؤمنني على نفسي وأهلي وأهل بيتي على أن أدلك على كنوز النخيرجان وهي كنوز آل كسرى تكون لك ولصاحبك لا يشركك فيها أحد قال قلت نعم قال فابعث معي من أدله عليها فبعثت معه فأتى بسفطين عظيمين ليس فيهما إلا اللؤلؤ والزبرجد والياقوت فلما فرغت من قسمي بين الناس احتملتهما معي ثم قدمت على عمر بن الخطاب فقال ما وراءك يا سائب فقلت خير يا أمير المؤمنين فتح الله عليك بأعظم الفتح واستشهد النعمان بن مقرن رحمه الله فقال عمر إنا لله وإنا إليه راجعون قال ثم بكى فنشج حتى إني لأنظر إلى فروع منكبيه من فوق كتده قال فلما رأيت ما لقي قلت والله يا أمير المؤمنين ما أصيب بعده من رجل يعرف وجهه فقال المستضعفون من المسلمين لكن أكرمهم بالشهادة يعرف وجوههم وأنسابهم وما يصنعون بمعرفة عمر بن أم عمر ثم قام ليدخل فقلت إن معي مالا عظيما قد جئت به ثم أخبرته خبر السفطين قال أدخلهما بيت المال حتى ننظر في شأنهما والحق بجندك قال فأدخلتهما بيت المال وخرجت سريعا إلى الكوفة قال وبات تلك الليلة التي خرجت فيها فلما أصبح بعث في أثري رسولا فوالله ما أدركني حتى دخلت الكوفة فأنخت بعيري وأناخ بعيره على عرقوبي بعيري فقال الحق بأمير المؤمنين فقد بعثني في طلبك فلم أقدر عليك إلا الآن قال قلت ويلك ماذا ولماذا قال لا أدري والله قال فركبت معه حتى قدمت عليه فلما رآني قال مالي ولابن أم السائب بل ما لابن أم السائب ومالي قال قلت وما ذاك يا أمير المؤمنين قال ويحك والله ما هو إلا أن نمت في الليلة التي خرجت فيها فباتت ملائكة ربي تسحبني إلى ذينك السفطين يشتعلان نارا يقولون لنكوينك بهما فأقول إني سأقسمهما بين المسلمين فخذهما عني لا أبا لك والحق بهما فبعتهما في أعطية المسلمين وأرزاقهم قال فخرجت بهما حتى وضعتهما في مسجد الكوفة وغشيني التجار فابتاعهما مني عمرو بن حريث المخزومي بألفي ألف ثم خرج بهما إلى أرض الأعاجم فباعهما بأربعة آلاف ألف فما زال أكثر أهل الكوفة مالا بعد".(4)

    الوفاة

    قال ابن منده ولي أصبهان ومات بها وعقبه بها منهم مصعب بن الفضيل بن السائب.(5)
    والظاهر أنه مات بعيد مقتل عثمان إذ لم يرد له ذكر فى حروب الفتنة الكبرى بين على بن أبى طالب ومعاوية ولو كان عاش بعد عثمان طويلا لما تخلى عنه على بن أبى طالب.
    المصادر:
    1- الإصابة في تمييز الصحابة [ جزء 3 - صفحة 16 ]
    2- أسد الغابة [ جزء 1 - صفحة 1415 ]
    3- الطبقات الكبرى [ جزء 6 - صفحة 82 ]
    4- تاريخ الطبري [ جزء 2 - صفحة 519 ]
    5- الإصابة في تمييز الصحابة [ جزء 3 - صفحة 17













  14. #29
    ~ [ نجم ماسي ] ~
    تاريخ التسجيل
    Jul 2010
    المشاركات
    860

    رد: (ملف)..خير الناااس.الصحب الأطهار رضي الله عنهم

    معوذ ابن عفراء

    هو معوذ ابن عفراء وهي أمه وهو معوذ بن الحارث بن رفاعة ابن الحارث، وهو من الستة النفر الذين أسلموا أول من أسلم من الأنصار بمكة وشهد العقبتين. (1)
    من مواقفه مع الصحابة:
    قال عبد الرحمن بن عوف ( رضي الله عنه ) إني لفي الصف يوم بدر إذ التفت فاذا عن يميني وعن يساري فتيان حديثا السن فكأني لم آمن بمكانهما إذ قال لي أحدهما سرا من صاحبه يا عم أرني أبا جهل فقلت يا ابن أخي ما تصنع به قال عاهدت الله إن رأيته أن أقتله أو أموت دونه وقال لي الآخر سرا من صاحبه مثله قال فما سرني أنني بين رجلين مكانهما فأشرت لهما اليه فشدا عليه مثل الصقرين حتى ضرباه وهما ابنا عفراء.(2)
    الوفاة:
    قتل معوذ بن عفراء عدو الله أبا جهل بن هشام يوم بدر ثم قاتل حتى قتل يومئذ ببدر شهيدا قتله أبو مسافع.(3)
    ونال ( رضي الله عنه ) الشهادة في سبيل الله.
    المصادر:
    1- الطبقات الكبرى [ جزء 3 - صفحة 492 ]
    2- البداية والنهاية [ جزء 3 - صفحة 288 ]
    5- الاستيعاب [ جزء 1 - صفحة 452 ]













  15. #30
    ~ [ نجم ماسي ] ~
    تاريخ التسجيل
    Jul 2010
    المشاركات
    860

    رد: (ملف)..خير الناااس.الصحب الأطهار رضي الله عنهم

    عرفجة بن هرثمة البارقي


    هو عرفجة بن هرثمة بن عبد العزى بن زهير بن ثعلبة بن عمرو- أخي بارق، واسم بارق: سعد بن عدي بن حارثة بن عمرو مزيقيا.
    أحد أمراء الفتوح، وقد تقدم أنهم كانوا لا يؤمرون إلا الصحابة. ـ وقد ذكره هشام بن الكلبي بهذا النسب، وجعله من بني عمرو وأخي بارق، وقال: عداده في بارق.
    هو الذي جند الموصل، وواليها، وله فيها أخبار.وهو الذي أمد به عمر بن الخطاب عتبة بن غزوان لما ولاه أرض البصرى وكتب إليه: إني قد أمددتك بعرفجة بن هرثمة وهو ذو مجاهدة ومكايدة للعدو، فإذا قدم عليك فاستشره.
    وأخبر أبو غسان ربيع بن سلمة، عن أبو عبيدة قال: الذي جند الموصل عثمان بن عفان، وأسكنها أربعة آلاف من الأزد وطيئ وكندة وعبد القيس، وأمر عرفجة بن هرثمة البارقي فقطع بهم من فارس إلى الموصل، وكان قد بعثه عثمان يغير على أهل فارس.
    بعض مواقف من حياته:

    أخبر محمد بن إسحاق قال: لما انتهت إلى عمر مصيبة أهل الجسر قدم عليه جرير بن عبد الله من اليمن في ركب من بجيلة وعرفجة بن هرثمة وكان عرفجة يومئذ سيد بجيلة وكان حليفا لهم من الأزد فكلمهم وقال: قد علمتم ما كان من المصيبة في إخوانكم بالعراق فسيروا إليهم وأنا أخرج إليكم من كان منكم في قبائل العرب وأجمعهم إليكم قالو: نفعل يا أمير المؤمن فأخرج إليهم قيس كبة وسحمة وعرينة من بني عامر بن صعصعة وهذه بطون من بجيلة وأمر عليهم عرفجة بن هرثمة فغضب من ذلك جرير بن عبد الله فقال لبجيلة: كلموا أمير المؤمنين ؛ فقالو: استعملت علينا رجلا ليس منا فأرسل إلى عرفجة فقال: ما يقول هؤلاء قال: صدقوا يا أمير المؤمنين لست منهم ؛ لكني من الأزد ؛ كنا أصبنا في الجاهلية دما في قومنا فلحقنا ببجيلة فبلغنا فيهم من السؤدد ما بلغك فقال عمر: فاثبت على منزلتك ؛ فدافعهم كما يدافعونك. فقال: لست فاعلا ولا سائرا معهم فسار عرفجة إلى البصرة بعد أن نزلت وأمر عمر جريرا على بجيلة فسار بهم مكانه إلى العراق وأقام جرير بالكوفة.
    بعث العلاء عرفجة بن هرثمة الى أسياف فارس فقطع في السفن فكان أول من فتح جزيرة بأرض فارس واتخذ فيها مسجدًا وأغار على باريخان والأسياف وذلك في سنة أربع عشرة.













صفحة 2 من 13 الأولىالأولى 1 2 3 4 12 ... الأخيرةالأخيرة

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •