النتائج 1 إلى 11 من 11

الموضوع: الروض الأنف في شرح السيرة النبويه لابن هشام_المجلد الثاني_

  1. #1
    ذكريات مشرفه الصورة الرمزية غرابيــل
    تاريخ التسجيل
    Aug 2007
    الدولة
    خَلفْ السَمآءْ الثَآمنِهَ !
    المشاركات
    7,409

    الروض الأنف في شرح السيرة النبويه لابن هشام_المجلد الثاني_



    الروض الأنف في شرح السيرة النبويه لابن هشام
    المجلد الثاني
    إشارة إلى ذكر احتفار زمزم
    ...

    شيء عن زمزم:
    قال محمد بن إسحاق المطلبي: بينما عبد المطلب بن هاشم نائم في الحجر، إذ أتي فأمر بحفر زمزم، وهي دفن بين صنمي قريش: إساف ونائلة، وعند منحر قريش. وكانت جرهم دفنتها حين ظعنوا من مكة، وهي بئر إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، التي سقاه الله حين ظمئ وهو صغير، فالتمست له أمه ماء فلم تجده، فقامت إلى الصفا تدعو الله وتستغيثه للإسماعيل، ثم أتت المروة ففعلت مثل ذلك.
    ـــــــ
    (2/5)
    باب مولد النبي صلى الله عليه وسلم
    ...
    باب مولد النبي صلى الله عليه وسلم
    ذكر نسب أمه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة وأن زهرة هو ابن كلاب وفي المعارف لابن قتيبة أن زهرة اسم امرأة عرف بها بنو زهرة، وهذا منكر غير معروف وإنما هو اسم جدهم - كما قال ابن إسحاق والزهرة في اللغة إشراق في اللون أي لون كان من بياض أو غيره وزعم بعضهم أن الأزهر هو الأبيض خاصة وأن الزهر اسم للأبيض من النوار وخطأ أبو حنيفة من قال بهذا القول وقال إنما الزهرة إشراق في الألوان كلها، وأنشد في نور الحوذان وهو أصفر:
    ترى زهر الحوذان حول رياضه ... يضيء كلون الأتحمي المورس1
    ـــــــ
    1 الحوذان: نبات عشبي من ذوات الفلقتين منه أربع أنواع تزرع لزهرها وأخرى تنبت برية.
    الأتحمي: يقال تحم الثوب: وشاه، والأتحمي: برد.
    المورس: يقال ورس الثوب: صبغة بالورس، وهو نبت من الفصيلة البقلية.
    (2/5)
    وبعث الله تعالى جبريل عليه السلام، فهمز له بعقبه في الأرض، فظهر الماء، وسمعت أمه أصوات السباع فخافتها عليه، فجاءت تشتد نحوه، فوجدته يفحص بيده عن الماء تحت خده ويشرب، فجعلته حسياً.
    ـــــــ
    وفي حديث يوم أحد: نظرت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعيناه تزهران تحت المغفر.
    زمزم :
    وذكر فيه خبر إسماعيل وأمه وقد تقدم طرف منه. وذكر أن جبريل - عليه السلام - همز بعقبه في موضع زمزم، فنبع الماء وكذلك زمزم تسمى: همزة جبريل بتقديم الميم على الزاي ويقال فيها أيضا: هزمة جبريل لأنها هزمة1 في الأرض وحكي في اسمها: زمازم وزمزم. حكي ذلك عن المطرز وتسمى أيضا: طعام طعم وشفاء سقم. وقال الجربي: سميت زمزم، بزمزمة الماء وهي صوته وقال المسعودي: سميت زمزم ; لأن الفرس كانت تحج إليها في الزمن الأول فزمزمت عليها. والزمزمة صوت يخرجه الفرس من خياشيمها عند شرب الماء. وقد كتب عمر - رضي الله عنه - إلى عماله أن انهوا الفرس عن الزمزمة وأنشد المسعودي:
    زمزمت الفرس على زمزم ... وذاك في سالفها الأقدم2
    وذكر البرقي عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنها سميت زمزم لأنها زمت بالتراب لئلا يأخذ الماء يمينا وشمالا، ولو تركت لساحت على الأرض حتى تملأ كل شيء. وقال ابن هشام: والزمزمة عند العرب: الكثرة والاجتماع قال الشاعر:
    وباشرت معطنها المدهثما ... ويممت زمزومها المزمزما
    ـــــــ
    1 في "النهاية" لابن الأثير: الهزمة: النقرة في الصدر، وهزمت البئر: إاذ حفرتها.
    2 الزمزمة أيضاً: تراطن الفرس على أكلهم، وهم صموت لا يستعملون اللسان ولا الشفة لكنه صوت تدبره من خياشيمهم وحلوقهم. انظر "المسعودي" 1/242.
    (2/6)
    .................................................. ............................................
    ـــــــ
    سبب نزول هاجر وإسماعيل مكة:
    المدهثم: اللين.
    وكان سبب إنزال هاجر وابنها إسماعيل بمكة ونقلها إليها من الشام أن سارة بنت عم إبراهيم - عليه السلام - شجر بينها وبين هاجر أمر وساء ما بينهما، فأمر إبراهيم أن يسير بها إلى مكة، فاحتملها على البراق واحتمل معه قربة بماء ومزود تمر وسار بها حتى أنزلها بمكة في موضع البيت1 ثم ولى راجعا عوده على بدئه وتبعته هاجر وهي تقول آلله أمرك أن تدعني، وهذا الصبي في هذا البلد الموحش وليس معنا أنيس؟ فقال نعم فقالت إذا لا يضيعنا، فجعلت تأكل من التمر وتشرب من ماء القربة حتى نفد الماء وعطش الصبي، وجعل ينشغ للموت2 وجعلت هي تسعى من الصفا إلى المروة، ومن المروة إلى الصفا ; لترى أحدا، حتى سمعت صوتا عند الصبي فقالت قد سمعت، إن كان عندك غوث ثم جاءت الصبي فإذا الماء ينبع من تحت خده فجعلت تغرف بيديها، وتجعل في القربة. قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "لو تركته لكانت عينا" , أو قال "نهرا معينا" , وكلمها الملك وهو جبريل - عليه السلام - وأخبرها أنها مقر ابنها وولده إلى يوم القيامة وأنها موضع بيت الله الحرام، ثم ماتت هاجر، وإسماعيل - عليه السلام - ابن عشرين سنة وقبرها في الحجر، وثم قبر إسماعيل – صلى الله عليه وسلم3 - وكان الحجر قبل بناء البيت زربا لغنم إسماعيل صلى الله عليه وسلم ويقال إن أول بلد ميرت منه أم إسماعيل عليه - السلام - وابنها التمر القرية التي كانت تعرف بالفرع من ناحية المدينة، والله أعلم.
    ـــــــ
    1 في رواية للبخاري: "وضعها عند دوحة فوق الزمزم في أعلى مسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء" .
    2 يشهق ويعلو صوته وينخفض كالذي ينازع.
    3 من زيادة أبي جهم.
    (2/7)
    أمر جرهم ودفن زمزم
    ...
    أمر جرهم، ودفن زمزم:
    ولاة البيت:
    قال ابن هشام: وكان من حديث جرهم، ودفنها زمزم، وخروجها من مكة، ومن ولي أمر مكة بعدها إلى أن حفر عبد المطلب زمزم، ما حدثنا به زياد بن عبد الله البكائي عن محمد بن إسحاق المطلبي، قال:
    لما توفي إسماعيل بن إبراهيم ولي البيت بعده ابنه نابت بن إسماعيل - ما شاء الله أن يليه - ثم ولي البيت بعده مضاض بن عمرو الجرهمي.
    قال ابن هشام: ويقال مضاض بن عمرو الجرهمي.
    ـــــــ
    قطورا وجرهم والسميدع:
    فصل: وذكر نزول جرهم، وقطورا على أم إسماعيل هاجر، وجرهم: هو قحطان بن عامر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح ويقال جرهم بن عابر وقد قيل إنه كان مع نوح عليه السلام في السفينة وذلك أنه من ولد ولده وهم من العرب العاربة ومنهم تعلم إسماعيل العربية.
    وقيل إن الله تعالى أنطقه بها إنطاقا، وهو ابن أربع عشرة سنة1.
    وأما قطورا، فهو قطورا بن كركر.
    وأما السميدع الذي ذكره فهو السميدع بن هوثر - بثاء مثلثة - قيدها البكري - بن لاي بن قطورا بن كركر بن عملاق ويقال إن الزباء الملكة كانت من ذريته وهي بنت عمرو بن أذينة بن ظرب بن حسان وبين حسان وبين السميدع آباء كثيرة ولا يصح قول من قال إن حسان ابنه لصلبه لبعد زمن الزباء من السميدع، وقد ذكرنا الاختلاف في اسمها في غير هذا الموضع وذكر الحارث بن مضاض الأكبر بن عمرو بن سعد بن الرقيب بن هي بن بنت2 جرهم.
    ـــــــ
    1 القحطان ولد اسمه: جرهم، أما جدهم الأكبر فمن العرب البائدة.
    2 هكذا في الأصل، ولعل الصواب: [هي بن نبت بن جرهم] كما سيأتي قريباً في : غربة الحارث بن مضاض.
    (2/8)
    جرهم وقطوراء، وما كان بينهما:
    قال ابن هشام: ويقال: مضاض بن عمرو بن الجرهمي.
    قال ابن إسحاق: وبنو إسماعيل، وبنو نابت مع جدهم مضاض بن عمرو وأخوالهم من جرهم، وجرهم وقطوراء يومئذ أهل مكة، وهما ابنا عم وكانا ظعنا من اليمن، فأقبلا سيارة وعلى جرهم: مضاض بن عمرو، وعلى قطوراء: السميدع رجل منهم. وكانوا إذا خرجوا من اليمن لم يخرجوا إلا ولهم ملك يقيم أمرهم. فلما نزلا مكة رأيا بلدا ذا ماء وشجر فأعجبهما فنزلا به. فنزل مضاض بن عمرو بمن معه من جرهم بأعلى مكة بقعيقعان فما حاز. ونزل السميدع بقطوراء أسفل مكة بأجياد فما حاز. فكان مضاض يعشر من دخل مكة من أعلاها، وكان السميدع يعشر من دخل مكة من أسفلها، وكل في قومه لا يدخل واحد منهما على صاحبه. ثم إن جرهم وقطوراء بغى بعضهم على بعض وتنافسوا الملك بها، ومع
    ـــــــ
    جياد وقعيقعان: فصل: وذكر ولاية جرهم البيت الحرام دون بني إسماعيل إلى أن بغوا في الحرم، وكان أول بغي في الحرم ما ذكره من حرب جرهم لقطورا.
    وأما أجياد فلم يسم بأجياد من أجل جياد الخيل كما ذكر لأن جياد الخيل لا يقال فيها: أجياد، وإنما أجياد: جمع جيد1.
    وذكر أصحاب الأخبار أن مضاضا ضرب في ذلك الموضع أجياد مائة رجل من العمالقة، فسمي الموضع بأجياد وهكذا ذكر ابن هشام في غير هذا الكتاب ومن شعب أجياد تخرج دابة الأرض التي تكلم الناس قبل يوم القيامة كذلك روي عن صالح مولى التوأمة عن عبد الله بن عمرو بن العاص2، وذكر غيره في أخبار مكة أن
    ـــــــ
    1 العنق، وجمعه أيضا: جيود. وفي "اللسان": أجياد: أرض بمكة، قال ابن الأثير: وأكثر الناس يقولونه: جياد بكسر الجيم وحذف الهمزة، وهو موضع مكة معروف من شعابها.
    2 لم يرد هذا في حديث صحيح، والحديث الذي في "مسلم" لا يشير إلى مكان خروج الدابة،=
    (2/9)
    مضاض يومئذ بنو إسماعيل وبنو نابت، وإليه ولاية البيت دون السميدع. فسار بعضهم إلى بعض فخرج مضاض بن عمرو من قعيقعان في كتيبته سائرا إلى السميدع، ومع كتيبته عدتها من الرماح والدرق والسيوف والجعاب يقعقع بذلك معه فيقال ما سمي قعيقعان بقعيقعان إلا لذلك. وخرج السميدع من أجياد، ومعه الخيل والرجال فيقال ما سمي أجياد: أجيادا إلا لخروج الجياد من الخيل مع السميدع منه. فالتقوا بفاضح واقتتلوا قتالا شديدا، فقتل السميدع، وفضحت قطوراء. فيقال ما سمي فاضح فاضحا إلا لذاك. ثم إن القوم تداعوا إلى الصلح فساروا حتى نزلوا المطابخ: شعبا بأعلى مكة، واصطلحوا به وأسلموا الأمر إلى مضاض. فلما جمع إليه أمر مكة، فصار ملكها له نحر للناس فأطعمهم فاطبخ الناس وأكلوا، فيقال ما سميت المطابخ: المطابخ إلا لذلك. وبعض أهل العلم يزعم أنها إنما سميت المطابخ، لما كان تبع نحر بها، وأطعم وكانت منزله فكان الذي كان بين مضاض والسميدع أول بغي كان بمكة فيما يزعمون.
    ثم نشر الله ولد إسماعيل بمكة وأخوالهم من جرهم ولاة البيت والحكام بمكة لا ينازعهم ولد إسماعيل في ذلك لخؤولتهم وقرابتهم وإعظاما للحرمة أن يكون بها بغي أو قتال. فلما ضاقت مكة على ولد إسماعيل انتشروا في البلاد فلا يناوئون قوما إلا أظهرهم الله عليهم بدينهم فوطئوهم.
    ـــــــ
    قعيقعان سمي بهذا الاسم حين نزل تبع مكة، ونحر عندها وأطعم ووضع سلاحه وأسلحة جنده بهذا المكان فسمي قعيقعان بقعقعة السلاح فيه - والله أعلم.
    جرهم تسرق مال الكعبة: فصل:
    وذكر استحلال جرهم لحرمة الكعبة، فمن ذلك أن إبراهيم عليه السلام كان احتفر بئرا قريبة القعر عند باب الكعبة، كان يلقى
    ـــــــ
    =ولا يذكر عنها سوى أنها دابة. أما ما ورد عنها من صفات أخرى فأكثره إسرائليات رددها وهب بن منبه.
    (2/10)
    استيلاء قوم كنانة وخزاعة على البيت ونفي جرهم :
    ...
    استيلاء قوم كنانة وخزاعة على البيت ونفي جرهم :
    بغي جرهم بمكة وطرد بني بكر لهم:
    ثم إن جرهما بغوا بمكة، واستحلوا خلالا من الحرمة فظلموا من دخلها من غير أهلها، وأكلوا مال الكعبة الذي يهدى لها، فرق أمرهم. فلما رأت بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة، وغبشان من خزاعة ذلك أجمعوا لحربهم وإخراجهم من مكة. فآذنوهم بالحرب فاقتتلوا، فغلبتهم بنو بكر وغبشان فنفوهم من مكة. وكانت مكة في الجاهلية لا تقر فيها ظلما ولا بغيا، ولا يبغي فيها أحد إلا أخرجته فكانت تسمى: الناسة، ولا يريدها ملك يستحل حرمتها إلا هلك مكانه فيقال إنها ما سميت ببكة إلا أنها كانت تبك أعناق الجبابرة إذا أحدثوا فيها شيئا.
    ـــــــ
    فيها ما يهدى إليها، فلما فسد أمر جرهم سرقوا مال الكعبة مرة بعد مرة فيذكر أن رجلا منهم دخل البئر ليسرق مال الكعبة، فسقط عليه حجر من شفير البئر فحبسه فيها، ثم أرسلت على البئر حية لها رأس كرأس الجدي سوداء المتن بيضاء البطن فكانت تهيب من دنا من بئر الكعبة، وقامت في البئر - فيما ذكروا - نحوا من خمسمائة عام وسنذكر قصة رفعها عند بنيان الكعبة إن شاء الله.
    بين جرهم وخزاعة: فصل:
    فلما كان من بغي جرهم ما كان وافق تفرق سبأ من أجل سيل العرم، ونزول حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر أرض مكة، وذلك بأمر طريفة الكاهنة وهي امرأة عمرو بن مزيقياء1 وهي من حمير، وبأمر عمران بن عامر أخي عمرو، وكان كاهنا أيضا، فنزلها هو وقومه فاستأذنوا جرهما أن يقيموا بها أياما، حتى يرسلوا الرواد ويرتادوا منزلا حيث رأوا من البلاد فأبت عليهم جرهم، وأغضبوهم حتى أقسم حارثة ألا يبرح مكة إلا عن قتال وغلبة فحاربتهم جرهم،
    ـــــــ
    1 في "جمهرة" ابن حزم: عمرو مزيقياء بن عامر السماء. انظر: ص453.
    في "الاشتقاق" لابن دريد: ولد حارثة عامراً وهو ماء السماء، وولد عامر عمراً، وهو مزيقياء، فعمرو هو مزيقياء لا ابن مزيقياء. انظر: ص435.
    (2/11)
    بكة لغة:
    قال ابن هشام: أخبرني أبو عبيدة:
    أن بكة اسم لبطن مكة، لأنهم يتباكون فيها، أي يزدحمون وأنشدني:
    إذا الشريب أخذته أكه1 ... فخله حتى يبك بكه
    أي فدعه حتى يبك إبله أي يخليها إلى الماء فتزدحم عليه. وهو موضع البيت والمسجد. وهذان البيتان لعامان بن كعب بن عمرو بن سعد بن زيد مناة بن تميم.
    قال ابن إسحاق: فخرج عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمي بغزالي الكعبة وبحجر الركن فدفنهما في زمزم، وانطلق هو ومن معه من جرهم إلى اليمن، فحزنوا على ما فارقوا من أمر مكة وملكها حزنا شديدا، فقال عمرو بن الحارث بن مضاض في ذلك وليس بمضاض الأكبر:
    ـــــــ
    فكانت الدولة لبني حارثة عليهم واعتزلت بنو إسماعيل، فلم تكن مع أحد من الفريقين فعند ذلك ملكت خزاعة - وهم بنو حارثة - مكة، وصارت ولاية البيت لهم وكان رئيسهم عمرو بن لحي الذي تقدم ذكره قبل فشرد بقية جرهم، فسار فلهم في البلاد وسلط عليهم الذر والرعاف2 وأهلك بقيتهم السيل بإضم حتى كان آخرهم موتا امرأة ريئت تطوف بالبيت بعد خروجهم منها بزمان فعجبوا من طولها وعظم خلقتها، حتى قال لها قائل أجنية أنت أم إنسية؟ فقالت بل إنسية من جرهم، وأنشدت رجزا في معنى حديثهم واستكرت بعيرا من رجلين من جهينة، فاحتملاها على البعير إلى أرض خيبر، فلما أنزلاها بالمنزل الذي رسمت لهما، سألاها عن الماء فأشارت لهما إلى موضع الماء فوليا عنها، وإذا الذر قد تعلق بها، حتى بلغ خياشيمها وعينيها، وهي تنادي بالويل والثبور حتى دخل حلقها، وسقطت
    ـــــــ
    1 الأكة: شدة الحر، وقيل، وقيل: شددة الألم.
    2 الذر: صغار النحل، والرعاف: الدم.
    (2/12)
    وقائلة والدمع سكب مبادر ... وقد شرقت بالدمع منها المحاجر
    كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر
    فقلت لها والقلب مني كأنما ... يلجلجه بين الجناحين طائر
    بلى نحن كنا أهلها، فأزالنا ... صروف الليالي، والجدود العواثر
    وكنا ولاة البيت من بعد نابت ... نطوف بذاك البيت والخير ظاهر
    ونحن ولينا البيت من بعد نابت ... بعز فما يحظى لدينا المكاثر
    ملكنا فعززنا فأعظم بملكنا ... فليس لحي غيرنا ثم فاخر
    ألم تنكحوا من خير شخص علمته ... فأبناؤه منا، ونحن الأصاهر
    فإن تنثن الدنيا علينا بحالها ... فإن لها حالا، وفي التشاجر
    فأخرجنا منها المليك بقدرة ... كذلك - يا للناس - تجري المقادر
    أقول إذا نام الخلي، ولم أنم ... إذا العرش لا يبعد سهيل وعامر
    وبدلت منها أوجها لا أحبها ... قبائل منها حمير ويحابر
    وصرنا أحاديثا وكنا بغبطة ... بذلك عضتنا السنون الغوابر
    فسحت دموع العين تبكي لبلدة ... بها حرم أمن وفيها المشاعر
    ـــــــ
    لوجهها، وذهب الجهنيان إلى الماء فاستوطناه فمن هنالك صار موضع جهينة بالحجاز وقرب المدينة، وإنما هم من قضاعة، وقضاعة: من ريف العراق.
    غربة الحارث بن مضاض: فصل: رجع الحديث. وكان الحارث بن مضاض بن عمرو بن سعد بن الرقيب بن هي بن نبت بن جرهم الجرهمي قد نزل بقنونا من أرض الحجاز، فضلت له إبل فبغاها حتى أتى الحرم، فأراد دخوله ليأخذ إبله فنادى عمرو بن لحي من وجد جرهميا، فلم يقتله قطعت يده فسمع بذلك الحارث وأشرف على جبل من جبال مكة، فرأى إبله تنحر ويتوزع لحمها، فانصرف بائسا خائفا ذليلا، وأبعد في الأرض وهي غربة الحارث بن مضاض التي تضرب بها المثل حتى قال الطائي:
    (2/13)
    وتبكي لبيت ليس يؤذى حمامه ... يظل به أمنا، وفيه العصافر
    وفيه وحوش - لا ترام - أنيسة ... إذا خرجت منه فليست تغادر
    ـــــــ
    غربة تقتدي بغربة قيس ب ... ن زهير والحارث بن مضاض1
    وحينئذ قال الحارث الشعر الذي رسمه ابن إسحاق وهو قوله:
    كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
    الشعر، وفيه:
    ونبكي لبيت ليس يؤذى حمامه ... تظل به أمنا، وفيه العصافر
    أراد: العصافير وحذف الياء ضرورة ورفع العصافير على المعنى، أي وتأمن فيه العصافير وتظل به أمنا، أي ذات أمن ويجوز أن يكون أمنا جمع آمن مثل ركب جمع: راكب وفيه ولم يسمر بمكة سامر السامر اسم الجماعة يتحدثون بالليل وفي التنزيل {سَامِراً تَهْجُرُونَ} [المؤمنون 67] والحجون2 بفتح الحاء على فرسخ وثلث من مكة، قال الحميدي: كان سفيان ربما أنشد هذا الشعر فزاد فيه بعد قوله: فليست تغادر:
    ولم يتربع واسطا وجنوبه ... إلى السر من وادي الأراكة حاضر3
    وأبدلني ربي بها دار غربة ... بها الجوع باد والعدو المحاصر
    واسط وعامر وجرهم: قال الحميدي: واسط: الجبل الذي يجلس عنده المساكين إذا ذهبت إلى منى. وقوله فيه:
    لا يبعد سهيل وعامر
    ـــــــ
    1 غربة بفتح الغين: النوى والبعد، وبضمها: النزوح عن الوطن.
    2 والحجون كما في "المراصد": بأعلى مكة عند مقبرة أهلها.
    3 واسط: قيل: إن العرب سبعة مواضع، يقال لكل منها: واسط.
    (2/14)
    قال ابن هشام: "فأبناؤه منا", عن غير ابن إسحاق.
    __________
    عامر جبل من جبال مكة، يدل على ذلك قول بلال رضي الله عنه وهل يبدون لي عامر وطفيل1. على رواية من رواه هكذا، وجرهم هذا هو الذي تتحدث بها العرب في أكاذيبها، وكان من خرافاتها في الجاهلية أن جرهما ابن لملك أهبط من السماء لذنب أصابه فغضب عليه من أجله كما أهبط هاروت وماروت ثم ألقيت فيه الشهوة فتزوج امرأة فولدت له جرهما، قال قائلهم:
    لا هم إن جرهما عبادكا ... الناس طرف وهم تلادكا
    [بهم قديما عمرت بلادكا]2
    من كتاب "الأمثال" للأصبهاني.
    مكة وأسماؤها: فصل وذكر مكة وبكة وقد قيل في بكة ما ذكره من أنها تبك الجبابرة أي تكسرهم وتقدعهم وقيل من التباك وهو الازدحام ومكة من تمككت العظم إذا اجتذبت ما فيه من المخ وتمكك الفصيل ما في ضرع الناقة فكأنها تجتذب إلى نفسها ما في البلاد من الناس والأقوات التي تأتيها في المواسم وقيل لما كانت في بطن واد فهي تمكك الماء من جبالها وأخاشبها عند نزول المطر وتنجذب إليها السيول وأما قول الراجز الذي أنشده ابن هشام:
    إذا الشريب أخذته أكه ... فخله حتى يبك بكه3
    فالأكة: الشدة، وإكاك الدهر: شدائده.
    وذكر أنه كان يقال لها: الناسة، وهو من نست الشيء إذا أذهبته، والرواية في
    ـــــــ
    1 طفيل: جبل بمكة.
    2 ما بين قوسين عن الطبري: 2/285.
    3 في "اللسان": مك –وزن رد- الفصيل ما في الضرع أمه يمكه –وزن يرد- مكاً وامتك ومكمكة: امتص جميع ما فيه وشربه كله.
    (2/15)
    قال ابن إسحاق: وقال عمرو بن الحارث أيضا يذكر بكرا وغبشان وساكني مكة الذين خلفوا فيها بعدهم:
    يا أيها الناس سيروا إن قصركم ... أن تصبحوا ذات يوم لا تسيرونا1
    ـــــــ
    "الكتاب" بالنون وذكر الخطابي [في غريبه] أنه يقال لها: الباسة أيضا بالباء وهو من {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً} [الواقعة: 15]، أي فتت وثريت، كما يثرى السويق، قال الراجز:
    لا تخبزا خبزا وبسا بسا
    يقول: لا تشتغلا بالخبز وثريا الدقيق والتقماه2. يقال: إن هذا البيت للص أعجله الهرب.
    وذكر أبو عبيدة أن الخبز شدة السوق، والبس: ألين منه وبعده:
    ما ترك السير لهن نسا
    ومن أسماء مكة أيضا: الرأس وصلاح وأم رحم وكوثى، وأما التي يخرج منها الدجال فهي كوثى ربا3 ومنها كانت أم إبراهيم عليه السلام وقد تقدم اسمها، وأبوها هو الذي احتفر نهر كوثى، قاله الطبري.
    أسطورة: فصل: وذكر قول الحارث بن مضاض:
    يا أيها الناس سيروا إن قصركم ... أن تصبحوا ذات يوم لا تسيرونا4
    وذكر ابن هشام أنها وجدت بحجر باليمن ولا يعرف قائلها، وألفيت في كتاب أبي بحر سفيان بن العاصي خبرا لهذه الأبيات وأسنده أبو الحارث محمد بن أحمد
    ـــــــ
    1 قصركم: نهايتكم وغايتكم.
    2 ثرى الدقيق –فتح الثاء وتضعيف الراء- صب عليه الماء.
    3 في "المراصد" كوثى: ثلاثة مواضع بسواد العراق بأرض بابل.
    4 هي في "الطبري" 8/285 مع تقديم وتأخير.
    (2/16)
    .................................................. ........................................
    ـــــــ
    الجعفي عن عبد الله بن عبد السلام البصري قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن سليمان التمار قال أخبرني ثقة عن رجل من أهل اليمامة، قال وجد في بئر باليمامة ثلاثة أحجار وهي بئر طسم وجديس في قرية يقال لها: معنق بينها وبين الحجر ميل وهم من بقايا عاد، غزاهم تبع، فقتلهم فوجدوا في حجر من الثلاثة الأحجار مكتوبا:
    يا أيها الملك الذي ... بالملك ساعده زمانه
    ما أنت أول من علا ... وعلا شئون الناس شانه
    أقصر عليك مراقبا ... فالدهر مخذول أمانه
    كم من أشم معصب ... بالتاج مرهوب مكانه
    قد كان ساعده الزما ... ن وكان ذا خفض جنانه
    تجري الجداول حوله ... للجند مترعة جفانه
    قد فاجأته منية ... لم ينجه منها اكتنانه
    وتفرقت أجناده ... عنه وناح به قيانه
    والدهر من يعلق به ... يطحنه مفترشا جرانه
    والناس شتى في الهوى ... كالمرء مختلف بنانه
    والصمت أسعد للفتى ... ولقد يشرفه بيانه
    ووجد في الحجر الثاني مكتوبا أبيات:
    كل عيش تعله ... ليس للدهر خله
    يوم بؤسى ونعمى ... واجتماع وقله
    حبنا العيش والتكا ... ثر جهل وضله
    بينما المرء ناعم ... في قصور مظله
    في ظلال ونعمة ... ساحبا ذيل حله
    (2/17)
    حثوا المطي وأرخوا من أزمتها ... قبل الممات وقضوا ما تقضونا
    كنا أناسا كما كنتم فغيرنا ... دهر فأنتم كما كنا تكونونا1
    قال ابن هشام: هذا ما صح له منها. وحدثني بعض أهل العلم بالشعر: أن هذه
    ـــــــ
    لا يرى الشمس ملغضا ... رة إذ زل زله
    لم يقلها، وبدلت ... عزة المرء ذله
    آفة العيش والنع ... يم كرور الأهله
    وصل يوم بليلة ... واعتراض بعله
    والمنايا جواثم ... كالصقور المدله
    بالذي تكره النف ... وس عليها مطله
    وفي الحجر الثالث مكتوبا:
    يا أيها الناس سيروا إن قصركم ... أن تصبحوا ذات يوم لا تسيرونا
    حثوا المطي وأرخوا من أزمتها ... قبل الممات وقضوا ما تقضونا
    كنا أناسا كما كنتم فغيرنا ... دهر فأنتم كما كنا تكونونا
    وذكر أبو الوليد الأزرقي في كتابه في "فضائل مكة" زيادة في هذه الأبيات وهي:
    قد مال دهر علينا ثم أهلكنا
    ... بالبغي فينا وبز الناس ناسونا
    إن التفكر لا يجدي بصاحبه ... عند البديهة في علم له دونا
    قضوا أموركم بالحزم إن لها ... أمور رشد رشدتم ثم مسنونا
    واستخبروا في صنيع الناس قبلكم ... كما استبان طريق عنده الهونا
    كنا زمانا ملوك الناس قبلكم ... بمسكن في حرام الله مسكونا
    ـــــــ
    1 زاد بعضهم على هذه الأبيات:
    إن التفكير لا يجدي لصاحبه ... عند البديهة في علم له دونا
    فاستخبروا في صنيع الناس قبلكم ... كما استبان طريق عنده الهونا
    كنا زماناً ملوك الناس قبلكم ... بمسكن في حرام الله مسكونا
    (2/18)
    الأبيات أول شعر قيل في العرب، وأنها وجدت مكتوبة في حجر باليمن ولم يسم لي قائلها1.
    __________
    ووجد على حائط قصير بدمشق لبني أمية مكتوبا:
    يا أيها القصر الذي كانت ... تحف به المواكب
    أين المواكب والمض ... ارب والنجائب والجنائب
    أين العساكر والدس ... اكر والمقانب والكتائب
    ما بالهم لم يدفعوا ... لما أتت عنك النوائب
    ما بال قصرك واهيا ... قد عاد منهد الجوانب
    ووجد في الحائط الآخر من حيطانها جوابها:
    يا سائلي عما مضى ... من دهرنا ومن العجائب
    والقصر إذ أودى، فأضحى ... بعد منهد الجوانب
    وعن الجنود أولي العقو ... د ومن بهم كنا نحارب
    وبهم قهرنا عنوة ... من بالمشارق والمغارب
    وتقول لم لم يدفعوا ... لما أتت عنك النوائب
    هيهات لا ينجي من المو ... الكتائب والمقانب
    ـــــــ
    1 ويروى: أنه وجد في بئر باليمامة ثلاثة أحجار، فوجدوا في كل حجر من الثلاثة مكتوباً هذه الأبيات.
    (2/19)
    استبداد قوم من خزاعة بولاية البيت
    ...
    استبداد قوم من خزاعة بولاية البيت
    قال ابن إسحاق: ثم إن غبشان من خزاعة وليت البيت دون بني بكر بن عبد
    __________
    قصي وخزاعة وولاية البيت:
    فصل: في حديث قصي ذكر فيه أن قريشا قرعة ولد إسماعيل هكذا بالقاف
    (2/19)
    مناة وكان الذي يليه منهم عمرو بن الحارث الغبشاني، وقريش إذ ذاك حلول وصرم وبيوتات متفرقون في قومهم من بني كنانة فوليت خزاعة البيت يتوارثون ذلك كابرا عن كابر حتى كان آخرهم حليل بن حبشية ابن سلول بن كعب بن عمرو الخزاعي.
    قال ابن هشام: يقال حبشية ابن سلول.
    __________
    وهي الرواية الصحيحة وفي بعض النسخ فرعة بالفاء والقرعة بالقاف هي نخبة الشيء وخياره وقريع الإبل فحلها، وقريع القبيلة سيدها، ومنه اشتق الأقرع بن حابس وغيره ممن سمي من العرب بالأقرع.
    وذكر انتقال ولاية البيت من خزاعة إليه ولم يذكر من سبب ذلك أكثر من أن قصيا رأى نفسه أحق بالأمر منهم وذكر غيره أن حليلا كان يعطي مفاتيح البيت ابنته حبى، حين كبر وضعف فكانت بيدها، وكان قصي ربما أخذها في بعض الأحيان ففتح البيت للناس وأغلقه ولما هلك حليل أوصى بولاية البيت إلى قصي، فأبت خزاعة أن تمضي ذلك لقصي فعند ذلك هاجت الحرب بينه وبين خزاعة، وأرسل إلى رزاح أخيه يستنجده عليهم.
    ويذكر أيضا أن أبا غبشان من خزاعة، واسمه سليم - وكانت له ولاية الكعبة - باع مفاتيح الكعبة من قصي بزق خمر فقيل أخسر من صفقة أبي غبشان1 ذكره المسعودي والأصبهاني في "الأمثال".
    وكان الأصل في انتقال ولاية البيت من ولد مضر إلى خزاعة أن الحرم حين ضاق عن ولد نزار وبغت فيه إياد أخرجتهم بنو مضر بن نزار، وأجلوهم عن مكة، فعمدوا في الليل إلى الحجر الأسود، فاقتلعوه واحتملوه على بعير فرزح البعير به وسقط إلى الأرض وجعلوه على آخر فرزح أيضا، وعلى الثالث ففعل مثل ذلك
    ـــــــ
    1 بضم الغين أو فتحها وفي "القاموس" أيضاً قصة أبي غبشان، وفيه يقول: ضربت به الأمثال في الحمق والندم وخسارة الصفقة.
    (2/20)
    ـــــــ
    فلما رأوا ذلك دفنوه وذهبوا، فلما أصبح أهل مكة، ولم يروه وقعوا في كرب عظيم وكانت امرأة من خزاعة قد بصرت به حين دفن فأعلمت قومها بذلك فحينئذ أخذت خزاعة على ولاة البيت أن يتخلوا لهم عن ولاية البيت ويدلوهم على الحجر، ففعلوا ذلك فمن هنالك صارت ولاية البيت لخزاعة إلى أن صيرها أبو غبشان إلى عبد مناف هذا معنى قول الزبير.
    (2/21)
    تزوج قصي بن كلاب حبى بنت حليل
    ...
    تزوج قصي بن كلاب حبى بنت حليل:
    أولاد قصي:
    قال ابن إسحاق: ثم إن قصي بن كلاب خطب إلى حليل ابن حبشية بنته حبى، فرغب فيه حليل فزوجه فولدت له عبد الدار وعبد مناف وعبد العزى، وعبدا. فلما انتشر ولد قصي، وكثر ماله وعظم شرفه هلك حليل.
    تولى قصي أمر البيت ونصرة رزاح له:
    فرأى قصي أنه أولى بالكعبة وبأمر مكة من خزاعة وبني بكر وأن قريشا قرعة إسماعيل بن إبراهيم وصريح ولده. فكلم رجالا من قريش، وبني كنانة ودعاهم إلى إخراج خزاعة وبني بكر من مكة، فأجابوه. وكان ربيعة بن حرام من عذرة بن سعد بن زيد قد قدم مكة بعدما هلك كلاب فتزوج فاطمة بنت سعد بن سيل وزهرة يومئذ رجل وقصي فطيم فاحتملهما إلى بلاده فحملت قصيا معها، وأقام زهرة فولدت لربيعة رزاحا. فلما بلغ قصي، وصار رجلا أتى مكة، فأقام بها، فلما أجابه قومه إلى ما دعاهم إليه كتب إلى أخيه من أمه رزاح بن ربيعة، يدعوه إلى نصرته والقيام معه فخرج رزاح بن ربيعة، ومعه إخوته حن بن ربيعة، ومحمود بن
    ـــــــ
    نشأة قصي:
    فصل: وذكر أن قصيا نشأ في حجر ربيعة بن حرام ثم ذكر رجوعه إلى مكة، وزاد غيره في شرح الخبر، فقال وكان قصي رضيعا حين احتملته أمه مع بعلها ربيعة
    (2/21)
    ربيعة، وجلهمة بن ربيعة، وهم لغير أمه فاطمة فيمن تبعهم من قضاعة في حاج العرب، وهم مجمعون لنصرة قصي. وخزاعة تزعم أن حليل ابن حبشية أوصى بذلك قصيا وأمره به حين انتشر له من ابنته من الولد ما انتشر. وقال أنت أولى بالكعبة وبالقيام عليها، وبأمر مكة من خزاعة، فعند ذلك طلب قصي ما طلب ولم نسمع ذلك من غيرهم فالله أعلم أي ذلك كان.
    ما كان يليه الغوث بن مر من الإجازة للناس بالحج:
    وكان الغوث بن مر بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر يلي الإجازة للناس بالحج من عرفة وولده من بعده وكان يقال له ولولده صوفة. وإنما ولي ذلك الغوث بن مر، لأن أمه كانت امرأة من جرهم، وكانت لا تلد فنذرت لله إن هي ولدت رجلا: أن تصدق به على الكعبة عبدا لها يخدمها، ويقوم عليها، فولدت الغوث، فكان يقوم على الكعبة في الدهر الأول مع أخواله من جرهم، فولي الإجازة بالناس من عرفة لمكانه الذي كان به من الكعبة، وولده من بعده حتى انقرضوا. فقال مر بن أد لوفاء نذر أمه:
    __________
    فنشأ ولا يعلم لنفسه أبا إلا ربيعة، ولا يدعى إلا له فلما كان غلاما يفعة أو حزورا1 سابه رجل من قضاعة، فعيره بالدعوة وقال لست منا، وإنما أنت فينا ملصق فدخل على أمه وقد وجم لذلك فقالت له يا بني صدق إنك لست منهم ولكن رهطك خير من رهطه وآباؤك أشرف من آبائه وإنما أنت قرشي، وأخوك وبنو عمك بمكة وهم جيران بيت الله الحرام فدخل في سيارة حتى أتى مكة، وقد ذكرنا أن اسمه زيد وإنما كان قصيا أي بعيدا عن بلده فسمي قصيا2.
    ـــــــ
    1 الغلام القوي.
    2 قال الخطابي: سمي قصياً لأنه قصي قومه، أي: تقاصهم بالشام فينقلهم إلى مكة. انظر: "نهاية الأرب". 16/20 وما بعدها.
    (2/22)
    إني جعلت رب من بنيه ... ربيطة بمكة العليه
    فباركن لي بها أليه ... واجعله لي من صالح البريه
    وكان الغوث بن مر - فيما زعموا - إذا دفع بالناس قال:
    لا هم إني تابع تباعه ... إن كان إثم فعلى قضاعه
    قال ابن إسحاق: حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عباد . قال.
    صوفة ورمي الجمار:
    "كانت صوفة تدفع بالناس من عرفة، وتجيز بهم إذا نفروا من منى، فإذا كان يوم النفر أتوا لرمي الجمار ورجل من صوفة يرمي للناس لا يرمون حتى يرمي. فكان ذوو الحاجات المتعجلون يأتونه فيقولون له قم فارم حتى نرمي معك، فيقول لا والله حتى تميل الشمس فيظل ذوو الحاجات الذين يحبون التعجل يرمونه بالحجارة ويستعجلونه بذلك ويقولون له ويلك قم فارم، فيأبى عليهم حتى إذا مالت الشمس قام فرمى، ورمى الناس معه".
    تولي بني سعد أمر البيت بعد صوفة:
    قال ابن إسحاق: فإذا فرغوا من رمي الجمار وأرادوا النفر من منى، أخذت
    ـــــــ
    الغوث بن مر وصوفة:
    فصل وذكر قصة الغوث بن مر، ودفعه بالناس من عرفة1 وقال بعض نقلة الأخبار إن ولاية الغوث بن مر كانت من قبل ملوك كندة2.
    وقوله إن كان إثما فعلى قضاعة. إنما خص قضاعة بهذا ; لأن منهم محلين
    ـــــــ
    1 في "السيرة": من بعد عرفة، وفي نسخ أخرى: من عرفة.
    2 في "القاموس": وكندة –بالكسر- ويقال: كندي: لقب ثور بن عفير أبو حي من اليمن، لأنه كند أباه النعمة، ولحق بأخواله، والكند: القطع.
    (2/23)
    صوفة بجانبي العقبة، فحبسوا الناس وقالوا: أجيزي صوفة فلم يجز أحد من الناس حتى يمروا، فإذا نفرت صوفة ومضت خلي سبيل الناس فانطلقوا بعدهم فكانوا كذلك حتى انقرضوا، فورثهم ذلك من بعدهم بالقعدد بنو سعد بن زيد مناة بن تميم وكانت من بني سعد في آل صفوان بن الحارث بن شجنة.
    ـــــــ
    يستحلون الأشهر الحرم، كما كانت خثعم وطيئ تفعل وكذلك كانت النسأة تقول إذا حرمت صفرا أو غيره من الأشهر بدلا من الشهر الحرام - يقول قائلهم قد حرمت عليكم الدماء إلا دماء المحلين.
    فصل وأما تسمية الغوث وولده صوفة فاختلف في سبب ذلك. فذكر أبو عبيد الله الزبير بن أبي بكر القاضي في أنساب قريش له عند ذكر صوفة البيت الواقع في السيرة لأوس بن مغراء السعدي وهو:
    لا يبرح الناس ما حجوا معرفهم
    البيت. وبعده:
    مجد بناه لنا قدما أوائلنا ... وأورثوه طوال الدهر أحزانا1
    ومغراء: تأنيث أمغر وهو الأحمر ومنه قول الأعرابي للنبي - صلى الله عليه وسلم - أهو هذا الرجل الأمغر؟ ثم قال قال أبو عبيدة وصوفة وصوفان يقال لكل من ولي من البيت شيئا من غير أهله أو قام بشيء من خدمة البيت أو بشيء من أمر المناسك يقال لهم صوفة وصوفان. قال أبو عبيدة لأنه بمنزلة الصوف فيهم القصير والطويل والأسود والأحمر ليسوا من قبيلة واحدة. وذكر أبو عبد الله أنه حدثه أبو الحسن الأثرم عن هشام بن محمد بن السائب الكلبي قال إنما سمي الغوث بن مر: صوفة لأنه كان لا يعيش لأمه ولد فنذرت لئن عاش لتعلقن برأسه صوفة ولتجعلنه ربيطا
    ـــــــ
    1 أوس بن مغراة أحد بني جعفر قريع بن عوف بن كعب بن سعد زيد بن سعد بن زيد مناة بن تميم، وقيل: أوس بن تميم بن مغراة، وله، ترجمة في "الإصابة" قال: ويكنى أبا المغراة، وبقي إلى أيام معاوية رضي الله عنه.
    (2/24)
    نسب صفوان:
    قال ابن هشام: صفوان بن جناب بن شجنة عطارد بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم.
    صفوان وكرب والإجازة في الحج:
    قال ابن إسحاق: وكان صفوان هو الذي يجيز للناس بالحج من عرفة ثم بنوه من بعده حتى كان آخرهم الذي قام عليه الإسلام كرب بن صفوان وقال أوس بن تميم بن مغراء السعدي:
    لا يبرح الناس ما حجوا معرفهم ... حتى يقال أجيزوا آل صفوانا
    قال ابن هشام: هذا البيت في قصيدة لأوس بن مغراء.
    ـــــــ
    للكعبة ففعلت فقيل له صوفة ولولده من بعده وهو الربيط وحدث إبراهيم بن المنذر عن عمر بن عبد العزيز بن عمران قال أخبرني عقال بن شبة قال قالت أم تميم بن مر - وولدت نسوة - فقالت لله علي لئن ولدت غلاما لأعبدنه للبيت فولدت الغوث، وهو أكبر ولد مر فلما ربطته عند البيت أصابه الحر، فمرت به - وقد سقط وذوى واسترخى فقالت ما صار ابني إلا صوفة فسمي صوفة1.
    بنو سعد وزيد مناة:
    فصل وذكر وراثة بني سعد إجازة الحاج بالقعدد من بني الغوث بن مر، وذلك أن سعدا هو ابن زيد مناة بن تميم بن مر وكان سعد أقعد بالغوث بن مر من غيره من العرب2، وزيد مناة بن تميم يقال فيه مناة ومناءة بالهمز وتركه ويجوز أن يكون - إذا همز - مفعلة من ناء ينوء ويجوز أن يكون فعالة من المنيئة وهي المدبغة كما
    ـــــــ
    1 في "القاموس" عن صوفة أيضاً: أو هم قوم من أفناء القبائل تجمعوا فتشبكوا كتشبك الصوفة.
    2 القعدد: القريب من الجد الأكبر. انظر: "المحبر لابن حبيب" ص257.
    (2/25)
    ما كانت عليه عدوان من إفاضة المزدلفة:
    ...
    ما كانت عليه عدوان من إفاضة المزدلفة:
    شعر ذي الأصبع في إفاضتهم بالناس:
    وأما قول ذي الإصبع العدواني واسمه حرثان بن عمرو، وإنما سمي ذا الإصبع لأنه كان له إصبع فقطعها:
    عذير الحي من عدوا ... ن كانوا حية الأرض
    ـــــــ
    قالت امرأة من العرب لأخرى: [تقول لك أمي]: أعطيني نفسا أو نفسين أمعس به منيئتي، فإني أفدة. النفس قطعة من الدباغ والمنيئة الجلد في الدباغ وأفدة مقاربة لاستتمام ما تريد صلاحه وتمامه من ذلك الدباغ1 وأنشد أبو حنيفة:
    إذا أنت باكرت المنيئة باكرت ... قضيب أراك بات في المسك منقعا
    وأنشد يعقوب:
    إذا أنت باكرت المنيئة باكرت ... مداكا لها من زعفران وإثمدا2
    اشتقاق المزدلفة:
    فصل: وأما قوله فلأن الإفاضة من المزدلفة كانت في عدوان فالمزدلفة مفتعلة من الازدلاف وهو الاجتماع. وفي التنزيل: {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ} [الشعراء: 64] وقيل بل الازدلاف هو الاقتراب والزلفة القربة فسميت مزدلفة ; لأن الناس يزدلفون فيها إلى الحرم، وفي الخبر : "أن آدم عليه السلام لما هبط إلى الأرض3 لم يزل يزدلف إلى حواء، وتزدلف إليه حتى تعارفا بعرفة واجتمعا بالمزدلفة فسميت جمعا، وسميت المزدلفة"4.
    ـــــــ
    1 في "إصلاح المنطق" أن الذي قص هذا هو الأصمعي، وفي "اللسان": أمعس به بدلاً من: أمعس بها.
    2 الشعر لحميد بن ثور.
    3 الرأي الراجح أن جنة آدم كانت في الأرض.
    4 لم يرد هذا في حديث صحيح.
    (2/26)
    .................................................. ............................................
    ـــــــ
    ذو الإصبع وآل ظرب:
    وأما ذو الإصبع1 الذي ذكره فهو حرثان بن عمرو، ويقال فيه حرثان بن الحارث بن محرث بن ربيعة بن هبيرة بن ثعلبة بن ظرب وظرب هو والد عامر بن الظرب الذي كان حكم العرب، وذكر ابن إسحاق قصته في الخنثى، وفيه يقول الشاعر [المتلمس]:
    لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا ... وما علم الإنسان إلا ليعلما2
    وكان قد خرف حتى تفلت ذهنه فكانت العصا تقرع له إذا تكلم في نادي قومه تنبيها له لئلا تكون له السقطة في قول أو حكم. وكذلك كان ذو الإصبع كان حكما في زمانه وعمر ثلاثمائة سنة وسمي ذا الإصبع لأن حية نهشته في أصبعه.
    وجدهم ظرب هو عمرو بن عياذ بن يشكر بن بكر بن عدوان، واسم عدوان: تيم وأمه جديلة بنت أد بن طابخة وكانوا أهل الطائف، وكثر عددهم فيها حتى بلغوا زهاء سبعين ألفا، ثم هلكوا ببغي بعضهم على بعض وكان ثقيف وهو قسي بن منبه صهرا لعامر بن الظرب كانت تحته زينب بنت عامر وهي أم أكثر ثقيف، وقيل هي أخت عامر وأختها ليلى بنت الظرب هي أم دوس بن عدنان وسيأتي طرف من خبره فيما بعد - إن شاء الله - فلما هلكت عدوان، وأخرجت بقيتهم ثقيف من الطائف، صارت الطائف بأسرها لثقيف إلى اليوم.
    وقوله: حية الأرض: يقال فلان حية الأرض وحية الوادي إذا كان مهيبا يذعر منه كما قال حسان:
    ـــــــ
    1 سبب تسميته في "الاشتقاق" ص268 واسمه: حرثان.
    2 بيت الشعر: لذي الحلم الخ هو للمتلمس. انظر "المحبر" ص181.
    (2/27)
    بغى بعضهم ظلما ... فلم يرع على بعض
    ومنهم كانت السادا ... ت والموفون بالقرض
    ومنهم من يجيز النا ... س بالسنة والفرض
    ومنهم حكم يقضي ... فلا ينقض ما يقضي
    أبو سيارة وإفاضته بالناس:
    وهذه الأبيات في قصيدة له - فلأن الإضافة من المزدلفة كانت في عدوان - فيما حدثني زياد بن عبد الله البكائي عن محمد بن إسحاق - يتوارثون ذلك كابرا عن كابر. حتى كان آخرهم الذي قام عليه الإسلام أبو سيارة عميلة بن الأعزل ففيه يقول شاعر من العرب:
    يا محكم بن طفيل قد أتيح لكم ... لله در أبيكم حية الوادي
    يعني بحية الوادي: خالد بن الوليد رضي الله عنه.
    فصل: وقوله: عذير الحي من عدوان1. نصب عذيرا على الفعل المتروك إظهاره كأنه يقول هاتوا عذيره أي من يعذره فيكون العذير بمعنى: العاذر ويكون أيضا بمعنى: العذر مصدرا كالحديث ونحوه.
    أبو سيارة:
    وذكر أبا سيارة وهو عميلة بن الأعزل في قول ابن إسحاق، وقال غيره:
    ـــــــ
    1 عدة القصيدة التي في "السيرة" هي في "الأغاني": اثنا عشر بيتاً في ترجمة ذي الأصبع، والقصيدة عن تفرق عدون وتشتتهم في البلاد مع كثرتهم، وفي "اللسان" عن حية الوادي: إذا كان شديد الشكيمة حامياً لحوزته.
    (2/28)
    نحن دفعنا عن أبي سياره ... وعن مواليه بني فزاره
    حتى أجاز سالما حماره ... مستقبل القبلة يدعو جاره
    قال وكان أبو سيارة يدفع بالناس على أتان له فلذلك يقول سالما حماره.
    أمر عامر بن ظرب بن عمرو بن عياذ بن يشكر بن عدوان:
    قضاؤه في خنثى ومشورة جاريته سخيلة:
    قال ابن إسحاق وقوله حكم يقضي يعني: عام بن ظرب بن عمرو بن عياذ بن يشكر بن عدوان العدواني. وكانت العرب لا يكون بينها نائرة ولا عضلة في قضاء إلا أسندوا ذلك إليه ثم رضوا بما قضى فيه فاختصم إليه في بعض ما كانوا
    ـــــــ
    اسمه العاصي. قاله الخطابي. واسم الأعزل خالد ذكره الأصبهاني، وكانت له أتان عوراء خطامها ليف يقال إنه دفع عليها في الموقف أربعين سنة وإياها يعني الراجز في قوله:
    حتى يجيز سالما حماره.
    وكانت تلك الأتان سوداء ولذلك يقول:
    لا هم ما لي في الحمار الأسود ... أصبحت بين العالمين أحسد
    فق أبا سيارة المحسد ... من شر كل حاسد إذ يحسد
    وأبو سيارة هذا هو الذي يقول: أشرق ثبير كيما نغير وهو الذي يقول:
    لا هم إني تابع تباعه1
    ـــــــ
    1 إن العرب لما سمعوه اللهم في كلام الخلق توهموا أنه إذا ألغيت الألف وللام من الله كان الباقي: لاه فقالوا: لاهم.
    (2/29)
    يختلفون فيه في رجل خنثى، له ما للرجل وله ما للمرأة فقالوا: أنجعله رجلا أو امرأة؟ ولم يأتوه بأمر كان أعضل منه. فقال حتى أنظر في أمركم فوالله ما نزل بي مثل هذه منكم يا معشر العرب فاستأخروا عنه. فبات ليلته ساهرا يقلب أمره وينظر في شأنه لا يتوجه له منه وجه وكانت له جارية يقال لها: سخيلة ترعى عليه غنمه وكان يعاتبها إذا سرحت فيقول صبحت والله يا سخيل وإذا أراحت عليه قال مسيت والله يا سخيل وذلك أنها كانت تؤخر السرح حتى يسبقها بعض الناس وتؤخر الإراحة حتى يسبقها بعض الناس. فلما رأت سهره وقلقه وقلة قراره على فراشه قالت ما لك لا أبا لك ما عراك في ليلتك هذه؟ قال ويلك دعيني، أمر ليس من شأنك، ثم عادت له بمثل قولها، فقال في نفسه عسى أن تأتي مما أنا فيه بفرج فقال ويحك اختصم إلي في ميراث خنثى، أأجعله رجلا أو امرأة؟ فوالله ما أدري ما أصنع ما يتوجه لي فيه وجه؟ قال فقالت سبحان الله لا أبا لك أتبع القضاء المبال أقعده فإن بال من حيث يبول الرجل فهو رجل وإن بال من حيث تبول المرأة فهي امرأة. قال مسي سخيل بعدها، أو صبحي، فرجتها والله ثم خرج على الناس حين أصبح فقضى بالذي أشارت عليه به.
    ـــــــ
    وكان يقول في دعائه اللهم بغض بين رعائنا، وحبب بين نسائنا، واجعل المال في سمحائنا: وهو أول من جعل الدية مائة من الإبل فيما ذكر أبو اليقظان حكاه عنه حمزة بن الحسن الأصبهاني.
    وقوله وعن مواليه بني فزاره. يعني بمواليه بني عمه لأنه من عدوان وعدوان وفزارة من قيس عيلان، وقوله مستقبل القبلة يدعو جاره. أي يدعو الله عز وجل يقول اللهم كن لنا جارا مما نخافه أي مجيرا.
    الحكم بالأمارات:
    فصل وذكر عامر بن الظرب وحكمه في الخنثى، وما أفتته به جاريته سخيلة وهو حكم معمول به في الشرع وهو من باب الاستدلال بالأمارات والعلامات وله
    (2/30)
    .................................................. ............................................
    ـــــــ
    أصل في الشريعة قال الله سبحانه {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} [يوسف: 18] وجه الدلالة على الكذب في الدم أن القميص المدمى لم يكن فيه خرق ولا أثر لأنياب الذئب وكذلك قوله {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [يوسف: 26] الآية. وقول النبي صلى الله عليه وسلم في المولود "إن جاءت به أورق جعدا جماليا فهو للذي رميت به"1 فالاستدلال بالأمارات أصل ينبني عليه كثير من الأحكام في الحدود والميراث وغير ذلك. والحكم في الخنثى أن يعتبر المبال ويعتبر بالحيض فإن أشكل من كل وجه حكم بأن يكون له في الميراث سهم امرأة ونصف وفي الدية كذلك وأكثر أحكامه مبنية على الاجتهاد.
    الشداخ:
    فصل وذكر يعمر الشداخ بن عوف حين حكموه وأنه سمي بالشداخ لما شدخ من دماء خزاعة2 ويعمر الشداخ هو جد بني دأب الذين أخذ عنهم كثير من علم الأخبار والأنساب وهم عيسى بن يزيد بن [بكر] بن دأب وأبوه يزيد وحذيفة بن دأب ودأب هو ابن كرز بن أحمر من بني يعمر بن عوف الذي شدخ دماء خزاعة، أي أبطلها، وأصل الشدخ الكسر والفضخ ومنه الغرة الشادخة شبهت بالضربة الواسعة. والشداخ بفتح الشين كما قال ابن هشام، والشداخ بضمها إنما هو جمع، وجائز أن يسمى هو وبنوه الشداخ كما يقال المناذرة في المنذر وبنيه والأشعرون في بني الأشعر من سبأ3 وهو باب يكثر ويطول. وأم يعمر الشداخ اسمها: السؤم
    ـــــــ
    1 هذا جزء من حديث –رواه أبو داود مطولاً، وفي إسناده عباد بن منصور، وقد تكلم في غير واحد، وهو في قذف هلال بن أمية أحد الثلاثة الذين خلفوا امرأته بشريك بن سحماء.
    2 في "الاشتقاق": إنما سمي الشداخ لأنه أصلح بين قريش وخزاعة في الحرب التي كانت بينهم.
    3 الأشعر هو: نبت بن زيد بن كهلان بن سبأ.
    (2/31)
    ـــــــ
    بنت عامر بن جرة بضم الجيم وسيأتي ذكر جرة بالكسر2 ذكره ابن ماكولا. ومن بني الشداخ بلعاء بن قيس بن عبد الله بن يعمر الشداخ الشاعر المذكور في شعر الحماسة اسمه حميضة ولقب بلعاء لقوله:
    أنا ابن قيس سبعا وابن سبع ... أبار من قيس قبيلا فالتمع
    (2/32)
    غلب قصي بن كلاب على أمر مكة وجمعه أمر قريش ومعونة قضاعة له:
    ...
    غلب قصي بن كلاب على أمر مكة وجمعه أمر قريش ومعونة قضاعة له:
    هزيمة صوفة:
    قال ابن إسحاق: فلما كان ذلك العام فعلت صوفة كما كانت تفعل وقد عرفت ذلك لها العرب، وهو دين في أنفسهم في عهد جرهم وخزاعة وولايتهم. فأتاهم قصي بن كلاب بمن معه من قومه من قريش وكنانة وقضاعة عند العقبة، فقال لنحن أولى بهذا منكم، فقاتلوه فاقتتل الناس قتالا شديدا، ثم انهزمت صوفة وغلبهم قصي على ما كان بأيديهم من ذلك.
    محاربة قصي لخزاعة وبني بكر وتحكيم يعمر بن عوف:
    وانحازت عند ذلك خزاعة وبنو بكر عن قصي، وعرفوا أنه سيمنعهم كما منع صوفة وأنه سيحول بينهم وبين الكعبة وأمر مكة. فلما انحازوا عنه باداهم1 وأجمع لحربهم وخرجت له خزاعة وبنو بكر فالتقوا، فاقتتلوا قتالا شديدا بالأبطح ، حتى كثرت
    ـــــــ
    ولاية قصي البيت
    ذكر فيه أمر قصي وما جمع من أهل مكة، وأنشد:
    ـــــــ
    1 باداهم: كاشفهم.
    2 في "القاموس": السوم بفتح السين وواو ساكنة بنت بكسر الجيم: أعرابية.
    (2/32)
    القتلى في الفريقين جميعا، ثم إنهم تداعوا إلى الصلح وإلى أن يحكموا بينهم رجلا من العرب، فحكموا يعمر بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة فقضى بينهم بأن قصيا أولى بالكعبة وأمر مكة من خزاعة، وأن كل دم أصابه قصي من خزاعة وبني بكر موضوع يشدخه1 تحت قدميه وأن ما أصابت خزاعة وبنو بكر من قريش وكنانة وقضاعة، ففيه الدية مؤداة وأن يخلى بين قصي وبين الكعبة ومكة.
    سبب تسمية يعمر بالشداخ:
    فسمي يعمر2 بن عوف يومئذ الشداخ لما شدخ من الدماء ووضع منها.
    قال ابن هشام: ويقال الشداخ.
    قصي أميراً على مكة وسبب تسميته مجمعاً:
    قال ابن إسحاق: فولي قصي البيت وأمر مكة، وجمع قومه من منازلهم إلى مكة، وتملك على قومه وأهل مكة فملكوه إلا أنه قد أقر للعرب ما كانوا عليه وذلك أنه كان يراه دينا في نفسه لا ينبغي تغييره فأقر آل صفوان وعدوان والنسأة ومرة بن عوف على ما كانوا عليه حتى جاء الإسلام فهدم الله به ذلك كله. فكان قصي أول بني كعب بن لؤي أصاب ملكا أطاع له به قومه فكانت إليه الحجابة والسقاية والرفادة والندوة، واللواء فحاز شرف مكة كله. وقطع مكة رباعا بين قومه فأنزل كل قوم من قريش منازلهم من مكة التي أصبحوا عليها، ويزعم الناس أن قريشا هابوا قطع الحرم في منازلهم فقطعها قصي بيده وأعوانه فسمته قريش: مجمعا لما جمع من أمرها، وتيمنت بأمره فما تنكح امرأة ولا يتزوج رجل من قريش، وما يتشاورون في أمر نزل بهم ولا يعقدون لواء لحرب قوم من
    ـــــــ
    1 يشدخه: يكسره، ويريد أنه أبطل تلك الدماء، ولم يجعل لها حظاً، ولذلك قيل: تحت قدميه.
    2 يعمر الشداخ: هو جد بني دأب الذين أخذ عنهم كثير من علم الأخبار والأنساب.
    (2/33)
    غيرهم إلا في داره يعقده لهم بعض ولده وما تدرع1 جارية إذا بلغت أن تدرع من قريش إلا في داره يشق عليها فيها درعها ثم تدرعه ثم ينطلق بها إلى أهلها. فكان أمره في قومه من قريش في حياته ومن بعد موته كالدين المتبع لا يعمل بغيره.
    واتخذ لنفسه دار الندوة، وجعل بابها إلى مسجد الكعبة، ففيها كانت قريش تقضي أمورها:
    قال ابن هشام: وقال الشاعر:
    قصي لعمري كان يدعى مجمعا ... به جمع الله القبائل من فهر
    قال ابن إسحاق: حدثني عبد الملك بن راشد عن أبيه قال سمعت السائب
    ـــــــ
    قصي لعمري كان يدعى مجمعا2
    البيت وبعده:
    هموا ملئوا البطحاء مجدا وسوددا ... وهم طردوا عنا غواة بني بكر
    ويذكر أن هذا الشعر لحذافة بن جمح.
    وذكر أن قصيا قطع مكة رباعا3، وأن أهلها هابوا قطع شجر الحرم للبنيان.قال الواقدي: الأصح في هذا الخبر أن قريشا حين أرادوا البنيان قالوا لقصي كيف نصنع في شجر الحرم، فحذرهم قطعها وخوفهم العقوبة في ذلك فكان أحدهم يحوف بالبنيان حول الشجرة، حتى تكون في منزله. قال فأول من ترخص في قطع شجر الحرم للبنيان عبد الله بن الزبير حين ابتنى دورا بقعيقعان لكنه جعل دية كل شجرة بقرة وكذلك يروى عن عمر - رضي الله [عنه]4 - أنه قطع دوحة كانت في دار
    ـــــــ
    1 ادرعت الجارية: لبست الدرع.
    2 في "الطبري": 2/256: أبوكم قصي كان يدعى مجمعاً.
    3 أي: دوراً.
    4 زيادة يقتضيها السياق.
    (2/34)
    ابن خباب صاحب المقصورة يحدث أنه سمع رجلا يحدث عمر بن الخطاب، وهو خليفة حديث قصي بن كلاب، وما جمع من أمر قومه وإخراجه خزاعة وبني بكر من مكة، وولايته البيت وأمر مكة، فلم يرد ذلك عليه ولم ينكره.
    __________
    أسد بن عبد العزى، كانت تنال أطرافها ثياب الطائفين بالكعبة وذلك قبل أن يوسع المسجد فقطعها عمر - رضي الله عنه - ووداها بقرة ومذهب مالك - رحمه الله - في ذلك ألا دية في شجر الحرم. قال ولم يبلغني في ذلك شيء. وقد أساء من فعل ذلك وأما الشافعي - رحمه الله - فجعل في الدوحة بقرة وفيما دونها شاة. وقال أبو حنيفة - رحمه الله - إن كانت الشجرة التي في الحرم مما يغرسها الناس ويستنبتونها، فلا فدية على من قطع شيئا منها، وإن كان من غيرها، ففيه القيمة بالغا ما بلغت.
    وذكر أبو عبيد: أن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أفتى فيها بعتق1 رقبة.
    دار الندوة:
    وذكر أن قصيا اتخذ دار الندوة، وهي الدار التي كانوا يجتمعون فيها للتشاور ولفظها مأخوذ من لفظ الندي والنادي والمنتدى، وهو مجلس القوم الذي يندون حوله أي يذهبون قريبا منه ثم يرجعون إليه والتندية في الخيل. أن تصرف عن الورد إلى المرعى قريبا، ثم تعاد إلى الشرب وهو المندى2، وهذه الدار تصيرت بعد بني عبد الدار إلى حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي، فباعها في الإسلام بمائة ألف درهم وذلك في زمن معاوية فلامه معاوية في ذلك
    ـــــــ
    1 في "النقرى" للمحب الطبري: عن عطاء أنه كان يقول في المحرم: إذا قطع شجرة عظيمة من شجر الحرم فعليه بدنة، وفي الدوحة: بقرة.
    2 والمنتدى أيضاً من أسماء النادي الذي هو مجتمع مجلس القوم، والمندى: مكان ورد الإبل.
    (2/35)
    شعر رزاح في نصرته قصياً وورد قصي عليه:
    قال ابن إسحاق فلما فرغ قصي من حربه انصرف أخوه رزاح بن ربيعة إلى بلاده بمن معه من قومه وقال رزاح في إجابته قصيا:
    لما أتى من قصي رسول ... فقال الرسول أجيبوا الخليلا
    نهضنا إليه نقود الجياد ... ونطرح عنا الملول الثقيلا
    نسير بها الليل حتى الصباح ... ونكمي النهار لئلا نزولا
    فهن سراع كورد القطا ... يجبن بنا من قصي رسولا
    جمعنا من السر من أشمذين ... ومن كل حي جمعنا قبيلا
    ـــــــ
    وقال أبعت مكرمة آبائك وشرفهم فقال حكيم ذهبت المكارم إلا التقوى. والله لقد اشتريتها في الجاهلية بزق خمر وقد بعتها بمائة ألف درهم وأشهدكم أن ثمنها في سبيل الله فأينا المغبون؟ ذكر خبر حكيم هذا الدارقطني في "أسماء رجال الموطأ" له.
    من تفسير شعر رزاح:
    فصل وذكر شعر رزاح، وفيه ونكمي النهار أي نكمن ونستتر والكمي من الفرسان الذي تكمى بالحديد. وقيل الذي يكمي شجاعته أي يسترها، حتى يظهرها عند الوغى.
    وفيه مررنا بعسجر وهو اسم موضع وكذلك ورقان اسم جبل ووقع في نسخة سفيان ورقان بفتح الراء وقيده أبو عبيد البكري: ورقان بكسر الراء وأنشد للأحوص:
    وكيف نرجي الوصل منها وأصبحت ... ذرى ورقان دونها وحفير1
    ـــــــ
    1 ورقان –بالفتح ثم الكسر- جبل أسود بين العرج والرويثة على يمين المصعد من المدينة إلى مكة، وهو من جبال تهامة.
    (2/36)
    فيا لك حلبة ما ليلة ... تزيد على الألف سيبا رسيلا
    فلما مررن على عسجر ... وأسهلن من مستناخ سبيلا
    وجاوزن بالركن من ورقان ... وجاوزن بالعرج حيا حلولا
    مررن على الخيل ما ذقنه ... وعالجن من مر ليلا طويلا
    ندني من العوذ أفلاءها ... إرادة أن يسترقن الصهيلا
    فلما انتهينا إلى مكة ... أبحنا الرجال قبيلا قبيلا
    نعاورهم ثم حد السيوف ... وفي كل أوب خلسنا المقولا
    نخبزهم بصلاب النسو ... ر خبز القوي العزيز الذليلا
    قتلنا خزاعة في دارها ... وبكرا قتلنا وجيلا فجيلا
    ـــــــ
    ويخفف فيقال ورقان. قال جميل
    يا خليلي إن بثنة بانت ... يوم ورقان بالفؤاد سبيا
    وذكر أنه من أعظم الجبال وذكر أن فيه أوشالا وعيونا عذابا، وسكانه بنو أوس بن مزينة.
    وذكر أيضا الحديث وهو قول النبي - صلى الله عليه وسلم – "ضرس الكافر في النار مثل أحد، وفخذه مثل ورقان" 1 وفي حديث آخر "أنه عليه السلام ذكر آخر من يموت من هذه الأمة فقال رجلان من مزينة ينزلان جبلا من جبال العرب، يقال له ورقان " كل هذا من قول البكري في كتاب معجم ما استعجم.
    فصل وذكر أشمذين بكسر الذال وفي حاشية كتاب سفيان بن العاص الأشمذان جبلان [بين المدينة وخيبر]، ويقال اسم قبيلتين ثم قال في الحاشية فعلى هذا تكون الرواية بفتح الذال وكسر النون من أشمذين - قال المؤلف رحمه الله
    ـــــــ
    1 رواه أحمد في "مسنده" والحاكم في "مستدركه" عن أبي هريرة رضي الله عنه.
    (2/37)
    نفيناهم من بلاد المليك ... كما لا يحلون أرضا سهولا
    فأصبح سبيهم في الحديد ... ومن كل حي شفينا الغليلا
    وقال ثعلبة بن عبد الله بن ذبيان بن الحارث بن سعد بن هذيم القضاعي في ذلك من أمر قصي حين دعاهم فأجابوه:
    ـــــــ
    فإن صح أنهما اسم قبيلتين فلا يبعد أن تكون الرواية كما في الأصل أشمذين1 بكسر الذال لأنه جمع في المعنى. واشتقاق الأشمذ من شمذات الناقة بذنبها أي رفعته ويقال للنحل شمذ لأنها ترفع أعجازها.
    وفيه مررن على الحيل وفسره الشيخ في "حاشية الكتاب" فقال هو الماء المستنقع في بطن واد ووجدت في غير أصل الشيخ روايتين إحداهما: مررن على الحل والأخرى: مررن على الحلي فأما الحل: فجمع حلة وهي بقلة شاكة2. ذكره ابن دريد في الجمهرة. وأما الحلي فيقال إنه ثمر القلقلان وهو نبت.
    وقوله فيها: نخبزهم. أي نسوقهم سوقا شديدا، وقد تقدم قول الراجز. لا تخبزا خبزا وبسا بسا.
    وذكر شعر رزاح الآخر وفيه من الأعراف أعراف الجناب. بكسر الجيم وهو موضع من بلاد قضاعة.
    وفيه وقام بنو علي وهم بنو كنانة، وإنما سموا ببني علي لأن عبد مناة بن كنانة كان ربيبا لعلي بن مسعود بن مازن من الأزد جد سطيح الكاهن فقيل لبني كنانة بنو علي وأحسبه أراد في هذا البيت بني بكر بن عبد مناة لأنهم قاموا مع خزاعة.
    ـــــــ
    1 في "المراصد" أشمذين: جبلان بين المدينة وخيبر تنزلهما جهينة وأشجع.
    2 في "اللسان" و"القاموس" شجرة شاكة.
    (2/38)
    جلبنا الخيل مضمرة تغالى ... من الأعراف أعراف الجناب1
    إلى غورى تهامة فالتقينا ... من الفيفاء في قاع يباب2
    فأما صوفة الخنثى، فخلوا ... منازلهم محاذرة الضراب
    وقام بنسر على إذ رأونا ... إلى الأسياف كالإبل الطراب
    وقال قصي بن كلاب:
    أنا ابن العاصمين بني لؤي ... بمكة منزلي، وبها ربيت
    إلى البطحاء قد علمت معد ... ومروتها رضيت بها رضيت
    فلست لغالب إن لم تأثل ... بها أولاد قيذر والنبيت
    رزاح ناصري، وبه أسامي ... فلست أخاف ضيما ما حييت
    ما كان بين رزاح وبين نهد وحوتكة، وشعر قصي في ذلك:
    فلما استقر رزاح بن ربيعة في بلاده نشره الله ونشر حنا، فهما قبيلا عذرة اليوم.
    وقد كان بين رزاح بن ربيعة، حين قدم بلاده وبين نهد بن زيد وحوتكة بن أسلم، وهما بطنان من قضاعة شيء فأخافهم حتى لحقوا باليمن وأجلوا من بلاد
    ـــــــ
    شعر قصي والعذرتان:
    وذكر شعر قصي:
    أنا ابن العاصمين بني لؤي
    الأبيات. وليس فيها ما يشكل.
    وذكر أن رزاحا حين استقر في بلاده نشر الله ولده وولد حن بن ربيعة، فهما حيا عذرة.
    ـــــــ
    1 تغالى: ترتفع في سيرها، من المغالاة، وهي الارتفاع والتزيد في السير. والأعراف: جمع عرفن وهو الرمل المرتفع المستطيل.
    2 الغور: المنخفض. والفيفاء: الصحراء. والقاع: المنخفض من الأرض. اليباب: القفر.
    (2/39)
    قضاعة، فهم اليوم باليمن فقال قصي بن كلاب، وكان يحب قضاعة ونماءها واجتماعها ببلادها، لما بينه وبين رزاح من الرحم ولبلائهم عنده إذ أجابوه إذ دعاهم إلى نصرته وكره ما صنع بهم رزاح:
    ألا من مبلغ عني رزاحا ... فإني قد لحيتك في اثنتين
    لحيتك في بني نهد بن زيد ... كما فرقت بينهم وبيني
    وحوتكة بن أسلم إن قوما ... عنوهم بالمساءة قد عنوني
    قال ابن هشام: وتروى هذه الأبيات لزهير بن جناب الكلبي.
    ـــــــ
    قال المؤلف: في قضاعة: عذرتان عذرة بن رفيدة وهم من بني كلب بن وبرة. وعذرة بن سعد بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة، وأسلم هذا هو بضم اللام من ولد حن بن ربيعة أخي رزاح بن ربيعة جد جميل بن عبد الله بن معمر صاحب بثينة ومعمر هو ابن ولد الحارث بن خيبر بن ظبيان وهو الضبيس بن حن. وبثينة أيضا من ولد حن وهي بنت حبان بن ثعلبة بن الهوذي بن عمرو بن الأحب بن حن [وفي قضاعة أيضا عذرة بن عدي وفي الأزد: عذرة بن عداد].
    حوتكة وأسلم:
    وذكر حوتكة بن أسلم وبني نهد بن زيد وإجلاء رزاح لهم1 وحوتكة هو عم نهد بن زيد بن أسلم، وليس في العرب أسلم بضم اللام إلا ثلاثة. اثنان منها في قضاعة، وهما: أسلم بن الحاف هذا، وأسلم بن تدول بن تيم اللات2 بن رفيدة بن ثور بن كلب، والثالث في عك أسلم بن القياتة بن غابن3 بن الشاهد بن عك وما عدا
    ـــــــ
    1 نسب جميل في "الجمهرة": جميل بن عبد الله بن معمر بن الحارث بن الخبير بن ظبيان.
    2 في "الجمهرة" و"الاشتقاق" وغيرهما: زيد اللات.
    3 في "الجمهرة": أسلم بن القيانة بن غافق، ومنهم كان أمير الأندلس.
    (2/40)
    ماآثر به قصي عبد الدار:
    قال ابن إسحاق: فلما كبر قصي ورق عظمه وكان عبد الدار بكره وكان عبد مناف قد شرف في زمان أبيه وذهب كل مذهب وعبد العزى وعبد. قال قصي لعبد الدار أما والله يا بني لألحقنك بالقوم وإن كانوا قد شرفوا عليك: لا يدخل رجل منهم الكعبة، حتى تكون أنت تفتحها له ولا يعقد لقريش لواء لحربها إلا أنت بيدك، ولا يشرب أحد بمكة إلا من سقايتك، ولا يأكل أحد من أهل الموسم طعاما إلا من طعامك، ولا تقطع قريش أمرا من أمورها إلا في دارك، فأعطاه داره دار الندوة، التي لا تقضي قريش أمرا من أمورها إلا فيها، وأعطاه الحجابة واللواء والسقاية والرفادة.
    الرفادة:
    وكانت الرفادة خرجا تخرجه قريش في كل موسم من أموالها إلى قصي بن كلاب، فيصنع به طعاما للحاج فيأكله من لم يكن له سعة ولا زاد. وذلك أن قصيا فرضه على قريش، فقال لهم حين أمرهم به: "يا معشر قريش إنكم جيران الله، وأهل بيته وأهل الحرم، وإن الحاج ضيف الله وزوار بيته وهم أحق الضيف بالكرامة فاجعلوا لهم طعاما وشرابا أيام الحج حتى يصدروا عنكم ففعلوا، فكانوا يخرجون لذلك كل عام من أموالهم خرجا، فيدفعونه إليه فيصنعه طعاما للناس أيام منى، فجرى ذلك من أمره في الجاهلية على قومه حتى قام الإسلام ثم جرى في الإسلام إلى يومك هذا، فهو الطعام الذي يصنعه السلطان كل عام بمنى للناس حتى ينقضي الحج".
    قال ابن إسحاق: حدثني بهذا من أمر قصي بن كلاب، وما قال لعبد الدار فيما دفع إليه مما كان بيده أبي إسحاق بن يسار، عن الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم قال:
    سمعته يقول ذلك لرجل من بني عبد الدار يقال له نبيه بن وهب بن عامر بن
    ـــــــ
    هؤلاء فأسلم بفتح اللام. ذكره ابن حبيب في المؤتلف والمختلف.
    (2/41)
    عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي.
    قال الحسن: فجعل إليه قصي كل ما كان بيده من أمر قومه وكان قصي لا يخالف ولا يرد عليه شيء صنعه.
    (2/42)
    ذكر ما جرى من اختلاف قريش بعد قصي وحلف المطيبين:
    ...
    ذكر ما جرى من اختلاف قريش بعد قصي وحلف المطيبين:
    قال ابن إسحاق: ثم إن قصي بن كلاب هلك فأقام أمره في قومه وفي غيرهم بنوه من بعده فاختطوا مكة رباعا - بعد الذي كان قطع لقومه بها - فكانوا يقطعونها في قومهم وفي غيرهم من حلفائهم ويبيعونها فأقامت على ذلك قريش معهم ليس بينهم اختلاف ولا تنازع ثم إن بني عبد مناف بن قصي عبد شمس وهاشما والمطلب ونوفلا أجمعوا على أن يأخذوا ما بأيدي بني عبد الدار بن قصي مما كان قصي جعل إلى عبد الدار من الحجابة واللواء والسقاية والرفادة ورأوا أنهم أولى بذلك منهم لشرفهم عليهم وفضلهم في قومهم فتفرقت عند ذلك قريش، فكانت طائفة مع بني عبد مناف على رأيهم يرون أنهم أحق به من بني عبد الدار لمكانهم في قومهم وكانت طائفة مع بني عبد الدار. يرون أن لا ينزع منهم ما كان قصي جعل إليهم.
    ـــــــ
    عن حلف المطيبين
    فصل وذكر تنازع بني عبد مناف وبني عبد الدار فيما كان قصي جعل إليهم وذكر في ذلك حلف المطيبين وسماهم وذكر أن امرأة من نساء عبد مناف هي التي أخرجت لهم جفنة من طيب فغمسوا أيديهم فيها، ولم يسم المرأة وقد سماها الزبير في موضعين من كتابه فقال هي أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتوأمة أبيه. قال وكان المطيبون يسمون الدافة جمع دائف بتخفيف
    (2/42)
    من ناصر بني عبد الدار، ومن ناصروا بني أعمامهم:
    فكان صاحب أمر بني عبد مناف عبد شمس بن عبد مناف وذلك أنه كان أسن بني عبد مناف وكان صاحب أمر بني عبد الدار عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار. فكان بنو أسد بن عبد العزى بن قصي، وبنو زهرة بن كلاب، وبنو تيم بن مرة بن كعب، وبنو الحارث بن فهر بن مالك بن النضر، مع بني عبد مناف.
    وكان بنو مخزوم بن يقظة بن مرة، وبنو سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب، وبنو جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب، وبنو عدي بن كعب مع بني عبد الدار،
    ـــــــ
    الفاء لأنهم دافوا الطيب1.
    السناد والإقواء:
    وذكر أن القبائل سوند بعضها إلى بعض لتكفي كل قبيلة ما سوند إليها، فسوند من السناد وهي مقابلة في الحرب بين كل فريق وما يليه من عدوه ومنه أخذ سناد الشعر وهو أن يتقابل المصراعان من البيت فيكون قبل حرف الروي حرف مد ولين ويكون في آخر البيت الثاني قبل حرف الروي حرف لين وهي ياء أو واو مفتوح ما قبلها كقول عمرو بن كلثوم:
    ألا هبي بصحنك فاصبحينا
    ثم قابله في بيت آخر بقوله - تصفقها الرياح إذا جرينا 2- فكأن الياء المفتوح ما قبلها قد سوندت بها إلى الياء المكسور ما قبلها، فتقابلتا، وهما غير متفقتين في المد كما يتقابل القبيلتان وهما مختلفتان متعاديتان وأما الإقواء فهو أن ينقص قوة
    ـــــــ
    1 ذكر اسم أم حكيم أيضاً أبو عبد الله المصعب بن عبد الله بن المصعب الزبيدي في كتابه "نسب قريش" ص383، وذكر أنها قالت بعد وضعها الجنة في الحجر: من كان منا فليدخل يده في هذا الطيب.
    2 أول البيت: كأن غضونهن متون غدر.
    (2/43)
    وخرجت عامر بن لؤي ومحارب بن فهر، فلم يكونوا مع واحد من الفريقين.
    فعقد كل قوم على أمرهم حلفا مؤكدا على أن لا يتخاذلوا، ولا يسلم بعضهم بعضا ما بل بحر صوفة.
    من دخلوا في حلف المطيبين:
    فأخرج بنو عبد مناف جفنة مملوءة طيبا، فيزعمون أن بعض نساء1 بني عبد مناف أخرجتها لهم فوضعوها لأحلافهم في المسجد عند الكعبة، ثم غمس القوم أيديهم فيها، فتعاقدوا وتعاهدوا هم وحلفاؤهم ثم مسحوا الكعبة بأيديهم توكيدا على أنفسهم فسموا المطيبين.
    من دخلوا في حلف الأحلاف:
    وتعاقد بنو عبد الدار وتعاهدوا هم وحلفاؤهم عند الكعبة حلفا مؤكدا، على أن لا يتخاذلوا، ولا يسلم بعضهم بعضا، فسموا الأحلاف2.
    ـــــــ
    من المصراع الأول كما تنقص قوة من قوى الحبل3 وذلك أن ينقص من آخر المصراع الأول حرف من الوتد كقوله:
    أفبعد مقتل مالك بن زهير ... ترجو النساء عواقب الأطهار
    وكقول الآخر:
    لما رأت ماء السلى مشروبا ... والفرث يعصر في الإناء أرنت
    وكان الأصمعي يسمي هذا الإقواء المقعد ذكره عنه أبو عبيد، وقال عدي بن الرقاع [العاملي] في السناد:
    ـــــــ
    1 يقال إن التي أخرخت لهم الجفنة هي أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوأمة أبيه.
    2 يقال إن عمر كان من الأحلاف، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر من المطيبين.
    3 في الأصل: الجبل، والتصويب من "اللسان". والقوة: الخصلة الواحدة من قوى الحبل.
    (2/44)
    توزيع القبائل في الحرب:
    ثم سوند بين القبائل ولز بعضها ببعض فعبيت بنو عبد مناف لبني سهم وعبيت بنو أسد لبني عبد الدار وعبيت زهرة لبني جمح وعبيت بنو تيم لبني مخزوم وعبيت بنو الحارث بن فهر لبني عدي بن كعب، ثم قالوا: لتقن كل قبيلة من أسند إليها.
    ما تصالح القوم عليه:
    فبينا الناس على ذلك قد أجمعوا للحرب إذ تداعوا إلى الصلح على أن يعطوا بني عبد مناف السقاية والرفادة وأن تكون الحجابة واللواء والقوة لبني عبد الدار كما كانت ففعلوا ورضي كل واحد من الفريقين بذلك وتحاجز الناس عن الحرب وثبت كل قوم مع من حالفوا، فلم يزالوا على ذلك حتى جاء الله تعالى بالإسلام فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم – "ما كان من حلف في الجاهلية فإن الإسلام لم يزده إلا شدة".
    __________
    وقصيدة قد بت أجمع بيتها ... حتى أثقف ميلها وسنادها
    (2/45)
    حلف الفضول
    ...
    حلف الفضول:
    سبب تسميته كذلك:
    قال ابن هشام: وأما حلف الفضول فحدثني زياد بن عبد الله البكائي عن محمد بن إسحاق قال:
    __________
    حلف الفضول:
    وذكر ابن هشام الحلف الذي عقدته قريش بينها على نصرة كل مظلوم بمكة قال ويسمى حلف الفضول ولم يذكر سبب هذه التسمية وذكرها ابن قتيبة، فقال كان قد سبق قريشا إلى مثل هذا الحلف جرهم في الزمن الأول فتحالف منهم ثلاثة هم ومن تبعهم، أحدهم: الفضل بن فضالة، والثاني: الفضل بن وداعة، والثالث:
    (2/45)
    تداعت قبائل من قريش إلى حلف فاجتمعوا له في دار عبد الله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي، لشرفه وسنه. فكان حلفهم عنده بنو هاشم، وبنو المطلب، وأسد بن عبد العزى، وزهرة بن كلاب، وتيم بن
    ـــــــ
    فضيل بن الحارث. هذا قول القتبي. قال الزبير: الفضيل بن شراعة والفضل بن وداعة، والفضل بن قضاعة، فلما أشبه حلف قريش الآخر فعل هؤلاء الجرهميين سمي حلف الفضول والفضول جمع فضل وهي أسماء أولئك الذين تقدم ذكرهم. وهذا الذي قاله ابن قتيبة حسن ولكن في الحديث ما هو أقوى منه وأولى. روى الحميدي عن سفيان عن عبد الله عن محمد وعبد الرحمن ابني أبي بكر قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم – "لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا لو دعيت به في الإسلام لأجبت. تحالفوا أن ترد الفضول1 على أهلها، وألا يعز ظالم مظلوما" . ورواه في مسند الحارث بن عبد الله بن أبي أسامة التميمي، فقد بين هذا الحديث لم سمي حلف الفضول وكان حلف الفضول بعد الفجار وذلك أن حرب الفجار2 كانت في شعبان وكان حلف الفضول في ذي القعدة قبل المبعث بعشرين سنة وكان حلف الفضول أكرم حلف سمع به وأشرفه في العرب. وكان أول من تكلم به ودعا إليه الزبير بن عبد المطلب، وكان سببه أن رجلا من زبيد قدم مكة ببضاعة فاشتراها منه العاصي بن وائل وكان ذا قدر بمكة وشرف فحبس عنه حقه فاستعدى عليه الزبيدي الأحلاف: عبد الدار ومخزوما وجمح وسهما وعدي بن كعب، فأبوا أن يعينوه على العاصي بن وائل وزبروه أي انتهروه فلما رأى الزبيدي الشر أوفى على أبي قبيس3 عند طلوع الشمس وقريش في أنديتهم حول الكعبة، فصاح بأعلى صوته:
    يا آل فهر لمظلوم بضاعته ... ببطن مكة نائي الدار والنفر
    ـــــــ
    1 أي تحالفوا ألا يتركوا عند أحد فضلاً يظلمه أحداً إلا أخذوه له منه.
    2 أيام الفجار كانت بين قيس وقريش وقيل: أيام الفجار: أيام وقائع كانت بين العرب تفاجروا فيها بعكاظ، فاستحلوا الحرمات.
    3 جبل بمكة سمي برجل من مذحج.
    (2/46)
    .................................................. .................................................. ....
    ـــــــ
    ومحرم أشعث لم يقض عمرته ... يا للرجال وبين الحجر والحجر1
    إن الحرام لمن تمت كرامته ... ولا حرام لثوب الفاجر الغدر2
    فقام في ذلك الزبير بن عبد المطلب، وقال ما لهذا مترك فاجتمعت هاشم وزهرة وتيم بن مرة في دار ابن جدعان، فصنع لهم طعاما، وتحالفوا في ذي القعدة في شهر حرام قياما، فتعاقدوا، وتعاهدوا بالله ليكونن يدا واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يؤدى إليه حقه ما بل بحر صوفة وما رسا حراء وثبير مكانهما، وعلى التأسي في المعاش فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول وقالوا: لقد دخل هؤلاء في فضل من الأمر ثم مشوا إلى العاصي بن وائل فانتزعوا منه سلعة الزبيدي فدفعوها إليه وقال الزبير رضي الله عنه:
    حلفت لنقعدن حلفا عليهم
    ... وإن كنا جميعا أهل دار
    نسميه الفضول إذا عقدنا ... يعز به الغريب لدى الجوار
    ويعلم من حوالي البيت أنا ... أباة الضيم نمنع كل عار
    وقال الزبير بن عبد المطلب:
    إن الفضول تحالفوا، وتعاقدوا ... ألا يقيم ببطن مكة ظالم
    أمر عليه تعاهدوا، وتواثقوا ... فالجار والمعتر فيهم سالم
    وذكر قاسم بن ثابت في غريب الحديث أن رجلا من خثعم قدم مكة معتمرا، أو حاجا، ومعه بنت له يقال لها: القتول من أوضأ نساء العالمين، فاغتصبها منه
    ـــــــ
    1 في "التجريد": بين الركن والحجر.
    2 في "التجريد" بعد البيت السابق ورد هذا البيت:
    أقائم من بني سهم بذمتهم ... أم ذاهب في ضلال مال معتمر
    (2/47)
    مرة فتعاقدوا وتعاهدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول.
    ـــــــ
    نبيه بن الحجاج1 وغيبها عنه فقال الخثعمي: من يعديني على هذا الرجل فقيل له عليك بحلف الفضول فوقف عند الكعبة، ونادى: يا لحلف الفضول فإذا هم يعنقون إليه من كل جانب وقد انتضوا أسيافهم يقولون جاءك الغوث، فما لك؟ فقال إن نبيها ظلمني في ابنتي، وانتزعها مني قسرا، فساروا معه حتى وقفوا على باب الدار فخرج إليهم فقالوا له أخرج الجارية ويحك، فقد علمت من نحن وما تعاقدنا عليه فقال أفعل ولكن متعوني بها الليلة فقالوا له لا والله ولا شخب لقحة2 فأخرجها إليهم وهو يقول:
    راح صحبي ولم أحي القتولا ... لم أودعهم وداعا جميلا
    إذ أجد الفضول أن يمنعوها ... قد أراني، ولا أخاف الفضولا
    لا تخالي أني عشية راح الر ... كب هنتم علي ألا أقولا
    في أبيات غير هذه ذكرها الزبير وذكر من قوله فيها أيضا:
    حلت تهامة حلة ... من بيتها ووطائها
    ولها بمكة منزل ... من سهلها وحرائها
    أخذت بشاشة قلبه ... ونأت فكيف بنأيها
    الحلف وابن جدعان:
    فصل وذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا
    ـــــــ
    1 هو نبيه بن الحجاج بن عامر بن حذيفة بن سعد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي بن غالب.انظر: "التجريد" ص1810.
    2 أصل الشخب: ما خرج من الضرع من اللبن، واللقحة بكسر اللام وفتحها: الناقة القريبة العهد بالنتاج، أو الغزيرة اللبن.
    (2/48)
    حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حلف الفضول:
    قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن زيد بن المهاجر بن قنفذ التيمي أنه سمع طلحة بن عبد الله بن عوف الزهري يقول:
    __________
    ما أحب أن لي به حمر النعم ولو دعيت إليه في الإسلام لأجبت" 1 وعبد الله بن جدعان هذا تيمي هو ابن جدعان بن عمر بن كعب بن سعد بن تيم يكنى: أبا زهير ابن عم عائشة - رضي الله عنها - ولذلك قالت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم – "إن ابن جدعان كان يطعم الطعام ويقري الضيف فهل ينفعه ذلك يوم القيامة؟ فقال لا إنه لم يقل يوما: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين" أخرجه مسلم. ومن غريب الحديث لابن قتيبة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال كنت أستظل بظل جفنة عبد الله بن جدعان صكة عمي يعني: في الهاجرة وسميت الهاجرة صكة عمي لخبر ذكره أبو حنيفة في الأنواء أن عميا رجل من عدوان، وقيل من إياد، وكان فقيه العرب في الجاهلية فقدم في قوم معتمرا أو حاجا: فلما كان على مرحلتين من مكة قال لقومه وهم في نحر الظهيرة من أتى مكة غدا في مثل هذا الوقت كان له أجر عمرتين فصكوا الإبل صكة شديدة حتى أتوا مكة من الغد في مثل ذلك الوقت وأنشد:
    وصك بها عين الظهيرة غائراً ... عمي ولم ينعلن إلا ظلالها
    في أبيات وعمي: تصغير أعمى على الترخيم فسميت الظهيرة صكة عمي به. وقال البكري في شرح الأمثال عمي: رجل من العماليق أوقع بالعدو في مثل ذلك الوقت فسمي ذلك الوقت صكة عمي والذي قاله أبو حنيفة أولى، وقائله أعلى. وقال يعقوب عمي الظبي يتحير بصره في الظهيرة من شدة الحر. قال ابن قتيبة:
    ـــــــ
    1 حديث حضور النبي صلى الله عليه وسلم مع عمومته حرب الفجار، وأنه رمي فيه حديث لا يعتد به لأنه ليس من الصحيح.
    2 كل ما ذكره السهيلي هو في "اللسان" والبيت فيه هكذا:
    وصك بها عين الظهيرة غائراً ... عمي ولم ينعلن إلا ظلالها
    (2/49)
    .................................................. ............................................
    ـــــــ
    وكانت جفنته يأكل منها الراكب على البعير وسقط فيها صبي، فغرق أي مات. وكان أمية بن أبي الصلت قبل أن يمدحه قد أتى بني الديان من بني الحارث بن كعب فرأى طعام بني عبد المدان منهم لباب البر والشهد والسمن وكان ابن جدعان يطعم التمر والسويق ويسقي اللبن فقال أمية:
    ولقد رأيت الفاعلين وفعلهم ... فرأيت أكرمهم بني الديان
    البر يلبك بالشهاد طعامهم ... لا ما يعللنا بنو جدعان1
    فبلغ شعره عبد الله بن جدعان، فأرسل ألفي بعير إلى الشام، تحمل إليه البر والشهد والسمن وجعل مناديا ينادي على الكعبة: ألا هلموا إلى جفنة عبد الله بن جدعان، فقال أمية عند ذلك:
    له داع بمكة مشمعل ... وآخر فوق كعبتها ينادي
    إلى ردح من الشيزى عليها ... لباب البر يلبك بالشهاد2
    وكان ابن جدعان في بدء أمره صعلوكا ترب اليدين وكان مع ذلك شريرا فاتكا، ولا يزال يجني الجنايات فيعقل عنه أبوه وقومه حتى أبغضته عشيرته ونفاه أبوه وحلف ألا يؤويه أبدا لما أثقله به من الغرم وحمله من الديات فخرج في شعاب مكة حائرا بائرا، يتمنى الموت أن ينزل به فرأى شقا في جبل فظن فيه حية فتعرض للشق يرجو أن يكون فيه ما يقتله فيستريح فلم ير شيئا، فدخل فيه فإذا فيه ثعبان عظيم له عينان تقدان كالسراجين. فحمل عليه الثعبان فأفرج له فانساب عنه مستديرا بدارة عندها بيت فخطا خطوة أخرى، فصفر به الثعبان وأقبل عليه كالسهم فأفرج عنه فانساب عنه قدما لا ينظر إليه فوقع في نفسه أنه مصنوع،
    ـــــــ
    1 السويق: طعام يتخذ من مدقوق البر والشعير سمي به لانسياقه في الحلق.
    2 اشمل القوم في الطلب: بادروا فيه، وتفرقوا، والمشمعل: الناقة النشيطة. والردح: جمع رداح بفتح: الجفنة العظيمة، والشيزى أو الشيز: خشب أسود تصنع منه الجفان.
    (2/50)
    قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا، ما أحب أن لي به حمر النعم ولو أدعى به في الإسلام لأجبت"
    ـــــــ
    فأمسكه بيده فإذا هو مصنوع من ذهب وعيناه ياقوتتان فكسره وأخذ عينيه ودخل البيت فإذا جثث على سرر طوال لم ير مثلهم طولا وعظما، وعند رءوسهم لوح من فضة فيه تاريخهم وإذ هم رجال من ملوك جرهم، وآخرهم موتا: الحارث بن مضاض صاحب الغربة الطويلة وإذا عليهم ثياب لا يمس منها شيء إلا انتثر كالهباء من طول الزمن وشعر مكتوب في اللوح فيه عظات آخر بيت منه:
    صاح هل ريت أو سمعت براع ... رد في الضرع ما قرى في الحلاب
    وقال ابن هشام: كان اللوح من رخام وكان فيه أنا نفيلة بن عبد المدان بن خشرم بن عبد ياليل بن جرهم بن قحطان بن هود نبي الله عشت خمسمائة عام وقطعت غور الأرض باطنها وظاهرها في طلب الثروة والمجد والملك فلم يكن ذلك ينجيني من الموت وتحته مكتوب:
    قد قطعت البلاد في طلب الثر ... وة والمجد قالص الأثواب
    وسريت البلاد قفرا لقفر ... بقناتي وقوتي واكتسابي
    فأصاب الردى بنات فؤادي ... بسهام من المنايا صياب
    فانقضت شرتي، وأقصر جهلي ... واستراحت عواذلي من عتابي
    ودفعت السفاه بالحلم لما ... نزل الشيب في محل الشباب
    صاح هل ريت أو سمعت براع ... رد في الضرع ما قرى في الحلاب1
    وإذا في وسط البيت كوم عظيم من الياقوت واللؤلؤ والذهب والفضة والزبرجد فأخذ منه ما أخذ ثم علم على الشق بعلامة وأغلق بابه بالحجارة وأرسل إلى أبيه
    ـــــــ
    1 القالص من الثياب: المشمر القصير. وبنات الفؤاد: طوائفه. والمنايا: جمع منية: الموت. وصياب: جمع صائب، كصاحب وصحاب. شرة الشباب: حرصه ونشاطه.
    (2/51)
    نازع الحسين الوليد في حق، وهدد بالدعوة إلى حلف الفضول:
    قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهادي الليثي أن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي حدثه:
    أنه كان بين الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وبين الوليد بن عتبة بن أبي سفيان. والوليد يومئذ أمير على المدينة، أمره عليها عمه معاوية بن أبي سفيان - منازعة في مال كان بينهما بذي المروة، فكان الوليد تحامل على الحسين - في حقه لسلطانه فقال له الحسين أحلف بالله لتنصفني من حقي، أو لآخذن سيفي، ثم لأقومن في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم لأدعون بحلف الفضول قال فقال عبد الله بن الزبير، وهو عند الوليد حين قال الحسين - رضي الله عنه - ما قال وأنا أحلف بالله لئن دعا به لآخذن سيفي، ثم لأقومن معه حتى ينصف من حقه أو نموت جميعا. قال فبلغت المسور بن مخرمة بن نوفل الزهري، فقال مثل ذلك وبلغت عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمي، فقال مثل ذلك فلما بلغ ذلك الوليد بن عتبة أنصف الحسين من حقه حتى رضي.
    ـــــــ
    بالمال الذي خرج به يسترضيه ويستعطفه ووصل عشيرته كلهم فسادهم وجعل ينفق من ذلك الكنز ويطعم الناس ويفعل المعروف، ذكر حديث كنز ابن جدعان موصولا بحديث الحارث بن مضاض ابن هشام في غير هذا الكتاب ووقع أيضا في كتاب "ري العاطش وأنس الواحش" لأحمد بن عمار1.
    وابن جدعان ممن حرم الخمر في الجاهلية بعد أن كان مغرى بها، وذلك أنه سكر فتناول القمر ليأخذه فأخبر بذلك حين صحا، فحلف لا يشربها أبدا، ولما كبر وهرم أراد بنو تميم أن يمنعوه من تبديد ماله ولاموه في العطاء فكان يدعو الرجل فإذا دنا منه لطمه لطمة خفيفة ثم يقول له قم فانشد لطمتك، واطلب
    ـــــــ
    1 لا ريب أنها أسطورة لا يحنو عليها قلب ولا عقل.
    (2/52)
    .................................................. ............................................
    ـــــــ
    ديتها، فإذا فعل ذلك أعطته بنو تميم من مال ابن جدعان حتى يرضى، وهو جد عبيد الله بن أبي مليكة الفقيه. والذي وقع في هذا الحديث من ذكر نفيلة أحسبه نفيلة بالنون والفاء لأن بني نفيلة كانوا ملوك الحيرة، وهم من غسان، لا من جرهم، والله أعلم.
    موقف الإسلام من الحلف:
    فصل وذكر خبر الحسين مع الوليد بن عتبة، وقوله لآخذن سيفي، ثم لأدعون بحلف الفضول إلى آخر القصة وفيه من الفقه تخصيص أهل هذا الحلف بالدعوة وإظهار التعصب إذا خافوا ضيما، وإن كان الإسلام قد رفع ما كان في الجاهلية من قولهم يا لفلان عند التحزب والتعصب وقد سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم المريسيع1 رجلا يقول يا للمهاجرين وقال آخر يا للأنصار فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم – "دعوها فإنها منتنة" وقال - صلى الله عليه وسلم – "من ادعى بدعوى الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا" 2، ونادى رجل بالبصرة يا لعامر فجاءه النابعة الجعدي بعصبة له فضربه أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه - خمسين جلدة وذلك أن الله عز وجل جعل المؤمنين إخوة ولا يقال إلا كما قال عمر رضي الله عنه يا لله ويا للمسلمين لأنهم كلهم حزب واحد وإخوة في الدين إلا ما خص الشرع به أهل حلف الفضول والأصل في تخصيصه قوله - صلى الله عليه وسلم – "ولو دعيت به اليوم لأجبت" 3 يريد لو قال قائل
    ـــــــ
    1 مصغر مرسوع: بئر ماء لخزاعة من ناحية قديد إلى الساحل، وإليه تضاف غزوة بني المصطلق.
    2 أي قولوا له: اعضض.. أبيك، ولا تكنوا عنه بالهن, والحديث رواه أحمد والنسائي وابن حبان عن أبي بن كعب.
    3 سبق الرأي في هذا الحديث، وهو أوهن من بيت العنكبوت. وإن افترضنا أنه حديث صحيح، فإننا نستطيع أن نفهم فيه معنى آخر يستقيم وهدى القرآن.
    (2/53)
    سأل عبد الملك محمد بن جبير عن عبد الشمس وبني نوفل ودخولهما في حلف الفضول، فأخبره بخروجهما منه:
    قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهادي الليثي عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي قال:
    قدم محمد بن جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف - وكان محمد بن جبير أعلم قريش - فدخل على عبد الملك بن مروان بن الحكم حين قتل ابن الزبير واجتمع الناس على عبد الملك فلما دخل عليه قال له با أبا سعيد ألم نكن نحن وأنتم يعني بني عبد شمس بن عبد مناف وبني نوفل بن عبد مناف في حلف الفضول؟ قال أنت أعلم قال عبد الملك لتخبرني يا أبا سعيد بالحق من ذلك فقال لا والله لقد خرجنا نحن وأنتم منه قال صدقت.
    تم خبر حلف الفضول:
    __________
    من المظلومين يا لحلف الفضول لأجبت، وذلك أن الإسلام إنما جاء بإقامة الحق ونصرة المظلومين فلم يزدد به هذا الحلف إلا قوة وقوله عليه السلام "وما كان من حلف في الجاهلية فلن يزيده الإسلام إلا شدة" ليس معناه أن يقول الحليف يا لفلان لحلفائه فيجيبوه، بل الشدة التي عنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما هي راجعة إلى معنى التواصل والتعاطف والتآلف، وأما دعوى الجاهلية فقد رفعها الإسلام إلا ما كان من حلف الفضول كما قدمنا، فحكمه باق والدعوة به جائزة وقد ذهبت طائفة من الفقهاء إلى أن الحليف يعقل مع العاقلة إذا وجبت الدية لقوله - صلى الله عليه وسلم – "وما كان من حلف في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة" ، ولقوله أيضا للذي حبسه في المسجد "إنما حبستك بجريرة حلفائك" .
    عن أولاد عبد مناف:
    "فصل: وذكر بني عبد مناف الأربعة وقد كان له ولد خامس وهو أبو عمرو،
    (2/54)
    ولاية هاشم الرفادة والسقاية وما كان يصنع إذا قدم الحاج:
    قال ابن إسحاق فولي الرفادة والسقاية هاشم بن عبد مناف وذلك أن عبد شمس كان رجلا سفارا قلما يقيم بمكة وكان مقلا ذا ولد وكان هاشم موسرا فكان - فيما يزعمون - إذا حضر الحج، قام في قريش فقال "يا معشر قريش إنكم جيران الله، وأهل بيته وإنه يأتيكم في هذا الموسم زوار الله وحجاج بيته وهم ضيف الله وأحق الضيف بالكرامة ضيفه فاجمعوا لهم ما تصنعون لهم به طعاما أيامهم هذه التي لا بد لهم من الإقامة بها ; فإنه - والله - لو كان مالي يسع لذلك ما كلفتكموه". فيخرجون لذلك خرجا من أموالهم كل امرئ بقدر ما عنده فيصنع به للحجاج طعام حتى يصدروا منها.
    ـــــــ
    واسمه عبيد، درج1 ولا عقب له ذكره البرقي والزبير، وكذلك ذكر البرقي أن قصيا كان سمى ابنه عبد قصي، وقال سميته بنفسي وسميت الآخر بدار الكعبة، يعني: عبد الدار ثم إن الناس حولوا اسم عبد قصي، فقالوا: عبد بن قصي، وقال الزبير أيضا: كان اسم عبد الدار عبد الرحمن.
    وذكر هاشما وما صنع في أمر الرفادة2 وإطعام الحجيج وأنه سمي هاشما لهشمه الثريد لقومه والمعروف في اللغة أن يقال ثردت الخبز فهو ثريد ومثرود فلم يسم ثاردا، وسمي هاشما، وكان القياس - كما لا يسمى الثريد هشيما، بل يقال فيه - ثريد ومثرود - أن يقال في اسم الفاعل أيضا كذلك ولكن سبب هذه التسمية يحتاج إلى زيادة بيان. ذكر أصحاب الأخبار أن هاشما كان يستعين على إطعام الحاج بقريش فيرفدونه بأموالهم ويعينونه ثم جاءت أزمة شديدة فكره أن يكلف قريشا أمر الرفادة فاحتمل إلى الشام بجميع ماله واشترى به أجمع كعكا ودقيقا، ثم أتى
    ـــــــ
    1 مضى ولم يخلف نسلاً: وفي "الطبقات ابن سعد" أن أولاد عبد مناف كانوا ستة نفر وست نسوة.
    2 الرفادة: شيء كانت تترافد به قريش في الجاهلية، تخرج فيما بينها مالاً تشتري به للحجاج طعاماً وزبيباً.
    (2/55)
    شيء من أعمال هاشم:
    وكان هاشم - فيما يزعمون - أول من سن الرحلتين لقريش رحلتي الشتاء والصيف وأول من أطعم الثريد للحجاج بمكة وإنما كان اسمه عمرا، فما سمي هاشما إلا بهشمه الخبز بمكة لقومه فقال شاعر من قريش أو من بعض العرب:
    عمرو الذي هشم الثريد لقومه ... قوم بمكة مسنتين عجاف
    سنت إليه الرحلتان كلاهما ... سفر الشتاء ورحلة الإيلاف
    قال ابن هشام: أنشدني بعض أهل العلم بالشعر من أهل الحجاز:
    قوم بمكة مسنتين عجاف
    ولاية المطلب الرفادة والسقاية:
    قال ابن إسحاق: ثم هلك هاشم بن عبد مناف بغزة من أرض الشام تاجرا،
    __________
    الموسم فهشم ذلك الكعك كله هشما، ودقه دقا، ثم صنع للحجاج طعاما شبه الثريد فبذلك سمي هاشما لأن الكعك اليابس لا يثرد وإنما يهشم هشما، فبذلك مدح حتى قال شاعرهم فيه وهو عبد الله بن الزبعرى:
    كانت قريش بيضة فتفقأت ... فالمح خالصه لعبد مناف
    الخالطين فقيرهم بغنيهم ... والطاعنين لرحلة الأضياف
    والرائشين وليس يوجد رائش ... والقائلين هلم للأضياف
    عمرو العلا هشم الثريد لقومه ... قوم بمكة مسنتين عجاف1
    وكان سبب مدح ابن الزبعرى بهذه الأبيات وهو سهمي2 لبني عبد مناف - فيما ذكره ابن إسحاق في رواية يونس - أنه كان قد هجا قصيا بشعر كتبه في أستار الكعبة، أوله:
    ـــــــ
    1 نسبها "اللسان" والمرتضى في "أماليه" 4/178 لمطرود بن كعب الخزاعي في رثاء عبد المطلب.
    2 لأنه ابن الزبعرى بن قيس بن عدي بن سعد سهم.
    (2/56)
    فولي السقاية والرفادة من بعده المطلب بن عبد مناف، وكان أصغر من عبد شمس وهاشم وكان ذا شرف في قومه وفضل وكانت قريش إنما تسميه الفيض لسماحته وفضله.
    وكان هاشم بن عبد مناف قدم المدينة، فتزوج سلمى بنت عمرو أحد بني عدي بن النجار وكانت قبله عند أحيحة بن الجلاح بن الحريش.
    قال ابن هشام:
    ويقال الحريش بن جحجبى بن كلفة بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس، فولدت له عمرو بن أحيحة وكانت لا تنكح الرجال لشرفها في قومها حتى يشترطوا لها أن أمرها بيدها، إذا كرهت رجلا فارقته.
    فولدت لهاشم عبد المطلب، فسمته شيبة فتركه هاشم عندها حتى كان
    ـــــــ
    ألهى قصيا عن المجد الأساطير ... ومشية مثل ما تمشي الشقارير
    فاستعدوا عليه بني سهم فأسلموه إليهم فضربوه وحلقوا شعره وربطوه إلى صخرة بالحجون1 فاستغاث قومه فلم يغيثوه فجعل يمدح قصيا ويسترضيهم فأطلقه بنو عبد مناف منهم وأكرموه فمدحهم بهذا الشعر وبأشعار كثيرة ذكرها ابن إسحاق في رواية يونس.
    عبد المطلب وابن ذي يزن:
    فصل: وذكر نكاح هاشم سلمى بنت عمرو النجارية وولادتها له عبد المطلب بن هاشم، ومن أجل هذه الولادة قال سيف بن ذي يزن أو ابنه معدي كرب بن سيف
    ـــــــ
    1 في الأصل: الحجول وهو خطأ.
    (2/57)
    وصيفا، أو فوق ذلك ثم خرج إليه عمه المطلب ليقبضه فيلحقه ببلده وقومه، فقالت له سلمى: لست بمرسلته معك، فقال لها المطلب إني غير منصرف حتى أخرج به معي، إن ابن أخي قد بلغ وهو غريب في غير قومه ونحن أهل بيت شرف في قومنا، نلي كثيرا من أمرهم وقومه وبلده وعشيرته خير له من الإقامة في غيرهم أو كما قال. وقال شيبة لعمه المطلب - فيما يزعمون - لست بمفارقها إلا أن تأذن لي، فأذنت له ودفعته إليه فاحتمله فدخل به مكة مردفه معه على بعيره فقالت قريش: عبد المطلب ابتاعه فبها سمي شيبة عبد المطلب. فقال المطلب ويحكم إنما هو ابن أخي هاشم قدمت به من المدينة.
    موت المطلب وما قيل في رثائه من الشعر:
    ثم هلك المطلب بردمان من أرض اليمن، فقال رجل من العرب يبكيه:
    قد ظمئ الحجيج بعد المطلب ... بعد الجفان والشراب المنثعب1
    ليت قريشا بعده على نصب
    وقال مطرود بن كعب الخزاعي، يبكي المطلب وبني عبد مناف جميعا حين أتاه نعي نوفل بن عبد مناف وكان نوفل آخرهم هلكا:
    يا ليلة هيجت ليلاتي ... إحدى ليالي القسيات
    __________
    ملك اليمن لعبد المطلب حين وفد عليه ركب من قريش: مرحبا بابن أختنا، لأن سلمى من الخزرج، وهم من اليمن من سبأ، وسيف من حمير بن سبأ، ثم قال له مرحبا وأهلا، وناقة ورحلا، وملكا سبحلا، يعطي عطاء جزلا2. ثم بشره بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه من ولده فقال له عبد المطلب: مثلك أيها الملك سر وبر، ثم أجزل الملك حباءه وفضله على أصحابه وانصرف مغبوطا على ما أعطاه الملك فقال والله لما بشرني به أحب إلي من كل ما أعطاني. في خبر فيه طول.
    ـــــــ
    1 في "الطبري" عن سفيان بن معد يكرب: من الناس من يقول: إنه سيف ذي يزن. انظر: 2/135.
    2 نسب القالي في "أماليه" هذا إلى عبد المطلب، وهو خطأ صوبه البكري في "التنبيه" ص114.
    (2/58)
    .................................................. ............................................
    ـــــــ
    نسب أحيحة:
    وذكر نسب أحيحة بن الجلاح بن الحريش بن جحجبى، وقال ابن هشام: هو الحريس يعني. بالسين المهملة - وقال الدارقطني عن الزبير بن أبي بكر إن كل ما في الأنصار فهو حريس بالسين غير معجمة إلا هذا، ووجدت في حاشية كتاب أبي بحر - رحمه الله - صواب هذا الاسم يعني في نسب أحيحة بن الجلاح بن الحريش بالشين المعجمة على لفظ الحريش بن كعب البطن الذي في عامر بن صعصعة1.
    فصل: وأنشد لمطرود بن كعب:
    يا ليلة هيجت ليلاتي ... إحدى ليالي القسيات
    أي: أنت إحدى ليالي القسيات. فعيلات من القسوة أي لا لين عندهن ولا رأفة فيهن ويجوز أن يكون عندهم من الدرهم القسي وهو الزائف وقد قيل في الدرهم القسي إنه أعجمي معرب وقيل هو من القساوة لأن الدرهم الطيب ألين من الزائف2 والزائف أصلب منه. ونصب ليلة على التمييز كذلك قال سيبويه في قول الصلتان3 العبدي:
    أيا شاعرا لا شاعر اليوم مثله
    وذلك أن في الكلام معنى التعجب.
    ـــــــ
    1 في "الاشتقاق": الحريش بالشين ابن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة.
    2 في "اللسان": عام قسي: شديد ذو قحط لا مطر فيه.
    3 الصلتان: لقب، وأصل الصلتان: النشيط الحديد الفؤاد من الخيل.
    (2/59)
    وما أقاسي من هموم وما ... عالجت من رزء المنيات
    إذا تذكرت أخي نوفلا ... ذكرني بالأوليات
    ذكرني بالأزر الحمر وال ... أردية الصفر القشيبات
    أربعة كلهم سيد ... أبناء سادات لسادات
    ميت بردمان وميت بسل ... مان وميت بين غزات
    وميت أسكن لحدا لدى ال ... محجوب شرقي البنيات
    أخلصهم عبد مناف فهم ... من لوم من لام بمنجاة
    إن المغيرات وأبناءها ... من خير أحياء وأموات
    وكان اسم عبد مناف المغيرة وكان أول بني عبد مناف هلكا: هاشم بغزة من
    ـــــــ
    وقوله وميت بغزات. هي غزة، ولكنهم يجعلون لكل ناحية أو لكل ربض1 من البلدة اسم البلدة فيقولون غزات في غزة، ويقولون في بغدان بغادين، كما قال بعض المحدثين:
    شربنا في بغادين ... على تلك الميادين
    ولهذا نظائر ستمر في الكتاب - إن شاء الله - ومن هذا الباب حكمهم للبعض بحكم الكل كما سموه باسمه نحو قولهم شرقت صدر القناة من الدم وذهبت بعض أصابعه وتواضعت سور المدينة. وقد تركبت على هذا الأصل مسألة من الفقه قال الفقهاء أو أكثرهم من حلف ألا يأكل هذا الرغيف فأكل بعضه فقد حنث فحكموا للبعض بحكم الكل وأطلقوا عليه اسمه. وفيه:
    إن المغيرات وأبناءها ... من خير أحياء وأموات2
    ـــــــ
    1 ربض المدينة: ما حولها. وفي "الروض" ميت بغزوات، ولكن في "السيرة": ميت بن غزات.
    2 في "الروض": وأبناؤها، والصواب ما أثبته من "السيرة".
    (2/60)
    أرض الشام، ثم عبد شمس بمكة ثم المطلب بردمان من أرض اليمن، ثم نوفل بسلمان من ناحية العراق.
    فقيل لمطرود - فيما يزعمون - لقد قلت فأحسنت، ولو كان أفحل مما قلت كان أحسن فقال أنظرني ليالي فمكث أياما، ثم قال:
    يا عين جودي، وأذري الدمع وانهمري ... وابكي على السر من كعب المغيرات
    يا عين واسحنفري بالدمع واحتفلي ... وابكي خبيئة نفسي في الملمات
    وابكي على كل فياض أخي ثقة ... ضخم الدسية وهاب الجزيلات
    محض الضريبة عالي الهم مختلق ... جلد النحيزة ناء بالعظيمات
    صعب البديهة لا نكس ولا وكل ... ماضي العزيمة متلاف الكريمات
    صقر توسط من كعب إذا نسبوا ... بحبوحة المجد والشم الرفيعات
    ثم اندبي الفيض والفياض مطلبا ... واستخرطي بعد فيضات بجمات
    أمسى بردمان عنا اليوم مغتربا ... يا لهف نفسي عليه بين أموات
    يبكينه مستكينات على حزن ... يا طول ذلك من حزن وعولات
    يبكين لما جلاهن الزمان له ... خضر الخدود كأمثال الحميات
    محتزمات على أوساطهن لما ... جر الزمان من إحداث المصيبات
    أبيت ليلي أراعي النجم من ألم ... أبكي، وتبكي معي شجوي بنياتي
    ـــــــ
    فالمغيرات بنو المغيرة، وهو عبد مناف كما قالوا: المناذرة في بني المنذر والأشعرون في بني أشعر بن أدد كما قال علي بن عبد الله بن عباس في ابن الزبير آثر علي الحميدات والتويتات والأسامات يعني: بني حميد وبني تويت وبني أسامة وهم من بني أسد بن عبد العزى1.
    ـــــــ
    1 هم حميد بن أسامة بن الحارث بن أسد بن عبد العزى بن قصي وتويت بن حبيب بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وأسامة بن زهير بن الحارث بن أسد بن عبد العزى بن قصي.
    (2/61)
    وابكي - لك الويل - إما كنت باكية ... لعبد شمس بشرقي البنيات
    وهاشم في ضريح وسط بلقعة ... تسفي الرياح عليه بين غزات
    ونوفل كان دون القوم خالصتي ... أمسى بسلمان في رمس بموماة
    لم ألق مثلهم عجما ولا عربا ... إذا استقلت بهم أدم المطيات1
    أمست ديارهم منهم معطلة ... وقد يكونون زينا في السريات2
    أفناهم الدهر أم كلت سيوفهم ... أم كل من عاش أزواد المنيات
    أصبحت أرضى من الأقوام بعدهم ... بسط الوجوه وإلقاء التحيات
    يا عين فابكي أبا الشعث الشجيات ... يبكينه حسرا مثل البليات
    يبكين أكرم من يمشي على قدم ... يعولنه بدموع بعد عبرات
    يبكين شخصا طويل الباع ذا فجر ... آبي الهضيمة فراج الجليلات
    يبكين عمرو العلا إذ حان مصرعه ... سمح السجية بسام العشيات
    ما في القروم لهم عدل ولا خطر ... ولا لمن تركوا شروى بقيات
    أبناؤهم خير أبناء وأنفسهم ... خير النفوس لدى جهد الأليات
    كم وهبوا من طمر سابح أرن ... من طمرة نهب في طمرات
    ومن سيوف من الهندي مخلصة ... ومن رماح كأشطان الركيات
    ومن توابع مما يفضلون بها ... عند المسائل من بذل العطيات
    فلو حسبت وأحصى الحاسبون معي ... لم أقض أفعالهم تلك الهنيات
    هم المدلون إما معشر فخروا ... عند الفخار بأنساب نقيات
    زين البيوت التي خلوا مساكنها ... فأصبحت منهم وحشا خليات
    أقول والعين لا ترقا مدامعها: ... لا يبعد الله أصحاب الرزيات
    قال ابن هشام: الفجر العطاء قال أبو خراش الهذلي:
    ـــــــ
    1 الأدم من الأبل: البيض الكرام.
    2 السريات: جمع سرية، وهي القطعة من الجيش أقصاها أربع مائة، تبعث إلى العدو، سموا بذلك لأنهم خيار الجيش.
    (2/62)
    عجف أضيافي جميل بن معمر ... بذي فجر تأوي إليه الأرامل
    قال ابن إسحاق: أبو الشعث الشجيات هاشم بن عبد مناف.
    ولاية عبد المطلب السقاية والرفادة:
    قال ثم ولي عبد المطلب بن هاشم السقاية والرفادة بعد عمه المطلب فأقامها للناس وأقام لقومه ما كان آباؤه يقيمون قبله لقومهم من أمرهم وشرف في قومه شرفا لم يبلغه أحد من آبائه وأحبه قومه وعظم خطره فيهم.
    ـــــــ
    وفيه "شرقي البنيات" يعني: البنية وهي الكعبة، وهو نحو مما تقدم في غزات.
    وأنشد له في القصيدة التاوية: محض الضريبة، عالي الهم مختلق أي عظيم الخلق جلد النحيزة ناء بالعظيمات. ليس قوله ناء من النأي فتكون الهمزة فيه عين الفعل وإنما هو من ناء ينوء إذا نهض1 فالهمزة فيه لام الفعل كما هو في جاء عند الخليل فإنه عنده مقلوب ووزنه فالع والياء التي بعد الهمزة هي عين الفعل في جاء يجيء.
    وفيه الشعث الشجيات. فشدد ياء الشجي وإن كان أهل اللغة قد قالوا: ياء الشجي مخففة وياء الخلي مشددة وقد اعترض ابن قتيبة على أبي تمام الطائي في قوله:
    أيا ويح الشجي من الخلي ... وويح الدمع من إحدى بلي
    واحتج بقول يعقوب في ذلك فقال له الطائي: ومن أفصح عندك: ابن الجرمقانية يعقوب أم أبو الأسود الدؤلي حيث يقول؟!.
    ويل الشجي من الخلي فإنه ... وصب الفؤاد بشجوه مغموم
    ـــــــ
    1 ناء بالحمل: نهض به مثقلا، وناؤ به الحمل: إذا أثقله.
    (2/63)
    .................................................. ............................................
    ـــــــ
    قال المؤلف: وبيت مطرود أقوى في الحجة من بيت أبي الأسود الدؤلي لأنه جاهلي محكك وأبو الأسود أول من صنع النحو فشعره قريب من التوليد ولا يمتنع في القياس أيضا أن يقال شجي وشج لأنه في معنى: حزن وحزين وقد قيل من شدد الياء فهو فعيل بمعنى مفعول1.
    وفيه بعد قوله: أبا الشعث الشجيات. يبكينه حسرا مثل البليات. البلية الناقة التي كانت تعقل عند قبر صاحبها إذا مات حتى تموت جوعا وعطشا، ويقولون إنه يحشر راكبا عليها، ومن لم يفعل معه هذا حشر راجلا، وهذا على مذهب من كان منهم يقول بالبعث وهم الأقل، ومنهم زهير فإنه قال:
    يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر ... ليوم الحساب أو يعجل فينقم
    وقال الشاعر في البلية:
    والبلايا رءوسها في الولايا ... مانحات السموم حر الخدود2
    والولايا: هي البراذع وكانوا يثقبون البرذعة فيجعلونها في عنق البلية وهي معقولة حتى تموت وأوصى رجل ابنه عند الموت بهذا:
    لا تتركن أباك يحشر مرة ... عدوا يخر على اليدين وينكب
    في أبيات ذكرها الخطابي:
    وقوله قياما كالحميات. أي مخترقات الأكباد كالبقر أو الظباء التي حميت الماء وهي عاطشة فحمية بمعنى: محمية لكنها جاءت بالتاء لأنها أجريت مجرى
    ـــــــ
    1 رجل شج أي: جزين، وامرأة شجية، وفي مثل العرب: ويل للشجي من الخلي. ولو كان المثل: ويل الشجي بتخفيف الياء، لكان ينبغي أن يقال: ويل الشجي من المسيغ؛ لأن الإساغة ضد الشجا.
    2 البيت في "اللسان" وأوله: كالبلايا، وقد نسبه صاحب "اللسان" إلى أبي زبيد، وهو حرملة بن المنذر بن معد يكرب الطائي شاعر جاهلي إسلامي، وكان نصرانياً، وزع الطبري أنه مات مسلماً.
    (2/64)
    .................................................. ............................................
    ـــــــ
    الأسماء كالرمية والضحية والطريدة وفي معنى الحمي قول رؤبة:
    قواطن مكة من ورق الحمي
    يريد الحمام المحمي، أي: الممنوع.
    وقوله: في رمس بموماة الأظهر فيه أن تكون الميم أصلية ويكون مما ضوعفت فاؤه وعينه وحمله على هذا الأصل أولى لكثرته في الكلام وإن كان أصل الميم أن تكون زائدة إذا كانت أول الكلمة الرباعية أو الخماسية إلا أن يمنع من ذلك اشتقاق ولا اشتقاق ههنا، أو يمنع من ذلك دخوله فيما قل من الكلام نحو قلق وسلس. قال أبو علي في المرمر حمله على باب قرقر وبربر أولى من حمله على باب قلق وسلس يريد إنك إن جعلت الميم زائدة كانت فاء الفعل - وهي الراء - مضاعفة دون عين الفعل وهي الميم وإذا جعلت الميم الأولى في مرمر أصلية كان من باب ما ضوعفت فيه الفاء والعين وهذا معنى قول سيبويه في المرمر مر وهو القياس المستتب، والطريق المهيع دون ما ضوعفت فيه الفاء وحدها، فتأمله.
    وقوله: طويل الباع ذا فجر. الفجر الجود شبه بانفجار الماء. ويروى ذا فنع والفنع كثرة المال وقد قال أبو محجن الثقفي:
    وقد أجود وما مالي بذي فنع ... وأكتم السر فيه ضربة العنق1
    وقوله: بسام العشيات يعني: أنه يضحك للأضياف ويبسم عند لقائهم كما قال الآخر وهو حاتم الطائي:
    أضاحك ضيفي قبل إنزال رحله ... ويخصب عندي، والمحل جديب2
    وما الخصب للأضياف أن يكثر القرى ... ولكنما وجه الكريم خصيب
    ـــــــ
    1 الفنع: الكرم والجود والفضل الكثير، ونشر الثناء الحسن.
    2 من باب علم وضرب.
    (2/65)
    ذكر حفر زمزم وماجرى من الخلف فيها
    ...
    ذكر حفر زمزم وما جرى من الخلف فيها:
    الرؤيا التي أريها عبد المطلب في حفر زمزم:
    ثم إن عبد المطلب بينما هو نائم في الحجر إذ أتي فأمر بحفر زمزم.
    قال ابن إسحاق: وكان أول ما ابتدئ به عبد المطلب من حفرها، كما حدثني يزيد بن أبي حبيب المصري عن مرثد بن عبد الله اليزني عن عبد الله بن زرير الغافقي: أنه سمع علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه يحدث حديث زمزم حين أمر عبد المطلب بحفرها، قال:
    قال عبد المطلب: إني لنائم في الحجر إذ أتاني آت فقال احفر طيبة. قال قلت: وما طيبة؟ قال ثم ذهب عني. فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه فجاءني فقال احفر برة. قال فقلت: وما برة؟ قال ثم ذهب عني، فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي، فنمت فيه فجاءني فقال احفر المضنونة. قال قلت: وما المضنونة؟ قال ثم ذهب عني. فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي، فنمت فيه فجاءني فقال احفر زمزم. قال قلت: وما زمزم؟ قال لا تنزف أبدا ولا تذم، تسقي الحجيج الأعظم وهي بين الفرث والدم عند نقرة الغراب الأعصم عند قرية النمل.
    ـــــــ
    (2/66)
    حديث زمزم
    ...
    حديث زمزم:
    وكانت زمزم - كما تقدم - سقيا إسماعيل عليه السلام فجرها له روح القدس بعقبه وفي تفجيره إياها بالعقب دون أن يفجرها باليد أو غيره إشارة إلى أنها لعقبه وراثة وهو محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته كما قال سبحانه { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزخرف 43]. أي في أمة محمد - عليه السلام1 - ثم إن زمزم لما أحدثت جرهم
    ـــــــ
    1 قال ابن كثير في تفسيرها: هذه الكلمة هي عبادة الله لا شريك له، وخلع ما سواه من الأوثان، وهي: لا إله إلا الله.
    (2/66)
    .................................................. ............................................
    ـــــــ
    في الحرم، واستخفوا بالمناسك والحرم، وبغى بعضهم على بعض واجترم تغور ماء زمزم واكتتم فلما أخرج الله جرهما من مكة بالأسباب التي تقدم ذكرها عمد الحارث بن مضاض الأصغر إلى ما كان عنده من مال الكعبة، وفيه غزالان من ذهب وأسياف قلعية1 كان ساسان ملك الفرس قد أهداها إلى الكعبة، وقيل سابور وقد قدمنا أن الأوائل من ملوك الفرس كانت تحجها إلى عهد ساسان أو سابور فلما علم ابن مضاض أنه مخرج منها، جاء تحت جنح الليل حتى دفن ذلك في زمزم، وعفى عليها، ولم تزل دارسة عافيا أثرها، حتى آن مولد المبارك الذي كان يستسقى بوجهه غيث السماء وتتفجر من بنانه ينابيع الماء صاحب الكوثر والحوض الرواء فلما آن ظهوره أذن الله تعالى لسقيا أبيه أن تظهر ولما اندفن من مائها أن تجتهر فكان - صلى الله عليه وسلم - قد سقت الناس بركته قبل أن يولد وسقوا بدعوته وهو طفل حين أجدبت البلد وذلك حين خرج به جده مستسقيا لقريش وسيأتي بيان ذلك - فيما بعد إن شاء الله -
    وسقيت الخليقة كلها غيوث السماء في حياته الفينة بعد الفينة والمرة بعد المرة، وتارة بدعائه وتارة من بنانه وتارة بإلقاء سهمه ثم بعد موته - عليه السلام - استشفع عمر بعمه - رضي الله عنهما - عام الرمادة. وأقسم عليه به وبنبيه فلم يبرح حتى قلصوا لمازر واعتلقوا الحذاء وخاضوا الغدران وسمعت الرفاق المقبلة إلى المدينة في ذلك اليوم صائحا يصيح في السحاب أتاك الغوث أبا حفص أتاك الغوث أبا حفص كل هذا ببركة المبتعث بالرحمتين والداعي إلى الحياتين الموعود بهما على يديه في الدارين - صلى الله عليه وسلم - صلاة تصعد ولا تنفد وتتصل ولا تنفصل وتقيم ولا تريم، إنه منعم كريم.
    أسماء زمزم:
    فصل: فأري عبد المطلب في منامه أن احفر طيبة، فسميت طيبة، لأنها
    ـــــــ
    1 نسبة إلى قلعة بفتح فسكون بلد بالهند.
    (2/67)
    للطيبين والطيبات من ولد إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - وقيل له احتفر برة وهو اسم صادق عليها أيضا، لأنها فاضت للأبرار وغاضت عن الفجار وقيل له احفر المضنونة.
    قال وهب بن منبه: سميت زمزم: المضنونة لأنها ضن بها على غير المؤمنين فلا يتضلع منها منافق وروى الدارقطني ما يقوي ذلك مسندا عن النبي - صلى الله عليه وسلم – "من شرب من زمزم فليتضلع فإنه فرق ما بيننا وبين المنافقين لا يستطيعون أن يتضلعوا1 منها" أو كما قال. وفي تسميتها بالمضنونة رواية أخرى، رواها الزبير أن عبد المطلب قيل له احفر المضنونة ضننت بها على الناس إلا عليك، أو كما قال.
    العلامات التي رآها عبد المطلب وتأويلها:
    ودل عليها بعلامات ثلاث بنقرة الغراب الأعصم وأنها بين الفرث والدم وعند قرية النمل، ويروى أنه لما قام ليحفرها رأى ما رسم من قرية النمل ونقرة الغراب ولم ير الفرث والدم فبينا هو كذلك ندت بقرة بجازرها، فلم يدركها، حتى دخلت المسجد الحرام، فنحرها في الموضع الذي رسم لعبد المطلب فسال هناك الفرث والدم فحفر عبد المطلب حيث رسم له.
    ولم تخص هذه العلامات الثلاث بأن تكون دليلا عليها إلا لحكمة إلهية وفائدة مشاكلة في علم التعبير والتوسم الصادق لمعنى زمزم ومائها. أما الفرث والدم فإن ماءها طعام طعم وشفاء سقم وهي لما شربت له2 وقد تقوت من مائها أبو ذر
    ـــــــ
    1 تضلع: امتلأ شبعاً ورياً، والتضلع أيضاً: الامتلاء حتى تمتد أضلاعه، وقد روى هذا الحديث الدارقطني وابن ماجه.
    2 روى الإمام أحمد: "ماء زمزم لما شرب منه" وروي: "ماء زمزم لما شرب له".
    (2/68)
    .................................................. ............................................
    ـــــــ
    - رضي الله عنه - ثلاثين بين يوم وليلة فسمن حتى تكسرت عكنه [وما وجد على كبده سخفة جوع] فهي إذا كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في اللبن إذا شرب أحدكم اللبن فليقل "اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه فإنه ليس شيء يسد مسد الطعام والشراب إلا اللبن" وقد قال الله تعالى في اللبن {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ} [النحل 66]. فظهرت هذه السقيا المباركة بين الفرث والدم وكانت تلك من دلائلها المشاكلة لمعناها.
    وأما قوله: الغراب الأعصم قال القتبي: الأعصم من الغربان الذي في جناحيه بياض وحمل على أبي عبيد لقوله في شرح الحديث الأعصم الذي في يديه بياض وقال كيف يكون للغراب يدان؟. وإنما أراد أبو عبيد أن هذا الوصف لذوات الأربع ولذلك قال إن هذا الوصف في الغربان عزيز وكأنه ذهب إلى الذي أراد ابن قتيبة من بياض الجناحين ولولا ذلك لقال إنه في الغربان محال لا يتصور. وفي مسند ابن أبي شيبة من طريق أبي أمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يغني عن قوليهما، وفيه الشفاء أنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم – "المرأة الصالحة في النساء كالغراب الأعصم". قيل يا رسول الله وما الغراب الأعصم؟ قال "الذي إحدى رجليه بيضاء". فالغراب في التأويل فاسق وهو أسود فدلت نقرته عند الكعبة على نقرة الأسود الحبشي بمعوله في أساس الكعبة يهدمها في آخر الزمان فكان نقر الغراب في ذلك المكان يؤذن بما يفعله الفاسق الأسود في آخر الزمان بقبلة الرحمن وسقيا أهل الإيمان وذلك عندما يرفع القرآن وتحيا عبادة الأوثان، وفي الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – "ليخربن الكعبة ذو السويقتين من الحبشة" 1 وفي الصحيح أيضا من صفته أنه [أسود] أفحج [يقلعها حجرا حجرا] وهذا أيضا ينظر إلى كون الغراب أعصم إذ الفحج تباعد في
    ـــــــ
    1 الحديث متفق عليه: وعند أبي داود بسند ضعيف: "اتركوا الحبشة ما تركوكم، فإنه لا يستخرج كنز الكعبة إلا ذو السويقتين من الحبشة" والسويقتان مثنى سويقة: تصغير لساق، وهي مؤنثة.
    (2/69)
    .................................................. ............................................
    ـــــــ
    الرجلين كما أن العصم اختلاف فيهما، والاختلاف تباعد وقد عرف بذي السويقتين كما نعت الغراب بصفة في ساقيه فتأمله وهذا من خفي علم التأويل لأنها كانت رؤيا، وإن شئت: كان من باب الزجر والتوسم الصادق والاعتبار والتفكير في معالم حكمة - الله تعالى - فهذا سعيد بن المسيب، وهو من هو علما وورعا حين حدث بحديث البئر في البستان وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قعد على قفها، ودلى رجليه فيها، ثم جاء أبو بكر - رضي الله عنه - ففعل مثل ذلك ثم جاء عمر - رضي الله عنه - ففعل مثل ذلك ثم جاء عثمان فانتبذ منهم ناحية وقعد حجرة1 . قال سعيد بن المسيب: فأولت ذلك قبورهم اجتمعت قبور الثلاثة وانفرد قبر عثمان - رضي الله عنه - والله سبحانه يقول {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75]. فهذا من التوسم والفراسة الصادقة وإعمال الفكر في دلائل الحكمة واستنباط الفوائد اللطيفة من إشارات الشريعة. وأما قرية النمل، ففيها من المشاكلة أيضا، والمناسبة أن زمزم هي عين مكة التي يردها الحجيج والعمار من كل جانب فيحملون إليها البر والشعير وغير ذلك وهي لا تحرث ولا تزرع كما قال سبحانه خبرا عن إبراهيم عليه السلام {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} إلى قوله {وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم 37] وقرية النمل لا تحرث ولا تبذر وتجلب الحبوب إلى قريتها من كل جانب وفي مكة قال الله سبحانه {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} [النحل 112]. مع أن لفظ قرية النمل مأخوذ من قريت الماء في الحوض إذا جمعته، والرؤيا تعبر على اللفظ تارة وعلى المعنى أخرى، فقد اجتمع اللفظ والمعنى في هذا التأويل - والله أعلم.
    ـــــــ
    1 قعد حجرة: أي ناحية.
    (2/70)
    .................................................. ............................................
    ـــــــ
    من صفات زمزم:
    وقد قيل لعبد المطلب في صفة زمزم: لا تنزف أبدا، ولا تذم1، وهذا برهان عظيم لأنها لم تنزف من ذلك الحين إلى اليوم قط، وقد وقع فيها حبشي فنزحت من أجله فوجدوا ماءها يثور من ثلاثة أعين أقواها وأكثرها ماء من ناحية الحجر الأسود، وذكر هذا الحديث الدارقطني.
    وقوله ولا تذم، فيه نظر وليس هو على ما يبدو من ظاهر اللفظ من أنها لا يذمها أحد، ولو كان من الذم لكان ماؤها أعذب المياه ولتضلع منه كل من يشربه، وقد تقدم في الحديث أنه لا يتضلع منها منافق فماؤها إذا مذموم عندهم وقد كان خالد بن عبد الله القسري أمير العراق يذمها، ويسميها: أم جعلان واحتفر بئرا خارج مكة باسم الوليد بن عبد الملك وجعل يفضلها على زمزم، ويحمل الناس على التبرك بها دون زمزم جرأة منه على الله - عز وجل - وقلة حياء منه وهو الذي يعلن ويفصح بلعن علي بن أبي طالب - رضوان الله عليه - على المنبر وإنما ذكرنا هذا، أنها قد ذمت فقوله إذا: لا تذم من قول العرب: بئر ذمة أي قليلة الماء فهو من أذممت البئر إذا وجدتها ذمة كما تقول أجبنت الرجل إذا وجدته جبانا، وأكذبته إذا وجدته كاذبا2، وفي التنزيل {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام 33] وقد فسر أبو عبيد في غريب الحديث قوله حتى مررنا ببئر ذمة. وأنشد:
    مخيسة خزرا كأن عيونها ذمام ... الركايا أنكزتها المواتح3
    ـــــــ
    1 نزفت –بفتح النون والزاي- ماء البئر نزفاً: إذا نزحته كله، وعن ابن سيده: نزف البئر ينزفها وأنزفها بمعنى واحد، كلاهما نزحها.
    2 يقول الطبري: أكذبت الرجل إذا أخبرت أنه جاء بالكذب، وكذبته –بتضعيف الذال- إذا أخبرت أنه كاذب.
    3 البيت لذي الرمة يصف إبلا غارت عيونها من الكلال.
    (2/71)
    عبد المطلب وابنه الحارث وما كان بينهما وبين قريش عند حفرهما زمزم:
    قال ابن إسحاق: فلما بين له شأنها، ودل على موضعها، وعرف أنه قد صدق غدا بمعوله ومعه ابنه الحارث بن عبد المطلب، ليس له يومئذ ولد غيره فحفر فيها. فلما بدا لعبد المطلب الطي، كبر فعرفت قريش أنه قد أدرك حاجته فقاموا إليه فقالوا: يا عبد المطلب، إنها بئر أبينا إسماعيل وإن لنا فيها حقا فأشركنا معك فيها. قال ما أنا بفاعل إن هذا الأمر قد خصصت به دونكم وأعطيته من بينكم فقالوا
    ـــــــ
    فهذا أولى ما حمل عليه معنى قوله. ولا تذم ; لأنه نفي مطلق وخبر صادق والله أعلم - وحديث البئر الذمة التي ذكرها أبو عبيد، حدثنا به أبو بكر بن العربي الحافظ قال أخبرنا القاضي أبو المطهر سعيد بن عبد الله بن أبي الرجاء قال أخبرنا أبو نعيم الحافظ قال أخبرنا أبو بكر أحمد بن يوسف بن خلاد قال حدثنا الحارث بن أبي أسامة. قال حدثنا أبو النضر قال حدثنا سليمان عن حميد عن يونس عن البراء قال كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مسير فأتينا على ركي ذمة يعني: قليلة الماء قال فنزل فيها ستة - أنا سادسهم - ماحة فأدليت إلينا دلو قال ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الركي فجعلنا فيها نصفها، أو قريب ثلثيها، فرفعت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال فجئت بإنائي. هل أجد شيئا أجعله في حلقي، فما وجدت، فرفعت الدلو إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فغمس يده فيها، فقال ما شاء الله أن يقول - قال فأعيدت إلينا الدلو بما فيها، قال فلقد رأيت أحدنا أخرج بثوب خشية الغرق. قال ثم ساحت يعني: جرت نهرا1.
    اشتقاق مفازة:
    وذكر حديث عبد المطلب في مسيره مع قريش إلى الكاهنة وذكر المفاوز التي
    ـــــــ
    1 أصل الحديث في الصحيح باختصار كثير في إحدى الغزوات، وهذا الذي في "الروض" رواه أحمد والطبراني، وقال الحافظ في "الفتح": قال القرطبي: قصة نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم أثر عنه في عدة مواطن.
    (2/72)
    له فأنصفنا، فإنا غير تاركيك حتى نخاصمك فيها، قال فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم أحاكمكم إليه قالوا: كاهنة بني سعد هذيم قال نعم قال وكانت بأشراف الشام، فركب عبد المطلب ومعه نفر من بني أبيه من بني عبد مناف وركب من كل قبيلة من قريش نفر. قال والأرض إذ ذاك مفاوز. قال فخرجوا حتى إذا كانوا ببعض تلك المفاوز بين الحجاز والشام، فني ماء عبد المطلب وأصحابه فظمئوا حتى أيقنوا بالهلكة فاستسقوا من معهم من قبائل قريش، فأبوا عليهم وقالوا: إنا بمفازة ونحن نخشى على أنفسنا مثل ما أصابكم فلما رأى عبد المطلب ما صنع القوم وما يتخوف على نفسه وأصحابه قال ماذا ترون؟ قالوا: ما رأينا إلا تبع لرأيك، فمرنا بما شئت، قال فإني أرى أن يحفر كل رجل منكم حفرته لنفسه بما بكم الآن من القوة - فكلما مات رجل دفعه أصحابه في حفرته ثم واروه - حتى يكون آخركم رجلا واحدا، فضيعة رجل واحد أيسر من ضيعة ركب جميعا، قالوا: نعم ما أمرت به. فقام كل واحد منهم فحفر حفرته ثم قعدوا ينتظرون الموت عطشا، ثم إن عبد المطلب قال لأصحابه والله إن إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت لا نضرب في الأرض ولا نبتغي لأنفسنا، لعجز فعسى الله أن يرزقنا ماء ببعض البلاد ارتحلوا، فارتحلوا حتى إذا فرغوا، ومن معهم من قبائل قريش ينظرون إليهم ما هم فاعلون تقدم عبد المطلب إلى راحلته فركبها. فلما انبعثت به انفجرت من تحتها خفها عين ماء عذب فكبر عبد المطلب، وكبر
    ـــــــ
    عطشوا فيها. المفاوز جمع مفازة وفي اشتقاق اسمها ثلاثة أقوال. روي عن الأصمعي أنها سميت مفازة على جهة التفاؤل لراكبها بالفوز والنجاة ويذكر عن ابن الأعرابي أنه قال سألت أبا المكارم لم سميت الفلاة مفازة؟ فقال لأن راكبها إذا قطعها وجاوزها فاز. وقال بعضهم معناها: مهلكة لأنه يقال فاز الرجل وفوز وفاد وفطس إذا هلك. وذكر في غير رواية علي بن أبي طالب - رضوان الله عليه - ثم ادع بالماء الروي غير الكدر يقال ماء روى بالكسر والقصر ورواء بالفتح والمد1 وفيه
    ـــــــ
    1 روي كغني: وروي مثل: إلي، ورواه مثل سماء: كثير مرو.
    (2/73)
    أصحابه ثم نزل فشرب وشرب أصحابه واستقوا حتى ملئوا أسقيتهم ثم دعا القبائل من قريش، فقال هلم إلى الماء فقد سقانا الله فاشربوا واستقوا، فجاءوا، فشربوا واستقوا. ثم قالوا: قد - والله - قضي لك علينا يا عبد المطلب، والله لا نخاصمك في زمزم أبدا، إن الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة لهو الذي سقاك زمزم، فارجع إلى سقايتك راشدا. فرجع ورجعوا معه ولم يصلوا إلى الكاهنة وخلوا بينه وبينها.
    قال ابن إسحاق: فهذا الذي بلغني من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه في زمزم، وقد سمعت من يحدث عن عبد المطلب أنه قيل له حين أمر بحفر زمزم:
    ثم ادع بالماء الروي غير الكدر ... يسقي حجيج الله في كل مبر1
    ليس يخاف منه شيء ما عمر
    فخرج عبد المطلب حين قيل له ذلك إلى قريش فقال تعلموا أني قد أمرت أن أحفر لكم زمزم، فقالوا: فهل بين لك أين هي؟ قال لا. قالوا فارجع إلى مضجعك الذي رأيت فيه ما رأيت، فإن يك حقا من الله يبين لك، وإن يك من الشيطان فلن يعود إليك. فرجع عبد المطلب إلى مضجعه فنام فيه فأتي فقيل له احفر زمزم، إنك إن حفرتها لم تندم وهي تراث من أبيك الأعظم لا تنزف أبدا ولا تذم، تسقي الحجيج الأعظم مثل نعام جافل لم يقسم ينذر فيها ناذر لمنعم
    ـــــــ
    الجمع واسم الجمع:
    يسقى حجيج الله في كل مبر. الحجيج جمع حاج. وفي الجموع على وزن فعيل كثير كالعبيد والبقير والمعيز والأبيل وأحسبه اسما للجمع لأنه لو كان جمعا له واحد من لفظه لجرى على قياس واحد كسائر الجموع وهذا يختلف واحده فحجيج واحده حاج، وعبيد واحده عبد وبقير2 واحده بقرة [ومعيز واحده ماعز] إلى غير ذلك فجائز أن يقال إنه اسم للجمع غير أنه موضوع للكثرة ولذلك
    ـــــــ
    1 مبر: يريد مناسك الحج ومواضع الطاعة، وهو مفعل من البر.
    2 في "اللسان": البقير اسم للجميع، أما الأبيل –بفتح الهمزة وكسر الباء- فالحزمة من الحشيش
    (2/74)
    تكون ميراثا وعقدا محكما، ليست كبعض ما قد تعلم وهي بين الفرث والدم.
    قال ابن هشام: هذا الكلام والكلام الذي قبله من حديث علي في حفر زمزم من قوله "لا تنزف أبدا ولا تذم" إلى قوله "عند قرية النمل" عندنا سجع وليس شعرا.
    قال ابن إسحاق: فزعموا أنه حين قيل له ذلك قال وأين هي؟ قيل له عند قرية النمل، حيث ينقر الغراب غدا. والله أعلم أي ذلك كان.
    فعدا عبد المطلب ومعه ابنه الحارث وليس له يومئذ ولد غيره فوجد قرية النمل، ووجد الغراب ينقر عندها. بين الوثنين إساف ونائلة اللذين كانت قريش تنحر عندهما ذبائحها. فجاء بالمعول وقام ليحفر حيث أمر فقامت إليه قريش حين رأوا جده فقالوا: والله لا نتركك تحفر بين وثنينا هذين اللذين ننحر عندهما، فقال عبد المطلب لابنه الحارث ذد عني حتى أحفر، فوالله لأمضين لما أمرت به. فلما عرفوا أنه نازع خلوا بينه وبين الحفر، وكفوا عنه فلم يحفر إلا يسيرا، حتى بدا له الطي، فكبر وعرف أنه قد صدق فلما تمادى به الحفر وجد فيها غزالين من
    ـــــــ
    لا يصغر على لفظه كما تصغر أسماء الجموع فلا يقال في العبيد عبيد، ولا في النخيل: نخيل بل يرد إلى واحده كما ترد الجموع في التصغير فيقال نخيلات وعبيدون وإذا قلت: نخيل أو عبيد، فهو اسم يتناول الصغير والكبير من ذلك الجنس قال الله سبحانه {وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ} [الرعد: 4] وقال {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت 46] وحين ذكر المخاطبين منهم قال العباد وكذلك قال حين ذكر الثمر من النخيل: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} [ق: 10] وقال: {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [القمر: 20] فتأمل الفرق بين الجمعين في حكم البلاغة واختيار الكلام، وأما في مذهب أهل اللغة فلم يفرقوا هذا التفريق ولا نبهوا على هذا الغرض الدقيق.
    ـــــــ
    =والحطب، والإبيل بكسر الهمزة وتضعيف الباء مع كسرها: القطعة من الطير والخيل، وقيل هي مفرد أبابيل، وربما كانت إبلاً.
    (2/75)
    ذهب وهما الغزالان اللذان دفنت جرهم فيها حين خرجت من مكة، ووجد فيها أسيافا قلعية1 وأدراعا فقالت له قريش يا عبد المطلب، لنا معك في هذا شرك وحق، قال لا، ولكن هلم إلى أمر نصف بيني وبينكم نضرب عليها بالقداح قالوا: وكيف تصنع؟ قال أجعل للكعبة قدحين ولي قدحين ولكم قدحين فمن خرج له قدحاه على شيء كان له ومن تخلف قدحاه فلا شيء له قالوا: أنصفت، فجعل قدحين أصفرين للكعبة وقدحين أسودين لعبد المطلب وقدحين أبيضين لقريش ثم أعطوا صاحب القداح الذي يضرب بها عند هبل - وهبل صنم في جوف الكعبة، وهو أعظم أصنامهم وهو الذي يعني أبو سفيان بن حرب يوم أحد حين قال أعل هبل أي أظهر دينك - وقام عبد المطلب يدعو الله عز وجل فضرب صاحب القداح فخرج الأصفران على الغزالين للكعبة وخرج الأسودان على الأسياف والأدراع لعبد المطلب وتخلف قدحا قريش. فضرب عبد المطلب
    __________
    شروح:
    وقوله: في كل مبر هو مفعل من البر يريد في مناسك الحج ومواضع الطاعة.
    وقوله: مثل نعام جافل لم يقسم. الجافل من جفلت الغنم إذا انقلعت بجملتها، ولم يقسم أي لم يتوزع ولم يتفرق.
    وقوله ليس يخاف منه شيء ما عمر. أي ما عمر هذا الماء فإنه لا يؤذي، ولا يخاف منه ما يخاف من المياه إذا أفرط في شربها، بل هو بركة على كل حال وعلى هذا يجوز أن يحمل قوله لا تنزف ولا تذم عاقبة شربها، وهذا تأويل سائغ أيضا على ما قدمناه من التأويل وكلاهما صحيح في صفتها.
    وقوله: وضرب [في الباب] الغزالين2 حلية الكعبة، وهو أول ذهب حليت به
    ـــــــ
    1 قلعية: نسبة إلى القلعة: قيل: جبل بالشام، وقيل بالهند، وقيل نسبة إلى جزيرة في بحر الهند.
    2 ما بين القوسين زيادة من "السيرة"
    (2/76)
    الأسياف بابا للكعبة وضرب في الباب الغزالين من ذهب فكان أول ذهب حليته الكعبة - فيما يزعمون ثم إن عبد المطلب أقام سقاية زمزم للحجاج.
    ـــــــ
    الكعبة، وقد قدمنا ذكر الغزالين ومن أهداهما إلى الكعبة، ومن دفنهما من جرهم، وتقدم أن أول من كسا الكعبة: تبع، وأنه أول من اتخذ لها غلقا إلى أن ضرب لها عبد المطلب باب حديد من تلك الأسياف واتخذ عبد المطلب حوضا لزمزم يسقى منه فكان يخرب له بالليل حسدا له فلما غمه ذلك قيل له في النوم قل لا أحلها لمغتسل وهي لشارب حل وبل1 وقد كفيتم فلما أصبح قال ذلك فكان بعد من أرادها بمكروه رمي بداء في جسده حتى انتهوا عنه. ذكره الزهري في "سيره".
    ـــــــ
    1 بل: شفاء، وقيل: بل: مباح بلغة حمير.
    (2/77)
    ذكر بئار قبائل قريش بمكة
    ...
    ذكر بئار قبائل قريش بمكة :
    الطوي ومن حفرها:
    قال ابن هشام: وكانت قريش قبل حفر زمزم قد احتفرت بئارا بمكة فيما حدثنا زياد بن عبد الله البكائي عن محمد بن إسحاق قال حفر عبد شمس بن عبد مناف الطوي وهي البئر التي بأعلى مكة عند البيضاء دار محمد بن يوسف الثقفي .
    بذر ومن حفرها:
    وحفر هاشم بن عبد مناف بذر وهي البئر التي عند المستنذر، خطم الخندمة
    ـــــــ
    بئار قريش بمكة:
    وقوله وكانت قريش قبل حفر زمزم قد اتخذت بئارا بمكة. ذكروا أن قصيا كان يسقي الحجيج في حياض من أدم وكان ينقل الماء إليها من آبار خارجة من مكة منها:
    (2/77)
    على فم شعب أبي طالب، وزعموا أنه قال حين حفرها: لأجعلنها بلاغا للناس.
    قال ابن هشام: وقال الشاعر :
    سقى الله أمواها عرفت مكانها ... جرابا وملكوما وبذر والغمرا
    سجلة ومن حفرها:
    قال ابن إسحاق: وحفر سجلة، وهي بئر المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف التي يسقون عليها اليوم. ويزعم بنو نوفل أن المطعم ابتاعها من أسد بن هاشم ويزعم بنو هاشم أنه وهبها له حين ظهرت زمزم، فاستغنوا بها عن تلك الآبار.
    الحفر ومن حفرها:
    وحفر أمية بن عبد شمس الحفر لنفسه.
    سقية ومن حفرها:
    وحفرت بنو أسد بن عبد العزى: سقية1 وهي بئر بني أسد.
    أم أحراد ومن حفرها:
    وحفرت بنو عبد الدار أم أحراد.
    ـــــــ
    بئر ميمون الحضرمي، وكان ينبذ لهم الزبيب ثم احتفر قصي العجول في دار أم هانئ بنت أبي طالب، وهي أول سقاية احتفرت2 بمكة وكانت العرب إذا استقوا منها ارتجزوا، فقالوا:
    نروى على العجول ثم ننطلق ... إن قصيا قد وفى وقد صدق
    [بشبع الحج وري مغتبق]3
    ـــــــ
    1 كذا في "معجم البلدان" وفي الأصول: شفية، وهي بئر قديمة كانت بمكة.
    2 في "المراصد": أن العجول أول بئر حفرت بمكة، وقيل: حفرها عبد شمس قبل خم.
    3 الزيادة من "معجم" البكري، ومغتبق: أصل الغبوق –كصبور- ما يشرب بالعشي.
    (2/78)
    السنبلة ومن حفرها:
    وحفرت بنو جمح السنبلة وهي بئر خلف بن وهب.
    الغمر ومن حفرها:
    وحفرت بنو سهم: الغمر، وهي بئر بني سهم.
    رم ونخم والحفر وأصحابها:
    وكانت آبار حفائر خارجا من مكة قديمة من عهد مرة بن كعب، وكلاب بن مرة، وكبراء قريش الأوائل منها يشربون وهى رم، ورم: بئر مرة بن كعب بن لؤي. وخم، وخم بئر بني كلاب بن مرة، والحفر. قال حذيفة بن غانم أخو بني عدي بن كعب بن لؤي:
    قال ابن هشام: وهو أبو أبي جهم بن حذيفة:
    وقدما غنينا قبل ذلك حقبة
    ولا نستقي إلا بخم أو الحفر
    قال ابن هشام: وهذا البيت في قصيدة له سأذكرها إن شاء الله في موضعها.
    فضل زمزم وما قيل فيها من شعر:
    قال ابن إسحاق: فعفت زمزم على البئار التي كانت قبلها يسقى عليها الحاج
    ـــــــ
    فلم تزل العجول قائمة حياة قصي، وبعد موته حتى كبر عبد مناف بن قصي، فسقط فيها رجل من بني جعيل فعطلوا العجول واندفنت واحتفرت كل قبيلة بئرا، واحتفر قصي سجلة، وقال حين حفرها:
    أنا قصي، وحفرت سجله ... تروي الحجيج زغلة فزغله1
    وقيل بل حفرها هاشم ووهبها أسد بن هاشم لعدي بن نوفل وفي ذلك تقول خالدة بنت هاشم:
    ـــــــ
    1 الزغلة: الجرعة.
    (2/79)
    وانصرف الناس إليها لمكانها من المسجد الحرام ; ولفضلها على ما سواها من المياه ولأنها بئر إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام وافتخرت بها بنو عبد مناف على قريش كلها، وعلى سائر العرب، فقال مسافر بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف وهو يفخر على قريش بما ولوا عليهم من السقاية والرفادة وما أقاموا للناس من ذلك وبزمزم حين ظهرت لهم وإنما كان بنو عبد مناف أهل بيت واحد شرف بعضهم لبعض شرف وفضل بعضهم لبعض فضل:
    ورثنا المجد من آبا ... ئنا فنمى بنا صعدا
    ـــــــ
    نحن وهبنا لعدي سجله ... تروي الحجيج زغلة فزغله
    وأما أم أحراد التي ذكرها، فأحراد جمع: حرد وهي قطعة من السنام فكأنها سميت بهذا، لأنها تنبت الشحم أو تسمن الإبل أو نحو هذا والحرد القطا1 الواردة للماء فكأنها تردها القطا والطير فيكون أحراد جمع: حرد بالضم على هذا. وقالت أمية بنت عميلة بن السباق بن عبد الدار امرأة العوام بن خويلد حين حفرت بنو عبد الدار أم أحراد:
    نحن حفرنا البحر أم أحراد ... ليست كبذر البرور الجماد
    فأجابتها ضرتها: صفية بنت عبد المطلب أم الزبير بن العوام رضي الله عنه:
    نحن حفرنا بذر ... نسقي الحجيج الأكبر
    من مقبل ومدبر ... وأم أحراد شر
    وأما جراب فيحتمل أن يكون بمعنى: جريب2 نحو كبار وكبير والجريب
    ـــــــ
    1 قطا حرد: سراع، وقال الأزهري عن هذا: إنه خطأ، وذكر أن القطا الحرد هي القصار الأرجل وفي "المراصد": عن أم أحراد أنها جمع حريد: وهو المنفرد عن محلة القوم.
    2 الجريب من الطعام والأرض: مقدار معلوم، والجريب، مكيال قدر أربعة أقفرة، والجريب: قدر ما يزرع فيه من الأرض.
    (2/80)
    .................................................. ............................................
    ـــــــ
    الوادي، والجريب أيضا: مكيال كبير والجريب أيضا: المزرعة.
    وأما ملكوم فهو عندي مقلوب والأصل ممكول من مكلت البئر إذا استخرجت ماءها، والمكلة ماء1 الركية وقد قالوا: بئر عميقة ومعيقة فلا يبعد أن يكون هذا اللفظ كذلك يقال فيه ممكول وملكوم، والملكوم في اللغة المظلوم إذا لم يكن مقلوبا.
    وأما بذر فمن التبذير وهو التفريق ولعل ماءها كان يخرج متفرقا من غير مكان واحد وهذا البناء في الأسماء قليل نحو: شلم وخضم2 وبذر وهي أسماء أعلام وشلم اسم بيت المقدس، وأما في غير الأعلام فلا يعرف إلا البقم ولعل أصله أن يكون أعجميا، فعرب.
    وأما خم وهي بئر مرة فهي من خممت البيت إذا كنسته، ويقال فلان مخموم القلب أي نقيه فكأنها سميت بذلك لنقائها.
    وأما غدير خمت الذي عند الجحفة، فسميت بغيضة عنده يقال لها: خم فيما ذكروا. وأما رم بئر بني كلاب بن مرة، فمن رممت الشيء إذا جمعته وأصلحته، ومنه الحديث كنا أهل ثمة ورمة ومنه الرمان في قول سيبويه، لأنه عنده فعلان وأما الأخفش فيقول فيه فعال فيجعل فيه النون أصلية ويقول إن سميت به رجلا صرفته. ومن قول عبد شمس بن قصي:
    حفرت رما، وحفرت خما ... حتى ترى المجد بها قد تما
    وأما شفية بئر بني أسد، فقال فيها الحويرث بن أسد:
    ـــــــ
    1 في "اللسان": ملكوم في مادة: لكم.
    2 خضم: اسم عنبر بن تميم، وقال في "اللسان" عن شلم: إنها عبرانية.
    (2/81)
    ألم نسق الحجيج ونن ... حر الدلافة الرفدا
    ـــــــ
    ماء شفية كماء المزن ... وليس ماؤها بطرق أجن1
    وأما سنبلة: بئر بني جمح وهي بئر بني خلف بن وهب - فقال فيها شاعرهم:
    نحن حفرنا للحجيج سنبله ... صوب سحاب ذو الجلال أنزله
    ثم تركناها برأس القنبله ... تصب ماء مثل ماء المعبله
    نحن سقينا الناس قبل المسأله
    من شرح شعر مسافر:
    وأما الغمر: بئر بني سهم، فقال فيها بعضهم:
    نحن حفرنا الغمر للحجيج ... تثج ماء أيما ثجيج
    ذكر أكثره أبو عبيد البكري، وبعض هذه الأرجاز أو أكثره في كتاب الزبير بن أبي بكر رحمة الله عليه.
    فصل: وذكر شعر مسافر بن أبي عمرو بن أمية. واسم أبي عمرو: ذكوان، وهو الذي يقول فيه أبو سفيان
    ليت شعري مسافر بن أبي عم ... رو، وليت يقولها المحزون
    بورك الميت الغريب كما بو ... رك نضح الرمان والزيتون2
    في شعر يرثيه به وكان مات من حب صعبة بنت الحضرمي.
    وفي الشعر وننحر الدلافة الرفدا.
    ـــــــ
    1 الطرق: الماء الذي خوضته الإبل، وبولت فيه، والأجن: الماء المتغير الطعم واللون.
    2 ينسب هذا في "اللسان" إلى أبي طالب بن عبد المطلب في مادة نضح، والنضح: تفطر الشجر بالورق.
    (2/82)
    ونلفى عند تصريف المنايا شددا رفدا
    فإن نهلك فلم نملك ... ومن ذا خالد أبدا
    وزمزم في أرومتنا ... ونفقأ عين من جسد
    قال ابن هشام: وهذه الأبيات في قصيدة له.
    قال ابن إسحاق: وقال حذيفة بن غانم أخو بني عدي بن كعب بن لؤي:
    وساقي الحجيج ثم للخبز هاشم ... وعبد مناف ذلك السيد الفهري
    طوى زمزما عند المقام فأصبحت ... سقايته فخرا على كل ذي فخر
    قال ابن هشام: يعني عبد المطلب بن هاشم. وهذان البيتان في قصيدة لحذيفة بن غانم سأذكرها في موضعها إن شاء الله تعالى.
    __________
    الرفد: جمع رفود من الرفد وهي التي تملأ إناءين عند الحلب.
    وقوله:
    ونلفى عند تصريف المنايا شددا رفدا
    هو جمع رفود أيضا من الرفد وهو العون والأول من الرفد بفتح الراء [وبكسرها] وهو إناء كبير قال الشاعر:
    رب رفد هرقته ذلك اليو ... م وأسرى من معشر أقتال1
    وذكر أم عبد الله بن عبد المطلب، وهي فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران2 هكذا قال ابن هشام. وقال ابن إسحاق: عائذ بن عبد بن عمران بن مخزوم، والصحيح ما قاله ابن هشام ; لأن الزبيريين ذكروا أن عبدا هو أخو عائذ بن عمران وأن بنت عبد هي صخرة امرأة عمرو بن عائذ على قول ابن إسحاق ; لأنها كانت له
    ـــــــ
    1 جمع قتل بكسر القاف، وهو العدو أو الصديق والنظير وابن العم والشجاع والقرن.
    2 هي كذلك في "جمهرة أنساب العرب" لابن حزم ص13.
    (2/83)
    ـــــــ
    عمة لا بنت عم فتأمله فقد تكرر هذا النسب في السيرة مرارا، وفي كل ذلك يقول ابن إسحاق: عائذ بن عبد بن عمران، ويخالفه ابن هشام. وصخرة بنت عبد أم فاطمة أمها: تخمر بنت عبد بن قصي، وأم تخمر سلمى بنت عميرة1 بن وديعة بن الحارث بن فهر. قاله الزبير.
    ـــــــ
    1 في "نسب قريش": سلمى بنت عامرة بن عميرة...الخ ص17.
    (2/84)
    ذكر نذر عبد المطلب ذبح ولده
    ...
    ذكر نذر عبد المطلب ذبح ولده:
    قال ابن إسحاق: وكان عبد المطلب بن هاشم - فيما يزعمون والله أعلم - قد نذر حين لقي من قريش ما لقي عند حفر زمزم: لئن ولد له عشرة نفر ثم بلغوا معه حتى يمنعوه لينحرن أحدهم لله عند الكعبة. فلما توافى بنوه عشرة وعرف أنهم سيمنعونه جمعهم ثم أخبرهم بنذره ودعاهم إلى الوفاء لله بذلك فأطاعوه وقالوا: كيف نصنع؟ قال ليأخذ كل رجل منكم قدحا ثم يكتب فيه اسمه ثم ائتوني، ففعلوا، ثم أتوه فدخل بهم على هبل في جوف الكعبة، وكان هبل على بئر في جوف الكعبة، وكانت تلك البئر هي التي يجمع فيها ما يهدى للكعبة.
    ـــــــ
    نذر عبد المطلب:
    فصل: وذكر نذر عبد المطلب أن ينحر ابنه إلى آخر الحديث. وفيه أن عبد الله يعني: والد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أصغر بني أبيه وهذا غير معروف ولعل الرواية أصغر بني أمه وإلا فحمزة كان أصغر من عبد الله والعباس أصغر من حمزة وروي عن العباس - رضي الله عنه - أنه قال أذكر مولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا ابن ثلاثة أعوام أو نحوها، فجيء بي حتى نظرت إليه وجعل النسوة يقلن لي: قبل أخاك، قبل أخاك، فقبلته، فكيف يصح أن يكون عبد الله هو الأصغر مع هذا؟ ولكن رواه البكائي كما تقدم ولروايته وجه وهو أن يكون أصغر ولد أبيه حين أراد نحره ثم ولد له بعد
    ـــــــ
    1 في "نسب قريش": سلمى بنت عامرة بن عميرة...الخ ص17.
    (2/84)
    الضرب بالقداح عند العرب:
    وكان عند هبل قداح سبعة كل قدح منها فيه كتاب. قدح فيه العقل1 إذا اختلفوا في العقل من يحمله منهم ضربوا بالقداح السبعة فإن خرج العقل فعلى من خرج حمله. وقدح فيه نعم. للأمر إذا أرادوه يضرب به في القداح فإن خرج قدح نعم عملوا به. وقدح فيه لا، إذا أرادوا أمرا ضربوا به في القداح فإن خرج ذلك القداح لم يفعلوا ذلك الأمر وقدح فيه منكم وقدح فيه ملصق وقدح فيه من غيركم. وقدح فيه المياه إذا أرادوا أن يحفروا للماء ضربوا بالقداح وفيها ذلك القدح فحيثما خرج عملوا به. وكانوا إذا أرادوا أن يختنوا غلاما، أو ينكحوا منكحا، أو يدفنوا ميتا، أو شكوا في نسب أحدهم ذهبوا به إلى هبل وبمئة درهم وجزور فأعطوها صاحب القداح الذي يضرب بها، ثم قربوا صاحبهم الذي يريدون به ما يريدون ثم قالوا: يا إلهنا هذا فلان بن فلان قد أردنا به كذا وكذا، فأخرج الحق فيه. ثم يقولون لصاحب القداح اضرب فإن خرج عليه منكم كان منهم وسيطا2، وإن خرج عليه من غيركم كان حليفا، وإن خرج عليه ملصق كان على منزلته فيهم لا نسب له ولا حلف وإن خرج فيه شيء مما سوى هذا مما يعملون به نعم عملوا به وإن خرج لا، أخروه عامه ذلك حتى يأتوه به مرة أخرى، ينتهون في أمورهم إلى ذلك مما خرجت به القداح.
    عبد المطلب وأولاده بين يدي صاحب القداح:
    فقال عبد المطلب لصاحب القداح اضرب على بني هؤلاء بقداحهم هذه
    ـــــــ
    ذلك حمزة والعباس.
    وسائر حديث عبد المطلب ليس فيه ما يشكل. وفيه أن الدية كانت بعشر من
    ـــــــ
    1 العقل: الدية.
    2 وسيطاً: خالص النسب فيهم، ويقال: إن الوسيط هو الشريف في قومه، لأن النسب الكريم دار به من كل جهة، وهو وسط.
    (2/85)
    وأخبره بنذره الذي نذر فأعطاه كل رجل منهم قدحه الذي فيه اسمه وكان عبد الله بن عبد المطلب أصغر بني أبيه كان هو والزبير وأبو طالب لفاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عبد بن عمران بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر.
    قال ابن هشام: عائذ بن عمران بن مخزوم.
    خروج القدح على عبد الله وشروع أبيه في ذبحه، ومنع قريش له:
    قال ابن إسحاق: وكان عبد الله - فيما يزعمون - أحب ولد عبد المطلب إليه فكان عبد المطلب يرى أن السهم إذا أخطأه فقد أشوى1. وهو أبو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما أخذ صاحب القداح القداح ليضرب بها، قام عبد المطلب عند هبل يدعو الله ثم ضرب صاحب القداح فخرج القدح على عبد الله فأخذه عبد المطلب بيده وأخذ الشفرة ثم أقبل به إلى إساف ونائلة ليذبحه فقامت إليه قريش من أنديتها، فقالوا: "ماذا تريد يا عبد المطلب؟ قال أذبحه فقالت له قريش وبنوه والله لا تذبحه أبدا، حتى تعذر فيه. لئن فعلت هذا لا يزال الرجل يأتي بابنه حتى يذبحه فما بقاء الناس على هذا؟ وقال له المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن يقظة - وكان عبد الله ابن أخت القوم والله لا تذبحه أبدا، حتى تعذر فيه فإن كان فداؤه بأموالنا فديناه. وقالت له قريش وبنوه. لا تفعل وانطلق به إلى الحجاز، فإن به عرافة2 لها تابع فسلها، ثم أنت على رأس أمرك، إن أمرتك بذبحه ذبحته، وإن أمرتك بأمر لك وله فيه فرج قبلته.
    الإبل قبل هذه القصة: وأول من ودي بالمائة إذا: عبد الله. وقد قدمنا ما ذكره الأصبهاني عن أبي اليقظان أن أبا سيارة هو أول من جعل الدية مائة من الإبل وأما أول من ودي بالإبل من العرب: فزيد بن بكر بن هوازن قتله أخوه معاوية جد بني
    ـــــــ
    1 أشوى: أبقى، يقال: أشويت من الطعام: إذا أبقيت.
    2 يقال إن اسم هذه العرافة: قطبة. وقيل: بل اسمها: سجاح.
    (2/86)
    عرافة الحجاز وما أشارت به على عبد المطلب:
    فانطلقوا حتى قدموا المدينة، فوجدوها - فيما يزعمون - بخيبر. فركبوا حتى جاءوها، فسألوها، وقص عليها عبد المطلب خبره وخبر ابنه وما أراد به ونذره فيه فقالت لهم ارجعوا عني اليوم حتى يأتيني تابعي فأسأله. فرجعوا من عندها فلما خرجوا عنها قام عبد المطلب يدعو الله ثم غدوا عليها، فقالت لهم قد جاءني الخبر، كما الدية فيكم؟ قالوا: عشر من الإبل وكانت كذلك1. قالت فارجعوا إلى بلادكم ثم قربوا صاحبكم وقربوا عشرا من الإبل ثم اضربوا عليها، وعليه بالقداح فإن خرجت على صاحبكم فزيدوا من الإبل حتى يرضى ربكم وإن خرجت على الإبل فانحروها عنه فقد رضي ربكم ونجا صاحبكم.
    نجاة عبد الله من الذبح:
    فخرجوا حتى قدموا مكة، فلما أجمعوا على ذلك من الأمر قام عبد المطلب يدعو الله ثم قربوا عبد الله وعشرا من الإبل وعبد المطلب قائم عند هبل يدعو الله عز وجل ثم ضربوا فخرج القدح على عبد الله فزادوا عشرا من الإبل فبلغت الإبل عشرين وقام عبد المطلب يدعو الله عز وجل ثم ضربوا فخرج القدح على عبد الله فزادوا عشرا من الإبل فبلغت الإبل ثلاثين وقام عبد المطلب يدعو الله ثم
    ـــــــ
    عامر بن صعصعة2.
    وأما الكاهنة التي تحاكموا إليها بالمدينة فاسمها: قطبة. ذكرها عبد الغني في كتاب "الغوامض والمبهمات" وذكر ابن إسحاق في رواية يونس أن اسمها: سجاح.
    ـــــــ
    1 من هنا نجد أن الدية كانت عندهم عشرة من الإبل، ويكون عبد الله أول من جعلها مائة من الإبل.
    2 اسم زيد في "جمهرة أنساب العرب": يزيد. وفيه أيضاً هو الذي قتله معاوية، فجعل فيه عامر بن الظرب العدواني مائة من الإبل، وهي أول دية قضى فيها بذلك. انظر "جمهرة ابن حزم" ص/252.
    (2/87)
    ضربوا، فخرج القدح على عبد الله فزادوا عشرا من الإبل فبلغت الإبل أربعين وقام عبد المطلب يدعو الله ثم ضربوا، فخرج القدح على عبد الله فزادوا عشرا من الإبل فبلغت الإبل خمسين وقام عبد المطلب يدعو الله ثم ضربوا فخرج القدح على عبد الله فزادوا عشرا من الإبل فبلغت الإبل ستين وقام عبد المطلب يدعو الله ثم ضربوا فخرج القدح على عبد الله فزادوا عشرا من الإبل فبلغت الإبل سبعين وقام عبد المطلب يدعو الله ثم ضربوا فخرج القدح على عبد الله فزادوا عشرا من الإبل فبلغت الإبل ثمانين وقام عبد المطلب يدعو الله ثم ضربوا، فخرج القدح على عبد الله فزادوا عشرا من الإبل فبلغت الإبل تسعين وقام عبد المطلب يدعو الله ثم ضربوا، فخرج القدح على عبد الله فزادوا عشرا من الإبل فبلغت الإبل مئة وقام عبد المطلب يدعو الله ثم ضربوا فخرج القدح على الإبل فقالت قريش ومن حضر قد انتهى رضا ربك يا عبد المطلب، فزعموا أن عبد المطلب قال لا والله حتى أضرب عليها ثلاث مرات فضربوا على عبد الله وعلى الإبل وقام عبد المطلب يدعو الله فخرج القدح على الإبل ثم عادوا الثانية وعبد المطلب قائم يدعو الله فخرج القدح على الإبل ثم عادوا الثالثة وعبد المطلب قائم يدعو الله فضربوا، فخرج القدح على الإبل فنحرت ثم تركت لا يصد عنها إنسان ولا يمنع.
    قال ابن هشام: ويقال إنسان ولا سبع.
    قال ابن هشام: وبين أضعاف هذا الحديث رجز لم يصح عندنا عن أحد من أهل العلم بالشعر.
    (2/88)
    ذكر المراة المتعرضة لنكاح عبد الله بن عبد المطلب
    ...
    ذكر المرأة المتعرضة لنكاح عبد الله بن عبد المطلب:
    رفض عبد الله المرأة التي عرضت نفسها عليه:
    قال ابن إسحاق: ثم انصرف عبد المطلب آخذا بيد عبد الله فمر به - فيما
    __________
    تزويج عبد الله:
    فصل: وذكر تزويج عبد الله بن عبد المطلب آمنة بنت وهب وذكر البرقي في
    (2/88)
    يزعمون - على امرأة من بني أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر: وهي أخت ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى: وهي عند الكعبة: فقالت له حين نظرت إلى وجهه أين تذهب يا عبد الله؟ قال مع أبي. قالت لك مثل الإبل التي نحرت عنك: وقع علي الآن. قال أنا مع أبي، ولا أستطيع خلافه. ولا فراقه.
    ـــــــ
    سبب تزويج عبد الله آمنة أن عبد المطلب كان يأتي اليمن، وكان ينزل فيها على عظيم من عظمائهم فنزل عنده مرة فإذا عنده رجل ممن قرأ الكتب فقال له ائذن لي أقس منخرك، فقال دونك فانظر فقال أرى نبوة وملكا، وأراهما في المنافين عبد مناف بن قصي، وعبد مناف بن زهرة فلما انصرف عبد المطلب انطلق بابنه عبد الله فتزوج عبد المطلب هالة بنت وهيب وهي أم حمزة - رضي الله - عنه وزوج ابنه عبد الله آمنة بنت وهب فولدت له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
    حول أمهات النبي صلى الله عليه وسلم:
    وذكر أمها وأم أمها، والثالثة وهي برة بنت عوف1 وقد قدمنا في أول المولد ذكر أم الثالثة والرابعة والخامسة2 ونسبهن فلينظر هنالك.
    وأما أم هالة فهي العبلة بنت المطلب وأمها خديجة بنت سعيد بن سهم3 وقد أشكل على بعض الناس في هذا الخبر أن عبد المطلب نذر نحر أحد بنيه إذا بلغوا عشرة ثم ذكر ابن إسحاق أن تزويجه هالة أم ابنه حمزة كان بعد وفائه بنذره فحمزة
    ـــــــ
    1 في "السيرة": برة بنت عوف بن عبيد بن عويج.
    2 في "نسب قريش" عن أم برة: وأمها أميمة بنت مالك...الخ، وأمها: قلابة بنت الحارث.
    3 في "نسب قريش": ذكر أن أمها هي خديجة بنت سعيد بن بحر بن سهم بن عمرو بن هصيص. انظر: ص92.
    (2/89)
    زواج عبد الله من آمنة بنت وهب:
    فخرج به عبد المطلب حتى أتى به وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر - وهو يومئذ سيد بني زهرة نسبا وشرفا - فزوجه ابنته آمنة بنت وهب وهي يومئذ أفضل امرأة في قريش نسبا وموضعا.
    أمهات آمنة بنت وهب:
    وهي لبرة بنت عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر. وبرة لأم حبيب بنت أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر. وأم حبيب لبرة بنت عوف بن عبيد بن عويج بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر.
    ما جرى بين عبد الله والمرأة المتعرضة له بعد بنائه بآمنة:
    فزعموا أنه دخل عليها حين أملكها1 مكانه فوضع عليها، فحملت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم خرج من عندها، فأتى المرأة التي عرضت عليه ما عرضت فقال لها: ما لك لا تعرضين علي اليوم ما كنت عرضت علي بالأمس؟ قالت له فارقك النور
    ـــــــ
    والعباس - رضي الله عنهما - إنما ولدا بعد الوفاء بنذره وإنما كان جميع أولاده عشرة. ولا إشكال في هذا، فإن جماعة من العلماء قالوا: كان أعمامه - عليه السلام - اثني عشر وقاله أبو عمر فإن صح هذا فلا إشكال في الخبر، وإن صح قول من قال كانوا عشرة بلا مزيد فالولد يقع على البنين وبنيهم حقيقة لا مجازا، فكان عبد المطلب قد اجتمع له من ولده وولد ولده عشرة رجال حين وفى بنذره.
    المرأة التي دعت عبد الله:
    ويروى أن عبد الله بن عبد المطلب حين دعته المرأة الأسدية إلى نفسها لما رأت في وجهه من نور النبوة ورجت أن تحمل بهذا النبي فتكون أمه دون غيرها،
    ـــــــ
    1 أملك المرأة –بالبناء للمجهول- :تزوجها.
    (2/90)
    الذي كان معك بالأمس فليس [لي] بك اليوم حاجة. وقد كانت تسمع من أخيها ورقة بن نوفل - وكان قد تنصر واتبع الكتب: أنه سيكون في هذه الأمة نبي.
    قال ابن إسحاق: وحدثني أبي إسحاق بن يسار أنه حدث:
    أن عبد الله إنما دخل على امرأة كانت له مع آمنة بنت وهب وقد عمل في طين له وبه آثار من الطين فدعاها إلى نفسه فأبطأت عليه لما رأت به من أثر الطين فخرج من عندها فتوضأ وغسل ما كان به من ذلك الطين ثم خرج عامدا إلى آمنة فمر بها، فدعته إلى نفسها، فأبى عليها، وعمد إلى آمنة فدخل عليها فأصابها، فحملت بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ثم مر بامرأته تلك فقال لها: هل لك؟ قالت لا، مررت بي وبين عينيك غرة بيضاء فدعوتك فأبيت علي ودخلت على آمنة فذهبت بها.
    قال ابن إسحاق: فزعموا أن امرأته تلك كانت تحدث أنه مر بها وبين عينيه غرة مثل غرة الفرس، قالت فدعوته رجاء أن تكون تلك بي، فأبى علي ودخل على آمنة فأصابها، فحملت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوسط قومه نسبا، وأعظمهم شرفا من قبل أبيه وأمه - صلى الله عليه وسلم -.
    ـــــــ
    فقال عبد الله حينئذ فيما ذكروا:
    أما الحرام فالحمام دونه ... والحل لا حل فأستبينه
    فكيف بالأمر الذي تبغينه ... يحمي الكريم عرضه ودينه؟
    واسم هذه المرأة رقية1 بنت نوفل أخت ورقة بن نوفل ; تكنى: أم قتال وبهذه الكنية وقع ذكرها في رواية يونس عن ابن إسحاق، وذكر البرقي عن هشام بن الكلبي قال إنما مر على امرأة اسمها: فاطمة بنت مر كانت من أجمل النساء وأعفهن وكانت قرأت الكتب فرأت نور النبوة في وجهه فدعته إلى نكاحها، فأبى، فلما أبى قالت:
    ـــــــ
    1 في "البداية" 2/262: أن اسمها: رقيقة، وقد روى ذلك البيهقي من طريق يونس بن بكير عن ابن اسحاق.
    (2/91)
    ذكر ما قيل لآمنة عند حملها برسول الله صلى الله عليه وسلم
    ...
    ذكر ما قيل لآمنة عند حملها برسول الله صلى الله عليه وسلم:
    ويزعمون - فيما يتحدث الناس والله أعلم - أن آمنة ابنة وهب أم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت تحدث:
    أنها أتيت حين حملت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقيل لها: إنك قد حملت بسيد هذه الأمة، فإذا وقع إلى الأرض فقولي: أعيذه بالواحد من شر كل حاسد ثم سميه محمدا. ورأت حين حملت به أنه خرج منها نور رأت به قصور بصرى، من أرض الشام.
    موت عبد المطلب:
    ثم لم يلبث عبد الله بن عبد المطلب، أبو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن هلك وأم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حامل به.
    ـــــــ
    إني رأيت مخيلة نشأت ... فتلألأت بحناتم القطر1
    فلمأتها نورا يضيء به ... ما حوله كإضاءة الفجر2
    ورأيت سقياها حيا بلد ... وقعت به وعمارة القفر
    ورأيته شرفا أبوء به ... ما كل قادح زنده يوري3
    لله ما زهرية سلبت ... منك الذي استلبت وما تدري4
    وفي غريب ابن قتيبة: أن التي عرضت نفسها عليه هي ليلى العدوية.
    ـــــــ
    1 الشعر ينسب إلى الخثعمية الكاهنة التي عرضت نفسها على عبد الله، والمخيلة: السحابة التي تخالها ماطرة.
    2 لمأتها: أبصرتها. وفي "الطبري": له، والبدر بدلاً من به، والفجر، والبيت في "اللسان".
    3 في "الطبري": فرجوتها فخراً أبوء به.
    4 في "الطبري": ثوبيك ما استلبت وما تدري، هذا وقد ذكر الطبري لها قصيدة أخرى عدتها ست أبيات وجاء في آخرها:
    ولما حوت منه أمينة ما حوت
    حوت منه فخراً ما لذلك ثان
    (2/92)
    ولادة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضاعته
    ...
    ولادة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضاعته:
    رأى ابن إسحاق في مولده صلى الله عليه وسلم:
    قال ابن إسحاق: ولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين، لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول عام الفيل.
    رواية قيس بن مخرمة عن مولده صلى الله عليه وسلم.
    قال ابن إسحاق: وحدثني المطلب بن عبد الله بن قيس بن مخرمة عن أبيه عن جده قيس بن مخرمة. قال:
    ولدت أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفيل فنحن لدان.
    رواية حسان بن ثابت، عن مولده صلى الله عليه وسلم:
    قال ابن إسحاق: وحدثني صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، عن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة الأنصاري. قال حدثني من
    ـــــــ
    فصل في المولد:
    في تفسير بقي بن مخلد أن إبليس - لعنه الله - رن أربع رنات رنة حين لعن ورنة حين أهبط ورنة حين ولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورنة حين أنزلت فاتحة الكتاب. قال والرنين والنخار1 من عمل الشيطان. قال ويكره أن يقال أم الكتاب ولكن فاتحة الكتاب. وروي عن عثمان بن أبي العاص عن أمه أم عثمان2 الثقفية واسمها
    ـــــــ
    1 الرنة: الصيحة الشديدة، والصوت الحزين عند الغناء أو البكاء. والنخارك صوت يخرج من الخياشيم.
    2 في الأصل: أبي العاص أمه عن أم عثمان، وقد أسلم عثمان هذا في وفد ثقيف، واستعمله النبي صلى الله عليه وسلم على الطائف، وأقره أبو بكر ثم عمر رضي الله عنهم جميعاً.
    (2/93)
    شئت من رجال قومي عن حسان بن ثابت، قال:
    والله إني لغلام يفعة ابن سبع سنين أو ثمان أعقل كل ما سمعت، إذ سمعت يهوديا يصرخ بأعلى صوته على أطمة بيثرب يا معشر يهود حتى إذا اجتمعوا إليه قالوا له ويلك ما لك؟ قال طلع الليلة نجم أحمد الذي ولد به.
    قال محمد بن إسحاق فسألت سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت فقلت: ابن كم كان حسان بن ثابت مقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة؟ فقال ابن ستين وقدمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ثلاث وخمسين سنة فسمع حسان ما سمع وهو ابن سبع سنين.
    إعلام أمه حده بولادته صلى الله عليه وسلم:
    قال ابن إسحاق: فلما وضعته أمه - صلى الله عليه وسلم - أرسلت إلى جده عبد المطلب: أنه قد ولد لك غلام فأته فانظر إليه فأتاه فنظر إليه وحدثته بما رأت حين حملت به وما قيل لها فيه وما أمرت به أن تسميه.
    فرح جده به صلى الله عليه وسلم، والتماسه له المراضع:
    فيزعمون أن عبد المطلب أخذه فدخل به الكعبة، فقام يدعو الله ويشكر له ما أعطاه ثم خرج به إلى أمه فدفعه إليها، والتمس لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرضعاء.
    ـــــــ
    فاطمة بنت عبد الله قالت "حضرت ولادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأيت البيت حين وضع قد امتلأ نورا، ورأيت النجوم تدنو حتى ظننت أنها ستقع علي". ذكره أبو عمر في كتاب النساء. وذكره الطبري أيضا في التاريخ1. وولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معذورا مسرورا، أي مختونا مقطوع السرة2 يقال عذر الصبي وأعذر. إذا ختن وكانت أمه تحدث أنها لم تجد حين حملت به ما تجده الحوامل من ثقل ولا وحم ولا غير ذلك ولما
    ـــــــ
    1 2/156
    2 ضعف ابن كثير كل الأحاديث التي رويت عن هذا ثم قال: "وقد ادعى بعضهم صحته لما ورد له من الطرق حتى زعم بعضهم أنه متواتر، وفي هذا كله نظر".
    (2/94)
    .................................................. ............................................
    ـــــــ
    وضعته - صلى الله عليه وسلم - وقع إلى الأرض مقبوضة أصابع يديه مشيرا بالسبابة كالمسبح بها، وذكر ابن دريد أنه ألقيت عليه جفنة لئلا يراه أحد قبل جده فجاء جده والجفنة قد انفلقت عنه ولما قيل له ما سميت ابنك؟ فقال محمدا، فقيل له كيف سميت باسم ليس لأحد من آبائك وقومك؟ فقال إني لأرجو أن يحمده أهل الأرض كلهم1 وذلك لرؤيا كان رآها عبد المطلب، وقد ذكر حديثها علي القيرواني العابد2 في كتاب البستان. قال كان عبد المطلب قد رأى في منامه كأن سلسلة من فضة خرجت من ظهره لها طرف في السماء وطرف في الأرض وطرف في المشرق وطرف في المغرب ثم عادت كأنها شجرة على كل ورقة منها نور وإذا أهل المشرق والمغرب كأنهم يتعلقون بها، فقصها، فعبرت له بمولود يكون من صلبه يتبعه أهل المشرق والمغرب ويحمده أهل السماء والأرض فلذلك سماه محمدا مع ما حدثته به أمه حين قيل لها: إنك حملت بسيد هذه الأمة فإذا وضعته فسميه محمدا. الحديث.
    اسم محمد وأحمد:
    قال المؤلف لا يعرف في العرب من تسمى بهذا الاسم قبله - صلى الله عليه وسلم - إلا ثلاثة طمع آباؤهم - حين سمعوا بذكر محمد - صلى الله عليه وسلم - وبقرب زمانه وأنه يبعث في الحجاز - أن يكون ولدا لهم. ذكرهم ابن فورك في كتاب الفصول وهم محمد بن سفيان بن مجاشع، جد جد الفرزدق الشاعر والآخر محمد بن أحيحة بن الجلاح بن الحريش بن جمحى3 بن كلفة بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس، والآخر:
    ـــــــ
    1 في "الاشتقاق" أردت أن يحمد في السموات والأرض.
    2 في المطبوعة"العابر" وهو خطأ، انظر 3/178 من هذا الكتاب ط. القاهرة 1990م.
    3 هو جحجبي فقد ورد هكذا في "نسب قريش"، عن ابن بري أن من سمي في الجاهلية بمحمد هم سبعة.
    (2/95)
    .................................................. ............................................
    ـــــــ
    محمد بن حمران بن ربيعة، وكان آباء هؤلاء الثلاثة قد وفدوا على بعض الملوك وكان عنده علم من الكتاب الأول فأخبرهم بمبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - وباسمه وكان كل واحد منهم قد خلف امرأته حاملا، فنذر كل واحد منهم إن ولد له ذكر أن يسميه محمدا، ففعلوا ذلك.
    قال المؤلف وهذا الاسم منقول من الصفة فالمحمد في اللغة هو الذي يحمد حمدا بعد حمد ولا يكون مفعل مثل مضرب وممدح إلا لمن تكرر فيه الفعل مرة بعد مرة.
    وأما أحمد فهو اسمه - صلى الله عليه وسلم - الذي سمي به على لسان عيسى وموسى - عليهما السلام - فإنه منقول أيضا من الصفة التي معناها التفضيل فمعنى أحمد أي أحمد الحامدين لربه وكذلك هو المعنى ; لأنه تفتح عليه في المقام المحمود محامد لم تفتح على أحد قبله فيحمد ربه بها ; ولذلك يعقد له لواء الحمد.
    وأما محمد فمنقول من صفة أيضا، وهو في معنى: محمود. ولكن فيه معنى المبالغة والتكرار فالمحمد هو الذي حمد مرة بعد مرة كما أن المكرم من أكرم مرة بعد مرة وكذلك الممدح ونحو ذلك. فاسم محمد مطابق لمعناه والله - سبحانه - وتعالى سماه به قبل أن يسمي به نفسه فهذا علم من أعلام نبوته إذ كان اسمه صادقا عليه فهو محمود - عليه السلام - في الدنيا بما هدى إليه ونفع به من العلم والحكمة وهو محمود في الآخرة بالشفاعة فقد تكرر معنى الحمد كما يقتضي اللفظ ثم إنه لم يكن محمدا، حتى كان أحمد حمد ربه فنبأه وشرفه فلذلك تقدم اسم أحمد على الاسم الذي هو محمد فذكره عيسى - صلى الله عليه وسلم - فقال اسمه أحمد وذكره موسى - صلى الله عليه وسلم - حين قال1 له ربه تلك أمة أحمد فقال اللهم
    ـــــــ
    1 قبل هذا ذكر ابن القيم رحمه الله: موسى قال لربه: يا رب إني أجد أمة من شأنها كذا وكذا فاجعلهم أمتي؟ انظر: "جلاء الأفهام" ص126 وهو حديث ساقط.
    (2/96)
    .................................................. ............................................
    ـــــــ
    اجعلني من أمة أحمد فبأحمد ذكر قبل أن يذكر بمحمد لأن حمده لربه كان قبل حمد الناس له فلما وجد وبعث كان محمدا بالفعل.
    وكذلك في الشفاعة يحمد ربه بالمحامد التي يفتحها عليه فيكون أحمد الحامدين لربه ثم يشفع فيحمد على شفاعته. فانظر كيف ترتب هذا الاسم قبل الاسم الآخر1 في الذكر والوجود وفي الدنيا والآخرة تلح لك الحكمة الإلهية في تخصيصه بهذين الاسمين وانظر كيف أنزلت عليه سورة الحمد وخص بها دون سائر الأنبياء وخص بلواء الحمد وخص بالمقام المحمود وانظر كيف شرع لنا سنة وقرآنا أن نقول عند اختتام الأفعال وانقضاء الأمور الحمد لله رب العالمين. قال الله سبحانه وتعالى: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر: 75]. وقال أيضا: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10] تنبيها لنا على أن الحمد مشروع لنا عند انقضاء الأمور. وسن - صلى الله عليه وسلم - الحمد بعد الأكل والشرب وقال عند انقضاء السفر: "آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون" 2.
    ثم انظر لكونه - عليه السلام - خاتم الأنبياء ومؤذنا بانقضاء الرسالة وارتفاع الوحي ونذيرا بقرب الساعة وتمام الدنيا مع أن الحمد كما قدمنا مقرون بانقضاء الأمور مشروع عنده - تجد معاني اسميه جميعا، وما خص به من الحمد والمحامد مشاكلا لمعناه مطابقا لصفته وفي ذلك برهان عظيم وعلم واضح على نبوته وتخصيص الله له بكرامته وأنه قدم له هذه المقدمات قبل وجوده تكرمة له وتصديقا لأمره - صلى الله عليه وسلم - وشرف وكرم.
    تعويذ عبد المطلب:
    وذكر أن عبد المطلب دخل به الكعبة وعوذه ودعا له. وفي غير رواية ابن هشام
    ـــــــ
    1 انظر تحقيق ابن قيم في الفرق بين محمد وأحمد.
    2 رواه مسلم.
    (2/97)
    .................................................. ............................................
    ـــــــ
    أن عبد المطلب قال وهو يعوذه:
    الحمد لله الذي أعطاني ... هذا الغلام الطيب الأردان
    قد ساد في المهد على الغلمان ... أعيذه بالبيت ذي الأركان
    حتى يكون بلغة الفتيان ... حتى أراه بالغ البنيان
    أعيذه من كل ذي شنآن ... من حاسد مضطرب العنان
    ذي همة ليس له عينان ... حتى أراه رافع السان1
    أنت الذي سميت في القرآن ... في كتب ثابتة المثاني
    أحمد مكتوب على البيان2
    تاريخ مولده:
    فصل : وذكر أن مولده عليه السلام كان في ربيع الأول وهو المعروف وقال الزبير كان مولده في رمضان وهذا القول موافق لقول من قال إن أمه حملت به في أيام التشريق والله أعلم.
    وذكروا أن الفيل جاء مكة في المحرم وأنه - صلى الله عليه وسلم - ولد بعد مجيء الفيل بخمسين يوما، وهو الأكثر والأشهر وأهل الحساب يقولون وافق مولده من الشهور الشمسية نيسان فكانت لعشرين مضت منه وولد بالغفر من المنازل وهو مولد النبيين ولذلك قيل خير منزلتين في الأبد بين الزنابا والأسد لأن الغفر يليه من العقرب زناباها، ولا ضرر في الزنابا إنما تضر العقرب بذنبها، ويليه من الأسد أليته وهو
    ـــــــ
    1 كذا!! ولعلها الشاق، وفي رواية: اللسان.
    2 في "البداية": اللسان، وليس هذا السند صحيح، وفي كلمات عبد المطلب "أعيذه بالواحد من شركل حاسد" قال العراقي: لا أصل لها.
    (2/98)
    .................................................. ............................................
    ـــــــ
    السماك والأسد لا يضر بأليته إنما يضر بمخلبه1 ونابه.
    وولد بالشعب، وقيل بالدار التي عند الصفا، وكانت بعد لمحمد بن يوسف أخي الحجاج، ثم بنتها زبيدة مسجدا حين حجت2.
    تحقيق وفاة أبيه:
    وذكر أنه مات أبوه وهو حمل3 وأكثر العلماء على أنه كان في المهد. ذكره الدولابي وغيره قيل ابن شهرين ذكره [أحمد] ابن أبي خيثمة [زهير بن حرب] وقيل أكثر من ذلك ومات أبوه عند أخواله بني النجار، ذهب ليمتار لأهله تمرا، وقد قيل مات أبوه وهو ابن ثمان وعشرين شهرا، وأنشدوا رجزا لعبد المطلب يقوله لابنه أبي طالب:
    أوصيك يا عبد مناف بعدي ... بموتم بعد أبيه فرد
    فارقه وهو ضجيع المهد
    وكان بينه وبين أبيه - عليه السلام - في السن ثمانية عشر عاما.
    أبوه من الرضاعة:
    وذكر الحارث بن عبد العزى أبا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الرضاعة ولم يذكر له إسلاما، ولا ذكره كثير ممن ألف في الصحابة وقد ذكره يونس بن بكير في روايته
    ـــــــ
    1 خرافة ربط مولد الإنسان وحظوظ عيشه، وأقدار حياته بالنجوم ومنازلها سخف عقلي، وعوار في الدين.
    2 كانت بزقاق المدكك، وكانت من قبل بيد عقيل بن أبي طالب.
    3 توفي عن خمس وعشرين
    (2/99)
    .................................................. ............................................
    ـــــــ
    فقال حدثنا ابن إسحاق قال حدثني والدي إسحاق بن يسار، عن رجال من بني سعد بن بكر، قال قدم الحارث بن عبد العزى، أبو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الرضاعة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة حين أنزل عليه القرآن فقالت له قريش: ألا تسمع يا حار1 ما يقول ابنك هذا؟ فقال وما يقول؟ قالوا: يزعم أن الله يبعث بعد الموت وأن لله دارين يعذب فيهما من عصاه ويكرم فيهما من أطاعه فقد شتت أمرنا، وفرق جماعتنا. فأتاه فقال أي بني ما لك ولقومك يشكونك، ويزعمون أنك تقول إن الناس يبعثون بعد الموت ثم يصيرون إلى جنة ونار؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم – "نعم أنا أزعم ذلك ولو قد كان ذلك اليوم يا أبت لقد أخذت بيدك، حتى أعرفك حديثك اليوم" فأسلم الحارث بعد ذلك وحسن إسلامه وكان يقول حين أسلم: لو قد أخذ ابني بيدي، فعرفني ما قال ثم يرسلني إن شاء الله حتى يدخلني الجنة2.
    تحقيق اسم ناصرة بن قصية:
    وذكر ناصرة بن قصية في نسب حليمة. وهو عندهم فصية بالفاء تصغير فصاة وهي النواة. ووقع في الأصل في جميع النسخ قصية بالقاف3. وقال أبو حنيفة أيضا: الفصا: حب الزبيب وهو من هذا المعنى.
    الشيماء:
    وذكر الشيماء أخت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الرضاعة وقال في اسمها: خذامة بكسر الخاء المنقوطة وقال غيره حذافة بالحاء المضمومة وبالفاء مكان الميم وكذلك ذكره يونس في روايته عن ابن إسحاق، وكذلك ذكره أبو عمر في كتاب النساء.
    ـــــــ
    1 ترخيم لحارث.
    2 لم يروه أحد غيره، وختمته مجرد تمن فقط.
    3 في النسخة المطبوعة على هامش "الروض": فصية بالفاء، ويقول الخشني ص54 هو الصواب.
    (2/100)
    قال ابن هشام: المراضع. وفي كتاب الله تبارك وتعالى في قصة موسى عليه السلام {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ}.
    نسب حليمة، ونسب أبيها:
    قال ابن إسحاق: فاسترضع له امرأة من بني سعد بن بكر، يقال لها: حليمة ابنة أبي ذؤيب.
    وأبو ذؤيب: عبد الله بن الحارث بن شجنة بن جابر بن رزام بن ناصرة بن فصية بن نصر بن سعد بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان.
    (2/101)
    شرح ما في حديث الرضاع
    ...
    ـــــــ
    شرح ما في حديث الرضاع:
    الرضعاء والمراضع:
    قال ابن إسحاق: فالتمس لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرضعاء. قال ابن هشام إنما هو المراضع. قال وفي كتاب الله سبحانه {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} [القصص: 12] والذي قاله ابن هشام ظاهر لأن المراضع جمع مرضع والرضعاء جمع رضيع ولكن لرواية ابن إسحاق مخرج من وجهين أحدهما حذف المضاف كأنه قال ذوات الرضعاء والثاني أن يكون أراد بالرضعاء الأطفال على حقيقة اللفظ لأنهم إذا وجدوا له مرضعة ترضعه فقد وجدوا له رضيعا، يرضع معه فلا يبعد أن يقال التمسوا له رضيعا، علما بأن الرضيع لا بد له من مرضع.
    (2/101)
    نسب أبيه صلى الله عليه وسلم في الرضاع:
    واسم أبيه الذي أرضعه - صلى الله عليه وسلم - الحارث بن عبد العزى بن رفاعة بن ملان بن ناصرة بن فصية بن نصر بن سعد بن بكر بن هوازن.
    قال ابن هشام: ويقال هلال بن ناصرة.
    إخوته صلى الله عليه وسلم من الرضاع:
    قال ابن إسحاق: وإخوته من الرضاعة عبد الله بن الحارث، وأنيسة بنت الحارث وخدامة بنت الحارث وهي الشيماء غلب ذلك على اسمها فلا تعرف في قومها إلا به. وهم لحليمة بنت أبي ذؤيب، عبد الله بن الحارث، أم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
    ويذكرون أن الشيماء كانت تحضنه مع أمها إذا كان عندهم.
    ـــــــ
    مرضعاته عليه الصلاة السلام:
    وأرضعته - عليه السلام - ثويبة1 قبل حليمة. أرضعته وعمه حمزة وعبد الله بن جحش، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرف ذلك لثويبة ويصلها من المدينة ، فلما افتتح مكة سأل عنها وعن ابنها مسروح، فأخبر أنهما ماتا، وسأل عن قرابتها، فلم يجد أحدا منهم حيا. وثويبة كانت جارية لأبي لهب، وسنذكر بقية حديثها - إن شاء الله - عند وفاة أبي لهب.
    ـــــــ
    1 توفيت سنة سبع. قال ابن منده: اختلف في إسلامها، وقال أبونعيم: لا أعلم أحداً ذكره انظر "المواهب" 1/137. وحديث حليمة بهذا السند رواه الحاكم وابن حبان وابن راهوية وأبو يعلى والطبراني والبيهقي وأبو نعيم.
    (2/102)
    حديث حليمة عما رأته من الخير بعد تسلمها له صلى الله عليه وسلم:
    قال ابن إسحاق: وحدثني جهم بن أبي جهم مولى الحارث بن حاطب الجمحي، عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب. أو عمن حدثه عنه قال:
    كانت حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية. أم رسول الله التي أرضعته، تحدث: أنها خرجت من بلدها مع زوجها، وابن لها صغير ترضعه في نسوة من بني سعد بن بكر، تلتمس الرضعاء، قالت: وذلك في سنة شهباء، لم تبق لنا شيئاً. قالت: فخرجت على أتان لي قمراء، معنا شارف لنا، والله ما تبض بقطرة، وما ننام ليلنا أجمع من صبينا الذي معنا، من بكائه من الجوع، ما في ثديي ما يغنيه، وما في
    ـــــــ
    يغذيه أو يغديه:
    وذكر قول حليمة: وليس في شارفنا ما يغذيه. وقال ابن هشام: ما يغذيه بالذال المنقوطة وهو أتم في المعنى من الاقتصار على ذكر الغداء دون العشاء1 وليس في أصل الشيخ رواية ثالثة وعند بعض الناس رواية غير هاتين وهي يعذبه بعين مهملة وذال منقوطة وباء معجمة بواحدة ومعناها عندهم ما يقنعه حتى يرفع رأسه وينقطع عن الرضاع يقال منه عذبته وأعذبته: إذا قطعته عن الشرب ونحوه والعذوب الرافع رأسه عن الماء وجمعه عذوب بالضم ولا يعرف فعول جمع على فعول غيره قاله أبو عبيد2 والذي في الأصل أصح في المعنى والنقل.
    من شرح حديث الرضاعة:
    وذكر قولها: حتى أذممت بالركب. تريد أنها حبستهم وكأنه من الماء
    ـــــــ
    1 يقول أبو ذر الخشني: ومن رواه ما يغذيه فمعناه: ما يقنعه ولا يمنعه من البكاء.
    2 في "اللسان" جمعه: عذب بضم العين والذال، وقد خطأ الأزهري أبا عبيدة.
    (2/103)
    شارفنا ما يغديه - قال ابن هشام: ويقال يغذيه - ولكنا كنا نرجو الغيث والفرج فخرجت على أتاني تلك فلقد أدمت بالركب حتى شق ذلك عليهم ضعفا وعجفا، حتى قدمنا مكة نلتمس الرضعاء فما منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتأباه إذا قيل لها إنه يتيم وذلك أنا إنما كنا نرجو المعروف من أبي الصبي فكنا نقول يتيم وما عسى أن تصنع أمه وجده فكنا نكرهه لذلك فما بقيت امرأة قدمت معي إلا أخذت رضيعا غيري، فلما أجمعنا الانطلاق قلت لصاحبي: والله إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي ولم آخذ رضيعا، والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه قال لا عليك أن تفعلي، عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة. قالت: فذهبت إليه فأخذته، وما حملني على أخذه إلا أني لم أجد غيره. قالت فلما أخذته،
    ـــــــ
    الدائم وهو الواقف ويروى: حتى أذمت. أي أذمت الأتان أي جاءت بما تذم عليه أو يكون من قولهم بئر ذمة أي قليلة الماء وليست هذه عند أبي الوليد ولا في أصل الشيخ أبي بحر وقد ذكرها قاسم في الدلائل ولم يذكر رواية أخرى، وذكر تفسيرها عن أبي عبيدة أذم بالركب إذا أبطأ حتى حبستهم من البئر الذمة وهي القليلة الماء1.
    وذكر قول حليمة: فلما وضعته في حجري أقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن فشرب حتى روي وشرب معه أخوه حتى روي.
    وذكر غير ابن إسحاق أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان لا يقبل إلا على ثديها الواحد وكانت تعرض عليه الثدي الآخر فيأباه كأنه قد أشعر - عليه السلام - أن معه شريكا في لبانها، وكان مفطورا على العدل مجبولا على المشاركة والفضل - صلى الله عليه وسلم -.
    التماس الأجر على الرضاع:
    قال المؤلف والتماس الأجر على الرضاع لم يكن محمودا عند أكثر نساء
    ـــــــ
    1 عند أبي ذر الخشني: أذمت: تأخرت بالركب، أي تأخر الركب بسببها.
    (2/104)
    .................................................. ............................................
    ـــــــ
    العرب، حتى جرى المثل تجوع المرأة ولا تأكل بثدييها1، وكان عند بعضهن لا بأس به فقد كانت حليمة وسيطة في بني سعد، كريمة من كرائم قومها، بدليل اختيار الله - تعالى - إياها لرضاع نبيه - صلى الله عليه وسلم - كما اختار له أشرف البطون والأصلاب. والرضاع كالنسب لأنه يغير الطباع. في المسند عن عائشة - رضي الله عنها – ترفعه"لا تسترضعوا الحمقى ; فإن اللبن يورث" ويحتمل أن تكون حليمة ونساء قومها طلبن الرضعاء اضطرارا للأزمة التي أصابتهم والسنة الشهباء التي اقتحمتهم.
    لم كانت قريش تدفع أولادها إلى المراضع؟
    وأما دفع قريش وغيرهم من أشراف العرب أولادهم إلى المراضع فقد يكون ذلك لوجوه. أحدها: تفريغ النساء إلى الأزواج كما قال عمار بن ياسر لأم سلمة - رضي الله عنها - وكان أخاها من الرضاعة حين انتزع من حجرها زينب بنت أبي سلمة، فقال دعي هذه المقبوحة المشقوحة2 التي آذيت بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم – وقد يكون ذلك منهم أيضا لينشأ الطفل في الأعراب، فيكون أفصح للسانه وأجلد لجسمه وأجدر أن لا يفارق الهيئة المعدية3 كما قال عمر رضي الله عنه تمعددوا وتمعززوا4 واخشوشنوا [رواه ابن أبي حدرد].
    وقد قال - عليه السلام - لأبي بكر - رضي الله عنه - حين قال له "ما رأيت أفصح منك يا رسول الله فقال: "وما
    ـــــــ
    1 روايته: تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها، أي: لا تكون ظئراً، وإن آذاها الجوع، وأول من قاله: الحارث بن سليل الأسدي. انظر "مجمع الأمثال للميداني".
    2 المشقوحة: المكسورة أو المبعدة، من الشقح، وهو الكسر أو البعد، ومشقوحة اتباع لمقبوحة.
    3 نسبة إلى قوم معد، أي: تصلبوا وتشبهوا بمعدة.
    4 وتمعززوا: تعزز لحمه: اشتد وصلب، وتمعز البعير: اشتد عدوه.
    (2/105)
    رجعت به إلى رحلي فلما وضعته في حجري أقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن فشرب حتى روي وشرب معه أخوه حتى روي ثم ناما، وما كنا ننام معه قبل ذلك وقام زوجي إلى شارفنا تلك فإذا إنها لحافل فحلب منها ما شرب وشربت معه حتى انتهينا ريا وشبعا، فبتنا بخير ليلة. قالت يقول صاحبي حين أصبحنا: تعلمي والله يا حليمة، لقد أخذت نسمة مباركة قالت فقلت: والله إني لأرجو ذلك. قالت ثم خرجنا وركبت أتاني، وحملته عليها معي، فوالله لقطعت بالركب ما يقدر عليها شيء من خمرهم حتى إن صواحبي ليقفن لي: يا ابنة أبي ذؤيب، ويحك اربعي1 علينا، أليست هذه أتانك التي كنت خرجت عليها؟ فأقول لهن بلى والله إنها لهي هي فيقلن والله إن لها شأنا. قالت ثم قدمنا منازلنا من بلاد بني سعد. وما أعلم أرضا من أرض الله أجدب منها. فكانت غنمي تروح علي حين قدمنا به معنا شباعا لبنا. فنحلب ونشرب. وما يحلب إنسان قطرة لبن ولا يجدها في ضرع. حتى كان الحاضرون من قومنا يقولون لرعيانهم ويلكم اسرحوا حيث يسرح راعي بنت أبي ذؤيب فتروح أغنامهم جياعا ما تبض بقطرة لبن وتروح غنمي شباعا لبنا، فلم نزل نتعرف من الله الزيادة والخير حتى مضت سنتاه وفصلته ; وكان يشب شبابا لا يشبه الغلمان فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلاما جفرا. قالت فقدمنا به على أمه ونحن أحرص شيء على مكثه فينا ; لما كنا نرى من بركته. فكلمنا أمه وقلت لها: لو تركت بني عندي حتى يغلظ فإني أخشى عليه وبأ2 مكة
    ـــــــ
    يمنعني، وأنا من قريش، وأرضعت في بني سعد؟" فهذا ونحوه كان يحملهم على دفع الرضعاء إلى المراضع الأعرابيات. وقد ذكر أن عبد الملك بن مروان كان يقول أضر بنا حب الوليد لأن الوليد كان لحانا، وكان سليمان فصيحا ; لأن الوليد أقام مع أمه وسليمان وغيره من إخوته سكنوا البادية، فتعربوا، ثم أدبوا فتأدبوا، وكان
    ـــــــ
    1 أربعي: أقيمي وانتظري. يقال: ربع فلان على فلان إذا أقام عليه وانتظره.
    2 الوبأ: يهمز ويقصر "والوبأ" بالمد: الطاعون.
    (2/106)
    قالت فلم نزل بها حتى ردته معنا.
    حديث الملكين اللذين شقا بطنه صلى الله عليه وسلم:
    قالت فرجعنا به فوالله إنه بعد مقدمنا بأشهر مع أخيه لفي بهم لنا خلف بيوتنا، إذ أتانا أخوه يشتد، فقال لي ولأبيه ذاك أخي القرشي قد أخذه رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاه فشقا بطنه فهما يسوطانه قالت فخرجت أنا وأبوه نحوه فوجدناه قائما منتقعا وجهه. قالت فالتزمته والتزمه أبوه فقلنا له ما لك يا بني قال جاءني رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاني وشقا بطني، فالتمسا شيئا لا أدري ما هو. قالت فرجعنا إلى خبائنا.
    رجوع حليمة به صلى الله عليه وسلم إلى أمه:
    قالت وقال لي أبوه يا حليمة، لقد خشيت أن يكون هذا الغلام قد أصيب فألحقيه بأهله قبل أن يظهر ذلك به قالت فاحتملناه فقدمنا به على أمه فقالت ما أقدمك به يا ظئر وقد كنت حريصة عليه وعلى مكثه عندك؟ قالت فقلت: قد بلغ الله يا بني وقضيت الذي علي وتخوفت الأحداث عليه فأديته إليك كما تحبين. قالت ما هذا شأنك، فأصدقيني خبرك. قالت فلم تدعني حتى أخبرتها.
    ـــــــ
    من قريش أعراب ومنهم حضر فالأعراب منهم بنو الأدرم وبنو محارب، وأحسب بني عامر بن لؤي كذلك لأنهم من أهل الظواهر، وليسوا من أهل البطاح1.
    شق الصدر:
    وذكر قول أخيه من الرضاعة نزل عليه رجلان أبيضان فشقا عن بطنه وهما يسوطانه يقال سطت اللبن أو الدم أو غيرهما، أسوطه إذا ضربت بعضه ببعض. والمسوط عود يضرب به.
    ـــــــ
    1 سبق الحديث عن قريش البطاح وقريش الظواهر.
    (2/107)
    قالت أفتخوفت عليه الشيطان؟ قالت قلت: نعم قالت كلا. والله ما للشيطان عليه من سبيل وإن لبني لشأنا، أفلا أخبرك خبره. قالت بلى. قالت رأيت حين حملت به أنه خرج مني نور أضاء لي قصور بصرى من أرض الشام. ثم حملت به فوالله ما رأيت من حمل قط كان أخف ولا أيسر منه ووقع حين ولدته، وإنه لواضع يديه بالأرض رافع رأسه إلى السماء. دعيه عنك، وانطلقي راشدة.
    تعريفه صلى الله عليه وسلم بنفسه، وقد سئل عن ذلك:
    قال ابن إسحاق: وحدثني ثور بن يزيد، عن بعض أهل العلم ولا أحسبه إلا عن خالد بن معدان الكلاعي". أن نفرا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا له يا رسول الله. أخبرنا عن نفسك؟ قال نعم أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى أخي عيسى، ورأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاء لها قصور الشام، واسترضعت في بني سعد بن
    ـــــــ
    وفي رواية أخرى عن ابن إسحاق أنه نزل عليه كركيان1 فشق أحدهما بمنقاره جوفه ومج الآخر بمنقاره فيه ثلجا، أو بردا، أو نحو هذا، وهي رواية غريبة ذكرها يونس عنه واختصر ابن إسحاق حديث نزول الملكين عليه وهو أطول من هذا.
    وروى ابن أبي الدنيا وغيره بإسناد يرفعه إلى أبي ذر - رضي الله عنه – قال: "قلت: يا رسول الله كيف علمت أنك نبي، وبم علمت حتى استيقنت؟ قال يا أبا ذر أتاني ملكان وأنا ببطحاء مكة، فوقع أحدهما بالأرض وكان الآخر بين السماء والأرض فقال أحدهما لصاحبه أهو هو؟ قال هو هو قال فزنه برجل فوزنني برجل فرجحته، ثم قال زنه بعشرة فوزنني فرجحتهم ثم قال زنه بمائة فوزنني، فرجحتهم ثم قال زنه بألف فوزنني فرجحتهم حتى جعلوا يتثاقلون علي من كفة الميزان فقال أحدهما لصاحبه شق بطنه فشق بطني، فأخرج قلبي،
    ـــــــ
    1 الكركي: طائر أغبر اللون طويل العنق والرجلين أبتر الذنب. ومج الماء: لفظه.
    (2/108)
    بكر. فبينا أنا مع أخ لي خلف بيوتنا نرعى بهما لنا. إذ أتاني رجلان عليهما ثياب بيض بطست من ذهب مملوءة ثلجا. ثم أخذاني فشقا بطني، واستخرجا قلبي، فشقاه فاستخرجا منه علقة سوداء فطرحاها. ثم غسلا قلبي وبطني بذلك الثلج حتى أنقياه ثم قال أحدهما لصاحبه زنه بعشرة من أمته فوزنني به فوزنتهم ثم قال زنه بمئة من أمته. فوزنني بهم فوزنتهم ثم قال زنه بألف من أمته فوزنني بهم فوزنتهم. فقال دعه عنك، فوالله لو وزنته بأمته لوزنها".
    __________
    فأخرج معه مغمز الشيطان وعلق الدم فطرحهما، فقال أحدهما لصاحبه اغسل بطنه غسل الإناء واغسل قلبه غسل الملاء ثم قال أحدهما لصاحبه خط بطنه فخاط بطني، وجعل الخاتم بين كتفي كما هو الآن ووليا عني، فكأني أعاين الأمر معاينة" ففي هذا الحديث بيان لما أبهم في الأول لأنه قال فأخرج منه مغمز الشيطان وعلق الدم فبين أن الذي التمس فيه هو الذي يغمزه الشيطان من كل مولود إلا عيسى ابن مريم وأمه1 - عليهما السلام - لقول أمها حنة {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران: 36]. فلم يصل إليه لذلك ولأنه لم يخلق من مني الرجال فأعيذه من مغمز وإنما خلق من نفخة روح القدس، ولا يدل هذا على فضل عيسى عليه السلام على محمد - صلى الله عليه وسلم - لأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - قد نزع منه ذلك المغمز وملئ قلبه حكمة وإيمانا، بعد أن غسله روح القدس بالثلج والبرد وإنما كان ذلك المغمز فيه لموضع الشهوة المحركة للمني والشهوات يحضرها الشياطين لا سيما شهوة من ليس بمؤمن فكان ذلك المغمز راجعا إلى الأب لا إلى الابن المطهر - صلى الله عليه وسلم-.
    وفي الحديث فائدة أخرى، وهي من نفيس العلم وذلك أن خاتم النبوة لم
    ـــــــ
    1 يشير إلى ما رواه البخاري ومسلم: "ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان، فيستهل صارخاً من النخسة الشيطان إلا ابن مريم وأمه، قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران:36]
    (2/109)
    .................................................. ............................................
    ـــــــ
    يدر هل خلق به أم وضع فيه بعدما ولد أو حين نبئ فبين في هذا الحديث متى وضع وكيف وضع ومن وضعه زادنا الله علما، وأوزعنا شكر ما علم وفيه البيان لما سأل عنه أبو ذر - رضي الله عنه - حين قال كيف علمت أنك نبي1، فأعلمه بكيفية ذلك غير أن في هذا الحديث وهما من بعض النقلة وهو قوله بينما أنا ببطحاء مكة، وهذه القصة لم تعرض له إلا وهو في بني سعد مع حليمة، كما ذكر ابن إسحاق وغيره وقد رواه البزار من طريق عروة عن أبي ذر - رضي الله عنه - فلم يذكر فيه بطحاء مكة.
    حديث السكينة:
    وذكر فيه أنه قال وأوتيت بالسكينة كأنها رهرهة فوضعت في صدري. قال ولا أعلم لعروة سماعا من أبي ذر. وذكر من طريق آخر عن أبي ذر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال: "يا أبا ذر وزنت بأربعين أنت فيهم فرجحتهم" والرهرهة بصيص البشرة فهذا بيان وضع الخاتم متى وضع.
    مسألة شق الصدر مرة أخرى:
    وأما متى وجبت له النبوة فروي عن ميسرة أنه قال له متى وجبت لك النبوة
    ـــــــ
    1 كل حديث يزعم فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعرف أنه نبي هو حديث كذب لا يعتد به لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف حتى ليلة الوحي أنه نبي. وعن خاتم النبوة ورد حديث رواه الشيخان والترمذي عن السائب بن يزيد: "فنظرت إلى خاتم..." الحديث.
    (2/110)
    .................................................. ............................................
    ـــــــ
    يا رسول الله؟ فقال: "وآدم بين الروح والجسد" ويروى : "وآدم مجندل في طينته"1 .
    وهذا الخبر يروى عنه - عليه السلام - على وجهين أحدهما: أنه شق عن قلبه وهو مع رابته ومرضعته في بني سعد، وأنه جيء بطست من ذهب فيه ثلج فغسل به قلبه والثاني فيه أنه غسل بماء زمزم، وأن ذلك كان ليلة الإسراء حين عرج به إلى السماء بعدما بعث بأعوام وفيه أنه أتي بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا، فأفرغ في قلبه. وذكر بعض من ألف في شرح الحديث أنه تعارض في الروايتين وجعل يأخذ في ترجيح الرواة وتغليط بعضهم وليس الأمر كذلك بل كان هذا التقديس وهذا التطهير مرتين.
    الأولى: في حال الطفولية لينقى قلبه من مغمز الشيطان وليطهر ويقدس من كل خلق ذميم حتى لا يتلبس بشيء مما يعاب على الرجال وحتى لا يكون في قلبه شيء إلا التوحيد ولذلك قال فوليا عني، يعني: الملكين وكأني أعاين الأمر معاينة.
    والثانية: في حال اكتهال وبعدما نبئ وعندما أراد الله أن يرفعه إلى الحضرة المقدسة التي لا يصعد إليها إلا مقدس وعرج به هنالك لتفرض عليه الصلاة وليصلي بملائكة السموات ومن شأن الصلاة الطهور فقدس ظاهرا وباطنا، وغسل بماء زمزم.
    وفي المرة الأولى بالثلج لما يشعر الثلج من ثلج اليقين وبرده على الفؤاد وكذلك هناك حصل له اليقين بالأمر الذي يراد به وبوحدانية ربه.
    ـــــــ
    1 وهكذا كل إنسان في قدر، فإن الله تعالى كتب عنده مقادير الكائنات جميعها، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف حتى ليلة الوحي الأولى أنه نبي أو النبوة ستأتيه، وهذا ما ظهر عليه لما رجع إلى خديجة رضي الله عنها
    (2/111)
    .................................................. ............................................
    ـــــــ
    وأما في الثانية فقد كان موقنا منبئا، فإنما طهر لمعنى آخر وهو ما ذكرناه من دخول حضرة القدس والصلاة فيها، ولقاء الملك القدوس فغسله روح القدس بماء زمزم التي هي هزمة روح القدس، وهمزة1 عقبه لأبيه إسماعيل عليه السلام - وجيء بطست ممتلئ حكمة وإيمانا، فأفرغ في قلبه وقد كان مؤمنا، ولكن الله تعالى قال {لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4] وقال {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً} [المدثر: 31].
    فإن قيل وكيف يكون الإيمان والحكمة في طست من ذهب والإيمان عرض والأعراض لا يوصف بها إلا محلها الذي تقوم به ولا يجوز فيه الانتقال لأن الانتقال من صفة الأجسام لا من صفة الأعراض؟ قلنا:
    إنما عبر عما كان في الطست بالحكمة والإيمان كما عبر عن اللبن الذي شربه وأعطى فضله عمر - رضي الله عنه - بالعلم فكان تأويل ما أفرغ في قلبه حكمة وإيمانا، ولعل الذي كان في الطست كان ثلجا وبردا - كما ذكر في الحديث الأول - فعبر عنه في المرة الثانية بما يئول إليه وعبر عنه في المرة الأولى بصورته التي رآها، لأنه في المرة الأولى كان طفلا، فلما رأى الثلج في طست الذهب اعتقده ثلجا، حتى عرف تأويله بعد. وفي المرة الثانية كان نبيا، فلما رأى طست الذهب مملوءا ثلجا علم التأويل لحينه واعتقده في ذلك المقام حكمة وإيمانا، فكان لفظه في الحديثين على حسب اعتقاده في المقامين.
    مناسبة الذهب للمعنى المقصود:
    وكان الذهب في الحالتين جميعا مناسبا للمعنى الذي قصد به. فإن نظرت إلى
    ـــــــ
    1 هزم البئر: حفرها، والهمزة: النقرة، وسيأتي بيان أن الصلاة كانت مفروضة قبل الإسراع بنص القرآن والأحاديث الصحيحة، وقوله: كأني أعاين الأمر معاينة،يؤكد أنه رؤيا منامية.
    (2/112)
    .................................................. ............................................
    ـــــــ
    لفظ الذهب فمطابق للإذهاب فإن الله - عز وجل - أراد أن يذهب عنه الرجس ويطهره تطهيرا، وإن نظرت إلى معنى الذهب وأوصافه وجدته أنقى شيء وأصفاه يقال في المثل أنقى من الذهب. وقالت بريرة في عائشة - رضي الله عنها – "ما أعلم عليها إلا ما يعلم الصائغ على الذهب الأحمر" وقال حذيفة في صلة بن أشيم رضي الله عنهما: إنما قلبه من ذهب وقال جرير بن حازم في الخليل بن أحمد: إنه لرجل من ذهب يريدون النقاء من العيوب فقد طابق طست الذهب ما أريد بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من نقاء قلبه. ومن أوصاف الذهب أيضا المطابقة لهذا المقام ثقله ورسوبه فإنه يجعل في الزيبق الذي هو أثقل الأشياء فيرسب والله تعالى يقول: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل: 5].
    وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه – "إنما ثقلت موازين المحقين يوم القيامة لاتباعهم الحق وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الحق أن يكون ثقيلا، وقال في أهل الباطل بعكس هذا" وقد روي أنه أنزل عليه الوحي وهو على ناقته فثقل عليها حتى ساخت قوائمها في الأرض فقد تطابقت الصفة المعقولة والصفة المحسوسة. ومن أوصاف الذهب أيضا أنه لا تأكله النار وكذلك القرآن لا تأكل النار يوم القيامة قلبا وعاه ولا بدنا عمل به قال النبي - صلى الله عليه وسلم – "لو كان القرآن في إهاب ثم طرح في النار ما احترق" 1 ومن أوصاف الذهب المناسبة لأوصاف القرآن والوحي أن الأرض لا تبليه وأن الثرى لا يذريه وكذلك القرآن لا يخلق على كثرة الرد ولا يستطاع تغييره ولا تبديله ومن أوصافه أيضا: نفاسته وعزته عند الناس وكذلك الحق والقرآن عزيز قال سبحانه {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} [فصلت: 41]. فهذا إذا نظرت إلى أوصافه ولفظه وإذا نظرت إلى ذاته وظاهره فإنه زخرف الدنيا وزينتها، وقد فتح بالقرآن والوحي على محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته خزائن الملوك وتصير إلى أيديهم ذهبها وفضتها، وجميع زخرفها وزينتها، ثم
    ـــــــ
    1 رواه الطبراني، وفي "الجامع" للسيوطي أنه ضعيف.
    (2/113)
    .................................................. ............................................
    ـــــــ
    وعدوا باتباع القرآن والوحي قصور الذهب والفضة في الجنة.
    قال - صلى الله عليه وسلم – "جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما من ذهب" وفي التنزيل {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ} 1 [الزخرف: 7] {يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير} [الحج: 23، وفاطر: 33] فكان ذلك الذهب يشعر بالذهب الذي يصير إليه من اتبع الحق والقرآن وأوصافه تشعر بأوصاف الحق والقرآن ولفظه يشعر بإذهاب الرجس كما تقدم فهذه حكم بالغة2 لمن تأمل واعتبار صحيح لمن تدبر والحمد لله.
    وفي ذكر الطست وحروف اسمه حكمة تنظر إلى قوله تعالى: {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ} [النمل: 1] ومما يسأل عنه هل خص هو - صلى الله عليه وسلم - بغسل قلبه في الطست أم فعل ذلك بغيره من الأنبياء قبله ففي خبر التابوت والسكينة أنه كان فيه الطست التي غسلت فيها قلوب الأنبياء عليهم السلام. ذكره الطبري3، وقد انتزع بعض الفقهاء من حديث الطست حيث جعل محلا للإيمان والحكمة جواز تحلية المصحف بالذهب وهو فقه حسن4 ففي حديث أبي ذر - رضي الله عنه - هذا الذي قدمناه متى علم أنه نبي.
    الحكمة في ختم النبوة:
    والحكمة في خاتم النبوة على جهة الاعتبار أنه لما ملئ قلبه حكمة ويقينا، ختم عليه كما يختم على الوعاء المملوء مسكا أو درا، وأما وضعه عند نغض5
    ـــــــ
    1 منحديث رواه الجماعة إلا أبا داود: "جنتان من فضة..." الحديث.
    2 تأويلات مغربة، وإن كانت تشهد بذكاء، لكن شأن القرآن أعظم.
    3 يشير إلى قوله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ...} [البقرة:248].
    4 رد ابن القيم رحمه الله هذا الرأي.
    5 هو أعلى منقطع غضروف الكتف.
    (2/114)
    .................................................. ............................................
    ـــــــ
    كتفه فلأنه معصوم من وسوسة الشيطان وذلك الموضع منه يوسوس الشيطان لابن آدم. روى ميمون بن مهران "عن عمر بن عبد العزيز أن رجلا سأل ربه أن يريه موضع الشيطان منه فأري جسدا ممهى يرى داخله من خارجه والشيطان في صورة ضفدع عند نغض كتفه حذاء قلبه له خرطوم كخرطوم البعوضة وقد أدخله إلى قلبه يوسوس فإذا ذكر الله تعالى العبد خنس".
    رد حليمة للنبي - صلى الله عليه وسلم -:
    فصل: وكان رد حليمة إياه إلى أمه وهو ابن خمس سنين وشهر فيما ذكر أبو عمر ثم لم تره بعد ذلك إلا مرتين إحداهما بعد تزويجه خديجة - رضي الله عنها - جاءته تشكو إليه السنة وأن قومها قد أسنتوا فكلم لها خديجة، فأعطتها عشرين رأسا من غنم وبكرات والمرة الثانية يوم حنين وسيأتي ذكرها إن شاء الله.
    تأويل النور الذي رأته آمنة:
    فصل: وذكر النور الذي رأته آمنة حين ولدته عليه السلام فأضاءت لها قصور الشام، وذلك بما فتح الله عليه من تلك البلاد حتى كانت الخلافة فيها مدة بني أمية، واستضاءت تلك البلاد وغيرها بنوره - صلى الله عليه وسلم - وكذلك رأى خالد بن سعيد بن العاصي قبل المبعث بيسير نورا يخرج من زمزم، حتى ظهرت له البسر1 في نخيل يثرب، فقصها على أخيه عمرو، فقال له إنها حفيرة عبد المطلب، وإن هذا النور منهم فكان ذلك سبب مبادرته إلى الإسلام.
    ـــــــ
    1 البسر أوله: طلع ثم: حلال بالفتح، ثم بلح بفتحتين، ثم بسر ثم رطب: ثم تمر.
    (2/115)
    هو والأنبياء قبله رعوا الغنم:
    قال ابن إسحاق: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول "ما من نبي إلا وقد رعى الغنم" قيل وأنت يا رسول الله؟ قال "وأنا" .
    اعتزازه صلى الله عليه وسلم بقرشيته، واسترضاعه في بن سعد:
    قال ابن إسحاق: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لأصحابه "أنا أعربكم أنا قرشي، واسترضعت في بني سعد بن بكر" .
    افتقدته حليمة صلى الله عليه وسلم حين رجوعها به، ووجده ورقة بن نوفل:
    قال ابن إسحاق: وزعم الناس فيما يتحدثون والله أعلم أن أمه السعدية لما قدمت به مكة أضلها في الناس وهي مقبلة به نحو أهله فالتمسته فلم تجده فأتت عبد المطلب، فقالت له إني قد قدمت بمحمد هذه الليلة فلما كنت بأعلى مكة أضلني، فوالله ما أدري أين هو فقام عبد المطلب عند الكعبة يدعو الله أن يرده فيزعمون أنه وجده ورقة بن نوفل بن أسد، ورجل آخر من قريش، فأتيا به عبد المطلب، فقالا له هذا ابنك وجدناه بأعلى مكة، فأخذه عبد المطلب، فجعله على عنقه وهو يطوف بالكعبة يعوذه ويدعو له ثم أرسل به إلى أمه آمنة.
    ـــــــ
    رعيه الغنم:
    فصل: وذكر قول النبي - صلى الله عليه وسلم – "ما من نبي إلا وقد رعى الغنم. قيل وأنت يا رسول الله؟ قال "وأنا". وإنما أراد ابن إسحاق بهذا الحديث رعايته الغنم في بني سعد مع أخيه من الرضاعة وقد ثبت في الصحيح أنه رعاها بمكة أيضا على قراريط لأهل مكة. ذكره البخاري، وذكر البخاري عنه أيضا أنه قال "ما هممت بشيء من أمر الجاهلية إلا مرتين وروى أن إحدى المرتين كان في غنم يرعاها هو وغلام من قريش، فقال لصاحبه اكفني أمر الغنم حتى آتي مكة، وكان بها عرس فيها لهو وزمر فلما دنا من الدار ليحضر ذلك ألقي عليه النوم فنام حتى ضربته الشمس عصمة من الله له".
    وفي المرة الآخرة قال لصاحبه مثل ذلك وألقي عليه النوم فيها،
    (2/116)
    قال ابن إسحاق: وحدثني بعض أهل العلم أن مما هاج أمه السعدية على رده إلى أمه مع ما ذكرت لأمه مما أخبرتها عنه أن نفرا من الحبشة نصارى رأوه معها حين رجعت به بعد فطامه فنظروا إليه وسألوها عنه وقلبوه ثم قالوا لها: لنأخذن هذا الغلام، فلنذهبن به إلى ملكنا وبلدنا ; فإن هذا غلام كائن له شأن نحن نعرف أمره فزعم الذي حدثني أنها لم تكد تنفلت به منهم.
    ـــــــ
    كما ألقي في المرة الأولى. ذكر هذا المعنى ابن إسحاق في غير رواية البكائي. وفي غريب الحديث للقتبي "بعث موسى - صلى الله عليه وسلم - وهو راعي غنم وبعث داود - صلى الله عليه وسلم - وهو راعي غنم وبعثت، وأنا راعي غنم أهلي بأجياد"1 وإنما جعل الله هذا في الأنبياء تقدمة لهم ليكونوا رعاة الخلق ولتكون أممهم رعايا لهم وقد رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه ينزع على قليب2 وحولها غنم سود وغنم عفر3 قال ثم جاء أبو بكر - رضي الله عنه - فنزع نزعا ضعيفا، والله يغفر له ثم جاء عمر فاستحالت غربا يعني: الدلو فلم أر عبقريا يفري فريه فأولها الناس في الخلافة لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ولولا ذكر الغنم السود والعفر لبعدت الرؤيا عن معنى الخلافة والرعاية إذ الغنم السود والعفر عبارة عن العرب والعجم، وأكثر المحدثين لم يذكروا الغنم في هذا الحديث. ذكره البزار في مسنده وأحمد بن حنبل أيضا، وبه يصح المعنى، والله أعلم.
    في كفالة العم:
    فصل:
    وذكر كون النبي - صلى الله عليه وسلم - في كفالة عمه يكلؤه ويحفظه. فمن حفظ الله له في
    ـــــــ
    1 جبل بمكة، وهما أجيادان كبير وصغير، وهما محلتان بمكة.
    2 القليب: البئر قبل أن تبنى بالحجارة ونحوها يذكر ويؤنث. ونزع الدلو: استقى بها.
    3 العفر: جمع عفراء: ما يعلوا بياضها حمرة.
    (2/117)
    .................................................. ............................................
    ـــــــ
    ذلك أنه كان يتيما ليس له أب يرحمه ولا أم ترأمه1 لأنها ماتت وهو صغير وكان عيال أبي طالب ضففا، وعيشهم شظفا2، فكان يوضع الطعام له وللصبية من أولاد أبي طالب فيتطاولون إليه ويتقاصر هو وتمتد أيديهم وتنقبض يده تكرما منه واستحياء ونزاهة نفس وقناعة قلب فيصبحون غمصا رمصا، مصفرة ألوانهم3 ويصبح هو - عليه السلام - صقيلا دهينا كأنه في أنعم عيش وأعز كفاية لطفا من الله - عز وجل - به. كذلك ذكره القتبي في غريب الحديث.
    ـــــــ
    1 تحبه وتحنو عليه وتعطف.
    2 الضفف: كثرة العيال، والشظف والشظاف: الضيق والشدة.
    3 الرمص –كما في "الصحيح"- وسخ يجتمع في الموق، فإن سال فهو غمض، وإن جمد فهو رمص، يقال: عين رمصاء.
    (2/118)
    وفاة آمنة وحال رسول الله صلى الله عليه مع جده عبد المطلب بعدها
    ...
    وفاة آمنة وحال رسول الله صلى الله عليه وسلم مع جده عبد المطلب بعدها
    وفاة أمنة:
    قال ابن إسحاق: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أمه آمنة بنت وهب، وجده عبد المطلب بن هاشم في كلاءة الله وحفظه ينبته الله نباتا حسنا، لما يريد به من كرامته فلما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ست سنين توفيت أمه آمنة بنت وهب.
    ـــــــ
    موت آمنة وزيارته لها:
    فصل: وذكر موت أمه آمنة بالأبواء، وهو موضع معروف بين مكة والمدينة، وهو إلى المدينة أقرب كأنه سمي بجمع بو وهو جلد الحوار المحشو بالتبن وغيره وقيل سمي بالأبواء لتبوء السيول فيه وكذلك ذكر عن كثير. ذكره قاسم بن ثابت.
    وفي الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – زار قبر أمه بالأبواء في ألف مقنع فبكى وأبكى وهذا حديث صحيح1 وفي الصحيح أيضا أنه قال "استأذنت ربي في زيارة قبر أمي، فأذن لي، واستأذنته أن أستغفر لها، فلم يأذن لي"
    وفي مسند البزار من حديث بريدة أنه - صلى الله عليه وسلم - حين أراد أن يستغفر لأمه ضرب جبريل عليه السلام في
    ـــــــ
    1 رواه أحمد وفيه: "ثم أقبل علينا بوجهه وعيناه تذرفان، فقام إليه عمرو بن الخطاب، وفداه بالأب والأم، وقال: رسول الله، مالك؟ قال: إني سألت ربي عز وجل في الاستغار لأمي فلم يأذن لي فدمعت رحمة من النار".
    (2/119)
    قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: أن أم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آمنة توفيت ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابن ست سنين بالأبواء، بين مكة والمدينة، كانت قد قدمت به على أخواله من بني عدي بن النجار، تزيره إياهم فماتت وهي راجعة به إلى مكة.
    سبب خولة بني عدي بن النجار لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
    قال ابن هشام: أم عبد المطلب بن هاشم: سلمى بنت عمرو النجارية فهذه الخؤولة التي ذكرها ابن إسحاق لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم.
    إكرام عبد المطلب له صلى الله عليه وسلم وهو صغير:
    قال ابن إسحاق: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع جده عبد المطلب بن هاشم، وكان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة، فكان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك حتى يخرج إليه لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالا له قال فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأتي، وهو غلام جفر حتى يجلس عليه فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه فيقول عبد المطلب إذا رأى ذلك منهم دعوا ابني، فوالله إن له لشأنا، ثم يجلسه معه على الفراش ويمسح ظهره بيده ويسره ما يراه يصنع.
    __________
    صدره وقال له لا تستغفر لمن كان مشركا، فرجع وهو حزين.
    وفي الحديث زيادة في غير الصحيح أنه سئل عن بكائه فقال: "ذكرت ضعفها وشدة عذاب الله" إن كان صح هذا.
    وفي حديث آخر ما يصححه وهو "أن رجلا قال له يا رسول الله أين أبي؟ فقال "في النار", فلما ولى الرجل قال عليه السلام إن أبي وأباك في النار" 1 وليس لنا أن نقول نحن هذا2 في أبويه - صلى الله عليه وسلم - لقوله عليه السلام: "لا تؤذوا الأحياء
    ـــــــ
    1 في رواية مسلم: فلما قفا: دعاه، فقال: إن أبي وأباك في النار، والحديث رواه أبو داود أيضاً.
    2 إذا سئلنا صدعنا بالحق.
    (2/120)
    .................................................. ............................................
    ـــــــ
    بسب الأموات" والله عز وجل يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [الأحزاب: 75]. وإنما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك الرجل هذه المقالة لأنه وجد في نفسه وقد قيل إنه قال أين أبوك أنت؟ فحينئذ قال ذلك وقد رواه معمر بن راشد بغير هذا اللفظ فلم يذكر أنه قال له "إن أبي وأباك في النار" ولكن ذكر أنه قال له "إذا مررت بقبر كافر فبشره بالنار"1 وروي حديث غريب لعله أن يصح. وجدته بخط جدي أبي عمران أحمد بن أبي الحسن القاضي - رحمه الله - بسند فيه مجهولون ذكر أنه نقله من كتاب انتسخ من كتاب معوذ بن داود بن معوذ الزاهد يرفعه إلى [عبد الرحمن بن] أبي الزناد عن [هشام بن] عروة، عن [أبيه عن] عائشة - رضي الله عنها - أخبرت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سأل ربه أن يحيي أبويه فأحياهما له وآمنا به ثم أماتهما" والله قادر على كل شيء وليس تعجز رحمته وقدرته عن شيء ونبيه عليه السلام أهل أن يخصه بما شاء من فضله وينعم عليه بما شاء من كرامته - صلوات الله عليه وآله وسلم - قال القرطبي في تذكرته: جزم أبو بكر الخطيب في كتاب السابق واللاحق وأبو حفص عمر بن شاهين في كتاب الناسخ والمنسوخ له في الحديث بإسناديهما عن عائشة - رضي الله عنها - قالت حج بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجة الوداع فمر على قبر أمه وهو باك حزين مغتم، فبكيت لبكائه - صلى الله عليه وسلم - ثم إنه نزل فقال "يا حميراء استمسكي". فاستندت إلى جنب البعير فمكث عني طويلا مليا، ثم إنه عاد إلي وهو فرح متبسم فقالت له بأبي أنت وأمي يا رسول الله نزلت من عندي، وأنت باك حزين مغتم. فبكيت لبكائك. ثم عدت إلي وأنت فرح مبتسم فمم ذا يا رسول الله فقال "ذهبت لقبر آمنة أمي، فسألت أن يحييها، فأحياها فآمنت بي" ; أو قال فآمنت. وردها الله عز وجل".
    ـــــــ
    1 رواه البيهقي والبزار والطبراني في "الكبير".
    (2/121)
    وفاة عبد المطلب وما رثي به من الشعر
    ...
    وفاة عبد المطلب وما رثي به من الشعر
    وفاة عبد المطلب، وما قيل فيه من الشعر:
    فلما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثماني سنين هلك عبد المطلب بن هاشم، وذلك بعد الفيل بثماني سنين.
    قال ابن إسحاق: وحدثني العباس1 بن عبد الله بن معبد بن عباس عن بعض أهله.
    أن عبد المطلب توفي ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابن ثماني سنين2.
    قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن سعيد بن المسيب.
    أن عبد المطلب لما حضرته الوفاة، وعرف أنه ميت جمع بناته وكن ست نسوة صفية وبرة وعاتكة، وأم حكيم البيضاء وأميمة، وأروى، فقال لهن ابكين علي حتى أسمع ما تقلن قبل أن أموت.
    قال ابن هشام: ولم أر أحدا من أهل العلم بالشعر يعرف هذا الشعر إلا أنه لما رواه عن محمد بن سعيد بن المسيب كتبناه.
    رثاء صفية لأبيها عبد المطلب:
    فقالت صفية ابنة عبد المطلب تبكي أباها:
    ـــــــ
    وفاة عبد المطلب:
    قول صفية:
    ففاضت عند ذلكم دموعي ... على خدي كمنحدر الفريد
    ـــــــ
    1 هو العباس بن عبد الله بن معبد بن العباس بن عبد المطلب الهاشمي المدني.
    2 يقول البعض: توفي عبد المطلب ورسول الله ابن عشر سنين. راجع "الطبري.
    (2/122)
    أرقت لصوت نائحة بليل ... على رجل بقارعة الصعيد
    ففاضت عند ذلكم دموعي ... على خدي كمنحدر الفريد
    على رجل كريم غير وغل ... له الفضل المبين على العبيد
    على الفياض شيبة ذي المعالي ... أبيك الخير وارث كل جود
    صدوق في المواطن غير نكس ... ولا شخت المقام ولا سنيد
    طويل الباع أروع شيظمي ... مطاع في عشيرته حميد
    رفيع البيت أبلج ذي فضول ... وغيث الناس في الزمن الحرود
    كريم الجد ليس بذي وصوم ... يروق على المسود والمسود
    عظيم الحلم من نفر كرام ... خضارمة ملاوثة أسود
    فلو خلد امرئ لقديم مجد ... ولكن لا سبيل إلى الخلود
    لكان مخلدا أخرى الليالي ... لفضل المجد والحسب التليد
    ـــــــ
    يروى: كمنحدر بكسر الدال أي كالدر المنحدر ومنحدر بفتح الدال فيكون التشبيه راجعا للفيض فعلى رواية الكسر شبهت الدمع بالدر الفريد وعلى رواية الفتح شبهت الفيض بالانحدار.
    وقولها: أبيك الخير. أرادت الخير فخففت كما يقال هين وهين وفي التنزيل {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} [الرحمن: 70]. وكان اسم أم الدرداء خيرة بنت أبي حدرد1 وكذلك أم الحسن بن أبي الحسن البصري، اسمها: خيرة فهذا من المخفف ويجوز أن يكون الخير ههنا هو ضد الشر جعلته كله خيرا على المبالغة كما تقول ما زيد إلا علم أو حسن وما أنت إلا سير، وهو مجاز حسن فعلى هذا الوجه لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث فيقال: خيرة.
    ـــــــ
    1 هي صحابية، وكانت زوجاً لأبي الدرداء، وكان له زوجتان كل واحدة منهما كنيتها أم الدرداء فالكبرى صحابية والصغرى تابعية، وهي التي روت في الصحيح أما الكبرى فليس لها في "الصحيحين" حديث. وهي خيرة بنت أبي حدرد، والحدرد: القصير.
    (2/123)
    رثاء برة لأبيها عبد المطلب:
    وقالت برة بنت عبد المطلب تبكي أباها:
    أعيني جودا بدمع درر ... على طيب الخيم والمعتصر
    على ماجد الجد واري الزناد ... جميل المحيا عظيم الخطر
    على شيبة الحمد ذي المكرمات ... وذي المجد والعز والمفتخر
    وذي الحلم والفصل في النائبات ... كثير المكارم جم الفجر
    له فضل مجد على قومه ... منير يلوح كضوء القمر
    أتته المنايا، فلم تشوه ... بصرف الليالي، وريب القدر
    رثاء عاتكة لأبيها عبد المطلب:
    وقالت عاتكة بنت عبد المطلب تبكي أباها:
    أعيني جودا، ولا تبخلا ... بدمعكما بعد نوم النيام
    أعيني واسحنفرا واسكبا ... وشوبا بكاءكما بالتدام
    ـــــــ
    وقولها: ولا شخت المقام ولا سنيد الشخت [الدقيق الضامر لا هزالا] ضد الضخم تقول ليس كذلك ولكنه ضخم المقام ظاهره. والسنيد الضعيف الذي لا يستقل بنفسه حتى يسند رأيه إلى غيره.
    وقولها: خضارمة ملاوثة. ملاوثة جمع ملواث من اللوثة وهي القوة كما قال المكعبر:
    عند الحفيظة إن ذو لوثة لاثا
    وقد قيل إن اسم الليث منه أخذ إلا أن واوه انقلبت ياء لأنه فيعل فخفف كما تقدم في هين وهين ولين ولين.
    وقول برة:
    أتته المنايا فلم تشوه
    (2/124)
    أعيني واستخرطا واسجما ... على رجل غير نكس كهام
    على الجحفل الغمر في النائبات ... كريم المساعي، وفي الذمام
    على شيبة الحمد واري الزناد ... وذي مصدق بعد ثبت المقام
    وسيف لدى الحرب صمصامة ... ومردى المخاصم عند الخصام
    وسهل الخليقة طلق اليدين ... وف عدملي صميم لهام
    تبنك في باذخ بيته ... رفيع الذؤابة صعب المرام
    رثاء أم حكيم لأبيها عبد المطلب:
    وقالت أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب تبكي أباها:
    ألا يا عين جودي واستهلي ... وبكي ذا الندى والمكرمات
    ألا يا عين ويحك أسعفيني ... بدمع من دموع هاطلات
    وبكي خير من ركب المطايا ... أباك الخير تيار الفرات
    طويل الباع شيبة ذا المعالي ... كريم الخيم محمود الهبات
    وصولا للقرابة هبرزيا ... وغيثا في السنين الممحلات
    وليثا حين تشتجر العوالي ... تروق له عيون الناظرات
    عقيل بني كنانة والمرجى ... إذا ما الدهر أقبل بالهنات
    ومفزعها إذا ما هاج هيج ... بداهية وخصم المعضلات
    ـــــــ
    أي: لم تصب الشوى1، بل أصابت المقتل وقد تقدم في حديث عبد المطلب وضربه بالقداح على عبد الله وكان يرى أن السهم إذا خرج على غيره أنه قد أشوي أي قد أخطأ مقتله أي مقتل عبد المطلب وابنه ومن رواه أشوى بفتح الواو فالسهم هو الذي أشوى وأخطأ وبكلا الضبطين وجدته، ويقال أيضا: أشوى الزرع إذا أفرك فالأول من الشوى، وهذا من الشي بالنار قاله أبو حنيفة.
    ـــــــ
    1 الشواة: جلدة الرأس، والشوى: اليدان والرجلان والأطراف، وما كان غير مقتل.
    (2/125)
    فبكيه ولا تسمي بحزن ... وبكي، ما بقيت، الباكيات
    رثاء أميمة لأبيها عبد المطلب:
    وقالت أميمة بنت عبد المطلب تبكي أباها:
    ألا هلك الراعي العشيرة ذو الفقد ... وساقي الحجيج والمحامي عن المجد
    ومن يؤلف الضيف الغريب بيوته ... إذا ما سماء الناس تبخل بالرعد
    كسبت وليدا خير ما يكسب الفتى ... فلم تنفك تزداد يا شيبة الحمد
    أبو الحارث الفياض خلى مكانه ... فلا تبعدن فكل حي إلى بعد
    فإني لباك - ما بقيت - وموجع ... وكان له أهلا لما كان من وجدي
    سقاك ولي الناس في القبر ممطرا ... فسوف أبكيه وإن كان في اللحد
    فقد كان زينا للعشيرة كلها ... وكان حميدا حيث ما كان من حمد
    رثاء أروى لأبيها عبد المطلب:
    وقالت أروى بنت عبد المطلب تبكي أباها:
    بكت عيني، وحق لها البكاء ... على سمح سجيته الحياء
    على سهل الخليقة أبطحي ... كريم الخيم نيته العلاء
    على الفياض شيبة ذي المعالي ... أبيك الخير ليس له كفاء
    طويل الباع أملس شيظمي ... أغر كأن غرته ضياء
    ـــــــ
    وقول عاتكة: ومردى المخاصم المردى: مفعل من الردى، وهو الحجر الذي يقتل من أصيب به وفي المثل كل ضب عنده مرداته1 [أي يقرب منه حتفه لأنه يرمى به فيقتل].
    وقولها: وف. أي وفي، وخفف للضرورة وقوله عدملي. العدملي:
    ـــــــ
    1 في الأصل: عند. وفي "مجمع الأمثال" و "سمط اللآلي": عنده. والمرداة: الحجر الذي يرمي به، والضب: قليل الهداية.
    (2/126)
    أقب الكشح أروع ذي فضول ... له المجد المقدم والسناء
    أبي الضيم أبلج هبرزي ... قديم المجد ليس له خفاء
    ومعقل مالك وربيع فهر ... وفاصلها إذا التمس القضاء
    وكان هو الفتى كرما وجودا ... وبأسا حين تنسكب الدماء
    إذا هاب الكماة الموت حتى ... كأن قلوب أكثرهم هواء
    مضى قدما بذي ربد خشيب ... عليه حين تبصره البهاء
    قال ابن إسحاق: فزعم لي محمد بن سعيد بن المسيب أنه أشار برأسه وقد أصمت أن هكذا فابكينني.
    نسب المسيب:
    قال ابن هشام: المسيب بن حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم.
    ـــــــ
    [والعدامل والعداملي] الشديد. واللهام: فعال من لهمت الشيء ألهمه إذا ابتلعته، قال الراجز [رؤبة بن العجاج]:
    كالحوت لا يرويه شيء يلهمه ... يصبح عطشانا1 وفي البحر فمه
    ومنه سمي الجيش لهاما.
    وقولها: على الجحفل. جعلته كالجحفل أي يقوم وحده مقامه والجحفل لفظ منحوت من أصلين من جحف وجفل وذلك أنه يجحف ما يمر عليه أي يقشره ويجفل أي يقلع2 ونظيره نهشل الذئب هو عندهم منحوت من أصلين أيضا، من نهشت اللحم ونشلته3، وعاتكة: اسم منقول من الصفات
    ـــــــ
    1 في "ديوان رؤبه": ظمآن. وانظر "خزانة البغدادي" 4/343.
    2 في "اللسان":يجفل، ويجحف: يقشر، وفي الأصل: حجف بدلاً، من جحف.
    3 نهشه: كمنعه، نهسه، والنهس: أخذ اللحم بمقدم الأسنان ونتفه.
    (2/127)
    رثاء حذيفة لعبد المطلب:
    قال ابن إسحاق: وقال حذيفة بن غانم أخو بني عدي بن كعب بن لؤي يبكي عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، ويذكر فضله وفضل قصي على قريش، وفضل ولده من بعده عليهم وذلك أنه أخذ بغرم أربعة آلاف درهم بمكة، فوقف بها فمر به أبو لهب عبد العزى بن عبد المطلب، فافتكه:
    أعيني جودا بالدموع على الصدر ... ولا تسأما، أسقيتما سبل القطر
    وجودا بدمع واسفحا كل شارق ... بكاء امرئ لم يشوه نائب الدهر
    وسحا، وجما، واسجما ما بقيتما ... على ذي حياء من قريش وذي ستر
    على رجل جلد القوى، ذي حفيظة ... جميل المحيا غير نكس ولا هذر
    على الماجد البهلول ذي الباع واللهى ... ربيع لؤي في القحوط وفي العسر
    على خير حاف من معد وناعل ... كريم المساعي، طيب الخيم والنجر
    وخيرهم أصلا وفرعا ومعدنا ... وأحظاهم بالمكرمات وبالذكر
    وأولاهم بالمجد والحلم والنهى ... وبالفضل عند المجحفات من الغبر
    ـــــــ
    يقال امرأة عاتكة، وهي المصفرة لبدنها بالزعفران والطيب. وقال القتبي عتكت القوس إذا قدمت1 وبه سميت المرأة. والقول الأول قول أبي حنيفة.
    وقول أروى: ومعقل مالك وربيع فهر. تريد بني مالك بن النضر بن كنانة. وقولها: بذي ربد. تريد سيفا ذا طرائق. والربد الطرائق. وقال صخر الغي [الهذلي]:
    وصارم أخلصت خشيبته ... أبيض مهو في متنه ربد2
    ـــــــ
    1 في "القاموس": عتك القوس عتكاً: احمرت قدماً.
    2 خشيبة في الأصل: خشيشة، وهو خطأ صوبته من "اللسان"، والخشبية: الطبيعة أخلصتها المداوس والصقل.
    (2/128)
    على شيبة الحمد الذي كان وجهه ... يضيء سواد الليل كالقمر البدر
    وساقي الحجيج ثم للخبز هاشم ... وعبد مناف ذلك السيد الفهري
    طوى زمر ما عند المقام فأصبحت ... سقايته فخرا على كل ذي فخر
    ليبك عليه كل عان بكربة ... وآل قصي من مقل وذي وفر
    بنوه سراة كهلهم وشبابهم ... تفلق عنهم بيضة الطائر الصقر
    قصي الذي عادى كنانة كلها ... ورابط بيت الله في العسر واليسر
    فإن تك غالته المنايا وصرفها ... فقد عاش ميمون النقيبة والأمر
    وأبقى رجالا سادة غير عزل ... مصاليت أمثال الردينية السمر
    أبو عتبة الملقي إلي حباءه ... أغر هجان اللون من نفر غر
    وحمزة مثل البدر يهتز للندى ... نقي الثياب والذمام من الغدر
    وعبد مناف ماجد ذو حفيظة ... وصول لذي القربى رحيم بذي الصهر
    كهولهم خير الكهول ونسلهم ... كنسل الملوك لا تبور ولا تحري
    ـــــــ
    وقول عاتكة: تبنك في باذخ بيته. أي تبنك بيته في باذخ من الشرف ومعنى تبنك تأصل من البنك وهو الأصل. والبنك أيضا: ضرب من الطيب وهو أيضا عود السوس1 [شجر يغمى به البيوت ويدخل عصيره في الأدوية وفي عروقه حلاوة شديدة وفي فروعه مرارة].
    وقوله فأشار إليهن برأسه وقد أصمت بفتح الهمزة والميم هكذا قيده الشيخ عن أبي الوليد ويقال صمت وأصمت وسكت وأسكت بمعنى واحد [وسمح وأسمح وعصفت الريح وأعصفت وطلعت على القوم وأطلعت. ابن قتيبة في أدب الكاتب].
    ـــــــ
    1 في "اللسان" و "القاموس" ما وضعته بين قوسين عن عود السوس، ويقول الأزهري عن البنك: إنها فارسية ومعناها: الأصل.
    (2/129)
    .................................................. .............................................
    ـــــــ
    أبو جهم
    وذكر شعر حذيفة بن غانم العدوي، وهو والد أبي جهم بن حذيفة1 واسم أبي جهم عبيد، وهو الذي أهدى الخميصة2 لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنظر إلى علمها. الحديث. وقد روي أيضا هذا الحديث على وجه آخر وهو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتي بخميصتين فأعطى إحداهما أبا جهم وأمسك الأخرى، وفيها علم فلما نظر إلى علمها في الصلاة أرسلها إلى أبي جهم وأخذ الأخرى بدلا منها، هكذا رواه الزبير. وأم أبي جهم يسيرة بنت عبد الله بن أذاة بن رياح، وابن أذاة هو خال أبي قحافة وسيأتي نسب أمه وقد قيل إن الشعر لحذافة بن غانم وهو أخو حذيفة والد خارجة بن حذافة وله يقول فيه أخارج إن أهلك. وفي الشعر غير نكس ولا هذر. النكس من السهام الذي نكس في الكنانة ليميزه الرامي، فلا يأخذه لرداءته. وقيل الذي انكسر أعلاه فنكس ورد أعلاه أسفله وهو غير جيد للرمي.
    وقوله لا تبور ولا تحري. أي لا تهلك ولا تنقص ويقال للأفعى: حارية لرقتها وفي الحديث ما زال جسم أبي بكر يحري حزنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أي ينقص لحمه حتى مات والإجرياء السيرة وهي إفعيلاء من الجري3 وليس لها نظير في الأبنية إلا الإهجيرا في معنى الهجيرى4.
    وفيها قوله وليس بها إلا شيوخ بني عمرو. يريد بني هاشم ; لأن اسمه عمرو.
    ـــــــ
    1 قال البخاري: اسمه عامر، وكنيته في "الإصابة": أبو جهم، وهو من المعمرين.
    2 الخميصة، ثوب حر، أو صوف معلم، وكانت من لباس الناس قديماً، وهو يشير إلى حديث "الصحيحين" من حديث عائشة قولها: "صلى النبي صلى الله عليه وسلم في خميصة لها أعلام..." الحديث.
    3 في الأصل: إحرياء والحري بالحاء، وهو خطأ صوابه ما أثبته. والإجرياء في "اللسان": الوجه الذي تأخذ فيه.
    4 الدأب والعادة والقول السيئ وكثرة الكلام.
    (2/130)
    متى ما تلاقي منهم الدهر ناشئا ... تجده بإجريا أوائله يجري
    هم ملئوا البطحاء مجدا وعزة ... إذا استبق الخيرات في سالف العصر
    وفيهم بناة للعلا، وعمارة ... وعبد مناف جدهم جابر الكسر
    بإنكاح عوف بنته، ليجيرنا ... من أعدائنا إذ أسلمتنا بنو فهر
    ـــــــ
    وفيها قوله: وليس بها إلا شيوخ بني عمرو. يريد: بني هاشم، لأن اسمه عمرو.
    وفيها: غير عزل وهو جمع أعزل ولا يجمع أفعل على فعل ولكن جاء هكذا ; لأن الأعزل في مقابلة الرامح وقد يحملون الصفة على ضدها، كما قالوا: عدوة - بتاء التأنيث - حملا على صديقة وقد يجوز أن يكون أجراه مجرى: حسر جمع: حاسر لأنه قريب منه في المعنى1.
    تهام وشآم:
    وقوله فسرنا تهامي البلاد مخففا مثل يمانيا، والأصل في يمان يمني، فخففوا الياء وعوضوا منها ألفا، والأصل في تهام: تهامي بكسر التاء من تهامي لأنه منسوب إلى تهامة2 ولكنهم حذفوا إحدى الياءين كما فعلوا في يمان وفتحوا التاء من تهام لما حذفوا الياء من آخره لتكون الفتحة فيه كالعوض من الياء كما كانت الألف في يمان وكذلك الألف في شآم بفتح الهمزة وألف بعدها عوضا من الياء المحذوفة فإن شددت الياء من شآم قلت: شأمي بسكون الهمزة وتذهب الألف التي كانت عوضا من الباء لرجوع الياء المحذوفة ولا تقول في غير النسب شآم بالفتح والهمز ولا في النسب إذا شددت3 الياء شأمي. وسألت الأستاذ أبا القاسم بن
    ـــــــ
    1 الحاسر: من لا مفغر له ولا درع.
    2 تهامة: تساير البحر: منها: مكة، وقيل: يخرج من مكة فلا يزال في تهامة حتى يبلغ عسفان.
    3 هذا من النسب المسموع، ويتميز هذا النوع بخفيف ياء النسب المشددة، والإتيان بألف للتعويض عنها قبل لام الكلمة.
    (2/131)
    فسرنا تهامي البلاد ونجدها ... بأمنه حتى خاضت العير في البحر
    وهم حضروا والناس باد فريقهم ... وليس بها إلا شيوخ بني عمرو
    بنوها ديارا جمة وطووا بها ... بئارا تسح الماء من ثبج البحر
    لكي يشرب الحجاج منها، وغيرهم ... إذا ابتدروها صبح تابعة النحر
    ثلاثة أيام تظل ركابهم ... مخيسة بين الأخاشب والحجر
    وقدما غنينا قبل ذلك حقبة ... ولا نستقي إلا بخم أو الحفر
    وهم يغفرون الذنب ينقم دونه ... ويعفون عن قول السفاهة والهجر
    وهم جمعوا حلف الأحابيش كلها ... وهم نكلوا عنا غواة بني بكر
    ـــــــ
    الرماك - وكان إماما في صنعة العربية عن البيت الذي أملاه أبو علي في النوادر وهو قوله:
    أتظعن عن حبيبك ثم تبكي ... عليه فمن دعاك إلى الفراق
    كأنك لم تذق للبين طعما ... فتعلم أنه مر المذاق
    أقم وانعم بطول القرب منه ... ولا تظعن فتكبت باشتياق
    فما اعتاض المفارق من حبيب ... ولو يعطى الشآم مع العراق
    فقال محدث ولم يره حجة. وكذلك وجدت في شعر حبيب الشآم بالفتح كما في هذا البيت. وليس بحجة أيضا.
    [في اللسان "وقد جاء الشآم لغة في الشأم قال المجنون:
    وخبرت ليلى بالشآم مريضة ... فأقبلت من مصر إليها أعودها
    وقال آخر:
    أتتنا قريش قضها بقضيضها ... وأهل الحجاز والشآم تقصف
    وقوله:
    حذف الياء من هاء الكناية:
    (2/132)
    فخارج إما أهلكن فلا تزل ... لهم شاكرا حتى تغيب في القبر
    ولا تنس ما أسدى ابن لبنى ; فإنه ... قد أسدى يدا محقوقة منك بالشكر
    وأنت ابن لبنى من قصي إذا انتموا ... بحيث انتهى قصد الفؤاد من الصدر
    وأنت تناولت العلا فجمعتها ... إلى محتد للمجد ذي ثبج جسر
    سبقت، وفت القوم بذلا ونائلا ... وسدت وليدا كل ذي سؤدد غمر
    وأمك سر من خزاعة جوهر ... إذا حصل الأنساب يوما ذوو الخبر
    إلى سبإ الأبطال تنمى وتنتمي ... فأكرم بها منسوبة في ذرا الزهر
    أبو شمر منهم وعمرو بن مالك ... وذو جدن من قومها وأبو الجبر
    ـــــــ
    حذف الياء من هاء الكناية بأمنه حتى خاضت العير في البحر ضرورة كما أنشد سيبويه:
    سأجعل عينيه لنفسه مقنعا1
    في أبيات كثيرة أنشدها سيبويه، وهذا مع حذف الياء والواو وبقاء حركة الهاء فإن سكنت الهاء بعد الحذف فهو أقل في
    الاستعمال من نحو هذا، وأنشدوا:
    ونضواي مشتاقان له أرقان2
    وهذا الذي ذكرناه هو في القياس أقوى ; لأنه من باب حمل الوصل على الوقف نحو قول الراجز:
    لما رأى أن لا دعة ولا شبع
    ومنه في التنزيل كثير نحو إثبات هاء السكت في الوصل وإثبات الألف من أنا، وإثبات ألف الفواصل نحو {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب: 10] وهذا
    ـــــــ
    1 الشعر لمالك بن خريم الهمداني وهو:
    فإن يك غثاً أو سميناً فإنني ... سأجعل عينه لنفسه مقنعاً.
    2 النضو: البعير المهزول والناقة.
    (2/133)
    .................................................. ..............................................
    ـــــــ
    الذي ذكره سيبويه من الضرورة في هاء الإضمار إنما هو إذا تحرك ما قبلها نحو به وله ولا يكون في هاء المؤنث البتة لخفة الألف فإن سكن ما قبل الهاء نحو فيه وبنيه كان الحذف أحسن من الإثبات فإن قلت فقد قرأ عيسى بن مينا: نصله ويؤده وأرجه1 ونحو ذلك في اثني عشر موضعا بحذف الياء وقيل الهاء متحرك فكيف حسن هذا؟ قلنا: إن ما قبل الهاء في هذه المواضع ساكن وهو الياء من نصليه ويؤديه ويؤتيه، ولكنه حذف للجازم فمن نظر إلى اللفظ وأن ما قبل الهاء متحرك أثبت الياء كما أثبتها في: به وله ومن نظر إلى الكلمة قبل دخول الجازم رأى ما قبل الهاء ساكنا، فحذف الياء فهما وجهان حسنان بخلاف ما تقدم.
    من شرح قصيدة حذيفة:
    وذكر في هذا الشعر وأسعد قاد الناس. وهو أسعد أبو حسان بن أسعد، وقد تقدم في التبابعة، وكذلك أبو شمر، وهو شمر الذي بنى سمرقند2، وأبوه مالك يقال له الأملوك ويحتمل أن يكون أراد أبا شمر الغساني والد الحارث بن أبي شمر.
    وعمرو بن مالك الذي ذكر أحسبه عمرا ذا الأذعار وقد تقدم في التبابعة، وهو من ملوك اليمن، وإنما جعلهم مفخرا لأبي لهب لأن أمه خزاعية من سبأ، والتبابعة كلهم من حمير بن سبإ وقد تقدم الخلاف في خزاعة.
    وأبو جبر الذي ذكره في هذا الشعر ملك من ملوك اليمن ذكر القتبي أن سمية
    ـــــــ
    1 ويعني بذلك الآيات القرآنية التالية: النساء: 115، آل عمران: 75، الأعراف: 111. وفي يؤده ونصله خمس قراءات.
    2 في "القاموس": شمر بن أفريقش غزا مدينة السغد، فقلعها، فقيل: شمركند، فعربت: سمرقند.
    (2/134)
    وأسعد قاد الناس عشرين حجة ... يؤيد في تلك المواطن بالنصر
    قال ابن هشام: "أمك سر من خزاعة"، يعني: أبا لهب أمه لبنى بنت هاجر الخزاعي. وقوله "بإجريا أوائله" عن غير ابن إسحاق.
    رثاء مطرود لعبد المطلب وبني عبد مناف:
    قال ابن إسحاق: وقال مطرود بن كعب الخزاعي يبكي عبد المطلب وبني عبد مناف:
    يا أيها الرجل المحول رحله ... هلا سألت عن آل عبد مناف
    هبلتك أمك، لو حللت بدارهم ... ضمنوك من جرم ومن إقراف
    ـــــــ
    أم زياد كانت لأبي جبر ملك من ملوك اليمن، دفعها إلى الحارث بن كلدة المتطبب في طب طبه.
    زيد أفضل إخوته:
    وذكر ولاية العباس - رضي الله عنه - السقاية وقال كان من أحدث إخوته سنا، وكذلك قال في صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - كان من أفضل قومه مروءة وهذا مما منعه النحويون أن يقال زيد أفضل إخوته وليس بممتنع وهو موجود في مواضع كثيرة من هذا الكتاب وغيره وحسن لأن المعنى: زيد يفضل إخوته أو يفضل قومه ولذلك ساغ فيه التنكير وإنما لذي يمتنع بإجماع إضافة أفعل إلى التثنية مثل أن تقول هو أكرم أخويه إلا أن تقول الأخوين بغير إضافة1.
    من شرح شعر مطرود:
    فصل: وذكر في شعر مطرود:
    ـــــــ
    1 اشترط النحاة في أفعل التفضيل المضاف أن يكون بعضاً من المضاف إليه بشرط إرادة التفضيل.
    (2/135)
    الخالطين غنيهم بفقيرهم ... حتى يعود فقيرهم كالكافي
    المنعمين إذا النجوم تغيرت ... والظاعنين لرحلة الإيلاف
    والمنعمين إذا الرياح تناوحت ... حتى تغيب الشمس في الرجاف
    إما هلكت أبا الفعال فما جرى ... من فوق مثلك عقد ذات نطاف
    ـــــــ
    منعوك من جور ومن إقراف1
    أي منعوك من أن تنكح بناتك أو أخواتك من لئيم فيكون الابن مقرفا للؤم أبيه وكرم أمه فيلحقك وصم من ذلك، ونحو منه قول مهلهل:
    أنكحها فقدها الأراقم في ... جنب وكان الحباء من أدم
    أي أنكحت لغربتها من غير كفء. قال مبرمان أنشدنا أبو بكر بن دريد وكان الخباء من أدم بخاء معجمة الأعلى، وهو خطأ وتصحيف وإنما هو بالحاء المهملة وهو معدود في تصحيفات ابن دريد وفيه قول المفجع [البصري] ردا على ابن دريد:
    ألست قدما جعلت تعترق ... الطرف بجهل مكان تغترق2
    وقلت:
    كان الخباء من أدم ... وهو حباء يهدى، ويصطدق
    وذلك أن مهلهلا نزل في جنب وهو حي وضيع من مذحج. فخطبت ابنته فلم يستطع منعها، فزوجها، وكان نقدها من أدم فأنشد:
    أنكحها فقدها الأراقم في ... جنب وكان الحباء من أدم
    لو بأبانين جاء خاطبها ... ضرج ما أنف خاطب بدم3
    ـــــــ
    1 الذي في "السيرة": ضمنوك. والمقرف: الذي دانى الهجنة من الفرس وغيره، وهو الذي أمه عربية وأبوه ليس بعربي.
    2 تعترق الطرف: تشغلهم بالنطر إليها عن النظر إلى غيرها لحسنها. انظر "المزهر" للسيوطي: 2/366.
    3 الأبانان: جبلان بالبادية اسم أحدهما: أبان، والآخر : متالع.
    (2/136)
    إلا أبيك أخي المكارم وحده ... والفيض مطلب أبي الأضياف
    ولاية العباس على سقاية زمزم:
    قال ابن إسحاق: فلما هلك عبد المطلب بن هاشم ولي زمزم والسقاية عليهما بعده العباس بن عبد المطلب، وهو يومئذ من أحدث إخوته سنا، فلم تزل إليه حتى قام الإسلام وهي بيده. فأقرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له على ما مضى من ولايته فهي إلى آل العباس بولاية العباس إياها، إلى اليوم.
    ـــــــ
    وقوله حتى تغيب الشمس بالرجاف يعني: البحر. لأنه يرجف. ومن أسمائه أيضا: خضارة [سمي بذلك لخضرة مائه]. والدأماء [سمي بذلك لتداؤم أمواجه أي تراكمها، وتكسر بعضها على بعض] وأبو خالد.
    وقوله عقد ذات نطاف. النطف1 اللؤلؤ الصافي. ووصيفة منطفة [ومتنطفة] أي مقرطة بتومتين [والتومة اللؤلؤة أو حبة تعمل من الفضة كالدرة] والنطف في غير هذا: التلطخ بالعيب وكلاهما من أصل واحد وإن كانا في الظاهر متضادين في المعنى ; لأن النطفة هي الماء القليل وقد يكون الكثير وكأن اللؤلؤ الصافي أخذ من صفاء النطفة. والنطف الذي هو العيب أخذ من نطفة الإنسان وهي ماؤه أي كأنه لطخ بها.
    وقوله والفيض مطلب أبي الأضياف. يريد أنه كان لأضيافه كالأب. والعرب تقول لكل جواد أبو الأضياف. كما قال مرة بن محكان [السعدي التميمي سيد بني ربيع]:
    أدعى أباهم ولم أقرف بأمهم ... وقد عمرت. ولم أعرف لهم نسبا
    ـــــــ
    1 مفردها نطفة كهمزة بضم النون وفتح الطاء.
    (2/137)
    .................................................. ..............................................
    ـــــــ
    اللهبي العائف:
    فصل: وذكر خبر اللهبي العائف. قال ابن هشام: ولهب حي من الأزد: وقال غيره وهو لهب بن أحجن بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد. وهي القبيلة التي تعرف بالعيافة والزجر1. ومنهم اللهبي الذي زجر حين وقعت الحصاة بصلعة عمر رضي الله عنه - فأدمته وذلك في الحج فقال أشعر أمير المؤمنين. والله لا يحج بعد هذا العام فكان كذلك2 واللهب شق في الجبل3 [والجمع ألهاب ولهوب] وبنو ثمالة رهط المبرد الثمالي هم بنو أسلم بن أحجن بن كعب. وثمالة أمهم. وكانت العيافة والزجر في لهب قال الشاعر:
    سألت أخا لهب ليزجر زجرة ... وقد رد زجر العالمين إلى لهب
    وقوله ليعتاف لهم وهو يفتعل من العيف. يقال عفت الطير. واعتفتها عيافة واعتيافا: وعفت الطعام أعافه عيفا. وعافت الطير الماء عيافا.
    ـــــــ
    1 العيافة: تتبع آثار الأقدام والأخفاف والحوافر في مقابلة الأثر.
    2 وهذا من الخرافات الأسطورية، فالله وحده هو عالم الغيب.
    3 في "الاشتقاق": اللهب: الشعب الضيق في أعلى الجبل، والجمع ألهاب ولهوب.
    (2/138)
    كفالة أبي طالب لرسول الله صلى الله عليه وسلم
    ...
    كفالة أبي طالب لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
    فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم - بعد عبد المطلب مع عمه أبي طالب وكان عبد المطلب - فيما يزعمون - يوصي به عمه أبا طالب وذلك لأن عبد الله أبا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا طالب أخوان لأب وأم أمهما: فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عبد بن عمران بن مخزوم.
    قال ابن هاشم عائذ بن عمران بن مخزوم.
    ولاية أبي طالب لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم:
    قال ابن إسحاق: وكان أبو طالب هو الذي يلي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد جده فكان إليه ومعه.
    نبوءة رجل من لهب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
    قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى1 بن عباد بن عبد الله بن الزبير، أن أباه حدثه أن رجلا من لهب - قال ابن هشام: ولهب من أزد شنوءة2 - كان عائفا، فكان إذا قدم مكة أتاه رجال قريش بغلمانهم ينظر إليهم ويعتاف لهم فيهم. قال فأتى به أبو طالب وهو غلام مع من يأتيه فنظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم شغله عنه شيء فلما فرغ قال "الغلام. علي به"، فلما رأى أبو طالب حرصه عليه غيبه عنه فجعل يقول:
    ـــــــ
    1 كان يحيى ثقة الحديث، مات وهو ابن ست وثلاثين. راجع "تهذيب التهذيب" للعسقلاني.
    2 وقيل: هو لهب بن أحجن بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد.
    (2/139)
    "ويلكم ردوا علي الغلام الذي رأيت آنفا، فوالله ليكونن له شأن". قال فانطلق أبو طالب.
    (2/140)
    قصة بحيرى
    ...
    قصة بحيرى:
    نزول أبي طالب ورسول الله صلى الله عليه وسلم ببحيرى:
    قال ابن إسحاق: ثم إن أبا طالب خرج في ركب تاجرا إلى الشام، فلما تهيأ للرحيل وأجمع المسير صب به رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما يزعمون - فرق له وقال والله لأخرجن به معي، ولا يفارقني، ولا أفارقه أبدا، أو كما قال. فخرج به معه فلما نزل الركب بصرى من أرض الشام، وبها راهب يقال له بحيرى في صومعة له وكان إليه علم أهل النصرانية، ولم يزل في تلك الصومعة منذ قط راهب إليه يصير علمهم عن كتاب فيها - فيما يزعمون يتوارثونه كابرا عن كابر. فلما نزلوا ذلك العام ببحيرى، وكانوا كثيرا ما يمرون به قبل ذلك، فلا يكلمهم ولا يعرض لهم حتى كان ذلك العام. فلما نزلوا به قريبا من صومعته صنع لهم طعاما كثيرا، وذلك - فيما يزعمون - عن شيء رآه وهو في صومعته يزعمون أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في
    ـــــــ
    قصة بحيرى:
    فصل: في قصة بحيرى وسفر أبي طالب بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وقع في سير الزهري أن بحيرى كان حبرا من يهود تيماء1، وفي المسعودي: أنه كان من عبد القيس واسمه سرجس وفي المعارف لابن قتيبة قال سمع قبل الإسلام بقليل هاتف يهتف ألا إن خير أهل الأرض ثلاثة بحيرى، ورباب بن البراء الشني2 والثالث المنتظر فكان الثالث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال القتبي وكان قبر رباب الشني وقبر ولده من بعده لا يزال يرى عليها طش، والطش: المطر الضعيف.
    ـــــــ
    1 بليدة في أطراف الشام.
    2 هو في "المعارف": أرباب بن رئاب من عبد القيس.
    (2/140)
    صومعته في الركب حين أقبلوا، وغمامة تظله من بين القوم. قال ثم أقبلوا فنزلوا في ظل شجرة قريبا منه فنظر إلى الغمامة حين أظلت الشجرة، وتهصرت أغصان الشجرة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى استظل تحتها، فلما رأى ذلك بحيرى نزل من صومعته وقد أمر بذلك الطعام فصنع ثم أرسل إليهم فقال إني قد صنعت لكم طعاما يا معشر قريش، فأنا أحب أن تحضروا كلكم صغيركم وكبيركم عبدكم وحركم فقال له رجل منهم والله يا بحيرى إن لك لشأنا اليوم ما كنت تصنع هذا بنا، وقد كنا نمر بك كثيرا، فما شأنك اليوم؟ قال له بحيرى: صدقت، قد كان ما تقول ولكنكم ضيف وقد أحببت أن أكرمكم وأصنع لكم طعاما، فتأكلوا منه كلكم. فاجتمعوا إليه وتخلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بين القوم لحداثة سنه في رحال القوم تحت الشجرة، فلما نظر بحيرى في القوم لم ير الصفة التي يعرف ويجد عنده فقال يا معشر قريش: لا يتخلفن أحد منكم عن طعامي، قالوا له يا بحيرى، ما تخلف عنك أحد ينبغي له أن يأتيك إلا غلام وهو أحدث القوم سنا، فتخلف في رحالهم فقال لا تفعلوا، ادعوه فليحضر هذا الطعام معكم قال فقال رجل من قريش مع القوم واللاتي والعزى، إن كان للؤم بنا أن يتخلف ابن عبد الله بن عبد المطلب عن طعام من بيننا، ثم قام إليه فاحتضنه وأجلسه مع القوم. فلما رآه بحيرى، جعل يلحظه لحظا شديدا، وينظر إلى أشياء من جسده وقد كان يجدها عنده من صفته حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا، قام إليه بحيرى، فقال يا غلام أسألك بحق اللاتي والعزى إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه وإنما قال له بحيرى ذلك لأنه سمع قومه يحلفون بهما، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا تسألني باللاتي والعزى شيئا، فوالله ما أبغضت شيئا قط بغضهما" , فقال له بحيرى: فبالله إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه؛
    ـــــــ
    وقال فيه فصب1 رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعمه. الصبابة رقة الشوق يقال صببت - بكسر الباء - أصب، ويذكر عن بعض السلف أنه قرأ {أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ
    ـــــــ
    1 وفي رواية –كما جاء في "شرح الخشني" ضب:/ وتعني تعلق به وامتسك.
    (2/141)
    فقال له "سلني عما بدا لك". فجعل يسأله عن أشياء من حاله من نومه وهيئته وأموره فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره فيوافق ذلك ما عند بحيرى من صفته ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضعه من صفته التي عنده.
    قال ابن هشام: وكان مثل أثر المحجم.
    قال ابن إسحاق: "فلما فرغ أقبل على عمه أبي طالب فقال له ما هذا الغلام منك؟ قال ابني. قال له بحيرى: ما هو بابنك، وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه
    ـــــــ
    الْجَاهِلِينَ} [يوسف: 33]. وفي غير رواية أبي بحر ضبث به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي لزمه قال الشاعر:
    كأن فؤادي في يد ضبثت به ... محاذرة أن يقضب الحبل قاضبه
    فكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذ ذاك ابن تسع سنين فيما ذكر بعض من ألف في السير وقال الطبري: ابن ثنتي عشرة سنة1.
    من صفات ختم النبوة:
    وذكر فيه خاتم النبوة وقول ابن هشام: كان كأثر المحجم يعني: أثر المحجمة القابضة على اللحم حتى يكون ناتئا. وفي الخبر أنه كان حوله حيلان فيها شعرات سود. وفي صفته أيضا أنه كان كالتفاحة وكزر الحجلة وفسره الترمذي تفسيرا وهم فيه فقال زر الحجلة يقال إنه بيض له فتوهم الحجلة من القبج2 وإنما هي حجلة السرير، واحدة الحجال وزرها الذي يدخل في عروتها - قال علي - رضوان الله عليه - لأهل العراق: يا أشباه الرجال ولا رجال ويا طغام الأحلام ويا عقول
    ـــــــ
    1 في "الطبري": وهو ابن تسع سنين، وقيل، ثلاث عشرة، حكاه أبو عمر، وقال ابن الجوزي: اثنا عشرة سنة وشهران وعشرة أيام، وفي سيرة "مغلطاي": وشهر.
    2 هو الحجل، وفي "اللسان" أنه الكروان، وإنه معرب.
    (2/142)
    حيا، قال فإنه ابن أخي، قال فما فعل أبوه؟ قال مات وأمه حبلى به قال صدقت، فارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه يهود فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنه شرا، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم فأسرع به إلى بلاده".
    ـــــــ
    ربات الحجال1. وفي حديث آخر كان كبيضة الحمامة وفي حديث عياذ بن عبد عمرو، قال رأيت خاتم النبوة وكان كركبة العنز. ذكره النمري مسندا في كتاب الاستيعاب فهذه خمس روايات في صفة الخاتم كالتفاحة وكبيضة الحمامة وكزر الحجلة وكأثر المحجم وكركبة العنز ورواية سادسة وهي رواية عبد الله بن سرجس قال رأيت خاتم النبوة كالجمع يعني: كالمحجمة [وفي الآلة التي يجتمع بها دم الحجامة عند المص] لا كجمع الكف ومعناه كمعنى الأول أي كأثر الجمع. وقد قيل في الجمع إنه جمع الكف قاله القتبي والله أعلم.
    ورواية سابعة عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - وقد سئل عن خاتم النبوة فقال بضعة ناشزة2 هكذا: ووضع طرف السبابة في مفصل الإبهام أو دون المفصل ذكرها يونس عن ابن إسحاق، وفي صفته أيضا رواية ثامنة وهي رواية من شبهه بالسلعة وذلك لنتوه وقد تقدم حديث فيه عن أبي ذر - رضي الله عنه - مرفوعا بيان وضع الخاتم بين كتفيه متى كان وروى الترمذي3 في مصنفه قال حدثنا الفضل بن سهل أبو العباس الأعرج البغدادي، حدثنا عبد الرحمن بن غزوان أبو نوح أخبرنا يونس عن أبي إسحاق عن أبي بكر بن أبي موسى، عن أبيه قال خرج أبو طالب إلى الشام، وخرج معه النبي - صلى الله عليه وسلم - في أشياخ من قريش، فلما أشرفوا على الراهب هبطوا، فحلوا رحالهم فخرج إليهم الراهب وكانوا قبل ذلك يمرون به فلا يخرج إليهم ولا يلتفت فجعل يتخللهم الراهب وهم يحلون رحالهم حتى جاء فأخذ بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال هذا سيد العالمين هذا رسول
    ـــــــ
    1 جزء م خطبة منسوبة إلى علي بن أبي طالب، وقد رواها المبرد في أول "الكامل".
    2 حديث أبي سعيد الخدري رواه الترمذي في "الشمائل".
    3 رواه أيضاً الحاكم وصححه والبيهقي في "الدلائل".
    (2/143)
    رجوع أبي طالب برسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كان من زرير وصاحبيه:
    فخرج به عمه أبو طالب سريعا، حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام فزعموا فيما روى الناس أن زريرا وتماما ودريسا - وهم نفر من أهل الكتاب - قد كانوا رأوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل ما رآه بحيرى في ذلك السفر الذي كان فيه مع عمه أبي طالب فأرادوه فردهم عنه بحيرى، وذكرهم الله وما يجدون في الكتاب من ذكره وصفته وأنهم إن أجمعوا لما أرادوا به لم يخلصوا إليه ولم يزل بهم حتى عرفوا ما قال لهم وصدقوه بما قال فتركوه وانصرفوا عنه. فشب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والله تعالى يكلؤه ويحفظه ويحوطه من أقذار الجاهلية لما يريد به من كرامته ورسالته حتى بلغ أن كان رجلا أفضل قومه مروءة وأحسنهم خلقا، وأكرمهم حسبا، وأحسنهم جوارا، وأعظمهم حلما، وأصدقهم حديثا، وأعظمهم أمانة وأبعدهم من الفحش والأخلاق التي تدنس الرجال تنزها وتكرما، حتى ما اسمه في قومه إلا الأمين لما جمع الله فيه من الأمور الصالحة.
    ـــــــ
    رب العالمين يبعثه الله رحمة للعالمين. فقال له أشياخ من قريش: ما علمك؟. فقال إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق حجر ولا شجر إلا خر ساجدا: ولا يسجدان إلا لنبي وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه. ويقال غرضوف مثل التفاحة. ثم رجع فصنع لهم طعاما، فلما أتاهم به - وكان هو في رعية الإبل - قال أرسلوا إليه. فأقبل وعليه غمامة تظله فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء الشجرة، فلما جلس مال فيء الشجرة عليه فقال انظروا إلى فيء الشجرة مال عليه قال فبينما هو قائم عليهم وهو يناشدهم ألا يذهبوا به إلى الروم، فإن الروم إن رأوه عرفوه بالصفة فيقتلونه فالتفت فإذا سبعة قد أقبلوا من الروم، فاستقبلهم فقال ما جاء بكم فقالوا: جئنا أن هذا النبي خارج في هذا الشهر فلم يبق طريق إلا بعث إليه بأناس وإنا قد اخترنا خيرة بعثنا إلى طريقك هذا، فقال هل خلفكم أحد هو خير منكم فقالوا: إنما اخترنا خيرة لطريقك1
    ـــــــ
    1 في لفظ الحديث اضطراب وخطأ. راجع "شرح المواهب" 1/195.
    (2/144)
    .................................................. ..............................................
    ـــــــ
    هذا، قال أفرأيتم أمرا أراد الله أن يقضيه هل يستطيع أحد من الناس رده؟ قالوا: لا، قال فبايعوه وأقاموا معه. قال أنشدكم بالله أيكم وليه؟ قالوا: أبو طالب فلم يزل يناشده حتى رده أبو طالب وبعث معه أبو بكر بلالا - رضي الله عنهما - وزوده الراهب من الكعك والزيت1 قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. ومما قاله أبو طالب في هذه القصة:
    ألم ترني من بعد هم هممته ... بفرقة حر الوالدين كرام
    بأحمد لما أن شددت مطيتي ... لترحل إذ ودعته بسلام
    بكى حزنا والعيس قد فصلت بنا ... وأمسكت بالكفين فضل زمام
    ذكرت أباه ثم رقرقت عبرة ... تجود من العينين ذات سجام
    فقلت: تروح راشدا في عمومة ... مواسين في البأساء غير لئام
    فرحنا مع العير التي راح أهلها ... شآمي الهوى، والأصل غير شآمي
    فلما هبطنا أرض بصرى تشرفوا ... لنا فوق دور ينظرون جسام
    فجاء بحيرى عند ذلك حاشدا ... لنا بشراب طيب وطعام
    فقال اجمعوا أصحابكم لطعامنا ... فقلنا: جمعنا القوم غير غلام2
    ذ كره ابن إسحاق في رواية يونس عنه وذكر باقي الشعر.
    حفظه في الصغر:
    فصل وذكر ما كان الله سبحانه وتعالى يحفظه به أنه كان صغيرا يلعب مع الغلمان فتعرى فلكمه لاكم. الحديث. وهذه القصة إنما وردت في الحديث
    ـــــــ
    1 يقول القسطلاني والزرقاني في "المواهب" و"شرحه": وضعف الذهبي الحديث –حديث بحيرى-.
    2 تبدو في الشعر رائحة الوضع، فما عليه من العصر الذي قيل في سمة، ولهذا لم يروه ابن هشام.
    (2/145)
    حديثه صلى الله عليه وسلم عن عصمة الله له في طفولته:
    وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما ذكر لي - يحدث عما كان الله يحفظه به في صغره وأمر جاهليته أنه قال:
    "لقد رأيتني في غلمان قريش ننقل حجارة لبعض ما يلعب به الغلمان كلنا قد تعرى، وأخذ إزاره فجعله على رقبته يحمل عليه الحجارة فإني لأقبل معهم كذلك وأدبر إذ لكمني لاكم ما أراه لكمة وجيعة ثم قال شد عليك إزارك. قال فأخذته وشددته علي ثم جعلت أحمل الحجارة على رقبتي وإزاري علي من بين أصحابي" .
    ـــــــ
    الصحيح في حين بنيان الكعبة، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينقل الحجارة مع قومه إليها، وكانوا يجعلون أزرهم على عواتقهم لتقيهم الحجارة وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحملها على عاتقه وإزاره مشدود عليه فقال له العباس رضي الله عنه يا ابن أخي لو جعلت إزارك على عاتقك، ففعل فسقط مغشيا عليه ثم قال إزاري إزاري فشد عليه إزاره وقام يحمل الحجارة1 وفي حديث آخر أنه لما سقط ضمه العباس إلى نفسه وسأله عن شأنه فأخبره أنه نودي من السماء أن اشدد عليك إزارك يا محمد قال وإنه لأول ما نودي وحديث ابن إسحاق، إن صح أنه كان ذلك في صغره إذ كان يلعب مع الغلمان فمحمله على أن هذا الأمر كان مرتين مرة في حال صغره ومرة في أول اكتهاله عند بنيان الكعبة.
    ـــــــ
    1 الحديث في "البخاري" و "مسلم".
    (2/146)
    حرب الفجار
    ...
    حرب الفجار:
    سببها:
    قال ابن هشام: فلما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربع عشرة سنة أو خمس عشرة سنة
    ـــــــ
    قصة الفجار:
    والفجار بكسر الفاء بمعنى: المفاجرة كالقتال والمقاتلة وذلك أنه كان قتالا
    (2/146)
    فيما حدثني أبو عبيدة النحوي، عن أبي عمرو بن العلاء - هاجت حرب الفجار بين قريش، ومن معها من كنانة وبين قيس عيلان. وكان الذي هاجها أن عروة الرحال بن عتبة بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن، أجار لطيمة للنعمان بن المنذر فقال له البراض بن قيس، أحد بني ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة أتجيرها على كنانة؟ قال نعم وعلى الخلق فخرج فيها عروة بن الرحال، وخرج البراض يطلب غفلته حتى إذا كان بتيمن ذي طلال بالعالية غفل عروة فوثب عليه البراض فقتله في الشهر الحرام فلذلك سمي الفجار. وقال البراض في ذلك:
    وداهية تهم الناس قبلي ... شددت لها - بني بكر - ضلوعي
    هدمت بها بيوت بني كلاب ... وأرضعت الموالي بالضروع
    رفعت له بذي طلال كفي ... فخر يميد كالجذع الصريع
    ـــــــ
    في الشهر الحرام ففجروا فيه جميعا، فسمي الفجار وكانت للعرب فجارات أربع ذكرها المسعودي، آخرها: فجار البراض1 المذكور في السيرة وكان لكنانة ولقيس فيه أربعة أيام مذكورة يوم شمطة ويوم الشرب وهو أعظمها يوما، وفيه قيد حرب بن أمية وسفيان وأبو سفيان أبناء أمية أنفسهم كي لا يفروا، فسموا: العنابس2 ويوم الحريرة عند نخلة، ويوم الشرب انهزمت قيس إلا بني نضر منهم فإنهم ثبتوا، وإنما لم يقاتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أعمامه وكان ينبل عليهم وقد كان بلغ سن القتال لأنها كانت حرب فجار وكانوا أيضا كلهم كفارا، ولم يأذن الله تعالى لمؤمن أن يقاتل إلا لتكون كلمة الله هي العليا. واللطيمة عير تحمل البز والعطر.
    وقوله: بذي طلال3 بتشديد اللام وإنما خففه لبيد في الشعر الذي ذكره ابن
    ـــــــ
    1 هي: فجار الرجل، أو فجار بدر بن معشر، وفجار القرد، وفجار المرأة.
    2 العنبس من أسماء الأسد، والعنابس من قريش أولاد أمية بن عبد الشمس الأكبر.
    3 تنطق الظاء أيضاً.
    (2/147)
    وقال لبيد بن مالك بن جعفر بن كلاب:
    أبلغ - إن عرضت - بني كلاب ... وعامر والخطوب لها موالي
    وبلغ إن عرضت بني نمير ... وأخوال القتيل بني هلال
    بأن الوافد الرحال أمسى ... مقيما عند تيمن ذي طلالا
    وهذه الأبيات في أبيات له فيما ذكر ابن هشام.
    ـــــــ
    إسحاق هاهنا للضرورة.
    منع تنوين العلم:
    وقول البراض رفعت له بذي طلال كفي. فلم يصرفه يجوز أن يكون جعله اسم بقعة فترك إجراء الاسم للتأنيث والتعريف فإن قلت: كان يجب أن يقول بذات طلال، أي ذات هذا الاسم للمؤنث كما قالوا: ذو عمرو أي صاحب هذا الاسم ولو كانت أنثى، لقالوا: ذات هذا، فالجواب أن قوله بذي يجوز أن يكون وصفا لطريق أو جانب مضاف إلى طلال اسم البقعة. وأحسن من هذا كله أن يكون طلال اسما مذكرا علما، والاسم العلم يجوز ترك صرفه في الشعر كثيرا، وسيأتي في هذا الكتاب من الشواهد عليه ما يدلك على كثرته في الكلام ونؤخر القول في كشف هذه المسألة وإيضاحها إلى أن تأتي تلك الشواهد - إن شاء الله - ووقع في شعر البراض مشددا، وفي شعر لبيد الذي بعد هذا مخففا، وقلنا: إن لبيدا خففه للضرورة ولم يقل إنه شدد للضرورة وإن الأصل فيه التخفيف لأنه فعال من الطل كأنه موضع يكثر فيه الطل، فطلال بالتخفيف لا معنى له وأيضا ; فإنا وجدناه في الكلام المنثور مشددا، وكذلك تقيد في كلام ابن إسحاق هذا في أصل الشيخ أبي بحر1.
    ـــــــ
    1 لمزيد من المعلومات راجع "شرح السيرة" للخشني ص61.
    (2/148)
    نشوب الحرب بين قريش وهوازن:
    قال ابن هشام: فأتى آت قريشا، فقال إن البراض قد قتل عروة، وهم في الشهر الحرام بعكاظ فارتحلوا، وهوازن لا تشعر ثم بلغهم الخبر فأتبعوهم فأدركوهم قبل أن يدخلوا الحرم، فاقتتلوا حتى جاء الليل ودخلوا الحرم، فأمسكت عنهم هوازن، ثم التقوا بعد هذا اليوم أياما، والقوم متساندون1 على كل قبيل من قريش وكنانة رئيس منهم وعلى كل قبيل من قيس رئيس منهم.
    حضور رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صغير فيها وعمره:
    وشهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعض أيامهم أخرجه أعمامه معهم وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم – "كنت أنبل على أعمامي" أي أرد عليهم نبل2 عدوهم إذا رموهم بها.
    سبب تسميتها بذلك:
    قال ابن إسحاق: هاجت حرب الفجار ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابن عشرين سنة وإنما سمي يوم الفجار بما استحل هذان الحيان كنانة وقيس عيلان فيه المحارم بينهم.
    قواد قريش وهوازن فيها ونتيجتها:
    وكان قائد قريش وكنانة حرب بن أمية بن عبد شمس، وكان الظفر في
    ـــــــ
    من تفسير شعر البراض:
    وقوله في البيت الثاني: وألحقت الموالي بالضروع3. جمع: ضرع هو في معنى قولهم لئيم راضع أي ألحقت الموالي بمنزلتهم من اللؤم ورضاع الضروع وأظهرت فسالتهم4 وهتكت بيوت أشراف بني كلاب وصرحائهم
    ـــــــ
    1 متساندون: أي ليس لهم أمير واحد يجمعهم.
    2 في الأصل: عنهم، والتصويب عن كتب اللغة.
    3 في "السيرة": وأرضعت.
    4 الفسل من رجال: الرذل.
    (2/149)
    أول النهار لقيس على كنانة حتى إذا كان في وسط النهار كان الظفر لكنانة على قيس.
    قال ابن هشام: وحديث الفجار أطول مما ذكرت، وإنما منعني من استقصائه قطعه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    ـــــــ
    وقول لبيد بين تيمن ذي طلال. بكسر الميم وبفتحها، ولم يصرفه لوزن الفعل والتعريف لأنه تفعل أو تفعل من اليمن أو اليمين.
    آخر أمر الفجار:
    وكان آخر أمر الفجار أن هوازن وكنانة تواعدوا للعام القابل بعكاظ فجاءوا للوعد وكان حرب بن أمية رئيس قريش وكنانة وكان عتبة بن ربيعة يتيما في حجره فضن به حرب وأشفق من خروجه معه فخرج عتبة بغير إذنه فلم يشعروا إلا وهو على بعيره بين الصفين ينادي: يا معشر مضر، علام تقاتلون؟ فقالت له هوازن: ما تدعو إليه؟ فقال الصلح على أن ندفع إليكم دية قتلاكم ونعفو عن دمائنا، قالوا: وكيف؟ قال ندفع إليكم رهنا منا، قالوا: ومن لنا بهذا؟ قال أنا. قالوا: ومن أنت؟ قال عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، فرضوا ورضيت كنانة ودفعوا إلى هوازن أربعين رجلا: فيهم حكيم بن حزام [بن خويلد]، فلما رأت بنو عامر بن صعصعة الرهن في أيديهم عفوا عن الدماء وأطلقوهم وانقضت حرب الفجار1 وكان يقال لم يسد من قريش مملق إلا عتبة وأبو طالب فإنهما سادا بغير مال.
    ـــــــ
    1 ومن حديث حرب الفجار نفسر ما يأتي: اللطيمة: الإبل تحمل التجارة والطيب والبز وأشباهها. القوم متساندون: ليس لهم أمير واحد يجمعهم. ولم يرد في حضور النبي صلى الله عليه وسلم حرب الفجار حديث يعتد به.
    (2/150)
    حديث تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة رضي الله عنها
    ...
    حديث تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة رضي الله عنها:
    سنة صلى الله عليه وسلم عند تزوجه من خديجة:
    قال ابن هشام: فلما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسا وعشرين سنة1 تزوج خديجة2 بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، فيما حدثني غير واحد من أهل العلم عن أبي عمرو المدني.
    خروجه صلى الله عليه وسلم إلى الشام في تجارة خديجة، وما كان من بحيرى:
    قال ابن إسحاق: وكانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال تستأجر الرجال في مالها، وتضاربهم إياه بشيء تجعله لهم وكانت قريش قوما تجارا، فلما بلغها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما بلغها، من صدق حديثه وعظم أمانته وكرم أخلاقه بعثت إليه فعرضت عليه أن يخرج في مال لها إلى الشام تاجرا، وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار مع غلام لها يقال له ميسرة فقبله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها، وخرج في مالها ذلك وخرج معه غلامها ميسرة حتى قدم الشام .
    ـــــــ
    فصل في تزويجه عليه السلام خديجة رضي الله عنها:
    شرح قول الراهب:
    ذكر فيه قول الراهب ما نزل تحت هذه الشجرة إلا نبي. يريد ما نزل تحتها
    ـــــــ
    1 وقيل: كان سنه صلى الله عليه وسلم إحدى وعشرين سنة، وقيل ثلاثين، راجع "شرح المواهب" و "الاسستيعاب".
    2 وكان عمر خديجة إذ ذاك أربعين سنة، وقيل خمساً وأربعين. راجع "شرح المواهب" و"الاستيعاب"
    (2/151)
    فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ظل شجرة قريبا من صومعة راهب من الرهبان فاطلع الراهب إلى ميسرة فقال له من هذا الرجل الذي نزل تحت هذه الشجرة؟ قال له ميسرة هذا رجل من قريش من أهل الحرم، فقال له الراهب ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبي.
    رغبة خديجة في الزواج منه:
    ثم باع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سلعته التي خرج بها، واشترى ما أراد أن يشتري ثم أقبل قافلا إلى مكة ، ومعه ميسرة فكان ميسرة - فيما يزعمون - إذا كانت الهاجرة واشتد الحر، يرى ملكين يظلانه من الشمس - وهو يسير على بعيره فلما قدم مكة على خديجة بمالها، باعت ما جاء به فأضعف أو قريبا. وحدثها ميسرة عن قول الراهب وعما كان يرى من إظلال الملكين إياه وكانت خديجة امرأة حازمة شريفة لبيبة مع ما أراد الله بها من كرامته فلما أخبرها ميسرة بما أخبرها به بعثت إلى
    ـــــــ
    هذه الساعة إلا نبي، ولم يرد ما نزل تحتها قط إلا نبي. لبعد العهد بالأنبياء قبل ذلك وإن كان في لفظ الخبر: قط، فقد تكلم بها على جهة التوكيد للنفي والشجرة لا تعمر في العادة هذا العمر الطويل حتى يدري أنه لم ينزل تحتها إلا عيسى، أو غيره من الأنبياء - عليهم السلام - ويبعد في العادة أيضا أن تكون شجرة تخلو من أن ينزل تحتها أحد، حتى يجيء نبي إلا أن تصح رواية من قال في هذا الحديث لم ينزل تحتها أحد بعد عيسى ابن مريم - عليه السلام - وهي رواية عن غير ابن إسحاق، فالشجرة على هذا مخصوصة بهذه الآية والله أعلم. وهذا الراهب ذكروا أن اسمه نسطورا1 وليس هو بحيرى المتقدم ذكره.
    ـــــــ
    1 قلت: إن الصليبية استغلت هذه الأكذوبة، فادعى أحدهم وهو: نيكولدس أن اثنين من اليهود، ومسيحياً يقوبياً يدعى: بحيرى أمدا محمداً بكثير من المعلومات...الخ انظر: "الحضارة الإسلامية" ص62.
    (2/152)
    رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت له - فيما يزعمون يا بن عم إني قد رغبت فيك لقرابتك، وسطتك في قومك وأمانتك، وحسن خلقك، وصدق حديثك، ثم عرضت عليه نفسها، وكانت خديجة يومئذ أوسط نساء قريش نسبا، وأعظمهن شرفا، وأكثرهن مالا، كل قومها كان حريصا على ذلك منها لو يقدر عليه.
    نسب خديجة:
    وهي خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر. وأمها: فاطمة بنت زائدة بن الأصم بن رواحة بن حجر بن عبد بن معيص بن عامر بن لؤي بن غالب بن فهر. وأم فاطمة هالة بنت عبد مناف بن الحارث بن عمرو بن منقذ بن عمرو بن معيص بن عامر بن لؤي بن غالب بن فهر. وأم هالة قلابة بنت سعيد بن سعد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر.
    ـــــــ
    تحقيق معنى الوسط:
    وقول خديجة - رضي الله عنها: لسطتك في عشيرتك، وقوله في وصفها: هي أوسط قريش نسبا. فالسطة من الوسط مصدر كالعدة والزنة والوسط من أوصاف المدح والتفضيل ولكن في مقامين في ذكر النسب وفي ذكر الشهادة. أما النسب فلأن أوسط القبيلة أعرفها، وأولاها بالصميم وأبعدها عن الأطراف والوسيط وأجدر أن لا تضاف إليه الدعوة لأن الآباء والأمهات قد أحاطوا به من كل جانب فكان الوسط من أجل هذا مدحا في النسب بهذا السبب وأما الشهادة فنحو قوله سبحانه: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} وقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] فكان هذا مدحا في الشهادة لأنها غاية العدالة في الشاهد أن يكون وسطا كالميزان لا يميل مع أحد، بل يصمم على الحق تصميما، لا يجذبه هوى، ولا يميل به رغبة ولا رهبة من هاهنا، ولا من هاهنا، فكان وصفه بالوسط غاية في التزكية والتعديل وظن كثير من الناس أن معنى الأوسط الأفضل على الإطلاق وقالوا: معنى الصلاة الوسطى: الفضلى، وليس
    (2/153)
    زواجه صلى الله عليه وسلم من خديجة:
    فلما قالت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر ذلك لأعمامه فخرج معه عمه حمزة بن عبد المطلب - رحمه الله - حتى دخل على خويلد بن أسد فخطبها إليه فتزوجها.
    __________
    كذلك بل هو في جميع الأوصاف لا مدح ولا ذم، كما يقتضي لفظ التوسط فإذا كان وسطا في السمن فهي بين الممخة1 والعجفاء. والوسط في الجمال بين الحسناء والشوهاء إلى غير ذلك من الأوصاف لا يعطي مدحا، ولا ذما، غير أنهم قد قالوا في المثل أثقل من مغن وسط على الذم لأن المغني إن كان مجيدا جدا أمتع وأطرب وإن كان باردا جدا أضحك وألهى، وذلك أيضا مما يمتع. قال الجاحظ: وإنما الكرب الذي يجثم على القلوب ويأخذ بالأنفاس الغناء الفاتر الوسط الذي لا يمتع بحسن ولا يضحك بلهو وإذا ثبت هذا فلا يجوز أن يقال في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو أوسط الناس. أي أفضلهم ولا يوصف بأنه وسط في العلم ولا في الجود ولا في غير ذلك إلا في النسب والشهادة كما تقدم والحمد لله والله المحمود.
    من الذي زوج خديجة؟
    فصل: وذكر مشي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى خويلد بن أسد مع عمه حمزة - رضي الله عنه - وذكر غير ابن إسحاق أن خويلدا كان إذ ذاك قد أهلك وأن الذي أنكح خديجة - رضي الله عنها - هو عمها عمرو بن أسد، قاله المبرد وطائفة معه وقال أيضا: إن أبا طالب هو الذي نهض مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي خطب خطبة النكاح وكان مما قاله في تلك الخطبة" أما بعد فإن محمدا ممن لا يوازن به فتى من قريش إلا رجح به شرفا ونبلا وفضلا وعقلا، فإن كان في المال قل، فإنما ظل زائل وعارية
    ـــــــ
    1 في "اللسان": الممخة بضم فكسر مشددة مفتوحة: السمينة. وفي المثل: بين الممخة والعجفاء.
    (2/154)
    .................................................. ..............................................
    ـــــــ
    مسترجعة وله في خديجة بنت خويلد رغبة ولها فيه مثل ذلك"1 فقال عمرو: هو الفحل الذي لا يقدع أنفه فأنكحها منه ويقال قاله ورقة بن نوفل، والذي قاله المبرد هو الصحيح لما رواه الطبري عن جبير بن مطعم، وعن ابن عباس، وعن عائشة - رضي الله عنهم كلهم - قال إن عمرو بن أسد هو الذي أنكح خديجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأن خويلدا كان قد هلك قبل الفجار وخويلد بن أسد هو الذي نازع تبعا الآخر حين حج وأراد أن يحتمل الركن الأسود معه إلى اليمن ، فقام في ذلك خويلد وقام معه جماعة ثم إن تبعا روع في منامه ترويعا شديدا حتى ترك ذلك وانصرف عنه والله أعلم.
    فصل: وذكر الزهري في سيره وهي أول سيرة ألفت في الإسلام كذا روي عن [عبد العزيز بن محمد بن عبيد] الدراوردي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لشريكه الذي كان يتجر معه في مال خديجة هلم فلنتحدث عند خديجة وكانت تكرمهما وتتحفهما2، فلما قاما من عندها جاءت امرأة مستنشئة3 - وهي الكاهنة - كذا قال الخطابي في شرح هذا الحديث فقالت له جئت خاطبا يا محمد فقال كلا، فقالت ولم؟ فوالله ما في قريش امرأة وإن كانت خديجة إلا تراك كفئا لها، فرجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاطبا لخديجة مستحييا منها، وكان خويلد أبوها سكران من الخمر فلما كلم في ذلك أنكحها، فألقت عليه خديجة حلة وضمخته بخلوق فلما صحا من سكره قال ما هذه الحلة والطيب؟ فقيل إنك أنكحت محمدا خديجة
    ـــــــ
    1 ومما ورد في نص الخطبة كما في "نهاية الأرب": "الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل وضئضئ معد، وعنصر مضر، وجعلنا حضنة بيته وسواس حرمه، وجعل لنا بيتاً محجوجاً، وحرماً آمنا وجعلنا الحكام على الناس..."الخ انظر "نهاية الأرب" 16/98.
    2 التحفة الضم وكهمزة: البر واللطف والطرفة.
    3 كانت من مولدات قريش، يقال: يستنشي الأخبار، أي يبحث عنها
    (2/155)
    قال ابن هشام: وأصدقها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرين بكرة وكانت أول امرأة تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت رضي الله عنها.
    أولاده صلى الله عليه وسلم من خديجة:
    قال ابن إسحاق فولدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولده كلهم إلا إبراهيم القاسم وبه كان يكنى صلى الله عليه وسلم والطاهر والطيب وزينب ورقية وأم كلثوم، وفاطمة عليهم السلام.
    قال ابن هشام: أكبر بنيه القاسم ثم الطيب ثم الطاهر وأكبر بناته رقية ثم زينب ثم أم كلثوم، ثم فاطمة.
    ـــــــ
    وقد ابتنى بها، فأنكر ذلك ثم رضيه وأمضاه ففي هذا الحديث أن أباها كان حيا، وأنه الذي أنكحها. كما قال ابن إسحاق. وقال راجز من أهل مكة في ذلك:
    لا تزهدي خديج في محمد ... نجم يضيء كإضاء الفرقد1
    وقيل: إن عمرو بن خويلد أخاها هو الذي أنكحها منه ذكره ابن إسحاق في آخر الكتاب.
    أولاده من خديجة:
    فصل: وذكر ولده منها - صلى الله عليه وسلم - فذكر البنات وذكر القاسم والطاهر والطيب وذكر أن البنين هلكوا في الجاهلية وقال الزبير - وهو أعلم بهذا الشأن - ولدت له القاسم وعبد الله وهو الطاهر وهو الطيب سمي بالطاهر والطيب لأنه ولد بعد النبوة واسمه الذي سمي به أول هو عبد الله وبلغ القاسم المشي غير أن رضاعته لم تكن كملت وقع في مسند الفريابي أن خديجة دخل عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد موت القاسم وهي تبكي: فقالت يا رسول الله درت لبينة القاسم
    ـــــــ
    1 الفرقد: النجم الذي يهتدى به، وفي "شرح المواهب" كما ضياء الفرقد.
    (2/156)
    قال ابن إسحاق: فأما القاسم والطيب والطاهر فهلكوا في الجاهلية. وأما بناته فكلهن أدركن الإسلام فأسلمن وهاجرن معه صلى الله عليه وسلم.
    ـــــــ
    فلو كان عاش حتى يستكمل رضاعه لهون علي فقال إن له مرضعا في الجنة تستكمل رضاعته فقالت لو أعلم ذلك لهون علي فقال إن شئت أسمعتك صوته في الجنة. فقالت بل أصدق الله ورسوله. قولها، لبينة هي تصغير لبنة وهي قطعة من اللبن كالعسيلة تصغير عسلة ذكر سيبويه اللبنة والعسلة والشهدة على هذا المعنى. قال المؤلف وهذا من فقهها - رضي الله عنها - كرهت أن تؤمن بهذا الأمر معاينة فلا يكون لها أجر التصديق والإيمان بالغيب وإنما أثنى الله تعالى على الذين يؤمنون بالغيب. وهذا الحديث يدل أيضا على أن القاسم لم يهلك في الجاهلية. واختلفوا في الصغرى والكبرى من البنات غير أن أم كلثوم لم تكن الكبرى من البنات ولا فاطمة والأصح في فاطمة أنها أصغر من أم كلثوم1.
    خديجة وبحيرى ونسبها:
    وخديجة بنت خويلد تسمى: الطاهرة في الجاهلية والإسلام وفي سير التيمي. أنها كانت تسمى: سيدة نساء قريش، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين أخبرها عن جبريل ولم تكن سمعت باسمه قط، ركبت إلى بحيرى الراهب، واسمه سرجس2 فيما ذكر المسعودي، فسألته عن جبريل فقال قدوس قدوس يا سيدة نساء قريش أنى لك بهذا الاسم؟ فقالت بعلي وابن عمي محمد أخبرني أنه يأتيه، فقال قدوس قدوس ما علم به إلا نبي مقرب فإنه السفير بين الله وبين أنبيائه وإن الشيطان لا يجترئ
    ـــــــ
    1 في "نسب قريش" ص21: فولد لرسول الله صلى الله عليه وسلم القاسم، وهو أكبر ولده، ثم زينب، ثم عبد الله، ثم أم كلثوم، ثم فاطمة، ثم رقية.
    2 استغلت الصليبية هذا الإفك المفترى، فبهتت القديسة العظيمة خديجة بأنها كانت على صلة بهذا الراهب المزعوم.
    (2/157)
    .................................................. ..............................................
    ـــــــ
    أن يتمثل به ولا أن يتسمى باسمه وكان بمكة غلام لعتبة بن ربيعة سيأتي ذكره اسمه عداس عنده علم من الكتاب فأرسلت إليه تسأله عن جبريل فقال قدوس قدوس أنى لهذه البلاد أن يذكر فيها جبريل يا سيدة نساء قريش، فأخبرته بما يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال عداس مثل مقالة الراهب فكان مما زادها الله تعالى به إيمانا ويقينا.
    وذكر ابن إسحاق نسب أمها فاطمة بنت زائدة بن الأصم، ولم يذكر اسم الأصم، وذكره الزبير وغيره فقال جندب بن هدم بن حجر بفتح الحاء والجيم من حجر كذا قيده الدارقطني، وأخوه حجير بن عبد بن معيص بن عامر وأما حجر بسكون الجيم ففي حي ذي رعين وإليه ينسب الحجريون وأما حجر بكسر الحاء ففي بني الديان عبد الحجر بن عبد المدان وهم من بني الحارث بن كعب بن مذحج، وذكر يونس عن ابن إسحاق نسب أم خديجة كما ذكر في رواية ابن هشام، وزاد فقال كانت أم فاطمة بنت زائدة هالة بنت عبد مناف بن الحارث بن عبد بن منقذ بن عمرو بن معيص بن عامر بن لؤي، وأمها قلابة وهي العرقة بنت سعيد بن سعد1 بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي وأمها: أميمة بنت عامر بن الحارث بن فهر2.
    من تزوجت خديجة قبل الرسول صلى الله عليه وسلم؟:
    وكانت خديجة قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند أبي هالة وهو هند بن زرارة وقد قيل في اسمه زرارة وهند: ابنه بن النباش من بني عدي بن جروة بن أسيد بن عمرو بن تميم فهو أسيدي بالتخفيف منسوب إلى أسيد بالتشديد كذا قال سيبويه في النسب إلى أسيد. وعدي بن جروة يقال إن الزبير صحفه وإنما هو عذي بن
    ـــــــ
    1 في "نسب قريش": قلابة، وهي العرقة بنت سعيد بن سهم بن عمرو...الخ.
    2 في "نسب قريش": أميمة بنت عائش بن ظرب بن الحارث بن فهر.
    (2/158)
    أم إبراهيم:
    قال ابن هشام: وأما إبراهيم فأمه مارية القبطية . حدثنا عبد الله بن وهب عن ابن لهيعة قال أم إبراهيم: مارية سرية النبي صلى الله عليه وسلم التي أهداها إليه المقوقس من جفن من كورة أنصنا.
    ـــــــ
    جروة وكانت قبل أبي هالة عند عتيق بن عائذ بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم ولدت له عبد مناف بن عتيق كذا قال ابن أبي خيثمة وقال الزبير ولدت لعتيق جارية اسمها: هند1 وولدت لهند أبي هالة ابنا اسمه هند2 أيضا، مات بالطاعون طاعون البصرة ، وكان قد مات في ذلك اليوم نحو من سبعين ألفا، فشغل الناس بجنائزهم عن جنازته فلم يوجد من يحملها، فصاحت نادبته واهند بن هنداه واربيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم تبق جنازة إلا تركت واحتملت جنازته على أطراف الأصابع إعظاما لربيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكره الدولابي ولخديجة من أبي هالة ابنان غير هذا، اسم أحدهما: الطاهر واسم الآخر هالة. واختلف في سنه - صلى الله عليه وسلم - حين تزوج خديجة فقيل ما قاله ابن إسحاق، وقيل كان ابن ثلاثين سنة وقيل ابن إحدى وعشرين سنة3.
    مارية وإبراهيم:
    فصل: وذكر أن خديجة - رضي الله عنها - ولدت للنبي صلى الله عليه وسلم ولده كلهم إلا إبراهيم، فإنه من مارية التي أهداها إليه المقوقس، وقد تقدم اسم المقوقس، وأنه جريج بن مينا، وذكرنا معنى المقوقس في أول الكتاب وذكرنا أنه أهدى مارية مع حاطب بن أبي بلتعة، ومع جبر مولى أبي رهم الغفاري واسم أبي رهم كلثوم بن الحصين.وذلك حين أرسلها إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعوه إلى الإسلام وأهدى معها
    ـــــــ
    1 قيل: إنها أسلمت ولها صحبة.
    2 صحابي روى حديث صفة النبي صلى الله عليه وسلم شهد بدراً.
    3 في البيهقي والحاكم أن عمره كان خمساً وعشرين، وعمرها خمساً وثلاثين.
    (2/159)
    .................................................. ..............................................
    ـــــــ
    أختها سيرين، وهي التي وهبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحسان بن ثابت - رضي الله عنه - فأولدها عبد الرحمن بن حسان، وأهدى معها المقوقس أيضا غلاما خصيا اسمه مأبور وبغلة تسمى: دلدل وقدحا من قوارير كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشرب فيه وتوفيت مارية - رضي الله عنها - سنة ست عشرة في خلافة عمر - رضي الله عنه - وكان عمر هو الذي يحشر الناس إلى جنازتها بنفسه وهي مارية بنت شمعون1 القبطية من كورة حفن. وأما إبراهيم ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمات وهو ابن ثمانية عشر شهرا في سنة عشر من الهجرة في اليوم الذي كسفت فيه الشمس وكانت قابلته سلمى امرأة أبي رافع وأرضعته أم بردة بنت المنذر النجارية امرأة البرء بن أوس وسلمى: هي مولاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقابلة بني فاطمة كلهم وهي غسلتها مع أسماء بنت عميس الخثعمية، وغسلها معهما علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - وفي المسند من طريق أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين ولدت له مارية ابنه إبراهيم وقع في نفسه منه شيء حتى نزل جبريل عليه السلام، فقال له السلام عليك يا أبا إبراهيم2.
    ترجمة ورقة:
    وذكر ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، وأم ورقة هند بنت أبي كبير بن عبد بن قصي، ولا عقب له3 وهو أحد من آمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - قبل البعث وروى الترمذي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "رأيته في المنام وعليه ثياب بيض ولو كان من أهل النار لم تكن عليه ثياب بيض" ، وهو حديث في إسناده ضعف. لأنه يدور على عثمان بن عبد الرحمن، ولكن يقويه ما يأتي بعد هذا من قوله عليه السلام: "رأيت
    ـــــــ
    1 زاد في "نسب قريش" بعد شمعون: ابن إبراهيم.
    2 في "زاد المعاد": أن الطيب والطاهر لقبان لولده المسمى: عبد الله الذي ولد بعد النبوة.
    3 اسم أبي كبير: منهب بضم الميم وسكون النون وكسر الهاء.
    (2/160)
    حديث خديجة مع ورقة وصدق نبوءة ورقة فيه صلى الله عليه وسلم:
    قال ابن إسحاق وكانت خديجة بنت خويلد قد ذكرت لورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى - وكان ابن عمها، وكان نصرانيا قد تتبع الكتب وعلم من علم الناس - ما ذكر لها غلامها ميسرة من قول الراهب وما كان يرى منه إذ كان الملكان يظلانه فقال ورقة لئن كان هذا حقا يا خديجة، إن محمدا لنبي هذه الأمة وقد عرفت أنه كائن لهذه الأمة نبي ينتظر هذا زمانه أو كما قال.
    ـــــــ
    القس" يعني، ورقة وعليه ثياب حرير لأنه أول من آمن بي، وصدقني، وسيأتي بقية من خبره1 فيما بعد - إن شاء الله - وقد ألفيت للحديث الذي خرجه الترمذي في ورقة إسنادا جيدا غير الذي ذكره الترمذي، وهو ما رواه الزبير بن أبي بكر عن عبد الله بن معاذ الصنعاني عن معمر عن الزهري عن عروة بن الزبير - رضي الله عنه – قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ورقة بن نوفل، كما بلغنا فقال رأيته في المنام عليه ثياب بيض فقد أظن أن لو كان من أهل النار لم أر عليه البياض وكان يذكر الله في سفره في الجاهلية ويسبحه وهو الذي يقول:
    لقد نصحت لأقوام وقلت لهم ... أنا النذير فلا يغرركم أحد
    لا تعبدن إلها غير خالقكم ... فإن دعوكم فقولوا: بيننا جدد
    سبحان ذي العرش سبحانا يدوم له ... وقبلنا سبح الجودي والجمد
    مسخر كل ما تحت السماء له ... لا ينبغي أن يناوي ملكه أحد
    لا شيء مما ترى تبقى بشاشته ... يبقى الإله ويودي المال والولد
    لم تغن عن هرمز يوما خزائنه ... والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا
    ولا سليمان إذ تجري الرياح به ... والإنس والجن فيما بينها مرد2
    أين الملوك التي كانت لعزتها ... من كل أوب إليها وافد يفد
    ـــــــ
    1 رواه البيهقي في "الدلائل" وقال: إنه منقطع.
    2 في "الأغاني": الجن والإنس تجري بينها البرد.
    (2/161)
    .................................................. ..............................................
    ـــــــ
    حوض هنالك مورود بلا كذب ... لا بد من ورده يوما كما وردوا
    نسبه أبو الفرج1 إلى ورقة وفيه أبيات تنسب إلى أمية بن أبي الصلت، ومن قوله فيما خبرته به خديجة - رضي الله عنها - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
    يا للرجال لصرف الدهر والقدر ... وما لشيء قضاه الله من غير2
    حتى خديجة تدعوني لأخبرها ... أمرا أراه سيأتي الناس من أخر
    فخبرتني بأمر قد سمعت به ... فيما مضى من قديم الدهر والعصر
    بأن أحمد يأتيه فيخبره ... جبريل إنك مبعوث إلى البشر
    فقلت: عل الذي ترجين ينجزه ... لك الإله فرجي الخير وانتظري
    وأرسلته إلينا كي نسائله ... عن أمره ما يرى في النوم والسهر
    فقال حين أتانا منطقا عجبا ... يقف منه أعالي الجلد والشعر
    إني رأيت أمين الله واجهني ... في صورة أكملت في أهيب الصور
    ثم استمر فكان الخوف يذعرني ... مما يسلم من حولي من الشجر
    فقلت: ظني وما أدري أيصدقني ... أن سوف تبعث تتلو منزل السور
    وسوف أبليك إن أعلنت دعوتهم ... من الجهاد بلا من ولا كدر
    مثنى يقصد به المفرد:
    فصل: وفي شعر ورقة:
    ـــــــ
    1 يعني صاحب كتاب "الأغاني".
    2 في "الإصابة": وصرف الدهر.
    (2/162)
    قال : فجعل ورقة يستبطئ الأمر ويقول حتى متى؟ فقال ورقة في ذلك:
    لججت وكنت في الذكرى لجوجا ... لهم طالما بعث النشيجا
    ووصف من خديجة بعد وصف ... فقد طال انتظاري يا خديجا
    ببطن المكتين على رجائي ... حديثك أن أرى منه خروجا
    بما خبرتنا من قول قس ... من الرهبان أكره أن يعوجا
    بأن محمدا سيسود فينا ... ويخصم من يكون له حجيجا
    ـــــــ
    ببطن المكتين على رجائي ... حديثك أن أرى منه خروجا
    ثنى مكة، وهي واحدة لأن لها بطاحا وظواهر وقد ذكرنا من أهل البطاح، ومن أهل الظواهر فيما قبل على أن للعرب مذهبا في أشعارها في تثنية البقعة الواحدة وجمعها نحو قوله وميت بغزات. يريد بغزة وبغادين في بغداد، وأما التثنية فكثير نحو قوله:
    بالرقمتين له أجر وأعراس ... والحمتين سقاك الله من دار1
    وقول زهير: ودار لها بالرقمتين. وقول ورقة من هذا: ببطن المكتين. لا2 معنى لإدخال الظواهر تحت هذا اللفظ وقد أضاف إليها البطن كما أضافه المبرق حين قال:
    ببطن مكة مقهور ومفتون
    وإنما يقصد العرب في هذا الإشارة إلى جانبي كل بلدة أو الإشارة إلى أعلى البلدة وأسفلها، فيجعلونها اثنين على هذا المغزى، وقد قالوا: صدنا بقنوين3 وهو قنا اسم جبل وقال عنترة:
    ـــــــ
    1 في "اللسان": الرقمة: الروضة، ورقمه الوادي حيث يجتمع الماء.
    2 في "اللسان": الرقمتان: روضتان بناحية الصمان.
    3 في "القاموس": القنوان: جبلان.
    (2/163)
    ويظهر في البلاد ضياء نور ... يقيم به البرية أن تموجا
    ـــــــ
    شربت بماء الدخرضين
    وهو من هذا الباب في أصح القولين قال عنترة أيضا:
    بعنيزتين وأهلنا بالعيلم1
    وعنيزة اسم موضع وقال الفرزدق:
    عشية سال المربدان كلاهما
    وإنما هو مربد البصرة. وقولهم:
    تسألني برامتين سلجما
    وإنما هو رامة وهذا كثير.
    وأحسن ما تكون هذه التثنية إذا كانت في ذكر جنة وبستان فتسميها جنتين في فصيح الكلام إشعارا بأن لها وجهين وأنك إذا دخلتها، ونظرت إليها يمينا وشمالا رأيت من كلتا الناحيتين ما يملأ عينيك قرة وصدرك مسرة وفي التنزيل {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ} إلى قوله سبحانه {وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ} [سبأ: 15، 16]. وفيه {جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ } [الكهف: 32] الآية. وفي آخرها : {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ} فأفرد بعدما ثنى، وهي هي وقد حمل بعض العلماء على هذا المعنى قوله سبحانه: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن 46]، والقول في هذه الآية يتسع والله المستعان.
    النور والضياء:
    فصل: وقال في هذا الشعر:
    ويظهر في البلاد ضياء نور
    ـــــــ
    1 في "المراصد": عنيرة: موضع بين البصرة ومكة، وأيضاً: بئر على ميلين من القريتين ببطن الرمة، وقيل: غير ذلك.
    (2/164)
    فيلقى من يحاربه خسارا ... ويلقى من يسالمه فلوجا
    فيا ليتي إذا ما كان ذاكم ... شهدت فكنت أولهم ولوجا
    ولوجا في الذي كرهت قريش ... ولو عجت بمكتها عجيجا
    أرجي بالذي كرهوا جميعا ... إلى ذي العرش إن سفلوا عروجا
    وهل أمر السفالة غير كفر ... بمن يختار من سمك البروجا
    فإن يبقوا وأبق تكن أمور ... يضج الكافرون لها ضجيجا
    وإن أهلك فكل فتى سيلقى ... من الأقدار1 متلفة خروجا
    ـــــــ
    هذا البيت يوضح لك معنى النور ومعنى الضياء وأن الضياء هو المنتشر عن النور وأن النور هو الأصل للضوء ومنه مبدؤه وعنه يصدر وفي التنزيل: {فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17]. وفيه: {جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً} [يونس: 5] لأن نور القمر لا ينتشر عنه من الضياء ما ينتشر من الشمس [و] لا سيما في طرفي الشهر وفي الصحيح"الصلاة نور والصبر ضياء" وذلك أن الصلاة هي عمود الإسلام وهي ذكر وقرآن وهي تنهى عن الفحشاء والمنكر فالصبر عن المنكرات والصبر على الطاعات هو الضياء الصادر عن هذا النور الذي هو القرآن والذكر وفي أسماء الباري سبحانه: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور 35] ولا يجوز أن يكون الضياء من أسمائه - سبحانه - وقد أمليت في غير هذا الكتاب من معنى نور السموات والأرض ما فيه شفاء والحمد لله.
    نون الوقاية في إن وأخواتها
    فصل: وفي شعر ورقة:
    فيا ليتني إذا ما كان ذاكم.
    بحذف نون الوقاية وحذفها مع ليت رديء وهو في لعل أحسن منه لقرب
    ـــــــ
    1 المتلفة: المهلكة, والحروج: الكثيرة التصرف.
    (2/165)
    .................................................. ..............................................
    ـــــــ
    مخرج اللام من النون حتى لقد قالوا: لعل ولعن ولأن بمعنى واحد ولا سيما وقد حكى يعقوب أن من العرب من يخفض بلعل وهذا يؤكد حذف النون من لعلني، وأحسن ما يكون حذف هذه النون في إن وأن ولكن وكأن لاجتماع النونات وحسنه في لعل أيضا كثرة حروف الكلمة وفي التنزيل {لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ} [يوسف: 46]. بغير نون ومجيء هذه الياء في ليتي بغير نون مع أن ليت ناصبة يدلك على أن الاسم المضمر في ضربني هو الياء دون النون كما هو في: ضربك، وضربه حرف واحد وهو الكاف ولو كان الاسم هو النون مع الياء - كما قالوا في المخفوض مني وعني بنونين نون من ونون أخرى مع الياء فإذا الياء وحدها هي الاسم في حال الخفض وفي حال النصب.
    حول تقدم صلة المصدر عليه:
    فصل: وفيه: حديثك أن أرى منه خروجا. قوله منه الهاء راجعة على الحديث وحرف الجر متعلق بالخروج وإن كره النحويون ذلك لأن ما كان من صلة المصدر عندهم فلا يتقدم عليه لأن المصدر مقدر بأن والفعل فما يعمل فيه هو من صلة أن فلا يتقدم فمن أطلق القول في هذا الأصل ولم يخصص مصدرا من مصدر فقد أخطأ المفصل وتاه في تضلل ففي التنزيل: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ} [يونس: 2]. ومعناه أكان عجبا للناس أن أوحينا، ولا بد للام هاهنا أن تتعلق بعجب لأنها ليست في موضع صفة ولا موضع حال لعدم العامل فيها، وفيه أيضا: {لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً} [الكهف: 108] {وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً} [الكهف: 53]. وفيه أيضا: {لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً} [الكهف: 18]. وتقول لي فيك رغبة وما لي عنك معول فيحسن كل هذا بلا خلاف وقد أجاز ابن السراج أبو بكر و [محمد بن يزيد] المبرد أيضا في ضربا زيدا، إذا أردت الأمر أن تقدم المفعول المنصوب بالمصدر وقال لأن ضربا هاهنا في معنى:
    (2/166)
    .................................................. ..............................................
    ـــــــ
    اضرب فقد خصص لك ضربا من المصادر بجواز تقديم معمولها عليها فإن كان المصدر غير أمر وكان نكرة لم يتقدم المفعول خاصة عليه بخلاف المجرور والظرف فالواجب إذا ربط هذا الباب وتفصيله.
    متى يجوز تقديم معمول المصدر؟
    فنقول كل مصدر نكرة غير مضاف إلى ما بعده يجوز تقديم معموله عليه إلا المفعول لأن المصدر النكرة لا يتقدر بأن والفعل لأنك إن قدرته بأن والفعل بقي الفعل بلا فاعل وما كان مضافا إلى ما بعده فالمضاف إليه فاعل في المعنى أو مفعول فلذلك يصير المصدر مقدرا بأن والفعل فقف على هذا الأصل فمنه حسن قول ورقة أن أرى منه خروجا، أي أرى خروجا منه وكذلك لو ذكر الدخول فقال أرى فيه دخولا، يريد دخولا فيه لكان حسنا، وتقول اللهم اجعل من أمرنا فرجا ومخرجا، فمن أمرنا: متعلق بما بعده وهو مصدر ولا خفاء في حسن هذا التقديم لما ذكرناه.
    ومن قول ورقة بن نوفل في معنى ما تقدم من رواية يونس عن ابن إسحاق:
    أتبكر أم أنت العشية رائح ... وفي الصدر من إضمارك الحزن قادح
    لفرقة قوم لا أحب فراقهم ... كأنك عنهم بعد يومين نازح
    وأخبار صدق خبرت عن محمد ... يخبرها عنه إذا غاب ناصح
    فتاك الذي وجهت يا خير حرة ... بغور والنجدين حيث الصحاصح1
    إلى سوق بصرى في الركاب التي غدت ... وهن من الأحمال قعص دوالح2
    ـــــــ
    1 الغور: ما بين ذات عرق إلى البحر. والنجد: ما خالف الغور أي تهامة: أعلاه: تهامة واليمن، وأسفله: العراق والشام، وأوله من جهة الحجاز: ذات عرق. والصحصاح: جمع صحصح: الأرض الجرداء المستوية.
    2 دلح، كمنع مشى بحمله منقبض الخطو لثقله، والقعص: الموت السريع.
    (2/167)
    .................................................. ..............................................
    ـــــــ
    فخبرنا عن كل خير بعلمه ... وللحق أبواب لهن مفاتح
    بأن ابن عبد الله أحمد مرسل ... إلى كل من ضمت عليه الأباطح
    وظني به أن سوف يبعث صادقا ... كما أرسل العبدان هود وصالح
    وموسى وإبراهيم حتى يرى له ... بهاء ومنثور من الذكر واضح
    ويتبعه حيا لؤي جماعة ... شيابهم والأشيبون الجحاجح
    فإن أبق حتى يدرك الناس دهره ... فإني به مستبشر الود فارح
    وإلا فإني يا خديجة - فاعلمي ... عن أرضك في الأرض العريضة سائح
    (2/168)
    حديث بنيان الكعبة وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بين قريش في وضع الحجر
    ...
    حديث بنيان الكعبة وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بين قريش في وضع الحجر:
    سبب بنيان قريش للكعبة:
    قال ابن إسحاق: فلما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسا وثلاثين سنة اجتمعت قريش لبنيان الكعبة، وكانوا يهمون بذلك ليسقفوها ويهابون هدمها، وإنما كانت ردما فوق القامة فأرادوا رفعها وتسقيفها، وذلك أن نفرا سرقوا كنزا للكعبة وإنما كان يكون في بئر في جوف الكعبة، وكان الذي وجد عنده الكنز دويكا مولى لبني
    ـــــــ
    بنيان الكعبة:
    ففي خبرها أنها كانت رضما فوق القامة. الرضم أن تنضد الحجارة بعضها على بعض من غير ملاط1 كما قال:
    رزئتهم في ساعة جرعتهم ... كؤوس المنايا تحت صخر مرضم
    وقوله فوق القامة كلام غير مبين لمقدار ارتفاعها إذ ذاك وذكر غيره أنها كانت تسع أذرع من عهد إسماعيل ولم يكن لها سقف فلما بنتها قريش قبل الإسلام زادوا فيها تسع أذرع، فكانت ثماني عشرة ذراعا، ورفعوا بابها عن
    ـــــــ
    1 الطين يجعل بين ساقي ا لبناء، ويملط به الحائط.
    (2/169)
    مليح بن عمرو من خزاعة. قال ابن هشام: فقطعت قريش يده. وتزعم قريش أن الذين سرقوه وضعوه عند دويك وكان البحر قد رمى بسفينة إلى جدة لرجل من تجار الروم، فتحطمت فأخذوا خشبها فأعدوه لتسقيفها، وكان بمكة رجل1 قبطي نجار فتهيأ لهم في أنفسهم بعض ما يصلحها وكانت حية تخرج من بئر الكعبة التي كان يطرح فيها ما يهدى لها كل يوم فتتشرق2 على جدار الكعبة، وكانت مما يهابون وذلك أنه كان لا يدنو منها أحد إلا احزألت وكشت3 وفتحت فاها، وكانوا يهابونها، فبينا هي ذات يوم تتشرق على جدار الكعبة، كما كانت تصنع بعث الله إليها طائرا فاختطفها، فذهب بها، فقالت قريش: إنا لنرجو أن يكون الله قد رضي ما أردنا، عندنا عامل رفيق وعندنا خشب وقد كفانا الله الحية.
    ما حدث لأبي وهب عند بناء قريش الكعبة:
    فلما أجمعوا أمرهم في هدمها وبنائها، قام أبو وهب بن عمرو بن عائذ بن عبد بن عمران بن مخزوم. قال ابن هشام: عائذ بن عمران بن مخزوم. فتناول من الكعبة حجرا، فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه. فقال يا معشر قريش، لا تدخلوا في بنائها من كسبكم إلا طيبا، لا يدخل فيها مهر بغي ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس والناس ينحلون هذا الكلام الوليد بن المغيرة عبد الله بن عمر بن مخزوم.
    قال ابن إسحاق: وقد حدثني عبد الله بن أبي نجيح المكي أنه حدث عن عبد الله بن صفوان بن أمية بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي:
    أنه رأى ابنا لجعدة بن هبيرة بن أبي وهب بن عمرو يطوف بالبيت فسأل عنه
    ـــــــ
    1 وكان اسم ذلك الرجل: باقوم، وقيل: باقوم. راجع "الإصابة".
    2 تتشرق: تبرز للشمس، ويقال: تشرقت: إذا قعدت للشمس لا يحجبك عنها شيء.
    3 احزألت: رفعت رأسها. وكشت: صوتت باحتكاك بعض جلدها ببعض.
    (2/170)
    فقيل هذا ابن لجعدة بن هبيرة فقال عبد الله بن صفوان عند ذلك جد هذا، يعني: أبا وهب الذي أخذ حجرا من الكعبة حين أجمعت قريش لهدمها، فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه فقال عند ذلك يا معشر قريش: لا تدخلوا في بنائها من كسبكم إلا طيبا. لا تدخلوا فيها مهر بغي ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس.
    قرابة أبي وهب لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
    قال ابن إسحاق: وأبو وهب خال أبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان شريفا، وله يقول شاعر من العرب
    ولو يأبى وهب أنخت مطيتي ... غدت من نداه رحلها غير خائب
    بأبيض من فرعي لؤي بن غالب ... إذا حصلت أنسابها في الذوائب
    أبي لأخذ الضيم يرتاح للندى ... توسط جداه فروع الأطايب
    عظيم رماد القدر يملا جفانه ... من الخبز يعلوهن مثل السبائب
    تجزئة الكعبة بين قريش، ونصيب كل فريق منها:
    ثم إن قريشا جزأت1 الكعبة، فكان شق الباب2 لبني عبد مناف وزهرة وكان ما بين الركن الأسود والركن اليماني لبني مخزوم، وقبائل من قريش انضموا إليهم وكان ظهر الكعبة لبني جمح وسهم ابني عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي. وكان شق الحجر لبني عبد الدار بن قصي، ولبني أسد بن العزى بن قصي، ولبني عدي بن كعب بن لؤي وهو الحطيم3.
    الوليد بن المغيرة وهدم الكعبة، وما وجدوه تحت الهدم:
    ثم إن الناس هابوا هدمها وفرقوا منه فقال الوليد بن المغيرة: أنا أبدؤكم في هدمها، فأخذ المعول ثم قام عليها، وهو يقول اللهم لم ترع4 - قال ابن هشام: ويقال لم نزغ - اللهم إنا لا نريد إلا الخير ثم هدم من ناحية الركنين فتربص
    ـــــــ
    1 في سائر الأصول: تجزأت: أي تقسمها بينهم.
    2 الشق: الناحية والجانب.
    3 قيل: سمي حطيماً، لأن الناس يزدحمون فيه حتى يحطم بعضهم بعضاً.
    4 لم ترع: لم تفزع. والضمير يعود على مكة.
    (2/171)
    الناس تلك الليلة وقالوا: ننظر فإن أصيب لم نهدم منها شيئا ورددناها كما كانت وإن لم يصبه شيء فقد رضي الله صنعنا، فهدمنا. فأصبح الوليد من ليلته غاديا على عمله فهدم وهدم الناس معه حتى إذا انتهى الهدم بهم إلى الأساس أساس إبراهيم عليه السلام أفضوا إلى حجارة خضر كالأسنمة آخذ بعضها بعضا.
    قال ابن إسحاق: فحدثني بعض من يروي الحديث أن رجلا من قريش، ممن كان يهدمها، أدخل عتلة بين حجرين منها ليقلع بها أحدهما، فلما تحرك الحجر تنقضت مكة بأسرها، فانتهوا عن ذلك الأساس.
    __________
    الأرض، فكان لا يصعد إليها إلا في درج أو سلم وقد ذكرنا أول من عمل لها غلقا، وهو تبع. ثم لما بناها ابن الزبير زاد فيها تسع أذرع، فكانت سبعا وعشرين ذراعا، وعلى ذلك هي الآن وكان بناؤها في الدهر خمس مرات. الأولى: حين بناها شيث بن آدم والثانية حين بناها إبراهيم على القواعد الأولى، والثالثة حين بنتها قريش قبل الإسلام بخمسة أعوام والرابعة حين احترقت في عهد ابن الزبير بشرارة طارت من أبي قبيس، فوقعت في أستارها، فاحترقت وقيل إن امرأة أرادت أن تجمرها، فطارت شرارة من المجمر في أستارها، فاحترقت فشاور ابن الزبير في هدمها من حضره فهابوا هدمها، وقالوا: نرى أن تصلح ما وهى، ولا تهدم. فقال لو أن بيت أحدكم احترق لم يرض له إلا بأكمل صلاح. ولا يكمل إصلاحها إلا بهدمها. فهدمها حتى أفضى إلى قواعد إبراهيم فأمرهم أن يزيدوا في الحفر. فحركوا حجرا فرأوا تحته نارا وهولا. أفزعهم فأمرهم أن يقروا القواعد وأن يبنوا من حيث انتهى الحفر. وفي الخبر أنه سترها حين وصل إلى القواعد فطاف الناس بتلك الأستار فلم تخل قط من طائف حتى لقد ذكر أن يوم قتل ابن الزبير اشتدت الحرب واشتغل الناس فلم ير طائف يطوف بالكعبة إلا جمل يطوف بها، فلما استتم بنيانها، ألصق بابها بالأرض وعمل لها خلفا أي بابا آخر من ورائها، وأدخل الحجر فيها، وذلك لحديث حدثته به خالته عائشة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ألم تري قومك حين بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم حين عجزت بهم النفقة" ثم قال عليه السلام: "لولا حدثان عهد قومك بالجاهلية
    (2/172)
    .................................................. ..............................................
    ـــــــ
    لهدمتها، وجعلت لها خلفا1 وألصقت بابها الأرض وأدخلت فيها الحجر" أو كما قال - عليه السلام - قال ابن الزبير فليس بنا اليوم عجز عن النفقة فبناها على مقتضى حديث عائشة فلما قام عبد الملك بن مروان، قال لسنا من تخليط أبي خبيب2 بشيء فهدمها وبناها على ما كانت عليه في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما فرغ من بنيانها جاءه الحارث بن أبي ربيعة المعروف بالقباع3 وهو أخو عمر بن أبي ربيعة الشاعر ومعه رجل آخر فحدثاه عن عائشة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحديث المتقدم فندم وجعل ينكت في الأرض بمخصرة في يده ويقول وددت أني تركت أبا خبيب وما تحمل من ذلك فهذه المرة الخامسة فلما قام أبو جعفر المنصور، وأراد أن يبنيها على ما بناها ابن الزبير وشاور في ذلك فقال مالك بن أنس: أنشدك الله يا أمير المؤمنين وأن تجعل هذا البيت ملعبة للملوك بعدك، لا يشاء أحد منهم أن يغيره إلا غيره4 فتذهب هيبته من قلوب الناس فصرفه عن رأيه فيه وقد قيل إنه بني في أيام جرهم مرة أو مرتين لأن السيل كان قد صدع حائطه ولم يكن ذلك بنيانا على نحو ما قدمنا، إنما كان إصلاحا لما وهى منه وجدارا بني بينه وبين السيل بناه عامر الجارود وقد تقدم هذا الخبر، وكانت الكعبة قبل أن يبنيها شيث عليه السلام خيمة من ياقوتة حمراء يطوف بها آدم ويأنس إليها ; لأنها أنزلت إليه من الجنة وكان قد حج إلى موضعها من الهند، وقد قيل إن آدم هو أول من بناها، ذكره ابن إسحاق في غير رواية البكائي. وفي الخبر أن موضعها كان غثاءة على الماء قبل أن يخلق الله السموات والأرض فلما بدأ الله
    ـــــــ
    1 وردت في معناه أحاديث رواها البخاري ومسلم وغيرها.
    2 هو عبد الله بن الزبير ويقال عنه عن ابنه أو أخيه مصعب: الخبيبان.
    3 القباع: مكيال ضخم.
    4 نقل النووي وعياض أن هذا الحديث حصل للرشيد أو أبيه المهدي، وأن مالكاً قال: مالك يا أمير المؤمنين لا تجعل كعبة الله ملعبة للملوك لا يشاء أحد أن يهدمها إلا هدمها.
    (2/173)
    .................................................. ..............................................
    ـــــــ
    بخلق الأشياء خلق التربة قبل السماء فلما خلق السماء وقضاهن سبع سموات دحا الأرض أي بسطها، وذلك قوله سبحانه: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 3] وإنما دحاها من تحت مكة ; ولذلك سميت أم القرى، وفي التفسير أن الله سبحانه حين قال للسموات والأرض {ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11] لم تجبه بهذه المقالة من الأرض إلا أرض الحرم، فلذلك حرمها. وفي الحديث أن الله حرم مكة قبل أن يخلق السموات والأرض فصارت حرمتها كحرمة المؤمن لأن المؤمن إنما حرم دمه وعرضه وماله بطاعته لربه وأرض الحرم لما قالت أتينا طائعين حرم صيدها وشجرها وخلاها إلا الإذخر فلا حرمة إلا لذي طاعة جعلنا الله ممن أطاعه.
    سبب آخر لبنيان البيت:
    وروي في سبب بنيان البيت خبر آخر وليس بمعارض لما تقدم وذلك أن الله سبحانه لما قال لملائكته {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة: 30].
    خافوا أن يكون الله عاتبا عليهم لاعتراضهم في علمه فطافوا بالعرش سبعا، يسترضون ربهم ويتضرعون إليه فأمرهم سبحانه أن يبنوا البيت المعمور في السماء السابعة وأن يجعلوا طوافهم به فكان ذلك أهون عليهم من الطواف بالعرش ثم أمرهم أن يبنوا في كل سماء بيتا، وفي كل أرض بيتا، قال مجاهد: هي أربعة عشر بيتا، كل بيت منها منا صاحبه أي في مقابلته لو سقطت لسقطت بعضها على بعض.
    حول بناء الكعبة مرة أخرى:
    روي أيضا أن الملائكة حين أسست الكعبة انشقت الأرض إلى منتهاها،
    (2/174)
    .................................................. ..............................................
    ـــــــ
    وقذفت فيها حجارة أمثال الإبل فتلك القواعد من البيت التي رفع إبراهيم وإسماعيل فلما جاء الطوفان رفعت وأودع الحجر الأسود أبا قبيس1.
    وذكر ابن هشام أن الماء لم يعلها حين الطوفان ولكنه قام حولها، وبقيت في هواء إلى السماء2 وأن نوحا قال لأهل السفينة وهي تطوف بالبيت إنكم في حرم الله وحول بيته فأحرموا لله ولا يمس أحد امرأة وجعل بينهم وبين السماء حاجزا، فتعدى حام، فدعا عليه نوح أن يسود لون بنيه فاسود كوش بن حام ونسله إلى يوم القيامة وقد قيل في سبب دعوة نوح على حام غير هذا، والله أعلم.
    وذكر في الخبر عن ابن عباس، قال أول من عاذ بالكعبة حوت صغير خاف من حوت كبير فعاذ منه بالبيت وذلك أيام الطوفان. ذكره يحيى بن سلام فلما نضب ماء الطوفان كان مكان البيت ربوة من مدرة وحج إليه هود وصالح ومن آمن معهما، وهو كذلك3.
    ويذكر أن يعرب قال لهود عليه السلام ألا نبنيه؟ قال إنما يبنيه نبي كريم يأتي من بعدي يتخذه الرحمن خليلا، فلما بعث الله إبراهيم وشب إسماعيل بمكة أمر إبراهيم ببناء الكعبة، فدلته عليه السكينة وظللت له على موضع البيت فكانت عليه كالجحفة4 وذلك أن السكينة من شأن الصلاة فجعلت علما على قبلتها حكمة من الله سبحانه5، وبناه عليه السلام من خمسة أجبل كانت الملائكة تأتيه بالحجارة
    ـــــــ
    1 ليس لكل ما قاله عن الملائكة هنا سند صحيح، ولم يرد حديث طواف الملائكة هنا سوى أبو الفرج في كتابه "مثير الغرام"
    2 كلام لا سند له.
    3 لم يرد هذا في نقل صحيح.
    4 بقية الماء في جوانب الحوض.
    5 مرة أخرى يينى على أسطورة رأياً، وحديث السكينة له سند صحيح.
    (2/175)
    .................................................. ..............................................
    ـــــــ
    منها، وهي طور تينا، وطور زيتا اللذين بالشام والجودي وهو بالجزيرة1 ولبنان2 وحراء وهما بالحرم كل هذا جمعناه من آثار مروية. وانتبه لحكمة الله كيف جعل بناءها من خمسة أجبل فشاكل ذلك معناها ; إذ هي قبلة للصلاة الخمس وعمود الإسلام وقد بني على خمس وكيف دلت عليه السكينة إذ هو قبلة للصلاة والسكينة من شأن الصلاة. قال عليه السلام: "وأتوها وعليكم السكينة" فلما بلغ إبراهيم الركن جاءه جبريل بالحجر الأسود من جوف أبي قبيس وروى الترمذي عن ابن عباس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال " أنزل الحجر الأسود من الجنة أشد بياضا من اللبن فسودته خطايا بني آدم" وروى الترمذي أيضا من طريق عبد الله بن عمرو مرفوعا أن الركن الأسود والركن اليماني ياقوتتان من الجنة ولولا ما طمس من نورهما لأضاءتا ما بين المشرق والمغرب وفي رواية غيره لأبرآ من استلمهما من الخرس والجذام والبرص وروى غير الترمذي من طريق علي رحمه الله أن العهد الذي أخذه الله على ذرية آدم حين مسح ظهره ألا يشركوا به شيئا كتبه في صك وألقمه الحجر الأسود ; ولذلك يقول المستلم له إيمانا بك، ووفاء بعهدك، وذكر هذا الخبر الزبير وزاد عليه أن الله سبحانه أجرى نهرا أطيب من اللبن وألين من الزبد فاستمد منه القلم الذي كتب العهد قال وكان أبو قبيس يسمى: الأمين لأن الركن كان مودعا فيه وأنه نادى إبراهيم حين بلغ بالبنيان إلى موضع الركن فأخبره عن الركن فيه ودله على موضعه منه وانتبه من هاهنا إلى الحكمة في أن سودته خطايا بني آدم دون غيره من حجارة الكعبة وأستارها، وذلك أن العهد الذي فيه هي الفطرة التي فطر الناس عليها من توحيد الله فكل مولود يولد على تلك الفطرة وعلى ذلك الميثاق فلولا أن أبويه يهودانه وينصرانه ويمجسانه حتى يسود قلبه بالشرك لما حال عن العهد فقد صار قلب ابن آدم محلا لذلك العهد
    ـــــــ
    1 يعني جزيرة ابن عمر في شرقي دجلة من أعمال الموصل.
    2 في "المراصد" لبنان جبلان قرب مكة يقال لهما، لبن الأسفل ولبن الأعلى.
    (2/176)
    .................................................. ..............................................
    ـــــــ
    والميثاق وصار الحجر محلا لما كتب فيه من ذلك العهد والميثاق فتناسبا، فاسود من الخطايا قلب ابن آدم بعدما كان ولد عليه من ذلك العهد واسود الحجر بعد ابيضاضه وكانت الخطايا سببا في ذلك حكمة من الله سبحانه فهذا ما ذكر في بنيان الكعبة ملخصا، منه ما ذكر الماوردي ومنه ما ذكره الطبري، ومنه ما وقع في كتاب التمهيد لأبي عمر ونبذ أخذتها من كتاب فضائل مكة لرزين بن معاوية ومن كتاب أبي الوليد الأزرقي في أخبار مكة، ومن أحاديث في المسندات المروية وسنورد في باقي الحديث بعض ما بلغنا في ذلك مستعينين بالله.
    وأما الركن اليماني فسمي باليماني - فيما ذكر القتبي - لأن رجلا من اليمن بناه اسمه أبي بن سالم وأنشد:
    لنا الركن من بيت الحرام وراثة ... بقية ما أبقى أبي بن سالم
    حول بناء المسجد الحرام:
    وأما المسجد الحرام فأول من بناه عمر بن الخطاب، وذلك أن الناس ضيقوا على الكعبة، وألصقوا دورهم بها، فقال عمر إن الكعبة بيت الله ولا بد للبيت من فناء وإنكم دخلتم عليها، ولم تدخل عليكم فاشترى تلك الدور من أهلها وهدمها، وبنى المسجد المحيط بها، ثم كان عثمان فاشترى دورا أخرى، وأغلى في ثمنها، وزاد في سعة المسجد فلما كان ابن الزبير زاد في إتقانه لا في سعته وجعل فيه عمدا من الرخام وزاد في أبوابه وحسنها، فلما كان عبد الملك بن مروان زاد في ارتفاع حائط المسجد وحمل إليه السواري في البحر إلى جدة، واحتملت من جدة على العجل إلى مكة، وأمر الحجاج بن يوسف فكساها الديباج وقد كنا قدمنا أن ابن الزبير كساها الديباج قبل الحجاج ذكره الزبير بن بكار، وذكرنا أيضا أن خالد بن جعفر بن كلاب ممن كساها الديباج قبل الإسلام ثم كان الوليد بن عبد الملك فزاد في حليها، وصرف في ميزابها وسقفها ما كان في مائدة
    (2/177)
    .................................................. ..............................................
    ـــــــ
    سليمان بن داود عليهما السلام من ذهب وفضة وكانت قد احتملت إليه من طليطلة من جزيرة الأندلس وكانت لها أطواق من ياقوت وزبرجد وكانت قد احتملت على بغل قوي فتفسخ تحتها، فضرب منها الوليد حلية للكعبة فلما كان أبو جعفر المنصور وابنه محمد المهدي زاد أيضا في إتقان المسجد وتحسين هيئته ولم يحدث فيه بعد ذلك عمل إلى الآن. وفي اشتراء عمر وعثمان الدور التي زادا فيها دليل على أن رباع أهل مكة ملك لأهلها، يتصرفون فيها بالبيع والشراء إذا شاءوا، وفي ذلك اختلاف.
    كنز الكعبة والنجار القبطي:
    فصل: وذكر ابن إسحاق دويكا الذي سرق كنز الكعبة، وتقدم أن سارقا سرق من مالها في زمن جرهم، وأنه دخل البئر التي فيها كنزها فسقط عليه حجر فحبسه فيها، حتى أخرج منها، وانتزع المال منه ثم بعث الله حية لها رأس كرأس الجدي بيضاء البطن سوداء المتن فكانت في بئر الكعبة خمسمائة عام فيما ذكر رزين وهي التي ذكرها ابن إسحاق، وكان لا يدنو أحد من بئر الكعبة إلا احزألت1 أي رفعت ذنبها، وكشت أي صوتت.وذكر ابن إسحاق أن سفينة رماها البحر إلى جدة، فتحطمت وذكر غيره عن ابن منبه أن سفينة خجتها الريح إلى الشعيبة وهو مرفأ السفن من ساحل بحر الحجاز، وهو كان مرفأ مكة ومرسى سفنها قبل جدة. والشعيبة بضم الشين ذكره البكري، وفسر الخطابي خجتها: أي دفعتها بقوة من الريح الخجوج أي الدفوع.
    قال ابن إسحاق: وكان بمكة نجار قبطي، وذكر غيره أنه كان علجا2 في
    ـــــــ
    1 في الأصل، وفي "شرح السيرة" للخشني: احزألت بالخاء، وهو خطأ صوبته من "اللسان" و "القاموس".
    2 الرجل من كفار العجم.
    (2/178)
    .................................................. ..............................................
    ـــــــ
    السفينة التي خجتها الريح إلى الشعيبة وأن اسم ذلك النجار ياقوم1 وكذلك روي أيضا في اسم النجار الذي عمل منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من طرفاء الغابة، ولعله أن يكون هذا، فالله أعلم.
    الحية والدابة:
    فصل: وذكر خبر العقاب أو الطائر الذي اختطف الحية من بئر الكعبة، وقال غيره طرحها الطائر بالحجون فالتقمتها الأرض. وقال محمد بن الحسن المقري هذا القول ثم قال وهي الدابة التي تكلم الناس قبل يوم القيامة واسمها: أقصى فيما ذكر ومحمد بن الحسن المقري هو النقاش وهو من أهل العلم - والله أعلم بصحة ما قال غير أنه قد روي في حديث آخر أن موسى عليه السلام سأل ربه أن يريه الدابة التي تكلم الناس فأخرجها له من الأرض فرأى منظرا هاله وأفزعه فقال أي رب ردها فردها2.
    لم ترع:
    وذكر ابن إسحاق حديث الحجر الذي أخذ من الكعبة، فوثب من يد آخذه حتى عاد إلى موضعه وقال غيره ضربوا بالمعول في حجر من أحجارها، فلمعت برقة كادت تخطف أبصارهم وأخذ رجل منهم حجرا، فطار من يده وعاد إلى موضعه. وذكر ابن إسحاق قولهم: اللهم لم ترع وهي كلمة تقال عند تسكين الروع والتأنيس وإظهار اللين والبر في القول ولا روع في هذا الموطن فينفى، ولكن
    ـــــــ
    1 وقيل: ياقوم أو باقول. وقد سبق. وانظر "شرح السيرة" للخشني. ص63
    2 لا يروى في حقيقة صفات الدابة حديث يعتد به. والدابة تطلق على الإنسان فلنقف عند القرآن.
    (2/179)
    .................................................. ..............................................
    ـــــــ
    الكلمة تقتضي إظهار قصد البر فلذلك تكلموا بها، وعلى هذا يجوز التكلم بها في الإسلام وإن كان فيها ذكر الروع الذي هو محال في حق الباري تعالى، ولكن لما كان المقصود ما ذكرنا، جاز النطق بها1، وسيأتي في هذا الكتاب إن شاء الله زيادة بيان عند قوله فاغفر فداء لك ما اقتفينا.
    ويروى أيضا: اللهم لم نزغ وهو جلي لا يشكل.
    من تفسير حديث أبي لهب: وذكر قولهم: لا تدخلوا في هذا البيت مهر بغي وهي الزانية وهي فعول من البغاء فاندغمت الواو في الياء ولا يجوز عندهم أن يكون على وزن فعيل لأن فعيلا بمعنى: فاعل يكون بالهاء في المؤنث كرحيمة وكريمة وإنما يكون بغير هاء إذا كان في معنى: مفعول نحو امرأة جريح وقتيل.
    وقوله ولا بيع ربا يدل على أن الربا كان محرما عليهم في الجاهلية كما كان الظلم والبغاء وهو الزنا محرما عليهم يعلمون ذلك ببقية من بقايا شرع إبراهيم عليه السلام كما كان بقي فيهم الحج والعمرة وشيء من أحكام الطلاق والعتق وغير ذلك. وفي قوله سبحانه: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة: 275] دليل على تقديم التحريم.
    الحجر الذي كان مكتوبا:
    فصل:
    وذكر الحجر الذي وجد مكتوبا في الكعبة، وفيه أنا الله ذو بكة لحديث.
    روى معمر بن راشد في الجامع عن الزهري أنه قال بلغني أن قريشا
    ـــــــ
    1 الروع: الفزع، ولا يجوز مطلقاً نسبته إلى الله، ولم يرد قول صحيح في هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم.
    (2/180)
    قال ابن إسحاق: وحدثت أن قريشا وجدوا في الركن كتابا بالسريانية، فلم يدروا ما هو حتى قرأه لهم رجل من يهود فإذا هو "أنا الله ذو بكة، خلقتها يوم خلقت السموات والأرض وصورت الشمس والقمر وحففتها بسبعة أملاك حنفاء لا تزول حتى يزول أخشباها، مبارك لأهلها في الماء واللبن".
    قال ابن هشام: أخشباها: جبلاها.
    قال ابن إسحاق: وحدثت أنهم وجدوا في المقام كتابا فيه "مكة بيت الله الحرام يأتيها رزقها من ثلاثة سبل لا يحلها أول من أهلها".
    قال ابن إسحاق: وزعم ليث بن أبي سليم أنهم وجدوا حجرا في الكعبة قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة، - إن كان ما ذكر حقا - مكتوبا فيه: من يزرع خيرا، يحصد غبطة ومن يزرع شرا، يحصد ندامة. تعملون السيئات وتجزون الحسنات أجل كما لا يجتنى من الشوك العنب.
    __________
    حين بنوا الكعبة، وجدوا فيها حجرا، وفيه ثلاثة صفوح1 في الصفح الأول أنا الله ذو بكة صغتها يوم صغت2 الشمس والقمر إلى آخر كلام ابن إسحاق، وفي الصفح الثاني: "أنا الله ذو بكة3، خلقت الرحم واشتققت لها اسما من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها بتته"، وفي الصفح الثالث: "أنا الله ذو بكة، خلقت الخير والشر فطوبى لمن كان الخير على يديه وويل لمن كان الشر على يديه" وفي حديث ابن إسحاق: لا يحلها أول من أهلها، يريد - والله أعلم - ما كان من استحلال قريش القتال فيها أيام ابن الزبير وحصين بن نمير ثم الحجاج بعده ولذلك قال ابن
    ـــــــ
    1 في "البداية": أصفح، وهو أنسب وصفحة الشيء: جانبه.
    2 في "البداية": صنعتها وهو يناسب رواية:خلقتها التي في "السيرة".
    3 في "البداية": "إني أنا الله" في جميع المواضع، والقصة ولا شك مشكوك بها، وراءها رجل من أهل الكتاب وفي كلام السهيلي وابن هشام ما يشير إلى ذلك، وإن كانت كلمات حق، أما قوله: "خلقت الرحم- إلى بتته" فحديث رواه أبو داود والترمذي.
    (2/181)
    اختلاف قريش فيمن يضع الحجر ولعقة الدم:
    قال ابن إسحاق: ثم إن القبائل من قريش جمعت الحجارة لبنائها، كل قبيلة تجمع على حدة ثم بنوها، حتى بلغ البنيان موضع الركن فاختصموا فيه كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى، حتى تحاوروا وتحالفوا ; وأعدوا للقتال فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دما، ثم تعاقدوا هم وبنو عدي بن كعب بن لؤي على الموت وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة فسموا: لعقة الدم فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمسا، ثم إنهم اجتمعوا في المسجد وتشاوروا وتناصفوا.
    إشارة أبي أمية بتحكيم أول داخل فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم:
    فزعم بعض أهل الرواية أن أبا أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وكان عامئذ أسن قريش كلها، قال يا معشر قريش اجعلوا بينكم - فيما تختلفون فيه - أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم فيه ففعلوا: فكان
    ـــــــ
    أبي ربيعة:
    ألا من لقلب معنى غزل ... بحب المحلة أخت المحل
    يعني بالمحل عبد الله بن الزبير لقتاله في الحرم.
    حول الحجر الأسود وقواعد البيت:
    فصل: وذكر اختلافهم في وضع الركن وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الذي وضعه بيده وذكر غيره أن إبليس كان معهم في صورة شيخ نجدي وأنه صاح بأعلى صوته يا معشر قريش: أرضيتم أن يضع هذا الركن وهو شرفكم غلام يتيم دون ذوي أسنانكم فكان يثير شرا فيما بينهم ثم سكنوا ذلك. وأما وضع الركن حين بنيت الكعبة في أيام ابن الزبير فوضعه في الموضع الذي هو فيه الآن حمزة بن عبد الله بن الزبير، وأبوه يصلي بالناس في المسجد اغتنم شغل الناس عنه بالصلاة
    (2/182)
    أول داخل عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما رأوه قالوا: هذا الأمين رضينا، هذا محمد فلما انتهى إليهم أخبروه الخبر، قال صلى الله عليه وسلم "هلم إلي ثوبا" , فأتي به فأخذ الركن فوضعه فيه بيده ثم قال "لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثم ارفعوه جميعا" , ففعلوا، حتى إذا بلغوا موضعه وضعه هو بيده ثم بنى عليه".
    شعر الزبير في الحية التي كانت قريش تهاب بنيان الكعبة لها:
    وكانت قريش تسمي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن ينزل عليه الوحي الأمين. فلما فرغوا من البنيان وبنوها على ما أرادوا، قال الزبير بن عبد المطلب، فيما كان من أمر الحية التي كانت قريش تهاب بنيان الكعبة لها:
    عجبت لما تصوبت العقاب ... إلى الثعبان وهي لها اضطراب
    وقد كانت يكون لها كشيش ... وأحيانا يكون لها وثاب
    إذا قمنا إلى التأسيس. شدت ... تهيبنا البناء. وقد تهاب
    ـــــــ
    لما أحس منهم التنافس في ذلك وخاف الخلاف فأقره أبوه. ذكر ذلك الزبير بن أبي بكر. وذكر ابن إسحاق أيضا أنهم أفضوا إلى قواعد البيت وإذا هي خضر كالأسنمة وليست هذه رواية السيرة إنما الصحيح في الكتاب كالأسنة وهو وهم من بعض النقلة عن ابن إسحاق والله أعلم فإنه لا يوجد في غير هذا الكتاب بهذا اللفظ لا عند الواقدي ولا غيره وقد ذكر البخاري في بنيان الكعبة هذا الخبر، فقال فيه عن يزيد بن رومان: فنظرت إليها، فإذا هي كأسنمة الإبل وتشبيهها بالأسنة لا يشبه إلا في الزرقة وتشبيهها بأسنمة الإبل أولى، لعظمها، ولما تقدم في حديث بنيان الملائكة لها قبل هذا
    ـــــــ
    1 عند أبي ذر الخشني في تفسير تشبيهها بالأسنمة: أراد أن الحجارة دخل بعضها في بعض كما تدخل السنام بعضها في بعض، ومن رواه كالأسنة فهو جمع سنان ويعني الرمح شبهها بالأسنة في الخضرة.
    (2/183)
    فلما أن خشينا الرجز. جاءت ... عقاب تتلئب لها انصباب1
    فضمتها إليها، ثم خلت ... لنا البنيان ليس له حجاب
    فقمنا حاشدين إلى بناء ... لنا منه القواعد والتراب
    غداة نرفع التأسيس منه ... وليس على مسوينا ثياب
    أعز به المليك بني لؤي ... فليس لأصله منهم ذهاب
    وقد حشدت هناك بنو عدي ... ومرة قد تقدمها كلاب
    فبوأنا المليك بذاك عزا ... وعند الله يلتمس الثواب
    قال ابن هشام: ويروى:
    وليس على مساوينا ثياب
    ارتفاع الكعبة وأول من كساها الديباج:
    وكانت الكعبة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثماني عشرة ذراعا، وكانت تكسى القباطي ثم كسيت البرود.
    وأول من كساها الديباج الحجاج بن يوسف.
    __________
    شعر الزبير بن عبد المطلب:
    فصل: وذكر شعر الزبير بن عبد المطلب: عجبت لما تصوبت العقاب. إلى قوله تتلئب لها انصباب. قوله تتلئب، يقال اتلأب على طريقه إذا لم يعرج يمنة2 ولا يسرة وكأنه منحوت من أصلين كما تقدم في مثل هذا من تلا: إذا تبع، وألب إذا أقام وأب أيضا قريب من هذا المعنى. يقال أب إبابة - من كتاب العين - إذا استقام وتهيأ فكأنه مقيم مستمر على ما يتلوه ويتبعه مما هو بسبيله والاسم من اتلأب التلأبيبة على وزن الطمأنينة والقشعريرة قاله أبو عبيد.
    وقوله وليس على مسوينا ثياب. أي مسوي البنيان. وهو في معنى الحديث الصحيح في نقلانهم الحجارة إلى الكعبة أنهم كانوا ينقلونها عراة ويرون ذلك دينا،
    ـــــــ
    1 الرجز: العذاب، ويروى: الزجر وهو المنع، تتلئب: تتابع في انقضاضها.
    2 في "القاموس": استقام وانتصب.
    (2/184)
    ـــــــ
    وأنه من باب التشمير والجد في الطاعة. وقول ابن هشام: ويروى: مساوينا، يريد السوآت فهو جمع مساءة مفعلة من السوءة والأصل مساوئ فسهلت الهمزة.
    (2/185)
    حديث الحمس
    ...
    حديث الحمس:
    الحمس عند قريش:
    قال ابن إسحاق: وقد كانت قريش - لا أدري أقبل عام الفيل أم بعده - ابتدعت رأي الحمس رأيا رأوه وأداروه فقالوا: نحن بنو إبراهيم وأهل الحرمة وولاة البيت، وقطان مكة وساكنها، فليس لأحد من العرب مثل حقنا، ولا مثل منزلتنا، ولا تعرف له العرب مثل ما تعرف لنا، فلا تعظموا شيئا من الحل كما تعظمون الحرم، فإنكم إن فعلتم ذلك استخفت العرب بحرمتكم وقالوا: قد عظموا من الحل مثل ما عظموا من الحرم. فتركوا الوقوف على عرفة والإفاضة منها، وهم يعرفون ويقرون أنها من المشاعر والحج ودين إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - ويرون لسائر العرب أن يفيضوا منها، إلا أنهم قالوا: نحن أهل الحرم، فليس ينبغي لنا أن نخرج من الحرمة ولا نعظم غيرها، كما نعظمها نحن الحمس والحمس أهل الحرم، ثم جعلوا لمن ولدوا من العرب من ساكن الحل والحرم مثل الذي لهم بولادتهم إياهم يحل لهم ما يحل لهم ويحرم عليهم ما يحرم عليهم.
    القبائل التي دانت مع قريش بالحمس:
    وكانت كنانة وخزاعة قد دخلوا معهم في ذلك.
    ـــــــ
    الحمس:
    فصل: وذكر الحمس وما ابتدعته قريش في ذلك والتحمس التشدد وكانوا قد ذهبوا في ذلك مذهب التزهد والتأله1 فكانت نساؤهم لا ينسجن الشعر ولا الوبر وكانوا لا يسلئون السمن وسلأ السمن أن يطبخ الزبد حتى يصير سمنا
    ـــــــ
    1 في "البداية" أنهم لقبوا بهذا من الشدة ف بالدين والصلابة .
    (2/185)
    قال ابن هشام: وحدثني أبو عبيدة النحوي: أن بني عامر بن صعصعة معاوية بن بكر بن هوازن دخلوا معهم في ذلك وأنشدني لعمرو بن معدي كرب:
    أعباس لو كانت شيارا جيادنا ... بتثليث ما ناصبت بعدي الأحامسا
    قال ابن هشام: تثليث: موضع من بلادهم. والشيار: السمان الحسان. يعني بالأحامس بني عامر بن صعصعة. وبعباس عباس بن مرداس السلمي وكان أغار على بني زبيد بتثليث. وهذا البيت في قصيدة لعمرو.
    وأنشدني للقيط بن زرارة الدارمي في يوم جبلة:
    أجذم إليك إنها بنو عبس ... المعشر الجلة في القوم الحمس
    لأن بني عبس كانوا يوم جبلة حلفاء في بني عامر بن صعصعة.
    ـــــــ
    قال أبرهة:
    إن لنا صرمة مخيسة ... نشرب ألبانها ونسلؤها1
    ذكر قول ابن معدي يكرب:
    أعباس لو كانت شيارا جيادنا.
    البيت: شيارا من الشارة الحسنة يعني: سمانا حسانا وبعد البيت:
    ولكنها قيدت بصعدة مرة ... فأصبحن ما يمشين إلا تكارسا2
    وأنشد أيضا:
    أجذم إليك إنها بنو عبس
    أجذم: زجر معروف للخيل وكذلك أرحب وهب وهقط وهقط وهقب3.
    ـــــــ
    1 صرمة: الإبل، مخيسة : لم تسرح، وإنما حبست للنحر أو للقسم.
    2 تكادس الشيء: تراكم وتلازب.
    3 هقط: تكرار من الطبع.
    (2/186)
    يوم جبلة:
    ويوم جبلة: يوم كان بين بني حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، وبين بني عامر بن صعصعة فكان الظفر فيه لبني عامر بن صعصعة على بني حنظلة وقتل يومئذ لقيط بن زرارة بن عدس وأسر حاجب بن زرارة بن عدس وانهزم عمرو بن عمرو بن عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم بن مالك بن حنظلة. ففيه يقول جرير للفرزدق:
    كأنك لم تشهد لقيطا وحاجبا ... وعمر بن عمرو إذ دعوا: يا لدارم
    وهذا البيت في قصيدة له.
    يوم ذي نجيب:
    ثم التقوا يوم ذي نجب1 فكان الظفر لحنظلة على بني عامر وقتل يومئذ حسان بن معاوية الكندي، وهو أبو كبشة. وأسر يزيد بن الصعق الكلابي وانهزم الطفيل بن مالك بن جعفر بن كلاب، أبو عامر بن الطفيل.
    ففيه يقول الفرزدق2:
    ومنهن إذ نجى طفيل بن مالك ... على قرزل رجلا ركوض الهزائم
    ـــــــ
    يوم جبلة:
    وذكر يوم جبلة. وجبلة هضبة عالية كانوا قد أحرزوا فيها عيالهم وأموالهم وكان معهم في ذلك اليوم رئيس نجران، وهو ابن الجون الكندي وأخ للنعمان بن المنذر أحسب اسمه حسان بن وبرة وهو أخو النعمان لأمه وفي أيام جبلة كان مولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولثنتين وأربعين سنة من ملك أنوشروان بن قباذ وكان مولد أبيه عبد الله لأربع وعشرين مضت من ملك أنوشروان المذكور فبينه - عليه السلام - وبين أبيه عبد الله نحو من ثمان عشرة سنة.
    ـــــــ
    1 ذو نجب "محركة": واد قرب ما وان.
    2 نسب هذا الشعر في "معجم البلدان" عند الكلام على ذي نجب لسحيم بن وثيل الرياحي.
    (2/187)
    ونحن ضربنا هامة ابن خويلد ... يزيد على أم الفراخ الجواثم
    وهذان البيتان في قصيدة له.
    فقال جرير:
    ونحن خضبنا لابن كبشة تاجه ... ولاقى امرئ في ضمة الخيل مصقعا1
    وهذا البيت في قصيدة له.
    وحديث يوم جبلة، ويوم ذي نجب أطول مما ذكرنا. وإنما منعني من استقصائه ما ذكرت في حديث يوم الفجار.
    ما زادته العرب في الحمس:
    قال ابن إسحاق: ثم ابتدعوا في ذلك أمورا لم تكن لهم حتى قالوا: لا ينبغي للحمس أن يأتقطوا الأقط2 ولا يسلئوا3 السمن وهم حرم ولا يدخلوا بيتا من شعر ولا يستظلوا - إن استظلوا - إلا في بيوت الأدم ما كانوا حرما، ثم رفعوا في ذلك فقالوا: لا ينبغي لأهل الحل أن يأكلوا من طعام جاءوا به معهم من الحل إلى الحرم إذا جاءوا حجاجا أو عمارا، ولا يطوفوا بالبيت إذا قدموا أول طوافهم إلا في
    ـــــــ
    عدس والحلة والطلس:
    وذكر زرارة بن عدس بن زيد وهو عدس بضم الدال عند جميعهم إلا أبا عبيدة فإنه كان يفتح الدال منه وكل عدس في العرب سواه فإنه مفتوح الدال. وذكر الحلة وهم ما عدا الحمس وأنهم كانوا يطوفون عراة إن لم يجدوا ثياب أحمس وكانوا يقصدون في ذلك طرح الثياب التي اقترفوا فيها الذنوب عنهم ولم
    ـــــــ
    1 المصقع هنا: مأخوذ من قولهم صقعه: إذا ضربه على شيء مصمت.
    2 الأقط: شيء يتخذ من المخيض الغنمي، وجمعه أقطان، وأقط الطعام: عمله به.
    3 سلأت السمن واستلأته: إذا طبخ وعولج، والاسم: السلاء.
    (2/188)
    ثياب الحمس. فإن لم يجدوا منها شيئا طافوا بالبيت عراة فإن تكرم منكم متكرم من رجل أو امرأة ولم يجد ثياب الحمس. فطاف في ثيابه التي جاء بها من الحل ألقاها إذا فرغ من طوافه ثم لم ينتفع بها، ولم يمسها هو ولا أحد غيره أبدا.
    اللقى عن الحمس وشعر فيه:
    فكانت العرب تسمي تلك الثياب اللقى، فحملوا على ذلك العرب. فدانت به ووقفوا على عرفات، وأفاضوا منها، وطافوا بالبيت عراة أما الرجال فيطوفون عراة. وأما النساء فتضع إحداهن ثيابها كلها إلا درعا مفرجا1 عليها، ثم تطوف فيه فقالت امرأة من العرب، وهي كذلك تطوف البيت:
    اليوم يبدو بعضه أو كله ... وما بدا منه فلا أحله
    ـــــــ
    يذكر الطلس من العرب، وهم صنف ثالث غير الحلة، والحمس كانوا يأتون من أقصى اليمن طلسا من الغبار فيطوفون بالبيت في تلك الثياب الطلس فسموا بذلك. ذكره محمد بن حبيب.
    اللقى:
    فصل: وذكر اللقى وهو الثوب الذي كان يطرح بعد الطواف فلا يأخذه أحد، وأنشد:
    كفى حزنا كري عليه كأنه ... لقى بين أيدي الطائفين حريم
    حريم: أي محرم لا يؤخذ ولا ينتفع به وكل شيء مطرح، فهو لقى قال الشاعر يصف فرخ قطا:
    ـــــــ
    1 المفرج: المشقوق من قدام أو خلف.
    (2/189)
    ومن طاف منهم في ثيابه التي جاء فيها من الحل ألقاها، فلم ينتفع بها هو ولا غيره فقال قائل من العرب يذكر شيئا تركه من ثيابه فلا يقربه - وهو يحبه -:
    كفى حزنا كري عليها كأنها ... لقى بين أيدي الطائفين حريم1
    يقول: لا تمس.
    ـــــــ
    تروي لقى ألقي في صفصف ... تصهره الشمس فما ينصهر
    تروى بفتح التاء أي تستقي له ومن اللقى: حديث فاختة أم حكيم بن حزام، وكانت دخلت الكعبة وهي حامل متم بحكيم بن حزام فأجاءها المخاض فلم تستطع الخروج من الكعبة، فوضعته فيها، فلفت في الأنطاع هي وجنينها، وطرح مثبرها2 وثيابها التي كانت عليها، فجعلت لقى لا تقرب.
    رجز المرأة الطائفة:
    فصل: وذكر قول المرأة:
    اليوم يبدو بعضه أو كله
    البيتين ويذكر أن هذه المرأة هي ضباعة بنت عامر بن صعصعة ثم من بني سلمة بن قشير، وذكر محمد بن حبيب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبها، فذكرت له عنها كبرة فتركها، فقيل إنها ماتت كمدا وحزنا على ذلك قال المؤلف إن كان صح هذا، فما أخرها عن أن تكون أما للمؤمنين وزوجا لرسول رب العالمين إلا قولها:
    اليوم يبدو بعضه أو كله. تكرمة من الله لنبيه وعلما منه بغيرته والله أغير منه.
    أسطورة:
    ومما ذكر من تعريهم في الطواف أن رجلا وامرأة طافا كذلك فانضم الرجل
    ـــــــ
    1 البيت لابن الأحمر، والصفصف: المستوى من الأرض.
    2 الموضع تلد في المرأة
    (2/190)
    حكم الإسلام في الطواف، وإبطال عادات الحمس فيه:
    فكانوا كذلك حتى بعث الله تعالى محمدا - صلى الله عليه وسلم - فأنزل عليه حين أحكم له دينه. وشرع له سنن حجه: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 199]. يعني قريشا، والناس العرب، فرفعهم في سنة الحج إلى عرفات، والوقوف عليها والإفاضة منها.
    ـــــــ
    إلى المرأة تلذذا واستمتاعا، فلصق عضده بعضدها، ففزعا عند ذلك وخرجا من المسجد وهما ملتصقان ولم يقدر أحد على فك عضده من عضدها، حتى قال لهما قائل توبا مما كان في ضميركما، وأخلصا لله التوبة ففعلا، فانحل أحدهما من الآخر1.
    قرزل وطفيل:
    وأنشد للفرزدق:
    ومنهن إذ نجى طفيل بن مالك ... على قرزل رجلا ركوض الهزائم
    قرزل: اسم فرسه وكان طفيل يسمى: فارس قرزل وقرزل القيد سمى الفرس به كأنه يقيد ما يسابقه كما قال امرؤ القيس:
    بمنجرد قيد الأوابد هيكل
    وطفيل هذا هو: والد عامر بن الطفيل، عدو الله وعدو رسوله وأخو طفيل هذا: عامر ملاعب الأسنة وسنذكر لم سمي ملاعبا، ونذكر إخوته وألقابهم في الكتاب إن شاء الله.
    الهامة:
    وقوله: على أم الفراخ الجواثم. يعني: الهامة وهي البوم وكانوا يعتقدون
    ـــــــ
    1 هي أسطورة تروى
    (2/191)
    وأنزل الله عليه فيما كانوا حرموا على الناس من طعامهم ولبوسهم عند البيت. حين طافوا عراة وحرموا ما جاءوا به من الحل من الطعام {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف 31 - 33]. فوضع الله تعالى أمر الحمس وما كانت قريش ابتدعت منه عن الناس بالإسلام حين بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم.
    قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عثمان بن أبي سليمان بن جبير بن مطعم، عن عمه نافع بن جبير عن أبيه جبير بن مطعم. قال لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن ينزل عليه الوحي وإنه لواقف على بعير له بعرفات مع الناس من بين قومه حتى يدفع معهم توفيقا من الله له صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا.
    __________
    أن الرجل إذا قتل خرجت من رأسه هامة تصيح اسقوني اسقوني، حتى يؤخذ بثأره. قال ذو الإصبع العدواني:
    أضربك حتى تقول الهامة اسقوني1
    شرح بيت جرير:
    فصل:وأنشد جرير:
    ونحن خضبنا لابن كبشة تاجه ... ولاقى امرئ في ضمة الخيل مصقعا
    وجدت في حاشية الشيخ أبي بحر هذا البيت المعروف في اللغة أن - المصقع الخطيب البليغ وليس هذا موضعه لكن يقال في اللغة: صقعه: إذا
    ـــــــ
    1 البيت من عيون قصائده، والشطرة الأولى منه:
    يا عمرو إلا تدع شتمي ومنقصتي
    (2/192)
    .................................................. ..............................................
    ـــــــ
    ضربه على شيء مصمت يابس قاله الأصمعي، فيشبه أن يكون مصقع في هذا البيت من هذا المعنى، فيقال منه رجل مصقع كما يقال محرب وفي الحديث إن سعدا لمحرب1 يعني [ابن] أبي وقاص.
    ما نزل من القرآن في أمر الحمس:
    فصل: وذكر ما أنزل الله تعالى في أمر الحمس وهو قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} الآية [الأعراف: 30] فقوله وكلوا واشربوا إشارة إلى ما كانت الحمس حرمته من طعام الحج إلا طعام أحمس وخذوا زينتكم يعني اللباس ولا تتعروا، ولذلك افتتح بقوله يا بني آدم بعد أن قص خبر آدم وزوجه إذ يخصفان عليهما من ورق الجنة أي إن كنتم تحتجون بأنه دين آبائكم فآدم أبوكم ودينه ستر العورة كما قال ملة أبيكم إبراهيم أي إن كانت عبادة الأصنام دين آبائكم فإبراهيم أبوكم ولم يكن من المشركين ومما نزل في ذلك {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35]. ففي التفسير أنهم كانوا يطوفون عراة ويصفقون بأيديهم ويصفرون فالمكاء الصفير والتصدية التصفيق. قال الراجز:
    وأنا من غرو الهوى أصدي.
    ومما نزل من أمر الحمس:
    {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} [البقرة: 189].
    لأن الحمس لا يدخلون تحت سقف ولا يحول بينهم وبين السماء عتبة باب
    ـــــــ
    1 تتشابه ألفاظه هنا وفي "شرح السيرة" للخشني: يقال: رجل حرب، ومحرب –بوزن منبر- ومجراب: شديد الحرب شجاع.
    (2/193)
    ـــــــ
    ولا غيرها، فإن احتاج أحدهم إلى حاجة في داره تسنم البيت من ظهره ولم يدخل من الباب فقال الله سبحانه {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 1 [البقرة: 189].
    وقوف النبي بعرفة قبل الهجرة والنبوة:
    وذكر وقوف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة مع الناس قبل الهجرة وقبل النبوة توفيقا من الله حتى لا يفوته ثواب الحج والوقوف بعرفة قال جبير بن مطعم حين رآه واقفا بعرفة مع الناس هذا رجل أحمس فما باله لا يقف مع الحمس حيث يقفون؟!
    (2/194)
    إخبار الكهان من العرب والأحبار من يهود والرهبان من النصارى
    ...
    أخبار الكهان من العرب والأحبار من يهود والرهبان من النصارى:
    معرفة الكهان والأحبار والرهبان بمبعثه صلى الله عليه وسلم:
    قال ابن إسحاق: وكانت الأحبار من اليهود، والرهبان من النصارى، والكهان من العرب، قد تحدثوا بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل مبعثه لما تقارب من زمانه. أما الأحبار من يهود والرهبان من النصارى. فعما وجدوا في كتبهم من صفته وصفة زمانه وما كان من عهد أنبيائهم إليهم فيه وأما الكهان من العرب: فأتتهم به الشياطين من الجن
    ـــــــ
    فصل في الكهانة:
    روي في مأثور الأخبار أن إبليس كان يخترق السموات قبل عيسى، فلما بعث عيسى، أو ولد حجب عن ثلاث سموات فلما ولد محمد حجب عنها كلها، وقذفت الشياطين بالنجوم وقالت قريش حين كثر القذف بالنجوم قامت الساعة فقال عتبة بن
    ـــــــ
    1 ذكر البخاري عن البراء: "كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره فأنزل الله: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} [البقرة:189]
    (2/194)
    فيما تسترق من السمع إذ كانت وهي لا تحجب عن ذلك بالقذف بالنجوم وكان الكاهن والكاهنة لا يزال يقع منهما ذكر بعض أموره لا تلقي العرب لذلك فيه بالا، حتى بعثه الله تعالى، ووقعت تلك الأمور التي كانوا يذكرون. فعرفوها.
    قذف الجن بالشهب، وآية ذلك على مبعثه صلى الله عليه وسلم:
    فلما تقارب أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحضر مبعثه. حجبت الشياطين عن السمع وحيل بينها وبين المقاعد التي كانت تقعد لاستراق السمع فيها، فرموا بالنجوم فعرفت الجن أن ذلك لأمر حدث من أمر الله في العباد يقول الله تبارك وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم حين بعثه وهو يقص عليه خبر الجن إذ حجبوا عن السمع فعرفوا ما عرفوا، وما أنكروا من ذلك حين رأوا ما رأوا: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ
    ـــــــ
    ربيعة: انظروا إلى العيوق1 فإن كان رمي به فقد آن قيام الساعة وإلا فلا. وممن ذكر هذا الخبر الزبير بن أبي بكر.
    رمي الشياطين:
    وذكر ابن إسحاق في هذا الباب ما رميت به الشياطين حين ظهر القذف بالنجوم لئلا يلتبس بالوحي وليكون ذلك أظهر للحجة وأقطع للشبهة والذى قاله صحيح ولكن القذف بالنجوم قد كان قديما، وذلك موجود في أشعار القدماء من الجاهلية. منهم عوف بن أجرع وأوس بن حجر وبشر بن أبي حازم وكلهم جاهلي، وقد وصفوا الرمي بالنجوم وأبياتهم في ذلك مذكورة في مشكل ابن قتيبة في تفسير سورة الجن2، وذكر عبد الرزاق في تفسيره عن معمر عن ابن شهاب أنه
    ـــــــ
    1 نجم أحمر مضيء في طرف الجرة الأيمن يتلو الثريا لا يتقدمها.
    2 انظر كتاب "القرطين" 2/184. وفي هذا يقول ابن قتيبة: وفي أيدي الناس كتب الأعاجم وسيرهم تنبئ عن انقضاض النجوم في كل عصر وكل زمان.
    (2/195)
    شَطَطاً وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [الجن : 1 – 6] إلى قوله {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} [الجن: 9، 10].
    ـــــــ
    سئل عن هذا الرمي بالنجوم أكان في الجاهلية؟ قال نعم ولكنه إذ جاء الإسلام غلظ وشدد وفي قول الله سبحانه {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً} [الجن: 8] الآية ولم يقل حرست دليل على أنه قد كان منه شيء فلما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - ملئت حرسا شديدا وشهبا، وذلك لينحسم أمر الشياطين وتخليطهم ولتكون الآية أبين والحجة أقطع وإن وجد اليوم كاهن فلا يدفع ذلك بما أخبر الله به من طرد الشياطين عن استراق السمع فإن ذلك التغليظ والتشديد كان زمن النبوة ثم بقيت منه أعني من استراق السمع بقايا يسيرة بدليل وجودهم على الندور في بعض الأزمنة وفي بعض البلاد. "وقد سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الكهان فقال ليسوا بشيء فقيل إنهم يتكلمون بالكلمة فتكون كما قالوا، فقال تلك الكلمة من الجن يحفظها الجني، فيقرها في أذن وليه قر الزجاجة فيخلط فيها أكثر من مائة كذبة"، ويروى: قر الدجاجة1 بالدال وعلى هذه الرواية تكلم قاسم بن ثابت في الدلائل. والزجاجة بالزاي أولى ; لما ثبت في الصحيح فيقرها في أذن وليه كما تقر القارورة ومعنى يقرها: يصبها ويفرغها، قال الراجز:
    لا تفرغن في أذني قرها ... ما يستفز فأريك فقرها
    وفي "تفسير" ابن سلام عن ابن عباس، قال إذا رمى الشهاب الجني لم يخطئه ويحرق ما أصاب ولا يقتله وعن الحسن قال في أسرع من طرفة العين وفي تفسير ابن سلام أيضا عن أبي قتادة أنه كان مع قوم فرمي بنجم فقال لا تتبعوه أبصاركم وفيه أيضا عن حفص أنه سأل الحسن أيتبع بصره الكوكب،
    ـــــــ
    1 وفي رواية: قز الزجاج بالزاء, أي: بصوتها إذا صب فيها الماء.
    (2/196)
    فلما سمعت الجن القرآن عرفت أنها إنما منعت من السمع قبل ذلك لئلا يشكل الوحي بشيء خبر السماء فيلتبس على أهل الأرض ما جاءهم من الله فيه لوقوع الحجة وقطع الشبهة. فآمنوا وصدقوا، ثم {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ... [الأحقاف: 29، 30] الآية.
    وكان قول الجن: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} . [الجن: 6] أنه كان الرجل من العرب من قريش وغيرهم إذا سافر فنزل بطن واد من الأرض ليبيت فيه قال إني أعوذ بعزيز هذا الوادي من الجن الليلة من شر ما فيه.
    ـــــــ
    فقال: قال سبحانه: {وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ } [الملك: 5]. وقال {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 185]. قال كيف نعلم إذا لم ننظر إليه لأتبعنه بصري.
    الجن الذين ذكرهم القرآن:
    وذكر النفر من الجن الذين نزل فيهم القرآن والذين {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} [الأحقاف: 29،30]. وفي الحديث أنهم كانوا من جن نصيبين1. وفي التفسير أنهم كانوا يهودا ; ولذلك قالوا: من بعد موسى، ولم يقولوا من بعد عيسى ذكره ابن سلام2. وكانوا سبعة قد ذكروا بأسمائهم في التفاسير والمسندات وهم شاصر وماصر ومنشى، ولاشى، والأحقاب وهؤلاء الخمسة ذكرهم ابن دريد ووجدت في خبر حدثني به أبو بكر بن طاهر الإشبيلي القيسي عن أبي علي الغساني في فضل عمر بن عبد
    ـــــــ
    1 مدينو عامرة من بلاد الجزيرة على جادة القوافل من الموصل إلى الشام, وقبل غير ذلك.
    2 الذي ينقله عن ابن سلام, تهويمة خيال.
    (2/197)
    قال ابن هشام: الرهق الطغيان والسفه. قال رؤبة بن العجاج:
    إذ تستبي الهيامة المرهقا
    وهذا البيت في أرجوزة له. والرهق أيضا: طلبك الشيء حتى تدنو منه فتأخذه أو لا تأخذه. قال رؤبة بن العجاج يصف حمير وحش:
    بصبصن واقشعررن من خوف الرهق
    وهذا البيت في أرجوزة له. والرهق أيضا: مصدر لقول الرجل رهقت الإثم أو العسر الذي أرهقتني رهقا شديدا، أي حملت الإثم أو العسر الذي حملتني
    ـــــــ
    العزيز قال: "بينما عمر بن عبد العزيز يمشي في أرض فلاة فإذا حية ميتة فكفنها بفضلة من ردائه ودفنها فإذا قائل يقول يا سرق اشهد لسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لك: "ستموت بأرض فلاة فيكفنك ويدفنك رجل صالح" , فقال من أنت - يرحمك الله - فقال رجل من الجن الذين تسمعوا القرآن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يبق منهم إلا أنا وسرق وهذا سرق قد مات. وذكر ابن سلام من طريق أبي إسحاق [عمرو بن عبد الله بن علي] السبيعي عن أشياخه عن ابن مسعود أنه كان في نفر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمشون فرفع لهم إعصار ثم جاء إعصار أعظم منه ثم انقشع فإذا حية قتيل فعمد رجل منا إلى ردائه فشقه وكفن الحية ببعضه ودفنها. فلما جن الليل إذا امرأتان تتساءلان أيكم دفن عمرو بن جابر؟ فقلنا: ما ندري من عمرو بن جابر؟ فقالتا: إن كنتم ابتغيتم الأجر فقد وجدتموه. إن فسقة الجن اقتتلوا مع المؤمنين منهم فقتل عمرو، وهو الحية التي رأيتم وهو من النفر الذين استمعوا القرآن من محمد - صلى الله عليه وسلم - ثم ولوا إلى قومهم منذرين!!
    ابن علاط والجن:
    فصل وأما ما ذكره في معنى قوله سبحانه: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ} الآية [الجن: 6]. فقد روي في معنى ذلك عن حجاج بن علاط السلمي وهو والد نصر بن حجاج الذي قيل فيه:
    (2/198)
    حملا شديدا، وفي كتاب الله تعالى: {فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً} [الكهف: 80] وقوله {وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً} [الكهف: 73].
    فزع ثقيف من رمي الجن بالنجوم، وسؤالهم عمرو بن أمية:
    قال ابن إسحاق: وحدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس أنه حدث أن أول العرب فزع للرمي بالنجوم - حين رمي بها - هذا الحي من ثقيف، وأنهم جاءوا إلى رجل منهم يقال له عمرو بن أمية أحد بني علاج - قال وكان أدهى العرب وأنكرها رأيا - فقالوا له يا عمرو: ألم تر ما حدث في السماء من القذف بهذه النجوم؟ قال بلى فانظروا، فإن كانت معالم النجوم التي يهتدى بها في البر والبحر وتعرف بها الأنواء من الصيف والشتاء لما يصلح الناس في معايشهم هي التي يرمى بها، فهو والله طي الدنيا، وهلاك هذا الخلق الذي فيها، وإن كانت نجوما غيرها، وهي ثابتة على حالها، فهذا لأمر أراد الله به هذا الخلق فما هو؟.
    حديثه صلى الله عليه وسلم مع الأنصار في رمي الجن بالنجوم:
    وقال ابن إسحاق: وذكر محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن علي بن
    ـــــــ
    أم لا سبيل إلى نصر بن حجاج1
    أنه قدم مكة في ركب فأجنهم الليل بواد مخوف موحش فقال له الركب قم خذ لنفسك أمانا، ولأصحابك، فجعل يطوف بالركب ويقول:
    أعيذ نفسي وأعيذ صحبي
    من كل جني بهذا النقب
    حتى أءوب سالما وركبي
    فسمع قارئا: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ
    ـــــــ
    1 ذكره البغدادي في "الخزاتة": وحكى السهيلي في: "الروضة الأنف" هذه الحكاية على خلاف ما تقدم قال: الحجاج بن علاظ: وهو والد نصر الذي حلق عمر رأسه فنفاه من المدينة, فأتى الشام.
    (2/199)
    الحسين بن علي بن أبي طالب، عن عبد الله بن العباس عن نفر من الأنصار: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم "ماذا كنتم تقولون في هذا النجم الذي يرمى به؟ قالوا: يا نبي الله كنا نقول حين رأيناها يرمى بها: مات ملك ملك ملك ولد مولود مات مولود فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ليس ذلك كذلك ولكن الله تبارك وتعالى كان إذا قضى في خلقه أمرا سمعه حملة العرش فسبحوا، فسبح من تحتهم فسبح لتسبيحهم من تحت ذلك فلا يزال التسبيح يهبط حتى ينتهي إلى السماء الدنيا، فيسبحوا ثم يقول بعضهم لبعض مم سبحتم؟ فيقولون سبح من فوقنا فسبحنا لتسبيحهم فيقولون ألا تسألون من فوقكم مم سبحوا؟ فيقولون مثل ذلك حتى ينتهوا إلى حملة العرش فيقال لهم مم سبحتم؟ فيقولون قضى الله في خلقه كذا وكذا، للأمر الذي كان فيهبط به الخبر من سماء إلى سماء حتى ينتهي إلى السماء الدنيا، فيتحدثوا به فتسترقه الشياطين بالسمع على توهم واختلاف ثم يأتوا به الكهان من أهل الأرض فيحدثوهم به فيخطئون ويصيبون فيتحدث به الكهان فيصيبون بعضا ويخطئون بعضا. ثم إن الله عز وجل حجب الشياطين بهذه النجوم التي يقذفون بها، فانقطعت الكهانة اليوم فلا كهانة".
    ـــــــ
    السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} الآية [الرحمن: 33]. فلما قدم مكة خبر كفار قريش بما سمع فقالوا: أصبت1 يا أبا كلاب. إن هذا يزعم محمد أنه أنزل عليه فقال والله لقد سمعته وسمعه هؤلاء معي، ثم أسلم وحسن إسلامه وهاجر إلى المدينة ، وابتنى بها مسجدا فهو يعرف به2.
    حول انقطاع الكهانة:
    فصل: وذكر ابن إسحاق حديث ابن عباس وفيه كنا نقول إذا رأيناه: يموت
    ـــــــ
    1 روى البلوي نفس القصة وفيها: "صبأت" بدلا من أصبت وهو الأصح.
    2 ما ذكره هنا لا سند له. وما ورد من أحاديث عن استماع الجن ذكرها البيهقي في "الدلائل".
    (2/200)
    .................................................. .............................................
    ـــــــ
    عظيم أو يولد عظيم" وفي هذا دليل على ما قدمناه من أن القذف بالنجوم كان قديما، ولكنه إذ بعث الرسول عليه السلام وغلظ وشدد - كما قال الزهري - وملئت السماء حرسا. وقوله في آخر الحديث "وقد انقطعت الكهانة اليوم فلا كهانة" يدل قوله "اليوم" على تخصيص ذلك الزمان كما قدمناه والذي انقطع اليوم وإلى يوم القيامة أن تدرك الشياطين ما كانت تدركه في الجاهلية الجهلاء وعند تمكنها من سماع أخبار السماء وما يوجد اليوم من كلام الجن على ألسنة المجانين إنما هو خبر منهم عما يرونه في الأرض مما لا نراه نحن كسرقة سارق أو خبيئته في مكان خفي1 أو نحو ذلك وإن أخبروا بما سيكون كان تخرصا وتظنيا، فيصيبون قليلا، ويخطئون كثيرا.
    وذلك القليل الذي يصيبون هو مما يتكلم به الملائكة في العنان كما في حديث البخاري، فيطردون بالنجوم فيضيفون إلى الكلمة الواحدة أكثر من مائة كذبة - كما قال عليه السلام - في الحديث الذي قدمناه فإن قلت: فقد كان صاف بن صياد وكان يتكهن ويدعي النبوة وخبأ له النبي - صلى الله عليه وسلم - خبيئا، فعلمه وهو الدخ2 فأين انقطاع الكهانة في ذلك الزمان؟ قلنا: عن هذا جوابان أحدهما ذكره الخطابي في أعلام الحديث قال الدخ نبات يكون من النخيل، وخبأ له عليه السلام {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 10]، فعلى هذا لم يصب ابن صياد ما خبأ له النبي - صلى الله عليه وسلم -.
    الثاني: أن شيطانه كان يأتيه بما خفي من أخبار الأرض ولا يأتيه بخبر السماء
    ـــــــ
    1 هذا إفك يفتريه الدجاجلة, ولا بأس نذكر بقوله تعالى: {فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سبأ:14] فلنتدبر هذه الآية المحكمة وعندها نؤمن بأن الجن لا يعرفون غيبا كما بين الله تعالى.
    2 بضم الدال وفتحها: الدخان, يقول ابن الأثير في "النهاية": وفسر في الحديث أنه أراد بذلك {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 10] وقيل إن الدجال يقتله عيسى عليه السلام بجبل الدخان
    (2/201)
    قال ابن إسحاق: وحدثني عمرو بن أبي جعفر عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي لبيبة عن علي بن الحسين بن علي رضي الله عنه بمثل حديث ابن شهاب عنه.
    الغيطلة وما حدثت به بني سهم:
    قال ابن إسحاق: وحدثني بعض أهل العلم أن امرأة من بني سهم يقال لها الغيطلة، كانت كاهنة في الجاهلية فلما جاءها صاحبها في ليلة من الليالي، فأنقض تحتها، ثم
    ـــــــ
    لمكان القذف والرجم فإن كان أراد بالدخ الدخان بقوة جعلت لهم في أسماعهم ليست لنا، فألقى الكلمة عن لسان صاف وحدها، إذ لم يمكن سماع سائر الآية ولذلك قال له النبي - عليه السلام – "اخسأ فلن تعدو قدر الله فيك" أي فلن تعدو منزلتك من العجز عن علم الغيب وإنما الذي يمكن في حقه هذا القدر دون مزيد عليه على هذا النحو فسره الخطابي.
    الغيطلة الكاهنة وكهانتها:
    فصل: وذكر حديث الغيطلة الكاهنة قال وهي من بني مرة بن عبد مناة بن كنانة أخي مدلج وهي أم الغياطل الذي ذكر أبو طالب وسنذكر معنى الغيطلة عند شعر أبي طالب إن شاء الله. ونذكرها هاهنا ما ألفيته في حاشية كتاب الشيخ أبي بحر في هذا الموضع. قال الغيطلة بنت مالك بن الحارث بن عمرو بن الصعق بن شنوق بن مرة وشنوق أخو مدلج وهكذا ذكر نسبها الزبير.
    وذكر قولها: شعوب وما شعوب تصرع فيها كعب لجنوب. كعب هاهنا هو كعب بن لؤي، والذين صرعوا لجنوبهم ببدر وأحد من أشراف قريش، معظمهم من كعب بن لؤي، وشعوب هاهنا أحسبه بضم الشين ولم أجده مقيدا، وكأنه جمع شعب وقول ابن إسحاق يدل على هذا حين قال فلم يدر ما قالت حتى قتل من قتل ببدر وأحد بالشعب1.
    ـــــــ
    1 ومن رواه بفتح الشين فهو اسم للمنية لا يصرف انظر "شرح السيرة" للخشني ص 68.
    (2/202)
    قال أدر ما أدر يوم عقر ونحر فقالت قريش حين بلغها ذلك ما يريد؟ ثم جاءها ليلة أخرى، فأنقض تحتها، ثم قال شعوب ما شعوب تصرع فيه كعب لجنوب فلما بلغ ذلك قريشا، قالوا: ماذا يريد؟ إن هذا لأمر هو كائن فانظروا ما هو؟ فما عرفوه حتى كانت وقعة بدر وأحد بالشعب فعرفوا أنه الذي كان جاء إلى صاحبته.
    نسب الغليطة:
    قال ابن هشام: الغيطلة من بني مرة بن عبد مناة بن كنانة إخوة مدلج بن مرة وهي أم الغياطل الذين ذكر أبو طالب في قوله:
    لقد سفهت أحلام قوم تبدلوا ... بني خلف قيضا بنا والغياطل
    فقيل لولدها: الغياطل، وهم من بني سهم بن عمرو بن هصيص. وهذا البيت في قصيدة له سأذكرها في موضعها إن شاء الله تعالى.
    حديث كاهن جنب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
    قال ابن إسحاق: وحدثني علي بن نافع الجرشي"أن جنبا بطن من اليمن، كان لهم كاهن في الجاهلية فلما ذكر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتشر في العرب، قالت له جنب انظر لنا في أمر هذا الرجل واجتمعوا له في أسفل جبله فنزل عليهم حين
    ـــــــ
    وذكر قول التابع أدر ما أدر وقيد عن أبي علي فيه رواية أخرى: وما بدر؟ وهي أبين من هذه وفي غير رواية البكائي عن ابن إسحاق أن فاطمة بنت النعمان النجارية كان لها تابع من الجن، وكان إذا جاءها اقتحم عليها في بيتها، فلما كان في أول البعث أتاها، فقعد على حائط الدار ولم يدخل فقالت له لم لا تدخل؟ فقال قد بعث نبي بتحريم الزنا، فذلك أول ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة1
    ـــــــ
    1 لا أدري كيف يلقي السهلي وأمثاله آذانهم إلى مثل هذا الخرف.
    (2/203)
    طلعت الشمس فوقف لهم قائما متكئا على قوس له فرفع رأسه إلى السماء طويلا، ثم جعل ينزو، ثم قال أيها الناس إن الله أكرم محمدا واصطفاه وطهر قلبه وحشاه ومكثه فيكم أيها الناس قليل ثم اشتد في جبله راجعا من حيث جاء".
    ـــــــ
    ثقيف ولهب والرمي بالنجوم:
    فصل: وذكر إنكار ثقيف للرمي بالنجوم وما قاله عمرو بن أمية أحد بني علاج إلى آخر الحديث وهو كلام صحيح المعنى، لكن فيه إبهاما لقوله وإن كانت غير هذه النجوم فهو لأمر حدث فما هو وقد فعل ما فعلت ثقيف بنو لهب عند فزعهم للرمي بالنجوم فاجتمعوا إلى كاهن لهم يقال له خطر فبين لهم الخبر، وما حدث من أمر النبوة. روى أبو جعفر العقيلي في كتاب الصحابة عن رجل من بني لهب يقال له لهب أو لهيب1. وقد تكلمنا على نسب لهب في هذا الكتاب. "قال لهيب حضرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت عنده الكهانة فقلت: بأبي وأمي: نحن أول من عرف حراسة السماء وزجر الشياطين ومنعهم من استراق السمع عند قذف النجوم وذلك أنا اجتمعنا إلى كاهن لنا يقال له خطر بن مالك وكان شيخا كبيرا، قد أتت عليه مائتا سنة وثمانون سنة وكان من أعلم كهاننا، فقلنا: يا خطر هل عندك علم من هذه النجوم التي يرمى بها، فإنا قد فزعنا لها، وخشينا سوء عاقبتها؟ فقال:
    ائتوني بسحر
    أخبركم الخبر
    أبخير أم ضرر
    أو لأمن أو حذر
    قال فانصرفنا عنه يومنا، فلما كان من غد في وجه السحر أتيناه فإذا هو قائم على قدميه شاخص في السماء بعينيه فناديناه أخطر يا خطر؟ فأومأ إلينا: أن
    ـــــــ
    1 في الأصل: لهيب أو لهيب, وهو خطأ صوبته من "الإصابة" فابن مندة يقول: لهيب بالتصغير, وابن مالك: اللهبي, وأبو عمر يقول: لهب مكبرا وبه جزم الرشاطي.
    (2/204)
    .................................................. .............................................
    ـــــــ
    أمسكوا، فانقض نجم عظيم من السماء وصرخ الكاهن رافعا صوته:
    أصابه إصابة ... خامره عقابه
    عاجله عذابه ... أحرقه شهابه
    زايله جوابه
    يا ويله ما حاله ... بلبله بلباله
    عاوده خباله ... تقطعت حباله
    وغيرت أحواله
    ثم أمسك طويلا وهو يقول:
    يا معشر بني قحطان ... أخبركم بالحق والبيان
    أقسمت بالكعبة والأركان ... والبلد المؤتمن السدان
    لقد منع السمع عتاة الجان ... بثاقب بكف ذي سلطان
    من أجل مبعوث عظيم الشان ... يبعث بالتنزيل والقرآن
    وبالهدى وفاصل القرآن ... تبطل به عبادة الأوثان
    قال فقلنا: ويحك يا خطر إنك لتذكر أمرا عظيما، فماذا ترى لقومك؟ فقال:
    أرى لقومي ما أرى لنفسي ... أن يتبعوا خير نبي الإنس
    برهانه مثل شعاع الشمس ... يبعث في مكة دار الحمس
    بمحكم التنزيل غير اللبس
    فقلنا له يا خطر وممن هو؟ فقال والحياة والعيش. إنه لمن قريش، ما في حلمه طيش ولا في خلقه هيش1 يكون في جيش وأي جيش من آل قحطان وآل
    ـــــــ
    1 ليس في طبيعته وسجيته قول قبيح.
    (2/205)
    ما جرى بين عمر بن الخطاب وسواد بن قارب:
    قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم عن عبد الله بن كعب مولى عثمان بن
    ـــــــ
    أيش فقلت له بين لنا: من أي قريش هو؟ فقال والبيت ذي الدعائم والركن والأحائم إنه لمن نجل هاشم من معشر كرائم يبعث بالملاحم وقتل كل ظالم ثم قال هذا هو البيان أخبرني به رئيس الجان ثم قال الله أكبر جاء الحق وظهر وانقطع عن الجن الخبر - ثم سكت وأغمي عليه فما أفاق إلا بعد ثلاثة فقال لا إله إلا الله فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقد نطق عن مثل نبوة وإنه ليبعث يوم القيامة أمة وحده1" .
    أصل ألف إصابة:
    قال المؤلف في هذا الخبر قوله أصابه إصابة هكذا قيدته بكسر الهمزة من إصابة على أبي بكر بن طاهر وأخبرني به عن أبي علي الغساني ووجهه أن تكون الهمزة بدلا من واو مكسورة مثل وشاح وإشاح [ووسادة وإسادة]، والمعنى: أصابه وصابه جمع: وصب مثل جمل وجمالة.
    معنى كلمة أيش والأحائم:
    وقوله: من آل قحطان وآل أيش يعني بآل قحطان الأنصار ; لأنهم من قحطان وأما آل أيش فيحتمل أن تكون قبيلة من الجن المؤمنين ينسبون إلى أيش فإن يكن هذا، وإلا فله معنى في المدح غريب تقول فلان أيش هو وابن أيش ومعناه أي شيء أي شيء عظيم فكأنه أراد من آل قحطان، ومن المهاجرين الذي يقال فيهم مثل هذا، كما تقول هم وما هم؟ وزيد ما زيد وأي شيء زيد
    ـــــــ
    1 هو في الأصل: "الإصابة" مع اختصار وتصرف يسير عما هنا, ولا يليق بالسهيلي أن يصدق مثل هذا, ويعلق عليه كأنه صحيح. بينما يقول أبو عمر: إسناده ضعيف.
    (2/206)
    .................................................. .............................................
    ـــــــ
    وأيش في معنى: أي شيء كما يقال ويلمه في معنى: ويل أمه على الحذف لكثرة الاستعمال وهذا كما قال هو في جيش أيما جيش والله أعلم. وأحسبه أراد بآل أيش بني أقيش وهم حلفاء الأنصار من الجن ; فحذف من الاسم حرفا، وقد تفعل العرب مثل هذا، وقد وقع ذكر بني أقيش في السيرة في حديث البيعة.
    وذكر الركن والأحائم يجوز أن يكون أراد الأحاوم بالواو فهمز الواو لانكسارها، والأحاوم جمع أحوام والأحوام جمع حوم وهو الماء في البئر فكأنه أراد ماء زمزم، والحوم أيضا: إبل كثيرة ترد الماء فعبر بالأحائم عن وراد زمزم، ويجوز أن يريد بها الطير وحمام مكة التي تحوم على الماء فيكون بمعنى الحوائم وقلب اللفظ فصار بعد فواعل أفاعل والله أعلم.
    حي جنب:
    فصل: وذكر أن جنبا وهم حي من اليمن اجتمعوا إلى كاهن لهم فسألوه عن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - حين رمى بالنجوم إلى آخر الحديث جنب هم من مذحج، وهم عيذ الله وأنس الله وزيد الله وأوس الله وجعفي والحكم وجروة بنو سعد العشيرة بن مذحج، ومذحج هو مالك بن أدد وسموا: جنبا لأنهم جانبوا بني عمهم صداء ويزيد ابني سعد العشيرة بن مذحج1. قاله الدارقطني. وذكر في موضع آخر خلافا في أسمائهم وذكر فيهم بني غلي بالغين وليس في العرب غلي غيره قال مهلهل:
    أنكحها فقدها الأراقم في ... جنب وكان الحباء من أدم
    ـــــــ
    1في "الإشتقاق" وهو يتكلم عن مذحج: ومن بطونهم بنو أمية بن حرب بن زيد والحارث والغلي وسيحان وشمران وهفان يقال لهم جنب لأنهم جانبوا قومهم. انظر ص 405.
    (2/207)
    عفان، أنه حدث "أن عمر بن الخطاب، بينما هو جالس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ أقبل رجل من العرب داخلا المسجد يريد عمر بن الخطاب، فلما نظر إليه عمر رضي الله عنه قال إن هذا الرجل لعلى شركه ما فارقه بعد أو لقد كان كاهنا في الجاهلية. فسلم عليه الرجل ثم جلس فقال له عمر - رضي الله عنه هل أسلمت؟ قال نعم يا أمير المؤمنين قال له فهل كنت كاهنا في الجاهلية؟ فقال الرجل سبحان الله يا أمير المؤمنين لقد خلت في واستقبلتني بأمر ما أراك قلته لأحد من رعيتك منذ وليت ما وليت، فقال عمر اللهم غفرا1، قد كنا في الجاهلية على شر من هذا، نعبد الأصنام ونعتنق الأوثان حتى أكرمنا الله برسوله وبالإسلام قال نعم والله يا أمير المؤمنين لقد كنت كاهنا في الجاهلية قال فأخبرني ما جاءك به صاحبك، قال جاءني قبل الإسلام بشهر أو شيعه فقال ألم تر إلى الجن وإبلاسها، وإياسها من دينها، ولحوقها بالقلاص2 وأحلاسها".
    قال ابن هشام: هذا الكلام سجع وليس بشعر.
    ـــــــ
    معنى خلت في وشيعة:
    فصل: وذكر حديث عمر وقوله للرجل: "أكنت كاهنا في الجاهلية؟ فقال الرجل سبحان الله يا أمير المؤمنين لقد خلت في واستقبلتني بأمر ما أراك استقبلت به أحدا منذ وليت" وذكر الحديث وقوله خلت في هو من باب حذف الجملة الواقعة بعد خلت وظننت، كقولهم في المثل من يسمع يخل ولا يجوز حذف أحد المفعولين مع بقاء الآخر لأن حكمهما حكم الابتداء والخبر، فإذا حذفت الجملة كلها جاز لأن حكمهما حكم المفعول والمفعول قد يجوز حذفه ولكن لا بد من قرينة تدل على المراد ففي قولهم من يسمع يخل دليل يدل على المفعول وهو يسمع وفي قوله خلت في دليل أيضا، وهو قوله في كأنه قال خلت الشر في
    ـــــــ
    1 غفرا كلمة تقولها العرب إذا أخطأ الرجل على الرجل. ومعناه: اللهم اغفر لي غفرا.
    2 القلاص من الإبل: الفتية.
    (2/208)
    قال عبد الله بن كعب: فقال عمر بن الخطاب عند ذلك يحدث الناس والله إني لعند وثن من أوثان الجاهلية في نفر من قريش، قد ذبح له رجل من العرب عجلا، فنحن ننتظر قسمه ليقسم لنا منه إذ سمعت من جوف العجل صوتا ما سمعت صوتا قط أنفذ منه وذلك قبيل الإسلام بشهر أو شيعه يقول يا ذريح أمر نجيح رجل يصيح يقول: لا إله إلا الله.
    ـــــــ
    أو نحو هذا، وقوله قبل الإسلام بشهر أو شيعه أي دونه بقليل وشيع كل شيء ما هو تبع له وهو من الشياع وهي حطب صغار تجعل مع الكبار تبعا لها، ومنه المشيعة وهي الشاة تتبع الغنم لأنها دونها من القوة.
    جليح وسواد بن قارب:
    والصوت الذي سمعه عمر من العجل يا جليح1 سمعت بعض أشياخنا يقول هو اسم شيطان والجليح في اللغة ما تطاير من رءوس النبات وخف نحو القطن وشبهه والواحدة جليحة والذي وقع في السيرة يا ذريح وكأنه نداء للعجل المذبوح لقولهم أحمر ذريحي، أي شديد الحمرة فصار وصفا للعجل الذبيح من أجل الدم ومن رواه يا جليح فمآله إلى هذا المعنى ; لأن العجل قد جلح أي كشف عنه الجلد فالله أعلم وهذا الرجل الذي كان كاهنا هو سواد بن قارب الدوسي في قول ابن الكلبي وقال غيره هو سدوسي2 وفيه يقول القائل:
    ألا لله علم لا يجارى ... إلى الغايات في جنبي سواد
    أتيناه نسائله امتحانا ... فلم يبعل وأخبر بالسداد
    وهذان البيتان في شعر وخبر ذكره أبو علي القالي في أماليه وروى غير ابن
    ـــــــ
    1 هذه رواية البخاري.
    2 قال ابن حبيب: كل سدوس في العرب مفتوح إلا سدوس بن أجمع بن أبي عبيد بن ربيعة بن مضر.
    (2/209)
    قال ابن هشام: ويقال رجل يصيح بلسان فصيح يقول لا إله إلا الله. وأنشدني بعض أهل العلم بالشعر:
    عجبت للجن وإبلاسها ... وشدها العيس بأحلاسها
    تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما مؤمنو الجن كأنجاسها
    ـــــــ
    إسحاق هذا الخبر عن عمر على غير هذا الوجه وأن عمر مازحه فقال: "ما فعلت كهانتك يا سواد؟ فغضب وقال قد كنت أنا وأنت على شر من هذا من عبادة الأصنام وأكل الميتات أفتعيرني بأمر تبت منه؟ فقال عمر حينئذ اللهم غفرا" وذكر غير ابن إسحاق في هذا الحديث سياقة حسنة وزيادة مفيدة وذكر أنه حدث عمر أن رئيه جاء ثلاث ليال متواليات هو فيها كلها بين النائم واليقظان فقال قم يا سواد واسمع مقالتي، واعقل إن كنت تعقل قد بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من لؤي بن غالب يدعو إلى الله وعبادته وأنشده في كل ليلة من الثلاث الليالي ثلاثة أبيات معناها واحد وقافيتها مختلفة:
    عجبت للجن وتطلابها ... وشدها العيس بأقتابها
    تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما صادق الجن ككذابها
    فارحل إلى الصفوة من هاشم ... ليس قداماها كأذنابها1
    وقال له في الثانية:
    عجبت للجن وإبلاسها ... وشدها العيس بأحلاسها
    تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما طاهر الجن كأنجاسها
    فارحل إلى الصفوة من هاشم ... ليس ذنابى الطير من رأسها2
    ـــــــ
    1 في "الخصائص" للسيوطي: قدام, وهو صحيح المعنى أيضا.
    2 في "البداية" لابن كثير وفي "الخصائص" للسيوطي.
    (2/210)
    قال ابن إسحاق: فهذا ما بلغنا من الكهان من العرب.
    ـــــــ
    وقال له في الثالثة:
    عجبت للجن وتنفارها ... وشدها العيس بأكوارها
    تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما مؤمن الجن ككفارها
    فارحل إلى الأتقين من هاشم ... ليس قداماها كأدبارها
    وذكر تمام الخبر، وفي آخر شعر سواد قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنشده ما كان من الجني رئية ثلاث ليال متواليات وذلك قوله:
    أتاني نجيي بعد هدء ورقدة ... ولم يك فيما قد بلوت بكاذب1
    ثلاث ليال قوله كل ليلة ... أتاك نبي من لؤي بن غالب
    فرفعت أذيال الإزار وشمرت ... بي العرمس الوجنا هجول السباسب
    فأشهد أن الله لا شيء غيره ... وأنك مأمون على كل غائب
    وأنك أدنى المرسلين وسيلة ... إلى الله يا بن الأكرمين الأطايب
    فمرنا بما يأتيك من وحي ربنا ... وإن كان فيما جئت شيب الذوائب
    وكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة ... بمغن فتيلا عن سواد بن قارب
    سواد ودوس عند وفاة الرسول "صلى الله عليه وسلم":
    ولسواد بن قارب هذا مقام حميد في دوس حين بلغهم وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقام حينئذ سواد فقال يا معشر الأزد، إن من سعادة القوم أن يتعظوا بغيرهم ومن شقائهم ألا يتعظوا إلا بأنفسهم ومن لم تنفعه التجارب ضرته ومن لم يسعه الحق لم يسعه الباطل وإنما تسلمون اليوم بما أسلمتم به أمس وقد علمتم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد تناول قوما أبعد منكم فظفر بهم وأوعد قوما أكثر منكم فأخافهم ولم يمنعه منكم عدة ولا عدد وكل بلاء منسي إلا ما بقي أثره في الناس ولا ينبغي لأهل
    ـــــــ
    1 في "الخصائص": رئي, وليل وهجعه.
    (2/211)
    ـــــــ
    البلاء إلا أن يكونوا أذكر من أهل العافية للعافية وإنما كف نبي الله عنكم ما كفكم عنه فلم تزالوا خارجين مما فيه أهل البلاء داخلين مما فيه أهل العافية حتى قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطيبكم ونقيبكم فعبر الخطيب عن الشاهد ونقب النقيب عن الغائب ولست أدري لعله تكون للناس جولة فإن تكن فالسلامة منها: الأناة والله يحبها، فأحبوها، فأجابه القوم وسمعوا قوله فقال في ذلك سواد بن قارب:
    جلت مصيبتك الغداة سواد ... وأرى المصيبة بعدها تزداد
    أبقى لنا فقد النبي محمد ... - صلى الإله عليه - ما يعتاد
    حزنا لعمرك في الفؤاد مخامرا ... أو هل لمن فقد النبي فؤاد؟
    كنا نحل به جنابا ممرعا ... جف الجناب فأجدب الرواد
    فبكت عليه أرضنا وسماؤنا ... وتصدعت وجدا به الأكباد
    قل المتاع به وكان عيانه ... حلما تضمن سكرتيه رقاد
    كان العيان هو الطريف وحزنه ... باق لعمرك في النفوس تلاد
    إن النبي وفاته كحياته ... الحق حق والجهاد جهاد
    لو قيل تفدون النبي محمدا ... بذلت له الأموال والأولاد
    وتسارعت فيه النفوس ببذلها ... هذا له الأغياب والأشهاد
    هذا، وهذا لا يرد نبينا ... لو كان يفديه فداه سواد
    ـــــــ
    1في سائر الأصول: "عمرو", وهو تحريف.
    (2/212)
    إنذار يهود برسول الله صلى الله عليه وسلم
    ...
    إنذار يهود برسول الله صلى الله عليه وسلم
    إنذار اليهود به صلى الله عليه وسلم، ولما بعث كفروا به:
    قال ابن إسحاق: وحدثني "عاصم بن عمر1 بن قتادة، عن رجال من قومه قالوا: إن مما دعانا إلى الإسلام، مع رحمة الله تعالى وهداه لما كنا نسمع من رجال يهود كنا أهل شرك أصحاب أوثان وكانوا أهل كتاب عندهم علم ليس لنا، وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا
    (2/212)
    حديث إسلام سلمان رضي الله عنه
    ...
    حديث إسلام سلمان رضي الله عنه
    كان سلمان مجوسياً، فمر بكنيسة فتطلع إلى النصرانية:
    قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري، عن محمود بن لبيد، عن عبد الله بن عباس، قال حدثني "سلمان الفارسي من فيه قال كنت رجلا فارسيا من أهل أصبهان من أهل قرية يقال لها: جي، وكان أبي دهقان قريته وكنت أحب خلق الله إليه لم يزل به حبه إياي حتى حبسني في بيته كما تحبس الجارية واجتهدت في المجوسية حتى كنت قطن النار الذي يوقدها، لا يتركها تخبو ساعة. قال وكانت لأبي ضيعة عظيمة قال فشغل في بنيان له يوما، فقال لي: يا بني إني قد شغلت في بنياني هذا اليوم عن ضيعتي، فاذهب إليها، فاطلعها - وأمرني فيها ببعض ما يريد - ثم قال لي: ولا تحتبس عني ; فإنك إن احتبست عني كنت أهم إلي من ضيعتي، وشغلتني عن كل شيء من أمري. قال فخرجت أريد ضيعته التي بعثني إليها، فمررت بكنيسة من كنائس النصارى، فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون
    ـــــــ
    حديث سلمان:
    فصل: وذكر حديث سلمان بطوله وقال كنت من أهل أصبهان هكذا قيده
    (2/217)
    وكنت لا أدري ما أمر الناس لحبس أبي إياي في بيته فلما سمعت أصواتهم دخلت عليهم أنظر ما يصنعون فلما رأيتهم أعجبتني صلاتهم ورغبت في أمرهم وقلت: هذا والله خير من الدين الذي نحن عليه فوالله ما برحتهم حتى غربت الشمس وتركت ضيعة أبي فلم آتها، ثم قلت لهم أين أصل هذا الدين؟ قالوا: بالشام. فرجعت إلى أبي، وقد بعث في طلبي، وشغلته عن عمله كله فلما جئته قال أي بني أين كنت؟ أولم أكن عهدت إليك ما عهدت؟ قال قلت له يا أبت مررت بأناس يصلون في كنيسة لهم فأعجبني ما رأيت من دينهم فوالله ما زلت عندهم حتى غربت الشمس قال أي بني ليس في ذلك الدين خير دينك، ودين آبائك خير منه قال قلت له كلا والله إنه لخير من ديننا. قال فخافني، فجعل في رجلي قيدا، ثم حبسني في بيته.
    اتفاق سلمان والنصارى على الهرب:
    قال وبعثت إلى النصارى فقلت لهم إذا قدم عليكم ركب من الشام فأخبروني بهم. قال فقدم عليهم ركب من الشام تجار من النصارى، فأخبروني بهم فقلت لهم إذا قضوا حوائجهم وأرادوا الرجعة إلى بلادهم فآذنوني بهم قال فلما أرادوا الرجعة إلى بلادهم أخبروني بهم فألقيت الحديد من رجلي، ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام فلما قدمتها قلت: من أفضل أهل هذا الدين علما؟ قالوا: الأسقف في الكنيسة.
    سلمان وأسقف النصارى السيء:
    قال فجئته، فقلت له إني قد رغبت في هذا الدين فأحببت أن أكون معك،
    ـــــــ
    البكري في كتاب "المعجم" بالكسر في الهمزة وإصبه بالعربية فرس وقيل هو العسكر فمعنى الكلمة موضع العسكر أو الخيل1 أو نحو هذا. وليس في
    ـــــــ
    1 في "معجم البكري": إصبه بلسان الفرس: البلد, وهان: الفرس, فمعناه: بلد الفرسان, وفي "المراصد": إنها لفظ معرب من سباهان بمعنى: الجيش. وإصبهان: مدينة عظيمة مشهورة من أعلام المدن أعيانها.
    (2/218)
    وأخدمك في كنيستك، فأتعلم منك، وأصلي معك، قال ادخل فدخلت معه. قال وكان رجل سوء يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها، فإذا جمعوا إليه شيئا منها1 اكتنزه لنفسه ولم يعطه المساكين حتى جمع سبع قلال من ذهب وورق. قال فأبغضته بغضا شديدا، لما رأيته يصنع ثم مات فاجتمعت إليه النصارى، ليدفنوه فقلت لهم إن هذا كان رجل سوء يأمركم بالصدقة ويرغبكم فيها، فإذا جئتموه بها، اكتنزها لنفسه ولم يعط المساكين منها شيئا. قال فقالوا لي: وما علمك بذلك؟ قال قلت لهم أنا أدلكم على كنزه قالوا: فدلنا عليه قال فأريتهم موضعه فاستخرجوا سبع قلال مملوءة ذهبا وورقا، قال فلما رأوها قالوا: والله لا ندفنه أبدا. قال فصلبوه ورجموه بالحجارة وجاءوا برجل آخر فجعلوه مكانه.
    ـــــــ
    حديث سلمان على طوله إشكال ووقع في الأصل في هذا الحديث فلما رآني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استدبرته، ورأيت في حاشية الشيخ أستدير به وكذلك وقع فيه أحييها له بالفقير وفي حاشية الشيخ الوجه التفقير.
    أسماء النخلة:
    والفقير للنخلة2. يقال لها في الكرمة حيية وجمعها: حيايا، وهي الحفيرة وإذا خرجت النخلة من النواة فهي عريسة ثم يقال لها: ودية ثم فسيلة ثم أشاءة فإذا فاتت اليد فهي جبارة وهي العضيد والكتيلة ويقال للتي لم تخرج من النواة لكنها اجتثت من جنب أمها: قلعة وجثيثة وهي الجثائث والهراء ويقال للنخلة الطويلة عوانة بلغة عمان، وعيدانة بلغة غيرهم وهي فيعالة من عدن3 بالمكان واختلف فيها قول صاحب كتاب عين فجعلها تارة فيعالة
    ـــــــ
    1 في سائر الأصول: "فيهم", وهو تحريف.
    2 في "تفسير السيرة" للخشني: أحييها له بالفقر, أي بالحفر والغرس, بقال: فقر الأرض: إذا حفرها, وقال الوقشي: الصواب هنا: التفقير, وأراد هنا: المصدر.
    3 لزم المكان فلم يبرحه.
    (2/219)
    سلمان والأسقف الصالح:
    قال: يقول سلمان فما رأيت رجلا لا يصلي الخمس أرى أنه كان أفضل منه وأزهد في الدنيا، ولا أرغب في الآخرة ولا أدأب ليلا ولا نهارا منه. قال فأحببته حبا لم أحبه قبله مثله. قال فأقمت معه زمانا، ثم حضرته الوفاة فقلت له يا فلان إني قد كنت معك، وأحببتك حبا لم أحبه شيئا قبلك، وقد حضرك ما ترى من أمر الله تعالى، فإلى من توصي بي؟ وبم تأمرني؟ قال أي بني والله ما أعلم اليوم أحدا على ما كنت عليه فقد هلك الناس وبدلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه إلا رجلا بالموصل وهو فلان وهو على ما كنت عليه فالحق به.
    سلمان وصاحبه بالموصل:
    قال: فلما مات وغيب لحقت بصاحب الموصل، فقلت له يا فلان إن فلانا أوصاني عند موته أن ألحق بك، وأخبرني أنك على أمره قال فقال لي: أقم عندي، فأقمت عنده فوجدته خير رجل على أمر صاحبه فلم يلبث أن مات فلما حضرته الوفاة قلت له يا فلان إن فلانا أوصى بي إليك، وأمرني باللحوق بك، وقد حضرك من أمر الله ما ترى، فإلى من توصي بي؟ وبم تأمرني؟ قال يا بني والله ما أعلم رجلا على مثل ما كنا عليه إلا رجلا بنصيبين وهو فلان فالحق به.
    ـــــــ
    من عدن، ثم جعلها في باب المعتل العين فعلانة.
    ومن الفسيلة حديث أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فاستطاع أن يغرسها قبل أن تقوم الساعة فليغرسها1" من مصنف حماد بن سلمة. والذين صحبوا سلمان من النصارى كانوا على الحق على دين عيسى ابن مريم، وكانوا ثلاثين يداولونه سيدا بعد سيد2.
    ـــــــ
    1 رواه أحمد في "مسنده", والبخاري في "الأدب المفرد", وقال السيوطي: ضعيف.
    2 في "البخاري": تداول سليمان بضعة عشر من رب إلى رب.
    (2/220)
    سلمان وصاحبه بنصيبين:
    فلما مات وغيب لحقت بصاحب نصيبين فأخبرته خبري، وما أمرني به صاحباي فقال أقم عندي، فأقمت عنده فوجدته على أمر صاحبيه. فأقمت مع خير رجل فوالله ما لبث أن نزل به الموت فلما حضر قلت له يا فلان إن فلانا كان أوصى بي إلى فلان ثم أوصى بي فلان إليك، فإلى من توصي بي؟ وبم تأمرني؟ قال يا بني والله ما أعلمه بقي أحد على أمرنا آمرك أن تأتيه إلا رجلا بعمورية من أرض الروم، فإنه على مثل ما نحن عليه فإن أحببت فأته فإنه على أمرنا.
    سلمان وصاحبه بعمورية:
    فلما مات وغيب لحقت بصاحب عمورية ، فأخبرته خبري، فقال أقم عندي، فأقمت عند خير رجل على هدي أصحابه وأمرهم. قال واكتسبت حتى كانت لي بقرات وغنيمة. قال ثم نزل به أمر الله فلما حضر قلت له يا فلان إني كنت مع فلان فأوصى بي إلى فلان ثم أوصى بي فلان إلى فلان ثم أوصى بي فلان إليك، فإلى من توصي به؟ وبم تأمرني؟ قال أي بني والله ما أعلمه أصبح اليوم أحد على مثل ما كنا عليه من الناس آمرك به أن تأتيه ولكنه قد أظل زمان نبي وهو مبعوث بدين إبراهيم عليه السلام يخرج بأرض العرب مهاجره إلى أرض بين حرتين بينهما نخل، به علامات لا تخفى، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة وبين كتفيه خاتم النبوة فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل.
    سلمان ونقلته إلى وادي القرى ثم إلى المدينة، وسماعه ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم:
    قال ثم مات وغيب ومكثت بعمورية ما شاء الله أن أمكث ثم مر بي نفر من
    ـــــــ
    من فقه حديث سلمان:
    وذكر في آخر الحديث أنه جمع شيئا، فجاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - ليختبره أيأكل الصدقة أم لا، فلم يسأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحر أنت أم عبد ولا: من أين لك هذا، ففي هذا من الفقه قبول الهدية وترك سؤال المهدي، وكذلك الصدقة.
    (2/221)
    كلب تجار فقلت لهم احملوني إلى أرض العرب ، وأعطيكم بقراتي هذه وغنيمتي هذه قالوا: نعم. فأعطيتهموها، وحملوني معهم حتى إذا بلغوا وادي القرى ظلموني، فباعوني من رجل يهودي عبدا، فكنت عنده ورأيت النخل فرجوت أن يكون البلد الذي وصف لي صاحبي، ولم يحق في نفسي، فبينا أنا عنده إذ قدم عليه ابن عم له من بني قريظة من المدينة ، فابتاعني منه فاحتملني إلى المدينة ، فوالله ما هو إلا أن رأيتها، فعرفتها بصفة صاحبي، فأقمت بها، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقام بمكة ما أقام لا أسمع له بذكر مع ما أنا فيه من شغل الرق ثم هاجر إلى المدينة ، فوالله إني لفي رأس عذق1 لسيدي أعمل له في بعض العمل وسيدي جالس تحتي، إذ أقبل ابن عم له حتى وقف عليه فقال يا فلان قاتل الله بني قيلة والله إنهم الآن لمجتمعون بقباء2 على رجل قدم عليهم من مكة اليوم يزعمون أنه نبي".
    نسب قيلة:
    قال ابن هشام: قيلة بنت كاهل بن عذرة بن سعد بن زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة، أم الأوس والخزرج.
    قال النعمان بن بشير الأنصاري يمدح الأوس والخزرج:
    بها ليل من أولاد قيلة لم يجد ... عليهم خليط في مخالطة عتبا
    مساميح أبطال يراحون للندى ... يرون عليهم فعل آبائهم نحبا
    وهذان البيتان في قصيدة له:
    قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري، عن محمود بن لبيد، عن عبد الله بن عباس، قال قال سلمان: "فلما سمعتها أخذتني العرواء" فقال
    ـــــــ
    1 العذق: (بالفتح): النخلة. والعذق (بالكسر): الكباسة.
    2 قباء (بالضم) أصله اسم بئر عرفي القرية به, وهي مساكن بني عمرو من الأنصار, وتقع قرية قباء على ميلين من المدينة. راجع "معجم البلدان".
    (2/222)
    ابن هشام: العرواء الرعدة من البرد والانتفاض "فإن كان مع ذلك عرق فهي الرحضاء وكلاهما ممدود - حتى ظننت أني سأسقط على سيدي، فنزلت عن النخلة فجعلت أقول لابن عمه ذلك ماذا تقول؟ ماذا تقول؟ فغضب سيدي، فلكمني لكمة شديدة ثم قال ما لك ولهذا؟ أقبل على عملك، قال قلت: لا شيء إنما أردت أن أستثبته عما قال.
    سلمان بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم بهديته يستوثق:
    قال وقد كان عندي شيء قد جمعته، فلما أمسيت أخذته، ثم ذهبت به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بقباء فدخلت عليه فقلت له إنه قد بلغني أنك رجل صالح ومعك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة وهذا شيء قد كان عندي للصدقة فرأيتكم أحق به من غيركم قال فقربته إليه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه كلوا، وأمسك يده فلم يأكل . قال فقلت في نفسي: هذه واحدة. قال ثم انصرفت عنه فجمعت شيئا، وتحول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، ثم جئته به فقلت له إني قد رأيتك لا تأكل الصدقة فهذه هدية أكرمتك بها. قال فأكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها، وأمر أصحابه فأكلوا معه . قال فقلت في نفسي: هاتان ثنتان قال ثم جئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ببقيع الغرقد1 قد تبع جنازة رجل من أصحابه علي شملتان2 لي، وهو جالس في أصحابه فسلمت عليه ثم استدرت أنظر إلى ظهره هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي، فلما رآني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استدبرته3، عرف أني أستثبت في شيء
    ـــــــ
    حكم الصدقة للنبي ومصدر مال سلمان:
    وفي الحديث: " من قدم إليه طعام فليأكل ولا يسأل" . وذكر أبو عبيد في كتاب "الأموال" حديث سلمان حجة على من قال إن العبد لا يملك وقال لو كان لا
    ـــــــ
    1 بقيع الغرقد: مقبرة أهل المدينة, وهي داخل المدينة.
    2 الشملة: الكساء الغليظ يشتمل به الإنسان, أي يلتحف به.
    3 ويروى: "أستدير به".
    (2/223)
    وصف لي، فألقى رداءه عن ظهره فنظرت إلى الخاتم فعرفته، فأكببت عليه أقبله وأبكي. فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم تحول فتحولت فجلست بين يديه فقصصت عليه حديثي، كما حدثتك يا بن عباس فأعجب رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - أن يسمع ذلك أصحابه. ثم شغل سلمان الرق حتى فاته مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدر وأحد.
    أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لسلمان بالمكاتبة ليخلص من الرق:
    قال سلمان ثم قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "كاتب يا سلمان" فكاتبت صاحبي على ثلاثمائة نخلة أحييها له بالفقير وأربعين أوقية. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه "أعينوا أخاكم فأعانوني بالنخل الرجل بثلاثين ودية والرجل بعشرين ودية والرجل بخمس عشرة ودية والرجل بعشر يعين الرجل بقدر ما عنده" حتى اجتمعت لي ثلاثمائة ودية فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم – "اذهب يا سلمان ففقر لها، فإذا فرغت فأتني، أكن أنا أضعها بيدي". قال ففقرت، وأعانني أصحابي، حتى إذا فرغت جئته، فأخبرته، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معي إليها، فجعلنا نقرب إليه الودي ويضعه
    ـــــــ
    يملك ما قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - صدقته ولا قال لأصحابه "كلوا صدقته" ذكر غير ابن إسحاق في حديث سلمان الوجه الذي جمع منه سلمان ما أهدى للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال قال سلمان كنت عبدا لامرأة فسألت سيدتي أن تهب لي يوما، فعملت في ذلك اليوم على صاع أو صاعين من تمر وجئت به النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما رأيته لا يأكل الصدقة سألت سيدتي أن تهب لي يوما آخر فعملت فيه على ذلك ثم جئت به هدية للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقبله وأكل منه" فبين في هذه الرواية الوجه الذي جمع منه سلمان ما ذكر في حديث ابن إسحاق، والصدقة التي قال النبي عليه السلام "لا تحل لمحمد ولا لآل محمد هي المفروضة دون التطوع" قاله الشافعي، غير أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن تحل له صدقة الفرض ولا التطوع وهو معنى قول مالك.
    وقال الثوري: "لا تحل الصدقة لآل محمد فرضها ولا نفلها ولا لمواليهم لأن مولى القوم من أنفسهم" بذلك جاء الحديث. وقال مالك تحل لمواليهم وقالت جماعة منهم أبو يوسف: لا تحل لآل محمد صدقة غيرهم وتحل لهم صدقة
    (2/224)
    رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده حتى فرغنا. فوالذي نفس سلمان بيده ما ماتت منها ودية واحدة. قال فأديت النخل وبقي علي المال. فأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمثل بيضة الدجاجة من ذهب من بعض المعادن فقال ما فعل الفارسي المكاتب؟ قال فدعيت له فقال خذ هذه فأدها مما عليك يا سلمان. قال قلت: وأين تقع هذه يا رسول الله مما علي؟ فقال خذها، فإن الله سيؤدي بها عنك. قال فأخذتها، فوزنت لهم منها - والذي نفس سلمان بيده - أربعين أوقية فأوفيتهم حقهم منها، وعتق سلمان. فشهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - الخندق حرا، ثم لم يفتني معه مشهد".
    قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن أبي حبيب، عن "رجل من عبد القيس عن سلمان أنه قال لما قلت: وأين تقع هذه من الذي علي يا رسول الله؟ أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلبها على لسانه ثم قال خذها فأوفهم منها. فأخذتها، فأوفيتهم منها حقهم كله أربعين أوقية".
    قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، قال حدثني من لا أتهم عن عمر بن عبد العزيز بن مروان، قال حدثت عن "سلمان الفارسي: أنه قال:
    سلمان والرجل الذي كان يخرج بين غيضتين بعمورية:
    لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أخبره خبره إن
    ـــــــ
    <376بعضهم على بعض وهم بنو هاشم وبنو عبد المطلب1.
    أول من مات بعد الهجرة:
    وقول سلمان فأتيت رسول الله وهو في جنازة بعض أصحابه. صاحبه الذي مات في تلك الأيام كلثوم بن الهدم الذي نزل عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - قال الطبري: أول من
    ـــــــ
    1 في حديث رواه المسلم: "إنا لا نأكل الصدقة" , وفي رواية لأحمد: "إنا آل محمد لا تحل لنا الصدقة". يقول القسطلاني: الحكمة في ذلك صيانة منصبه الشريف عن أوساخ أموال الناس. انظر "المواهب اللدنية" 5/220.
    (2/225)
    صاحب عمورية قال له ائت كذا وكذا من أرض الشام، فإن بها رجلا بين غيضتين يخرج في كل سنة من هذه الغيضة إلى هذه الغيضة مستجيزا، يعترضه ذوو الأسقام فلا يدعو لأحد منهم إلا شفي فاسأله عن هذا الدين الذي تبتغي، فهو يخبرك عنه قال سلمان فخرجت حتى أتيت حيث وصف لي، فوجدت الناس قد اجتمعوا بمرضاهم هنالك حتى خرج لهم تلك الليلة مستجيزا من إحدى الغيضتين إلى الأخرى، فغشيه الناس بمرضاهم لا يدعو لمريض إلا شفي وغلبوني عليه فلم أخلص إليه حتى دخل الغيضة التي يريد أن يدخل إلا منكبه. قال فتناولته: فقال من هذا؟ والتفت إلي فقلت: يرحمك الله، أخبرني عن الحنيفية دين إبراهيم. قال إنك لتسألني عن شيء ما يسأل عنه الناس اليوم قد أظلك زمان نبي يبعث بهذا الدين من أهل الحرم، فأته فهو يحملك عليه. قال ثم دخل. قال فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسلمان "لئن كنت صدقتني يا سلمان، لقد لقيت عيسى ابن مريم" على نبينا وعليه السلام.
    ـــــــ
    مات من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد قدومه المدينة بأيام قليلة كلثوم بن الهدم1، ثم مات بعده أسعد بن زرارة.
    فصل: وذكر ابن إسحاق في مكاتبة سلمان أنه فقر لثلاثمائة ودية أي حفر وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضعها كلها بيده فلم تمت منها ودية واحدة وذكر البخاري حديث سلمان كما ذكره ابن إسحاق غير أنه ذكر أن سلمان غرس بيده ودية واحدة وغرس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سائرها، فعاشت كلها إلا التي غرس سلمان. هذا معنى حديث البخاري.
    أسطورة نزول عيسى قبل بعثة النبي:
    فصل: وذكر عن داود بن الحصين قال حدثني من لا أتهم عن عمر بن
    ـــــــ
    1 ابن امرئ القيس بن الحارث بن زيد بن عبيد بن زيد بن مالك بن عوف بن ما لك بن الأوس الأنصاري الأوسي, ذكر ابن عقبة وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل عليه بقباء أول ما قدم على المدينة.
    (2/226)
    ـــــــ
    عبد العزيز قال قال سلمان للنبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر خبر الرجل الذي كان يخرج مستجيزا من غيضة إلى غيضة ويلقاه الناس بمرضاهم فلا يدعو لمريض إلا شفي وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "إن كنت صدقتني يا سلمان فقد رأيت عيسى ابن مريم". إسناد هذا الحديث مقطوع وفيه رجل مجهول ويقال إن ذلك الرجل هو الحسن بن عمارة1، وهو ضعيف بإجماع منهم فإن صح الحديث فلا نكارة في متنه فقد ذكر الطبري أن المسيح عليه السلام نزل بعدما رفع وأمه وامرأة أخرى عند الجذع الذي فيه الصليب يتكئان2 فكلمهما، وأخبرهما أنه لم يقتل وأن الله رفعه وأرسل إلى الحواريين ووجههم إلى البلاد وإذا جاز أن ينزل مرة جاز أن ينزل مرارا، ولكن لا يعلم أنه هو حتى ينزل النزول الظاهر فيكسر الصليب ويقتل الخنزير كما جاء في الصحيح والله أعلم ويروى أنه إذا نزل تزوج امرأة من جذام، ويدفن إذا مات في الروضة التي فيها النبي عليه السلام.
    ـــــــ
    1 قيل عن الرجل المبهم إنه شيخ عاصم بن عمر بن قتادة, والحديث منقطع بين عمر بن عبد العزيز وسليمان رضي الله عنهما.
    2 هذا افتراء لا يجوز ترديده ولنتدبر قوله تعالى: {وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} [مريم:33].
    (2/227)
    ذكر ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى وعبيد الله بن جحش وعثمان بن الحويرث وزيد بن عمرو بن نفيل
    ...
    ذكر ورقة بن نوفل بن أسد بن العزى وعبيد الله بن جحش وعثمان بن الحويرث وزيد بن عمرو بن نفيل
    بحثهم في الأيان:
    قال ابن إسحاق: واجتمعت قريش يوما في عيد لهم عند صنم من أصنامهم
    ـــــــ
    ذكر حديث ورقة بن نوفل
    فصل وذكر حديث ورقة بن نوفل3، وعبيد الله بن جحش، وعثمان بن
    ـــــــ
    3 نسب ورقة, وهو ابن نوفل بن أسد بن عبد العزي بن قصي بن كلاب, وفي "الصحيحين" ما يدل على أنه لقي النبي صلى الله عليه وسلم لكنه مات قبل أن يدعو رسول إلى الإسلام.
    (2/227)
    كانوا يعظمونه وينحرون له ويعكفون عنده ويديرون به وكان ذلك عيدا لهم في كل سنة يوما، فخلص منهم أربعة نفر نجيا، ثم قال بعضهم لبعض تصادقوا، وليكتم بعضكم على بعض قالوا: أجل وهم ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي، وعبيد الله بن جحش بن رئاب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة، وكانت أمه أميمة بنت عبد المطلب. وعثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وزيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى بن عبد الله بن قرط بن رياح بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي، فقال بعضهم لبعض تعلموا والله ما قومكم على شيء لقد أخطئوا دين أبيهم إبراهيم ما حجر نطيف به لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع؟ يا قوم التمسوا لأنفسكم فإنكم والله ما أنتم على شيء فتفرقوا في البلدان يلتمسون الحنيفية دين إبراهيم.
    ـــــــ
    الحويرث، وزيد بن عمرو بن نفيل وما تناجوا به وقال زيد بن عمرو بن نفيل إلى آخر النسب والمعروف في نسبه ونسب ابن عمه عمر بن الخطاب: نفيل بن رياح1 بن عبد الله بن قرط بن رزاح بتقديم رياح على عبد الله ورزاح بكسر الراء قيده الشيخ أبو بحر وزعم الدارقطني أنه رزاح بالفتح وإنما رزاح بالكسر رزاح بن ربيعة أخو قصي لأمه الذي تقدم ذكره.
    الزواج من امرأة الأب في الجاهلية:
    وأم زيد هي الحيداء بنت خالد الفهمية وهي امرأة جده نفيل ولدت له الخطاب فهو أخو الخطاب لأمه وابن أخيه وكان ذلك مباحا في الجاهلية بشرع متقدم ولم تكن من الحرمات التي انتهكوها، ولا من العظائم التي ابتدعوها، لأنه أمر كان في عمود نسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكنانة تزوج امرأة أبيه خزيمة، وهي برة بنت
    ـــــــ
    1 في "الإصابة": نفيل بن عبد العزي بن رياح.
    (2/228)
    فأما ورقة بن نوفل فاستحكم في النصرانية، واتبع الكتب من أهلها، حتى علم علما
    ـــــــ
    مر فولدت له النضر بن كنانة، وهاشم أيضا قد تزوج امرأة أبيه وافدة فولدت له ضعيفة ولكن هو خارج عن عمود نسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنها لم تلد جدا له أعني: واقدة وقد قال عليه السلام "أنا من نكاح لا من سفاح" ولذلك قال سبحانه {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22]. أي إلا ما سلف من تحليل ذلك قبل الإسلام وفائدة هذا الاستثناء ألا يعاب نسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليعلم أنه لم يكن في أجداده من كان لغية ولا من سفاح1. ألا ترى أنه لم يقل في شيء نهى عنه في القرآن {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} نحو قوله: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء: 32] ولم يقل إلا ما قد سلف: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ} [الإسراء: 33] ولم يقل إلا ما قد سلف، ولا في شيء من المعاصي التي نهى عنها إلا في هذه وفي الجمع بين الأختين لأن الجمع بين الأختين قد كان مباحا أيضا في شرع من قبلنا، وقد جمع يعقوب بين راحيل وأختها ليا فقوله: {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} التفاتة إلى هذا المعنى، وتنبيه على هذا المغزى، وهذه النكتة لقنتها من شيخنا الإمام الحافظ أبي بكر محمد بن العربي - رحمه الله - وزيد هذا هو والد سعيد بن زيد أحد العشرة الذين شهد لهم بالجنة وأم سعيد فاطمة بنت نعجة بن خلف الخزاعي [عند الزبير بعجة بن أمية بن خويلد بن خالد بن اليمعر بن خزاعة].
    تفسير بعض قول ابن جحش:
    وذكر قول عبد الله بن جحش حين تنصر بالحبشة: "فقحنا وصأصأتم" وشرح
    ـــــــ
    1 لا شك في طهارة نسبه صلى الله عليه وسلم, ولا شك في أنه كان من نكاح صحيح بين عبد الله وآمنة, واحسن تعبير عن هذه الحقيقة جزء من حديث أخرجه أبو نعيم: "لم يلتق أبواي قط على سفاح".
    (2/229)
    علماً من أهل الكتاب وأما عبيد الله بن جحش، فأقام على ما هو عليه من الالتباس حتى أسلم، ثم هاجر مع المسلمين إلى الحبشة ، ومعه امرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان مسلمة فلما قدمها تنصر وفارق الإسلام حتى هلك هنالك نصرانيا.
    ما كان يفعله ابن جحش بعد تنصره بمسلمي الحبشة:
    قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير ; قال "كان عبيد الله بن جحش - حين تنصر - يمر بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم هنالك من أرض الحبشة، فيقول فقحنا وصأصأتم" أي أبصرنا وأنتم تلتمسون البصر ولم تبصروا بعد وذلك أن ولد الكلب إذا أراد أن يفتح عينيه لينظر صأصأ لينظر. وقوله فقح فتح عينيه.
    قال ابن إسحاق: وخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده على امرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب.
    قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن علي بن حسين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث فيها إلى النجاشي عمرو بن أمية الضمري. فخطبها عليه النجاشي ; فزوجه إياها، وأصدقها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعمائة دينار فقال محمد بن علي: ما نرى عبد الملك بن مروان وقف صداق النساء على أربعمائة دينار إلا عن ذلك. وكان الذي أملكها للنبي صلى الله عليه وسلم خالد بن سعيد بن العاص.
    تنصر ابن الحويرث، وذهابه إلى قيصر:
    قال ابن إسحاق: وأما عثمان بن الحويرث، فقدم على قيصر ملك الروم فتنصر
    ـــــــ
    فقحنا بقوله فقح الجرو إذا فتح عينيه وهكذا ذكره أبو عبيد، وزاد جصص أيضا، وذكر أبو عبيد: بصص بالباء حكاها عن أبي زيد1 وقال القالي إنما رواه البصريون عن أبي زيد بياء منقوطة باثنتين لأن الياء تبدل من الجيم كثيرا كما تقول أيل وأجل ولرواية أبي عبيد وجه وهو أن يكون بصص من البصيص وهو البريق.
    ـــــــ
    1 في "القاموس": بصص الجرو. وانظر: "نوا در أبي زيد" ص 136.
    (2/230)
    قال ابن هشام: ولعثمان بن الحويرث عند قيصر حديث منعني من ذكره ما ذكرت في حديث حرب الفجار.
    زيد بن عمرو وما وصل إليه، وشيء عنه:
    قال ابن إسحاق: وأما زيد بن عمرو بن نفيل فوقف فلم يدخل في يهودية
    ـــــــ
    بعض الذين تنصروا:
    فصل: فصل وذكر عثمان بن الحويرث مع زيد وورقة وعبيد الله بن جحش، ثم قال وأما عثمان بن الحويرث فإنه ذهب إلى الشام ، وله فيها مع قيصر خبر ولم يذكر ذلك الخبر، وذكر البرقي عن ابن إسحاق أن عثمان بن الحويرث قدم على قيصر فقال له إني أجعل لك خرجا على قريش إن جاءوا الشام لتجارتهم وإلا منعتهم فأراد قيصر أن يفعل فخرج سعيد بن العاصي بن أمية وأبو ذئب وهو هشام بن شعبة بن عبد الله بن أبي قيس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر إلى الشام ، فأخذا فحبسا، فمات أبو ذئب في الحبس وأما سعيد بن العاصي، فإنه خرج الوليد بن المغيرة، وهو أمية فتخلصوه في حديث طويل رواه ابن إسحاق عن يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس وأبو ذئب الذي ذكر هو جد الفقيه محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب يكنى: أبا الحارث من فقهاء المدينة ، وأمه بريهة بنت عبد الرحمن بن أبي ذئب وأما الزبير فذكر أن قيصرا كان قد توج عثمان وولاه أمر مكة ، فلما جاءهم بذلك أنفوا من أن يدينوا لملك وصاح الأسود بن أسد بن عبد العزى: ألا إن مكة حي لقاح لا تدين لملك1 فلم يتم له مراده قال وكان يقال له البطريق2 ولا عقب له ومات بالشام مسموما، سمه عمرو بن جفنة الغساني الملك.
    اعتزال زيد بن عمرو بن نفيل الأوثان:
    فصل: وذكر اعتزال زيد الأوثان وتركه طواغيتهم وتركه أكل ما نحر [على
    ـــــــ
    1 أي لا تخضع للملوك.
    2 في "القاموس": البطريق: ككبريت, القائد من قواد الروم, كان تحت يده عشرة آلاف رجل.
    (2/231)
    ولا نصرانية وفارق دين قومه فاعتزل الأوثان والميتة والدم والذبائح التي تذبح على الأوثان ونهى عن قتل الموءودة وقال أعبد رب إبراهيم وبادى قومه بعيب ما هم عليه.
    ـــــــ
    الأوثان]1 والنصب. روى البخاري عن محمد بن أبي بكر، قال أخبرنا فضيل بن سليمان قال أخبرنا موسى، قال حدثني سالم بن عبد الله، عن عبد الله بن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح2 قبل أن ينزل على النبي - عليه السلام - الوحي فقدمت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - سفرة أو قدمها إليه النبي صلى الله عليه وسلم فأبى أن يأكل منها، ثم قال زيد إني لست آكل ما تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه وأن زيد بن عمرو بن نفيل كان يعيب على قريش ذبائحهم ويقول الشاة خلقها الله وأنزل لها من السماء الماء وأنبت لها من الأرض الكلأ ثم تذبحونها على غير اسم الله؟ إنكارا لذلك، وإعظاما له قال موسى بن سالم بن عبد الله: ولا أعلم إلا ما تحدث به عن ابن عمر أن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشام يسأل عن الدين ويتبعه فلقي عالما من اليهود فسأله عن دينهم وقال له إني لعلي أن أدين بدينكم فأخبروني، فقال لا تكون على ديننا، حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله قال زيد ما أفر إلا من غضب الله ولا أحمل من غضب الله شيئا أبدا، وأنى أستطيعه فهل تدلني على غيره؟ قال ما أعلمه إلا أن يكون حنيفا، قال وما الحنيف؟ قال دين إبراهيم لم يكن يهوديا ولا نصرانيا، ولا يعبد إلا الله فخرج زيد فلقي عالما من النصارى، فذكر مثله فقال لن تكون على ديننا، حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله قال ما أفر إلا من لعنة الله ولا أحمل من لعنة الله ولا من غضبه شيئا أبدا، وأنى أستطيع فهل تدلني على غيره؟ قال ما أعلمه إلا أن يكون حنيفا، قال وما الحنيف؟ قال دين إبراهيم لم يكن يهوديا ولا نصرانيا، ولا يعبد إلا الله فلما رأى زيد قولهم في إبراهيم خرج فلما برز رفع يديه فقال اللهم
    ـــــــ
    1 ما بين القوسين زيادة من "السيرة".
    2 بلدح: واد قبل مكة من جهة المغرب, أو مكان على طريق التنعيم.
    (2/232)
    قال ابن إسحاق: وحدثني هشام بن عروة عن أبيه عن أمه أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، قال لقد رأيت زيد بن عمرو بن نفيل شيخا كبيرا مسندا ظهره إلى الكعبة، وهو يقول يا معشر قريش، والذي نفس زيد بن عمرو بيده ما أصبح منكم أحد على دين إبراهيم غيري، ثم يقول اللهم لو أني أعلم أي الوجوه أحب إليك عبدتك به ولكني لا أعلمه ثم يسجد على راحته.
    ـــــــ
    إني أشهدك أني على دين إبراهيم. وقال الليث كتب إلي هشام بن عروة عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - قالت رأيت زيد بن عمرو بن نفيل قائما مسندا ظهره إلى الكعبة، يقول يا معشر قريش، والله ما منكم على دين إبراهيم غيري، وكان يحيي الموءودة يقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته لا تقتلها، أكفيك مؤنتها، فيأخذها، فإذا ترعرعت قال لأبيها: إن شئت دفعتها إليك، وإن شئت كفيتك مؤنتها إلى هاهنا انتهى حديث البخاري. وفيه سؤال يقال كيف وفق الله زيدا إلى ترك أكل ما ذبح على النصب وما لم يذكر اسم الله عليه ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أولى بهذه الفضيلة في الجاهلية لما ثبت الله؟ فالجواب من وجهين أحدهما: أنه ليس في الحديث حين لقيه ببلدح فقدمت إليه السفرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكل منها، وإنما في الحديث أن زيدا قال حين قدمت السفرة لا آكل مما لم يذكر اسم الله عليه الجواب الثاني1: أن زيدا إنما فعل ذلك برأي رآه لا بشرع متقدم وإنما تقدم شرع إبراهيم بتحريم الميتة لا بتحريم ما ذبح لغير الله وإنما نزل تحريم ذلك في الإسلام وبعض الأصوليين يقولون الأشياء قبل ورود الشرع على الإباحة فإن قلنا بهذا، وقلنا إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأكل مما ذبح على النصب فإنما فعل أمرا مباحا، وإن كان لا يأكل منها فلا إشكال وإن قلنا أيضا: إنها ليست على الإباحة ولا على التحريم وهو الصحيح فالذبائح خاصة لها أصل
    ـــــــ
    1 جواب الثاني غير مقبول, وزعمه أن ما ذبح لغير الله لم يكن محرما في دين إبراهيم قول بغير دليل والأنصاب: أحجار كانت حول الكعبة يذبحون عليها الأصنام.
    (2/233)
    قال ابن إسحاق: وحدثت أن ابنه سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وعمر بن الخطاب، وهو ابن عمه قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنستغفر لزيد بن عمرو؟ قال نعم فإنه يبعث أمة وحده.
    ـــــــ
    في تحليل الشرع المتقدم كالشاة والبعير ونحو ذلك مما أحله الله تعالى في دين من كان قبلنا، ولم يقدح في ذلك التحليل المتقدم ما ابتدعوه حتى جاء الإسلام وأنزل الله سبحانه {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121]. ألا ترى كيف بقيت ذبائح أهل الكتاب عندنا على أصل التحليل بالشرع المتقدم ولم يقدح في التحليل ما أحدثوه من الكفر وعبادة الصلبان فكذلك كان ما ذبحه أهل الأوثان محلا بالشرع المتقدم حتى خصه القرآن بالتحريم.
    زيد وصعصعة والموءودة:
    فصل: وذكر خبر الموءودة وما كان زيد يفعل في ذلك وقد كان صعصعة بن معاوية جد الفرزدق رحمه الله يفعل مثل ذلك ولما أسلم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لي في ذلك من أجر؟ فقال في أصح الروايتين "لك أجره إذا من الله عليك بالإسلام" وقال المبرد في الكامل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كلاما لم يصح لفظه ولا معناه ولا يشهد له أصل. والأصول تشهد له بهذه الرواية التي ذكرناها ; لما ثبت أن الكافر إذا أسلم، وحسن إسلامه كتب له كل حسنة كان زلفها، وهذا الحديث أخرجه البخاري، ولم يذكر فيه كل حسنة كان زلفها، وذكرها الدارقطني وغيره ثم يكون القصاص بعد ذلك الحسنة بعشر أمثالها، والموءودة مفعولة من وأده إذا أثقله قال الفرزدق:
    ومنا الذي منع الوائدا ... ت وأحيا الوئيد فلم يوأد
    يعني: جده صعصعة بن معاوية بن ناجية بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع. وقد قيل كانوا يفعلون ذلك غيرة على البنات وما قاله الله في القرآن هو
    (2/234)
    شعر زيد في فراق دين قومه:
    وقال زيد بن عمرو بن نفيل في فراق دين قومه وما كان لقي منهم في ذلك:
    أربا واحدا، أم ألف رب ... أدين إذا تقسمت الأمور
    عزلت اللات والعزى جميعا ... كذلك يفعل الجلد الصبور
    ـــــــ
    الحق من قوله: {خشية إملاق} [الإسراء: 31] وذكر النقاش في التفسير أنهم كانوا يئدون من البنات ما كان منهن زرقاء أو برشاء أو شيماء أو كشحاء1 تشاؤما منهم بهذه الصفات قال الله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} 2 [التكوير 8 - 9].
    العزى:
    فصل: وذكر شعر زيد بن عمرو وفيه:
    عزلت اللات والعزى جميعا.
    فأما اللات فقد تقدم ذكرها، وأما العزى، فكانت نخلات مجتمعة وكان عمرو بن لحي قد أخبرهم - فيما ذكر - أن الرب يشتي بالطائف عند اللات، ويصيف بالعزى، فعظموها وبنوا لها بيتا، وكانوا يهدون إليه كما يهدون إلى الكعبة، وهي التي بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد ليكسرها، فقال له سادتها: يا خالد احذرها;
    ـــــــ
    1 الزرقاء: العمياء أو من بها ذلك. البرشاء: من في لونها نقط مختلفة حمراء, وأخرى غبراء. الشيماء: من كثرت في بدنها الشامات. الكشحاء: الموسومة بالنار في كشحها, وقيل: الكسحاء.
    2 راجع "فتح الباري". 7/115.
    (2/235)
    فلا العزى، أدين ولا ابنتيها ... ولا صنمي بني عمرو أزور
    ولا هبلا أدين وكان ربا ... لنا في الدهر إذ حلمي يسير
    عجبت. وفي الليالي معجبات ... وفي الأيام يعرفها البصير
    بأن الله قد أفنى رجالا ... كثيرا كان شأنهم الفجور
    وأبقى آخرين ببر قوم ... فيربل منهم الطفل الصغير1
    وبينا المرء يعثر ثاب2 يوما ... كما يتروح الغصن المطير
    ولكن أعبد الرحمن ربي ... ليغفر ذنبي الرب الغفور
    فتقوى الله ربكم احفظوها ... متى ما تحفظوها. لا تبوروا
    ـــــــ
    فإنها تجدع وتكنع فهدمها خالد وترك منها جذمها وأساسها، فقال قيمها: والله لتعودن ولتنتقمن ممن فعل بها هذا، فذكر - والله أعلم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لخالد "هل رأيت فيها شيئا"؟ فقال لا، فأمره أن يرجع ويستأصل بقيتها بالهدم فرجع خالد فأخرج أساسها، فوجد فيها امرأة سوداء منتفشة الشعر تخدش وجهها، فقتلها، وهرب القيم وهو يقول لا تعبد العزى بعد اليوم. هذا معنى ما ذكر أبو سعيد النيسابوري في المبعث. وذكره الأزرقي أيضا ورزين.
    معنى يربل:
    وقوله: فيربل منهم الطفل الصغير. ألفيت في حاشية الشيخ أبي بحر ربل الطفل يربل إذا شب وعظم. يربل بفتح الباء أي يكبر وينبت ومنه أخذ تربيل الأرض. وقوله كما يتروح الغصن أي ينبت ورقه بعد سقوطه.
    ـــــــ
    1 ربل الطفل يربل (من بابي نصر وضرب): إذا شب وعظم وكبر. وفي "الأغاني": فيربو.
    2 ثاب: رجع.
    (2/236)
    ترى الأبرار. دارهم جنان ... وللكفار حامية سعير
    وخزي في الحياة وإن يموتوا ... يلاقوا ما تضيق به الصدور
    وقال زيد بن عمرو بن نفيل أيضا - قال ابن هشام: هي لأمية بن أبي الصلت في قصيدة له. إلا البيتين الأولين والبيت الخامس وآخرإلاه ولا رب يكون مدانياها بيتا. وعجز البيت الأول عن غير ابن إسحاق:
    إلى الله أهدي مدحتي وثنائيا ... وقولا رصينا لا يني الدهر باقيا
    إلى الملك الأعلى الذي ليس فوقه ... إلاه ولا رب يكون مدانيا
    ـــــــ
    إعراب نعت النكرة المتقدم:
    وقوله: وللكفار حامية سعير. نصب حامية على الحال من سعير لأن نعت النكرة إذا تقدم عليها نصب على الحال وأنشد سيبويه في مثله:
    لمية موحشا طلل1
    وأنشد أيضا [لذي الرمة]:
    وتحت العوالي والقنا مستكنة ... ظباء أعارتها العيون الجآذر
    والعامل في هذا الحال الاستقرار الذي يعمل في الظرف ويتعلق به حرف الجر وهذا الحال على مذهب أبي الحسن الأخفش لا اعتراض فيها ; لأنه يجعل النكرة التي بعدها مرتفعة بالظرف ارتفاع الفاعل وأما على مذهب سيبويه، فالمسألة عسيرة جدا ; لأنه يلزمه أن يجعلها حالا من المضمر في الاستقرار لأنه معرفة فذلك أولى من أن يكون حالا من نكرة فإن قدر الاستقرار آخر الكلام وبعد المرفوع كان ذلك فاسدا ; لتقدم الحال على العامل المعنوي وللاحتجاج له وعليه موضع غير هذا.
    ـــــــ
    1 يرى ابن الحاجب في "أماليه" على أبيات "المفضل" انه يجوز أن تكون كلمة موحشا حالا من الضمير في "ليمة" لأن جعل الحال من المعرفة أولى من جعلها من النكرة متقدمة عليها, لأن هذا هو الكثير الشائع.
    (2/237)
    ألا أيها الإنسان إياك والردى1 ... فإنك لا تخفي من الله خافيا
    وإياك لا تجعل مع الله غيره ... فإن سبيل الرشد أصبح باديا
    حنانيك2 إن الجن كانت رجاءهم ... وأنت إلهي ربنا ورجائيا
    رضيت بك - اللهم - ربا فلن أرى ... أدين إلها غيرك الله ثانيا
    أدين لرب يستجاب ولا أرى ... أدين لمن لم يسمع الدهر داعيا
    وأنت الذي من فضل من ورحمة ... بعثت إلى موسى رسولا مناديا
    فقلت له يا اذهب وهارون فادعوا ... إلى الله فرعون الذي كان طاغيا
    وقولا له آأنت سويت هذه ... بلا وتد حتى اطمأنت كما هيا
    وقولا له آأنت رفعت هذه ... بلا عمد أرفق - إذا - بك بانيا
    وقولا له آأنت سويت وسطها ... منيرا، إذا ما جنه الليل هاديا
    وقولا له من يرسل الشمس غدوة ... فيصبح ما مست من الأرض ضاحيا
    وقولا له من ينبت الحب في الثرى ... فيصبح منه البقل يهتز رابيا
    ويخرج منه حبه في رءوسه ... وفي ذاك آيات لمن كان واعيا
    وأنت بفضل منك نجيت يونسا ... وقد بات في أضعاف حوت لياليا
    وإني لو سبحت باسمك ربنا ... لأكثر - إلا ما غفرت - خطائيا
    فرب العباد ألق سيبا ورحمة ... علي وبارك في بني وماليا
    وقال زيد بن عمرو يعاتب امرأته صفية بنت الحضرمي.
    ـــــــ
    من معاني شعر زيد:
    فصل: وأنشد أيضا لزيد:
    ـــــــ
    1 الردي: الهلال والموت, ليس المراد تحذيره الموت, وإنما المراد تحذيره ما يأتي به الموت ويبديه ويكشفه من جزاء العمال.
    2 حنانيك: أي حنانا بعد حنان.
    (2/238)
    نسب الحضرمي:
    قال ابن هشام: واسم الحضرمي عبد الله أحد الصدف، واسم الصدف عمرو بن مالك أحد السكون بن أشرس بن كندي ويقال كندة بن ثور بن مرتع بن عفير بن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد بن زيد بن مهسع بن عمرو بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ، ويقال مرتع بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ.
    ـــــــ
    إلى الله أهدي مدحتي وثنائيا.
    وفيه:
    ألا أيها الإنسان إياك والردى.
    تحذير من الردى، والردى هو الموت فظاهر اللفظ متروك وإنما هو تحذير مما يأتي به الموت ويبديه ويكشفه من جزاء الأعمال ولذلك قال فإنك لا تخفي من الله خافيا. وفيه:
    وإني وإن سبحت باسمك ربنا ... لأكثر إلا ما غفرت خطائيا
    معنى البيت: إني لأكثر من هذا الدعاء الذي هو باسمك ربنا إلا ما غفرت "وما" بعد إلا زائدة وإن سبحت: اعتراض بين اسم إن وخبرها، كما تقول إني لأكثر من هذا الدعاء الذي هو باسمك ربنا إلا والله يغفر لي لأفعل كذا، والتسبيح هنا بمعنى الصلاة أي لا أعتمد وإن صليت إلا على دعائك واستغفارك من خطاياي.
    تفسير حنانيك:
    وقوله حنانيك بلفظ التثنية قال النحويون يريد حنانا بعد حنان كأنهم ذهبوا إلى التضعيف والتكرار لا إلى القصر على اثنين خاصة دون مزيد. قال المؤلف رحمه الله ويجوز أن يريد حنانا في الدنيا، وحنانا في الآخرة وإذا قيل هذا
    (2/239)
    .................................................. .............................................
    ـــــــ
    المخلوق نحو قول طرفة:
    أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشر أهون من بعض
    فإنما يريد حنان دفع وحنان نفع لأن كل من أمل ملكا، فإنما يؤمله ليدفع عنه ضيرا، أو ليجلب إليه خيرا.
    شريعة أدين:
    وقوله: فلن أرى أدين إلها. أي أدين لإله وحذف اللام وعدى الفعل لأنه في معنى: أعبد إلها.
    حول اسم الله:
    وقوله: غيرك الله برفع الهاء أراد يا ألله وهذا لا يجوز فيما فيه الألف واللام إلا أن حكم الألف واللام في هذا اللفظ المعظم يخالف حكمها في سائر الأسماء ألا ترى أنك تقول يا أيها الرجل ولا ينادى اسم الله بيا أيها، وتقطع همزته في النداء فتقول يا ألله ولا يكون ذلك في اسم غيره إلى أحكام كثيرة يخالف فيها هذا الاسم لغيره من الأسماء المعرفة ولعل بعض ذلك أن يذكر فيما بعد - إن شاء الله - وقد استوفيناه في غير هذا الكتاب وفيه بيت حسن لم يذكره ابن إسحاق، وذكره أبو الفرج1 في أخبار زيد وهو:
    أدين إلها يستجار ولا أرى ... أدين لمن لم يسمع الدهر داعيا
    ـــــــ
    1 في كتابه "الأغاني".
    (2/240)
    .................................................. .............................................
    ـــــــ
    حذف المنادى مع بقاء الياء:
    وفيه فقلت: ألا يا اذهب على حذف المنادى، كأنه قال ألا يا هذا اذهب كما قرئ ألا يا اسجدوا، يريد يا قوم اسجدوا، وكما قال غيلان:
    ألا يا اسلمي يا دار مي على البلى1
    وفيه: اذهب وهارون عطفا على الضمير في اذهب وهو قبيح إذا لم يؤكد ولو نصبه على المفعول معه لكان جيدا.
    تصريف اطمأنت وأشياء:
    وقوله اطمأنت كما هيا، وزنه افلعلت لأن الميم أصلها أن تكون بعد الألف لأنه من تطأمن أي تطأطأ وإنما قدموها لتباعد الهمزة التي هي عين الفعل من همزة الوصل فتكون أخف عليهم في اللفظ كما فعلوا في أشياء حين قلبوها في قول الخليل وسيبويه فرارا من تقارب الهمزتين. كما هيا. ما: زائدة لتكف الكاف عن العمل وتهيئها للدخول على الجمل وهي اسم مبتدأ والخبر محذوف التقدير كما هي عليه والكاف في موضع نصب على الحال من المصدر الذي دل عليه اطمأن كما تقول سرت مثل سير زيد فمثل حال من سيرك الذي سرته، وفيه أرفق إذا بك بانيا. أرفق تعجب وبك في موضع رفع لأن المعنى: رفقت، وبانيا تمييز لأنه يصلح أن يجر بمن كما تقول أحسن بزيد من رجل وحرف الجر متعلق بمعنى التعجب إذ قد علم أنك متعجب منه ولبسط هذا المعنى وكشفه موضع غير هذا - إن شاء الله - وبعد قوله:
    ـــــــ
    1 هو لذي الرمة, غيلان بن عقبة من بني صعب بن مالك بن عبد مناة ويكنى أبا الحارث انظر: "خزانة لأدب": 1/74. ويرى الجوهري في "الصحاح" أن قوله تعالى: {ألا يا اسجدوا} .
    (2/241)
    شعر زيد في عتاب زوجته على اتفاقها مع الخطاب في معاكسته:
    قال ابن إسحاق: وكان زيد بن عمرو قد أجمع الخروج من مكة، ليضرب في الأرض يطلب الحنيفية دين إبراهيم صلى الله عليه وسلم فكانت صفية بنت الحضرمي كلما رأته قد تهيأ للخروج وأراده آذنت به الخطاب بن نفيل، وكان الخطاب بن نفيل عمه وأخاه لأمه وكان يعاتبه على فراق دين قومه وكان الخطاب قد وكل صفية به وقال إذا رأيتيه قد هم بأمر فآذنيني به - فقال زيد:
    لا تحبسيني في الهوا ... ن صفي ما دابي ودابه
    إني إذا خفت الهوا ... ن مشيع ذلل ركابه
    دعموص أبواب الملو ... ك وجائب للخرق نابه
    ـــــــ
    وقد بات في أضعاف حوت لياليا
    بيت لم يذكره ابن إسحاق، ووقع في جامع ابن وهب وهو:
    وأنبت يقطينا عليه برحمة ... من الله لولا ذاك أصبح ضاحيا1
    صفية بنت الحضرمي:
    وذكر صفية بنت الحضرمي واسم الحضرمي عبد الله بن عمار2 وسيأتي ذكر نسبها عند ذكر أخيها بعد.
    الدعموص والخرم في الشعر:
    وقوله دعموص أبواب الملوك. يريد ولاجا في أبواب الملوك وأصل
    ـــــــ
    1 اليقطين: كل شيء ذهب بسطافي الأرض, ومنه: القرع والبطح وغيرهما, وضاحيا: عاريا بارزا للشمس.
    2 في "السيرة": ورد اسم الحضرمي: عبد الله بن عباد, ويقول الخشني: والصواب: عماد لا عباد.
    (2/242)
    قطاع أسباب تذل بغير أقران صعابه
    وإنما أخذ الهوا ... ن العير إذ يوهى إهابه
    ويقول إني لا أذل بصك جنبيه صلابه
    وأخي ابن أمي، ثم عمي لا يواتيني خطابه
    وإذا يعاتبني بسو ... ء قلت: أعياني جوابه
    ولو أشاء لقلت: ما ... عندي مفاتحه وبابه
    شعر زيد حين كان يستقبل الكعبة:
    قال ابن إسحاق: وحدثت عن بعض أهل زيد بن عمرو بن نفيل: أن زيدا إذا كان استقبل الكعبة داخل المسجد قال لبيك حقا حقا، تعبدا ورقا.
    عذت بما عاذ به إبراهيم ... مستقبل القبلة وهو قائم
    إذ قال:
    ـــــــ
    الدعموص سمكة صغيرة كحية الماء فاستعاره هنا، وكذلك جاء في حديث أبي هريرة يرفعه "صغاركم دعاميص1 الجنة" وكما استعارت عائشة العصفور حين نظرت إلى طفل صغير قد مات فقالت "طوبى له عصفور من عصافير الجنة لم يعمل سوءا، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم "وما يدريك؟ إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلا، وخلق النار وخلق لها أهلا" أخرجه مسلم وفي هذه الأبيات خرم في موضعين أحدهما قوله:
    ولو أشاء لقلت ما ... عندي مفاتحه وبابه
    والآخر قوله:
    ـــــــ
    1 رواه احمد ومسلم والبخاري في "الأدب", وقدى فسره الخشني الدعموص بقوله: دويبة تغوص في الماء مرة بعد مرة, يشبه بها الرجل الذي يكثر الدلوج في الشياء, فيعني انه يكثر الدخول على الملوك.
    (2/243)
    أنفي لك اللهم عان راغم ... مهما تجشمني فإني جاشم
    البر أبغي لا الخال، ليس مهجر كمن قال.
    قال ابن هشام: ويقال: البر أبقى لا الخال1، ليس مهجر كمن2 قال. قال وقوله:
    مستقبل الكعبة عن بعض أهل العلم. قال ابن إسحاق: وقال زيد بن عمرو بن نفيل:
    وأسلمت وجهي لمن أسلمت ... له الأرض تحمل صخرا ثقالا
    دحاها فلما استوت ... على الماء أرسى عليها الجبالا
    وأسلمت وجهي لمن أسلمت ... له المزن تحمل عذبا زلالا
    إذا هي سيقت إلى بلدة ... أطاعت فصبت عليها سجالا
    الخطاب ووقوفه في سبيل زيد بن نفيل،وخروج زيد إلى الشام وموته:
    وكان الخطاب قد آذى زيدا، حتى أخرجه إلى أعلى مكة ، فنزل حراء مقابل
    ـــــــ
    وإنما أخذ الهوان ال ... عير إذ يوهى إهابه
    وقد تقدم مثل هذا في شعر ابن الزبعرى، وتكلمنا عليه هنالك بما فيه كفاية. وقوله ويقول إني لا أذل أي يقول العير ذلك بصك جنبيه صلابه أي صلاب ما يوضع عليه وأضافها إلى العير لأنها عبؤه وحمله.
    لغويات ونحويات:
    وذكر قوله البر أبغي لا الخال3 قال ابن هشام: البر أبغي: بالنصب والخال الخيلاء والكبر وقوله ليس مهجر كمن قال أي ليس من هجر
    ـــــــ
    1 الخال: الخيلاء والكبر.
    2 المهجر: الذي يسير في الهاجرة: أي القائلة.
    3 هو في الطبراني والبزار مع اختلاف يسير.
    (2/244)
    مكة، ووكل به الخطاب شبابا من شباب قريش وسفهاء من سفهائهم فقال لهم لا تتركوه يدخل مكة ، فكان لا يدخلها إلا سرا منهم فإذا علموا بذلك آذنوا به الخطاب فأخرجوه وآذوه كراهية أن يفسد عليهم دينهم وأن يتابعه أحد منهم على فراقه. فقال وهو يعظم حرمته على من استحل منه ما استحل من قومه:
    لاهم إني محرم لا حله ... وإن بيتي أوسط المحله
    عند الصفا ليس بذي مضله
    ثم خرج يطلب دين إبراهيم عليه السلام ويسأل الرهبان والأحبار حتى بلغ الموصل والجزيرة كلها، ثم أقبل فجال الشام كله حتى انتهى إلى راهب بميفعة من أرض البلقاء ، كان ينتهي إليه علم أهل النصرانية فيما يزعمون فسأله عن الحنيفية دين إبراهيم فقال إنك لتطلب دينا ما أنت بواجد من يحملك عليه اليوم ولكن قد أظل زمان نبي يخرج من بلادك التي خرجت منها، يبعث بدين إبراهيم الحنيفية فالحق بها، فإنه مبعوث الآن هذا زمانه وقد كان شام اليهودية والنصرانية، فلم يرض شيئا منهما، فخرج سريعا، حين قال له ذلك الراهب ما قال يريد مكة ، حتى إذا توسط بلاد لخم، عدوا عليه فقتلوه - فقال ورقة بن نوفل بن أسد يبكيه.
    رثاء ورقة لزيد:
    رشدت، وأنعمت ابن عمرو، وإنما ... تجنبت تنورا من النار حاميا
    بدينك ربا ليس رب كمثله ... وتركك أوثان الطواغي كما هيا
    وإدراكك الدين الذي قد طلبته ... ولم تك عن توحيد ربك ساهيا
    فأصبحت في دار كريم مقامها ... تعلل فيها بالكرامة لاهيا
    ـــــــ
    وتكيس كمن آثر القائلة والنوم فهو من قال يقيل وهو ثلاثي، ولكن لا يتعجب منه. لا يقال ما أقيله قال أهل النحو استغنوا عنه بما أنومه ولذكر السر في امتناع التعجب من هذا الفعل موضع غير هذا. وقول زيد إني محرم لا حله. محرم أي ساكن بالحرم والحلة: أهل الحل. يقال للواحد والجميع حلة. ذكر لقاء زيد
    (2/245)
    تلاقي خليل الله فيها، ولم تكن ... من الناس جبارا إلى النار هاويا
    وقد تدرك الإنسان رحمة ربه ... ولو كان تحت الأرض سبعين واديا
    قال ابن هشام: يروى لأمية بن أبي الصلت البيتان الأولان منها، وآخرها بيتا في قصيدة له. وقوله "أوثان الطواغي" عن غير ابن إسحاق.
    ـــــــ
    الراهب بميفعة هكذا تقيد في الأصل بكسر الميم من ميفعة1 والقياس فيها: الفتح لأنه اسم لموضع أخد من اليفاع وهو المرتفع من الأرض. وقوله شام اليهودية والنصرانية، هو فاعل من الشم كما قال يزيد بن شيبان حين سأل النسابة من قضاعة، ثم انصرف فقال له النسابة شاممتنا مشامة الذئب الغنم2 ثم تنصرف. في حديث ذكره أبو علي في النوادر ومعناه استخبر فاستعاره من الشم فنصب اليهودية والنصرانية نصب المفعول ومن خفض جعل شام اسم فاعل من شممت، والفعل أولى بهذا الموضع كما تقدم وقول ورقة رشدت وأنعمت ابن عمرو، أي رشدت وبالغت في الرشد كما يقال أمعنت النظر وأنعمته، وقوله ولو كان تحت الأرض سبعين واديا بالنصب. نصب سبعين على الحال لأنه قد يكون صفة للنكرة كما قال:
    فلو كنت في جب ثمانين قامة3
    وما [يكون] صفة للنكرة يكون حالا من المعرفة وهو هنا حال من البعد كأنه
    ـــــــ
    1 في "المراصد": بفتحالميم وبالفاء المفتوحة: قريبة من ارض البلقاء من الشام, وهي أيضا في دار همدان باليمن.
    2 الخبر في "الأمالي": 2/297. ط 2.
    3 الشعر للأعشى, وهو كما في "اللسان":
    لئن كنت في جب ثمانين قامة ... ورقيت أسباب السماء بسلم
    وصف بالثمانين, وإن كان اسما لأنه في معنى طويل, والبيت من شواهد سيبويه.
    (2/246)
    ـــــــ
    قال: ولو بعد تحت الأرض سبعين. كما تقول بعد طويلا، أي بعدا طويلا، وإذا حذفت المصدر وأقمت الصفة مقامه لم تكن إلا حالا، وقد تقدم قول سيبويه في ذلك في مسألة ساروا رويدا ونحو هذا: داري خلف دارك فرسخا، أي تقرب منها فرسخا إن أردت القرب وكذلك إن أردت البعد فالبعد والقرب مقدران بالفرسخ فلو قلت: داري تقرب منك قربا مقدرا بفرسخ لكان بمنزلة من يقول قربا كثيرا أو قليلا، فالفرسخ موضوع موضع كثير أو قليل فإعرابه كإعرابه وكذلك قول الشاعر:
    لا تعجبوا فلو ان طول قناته ... ميل إذا نظم الفوارس ميلا
    أي: نظمهم نظما مستطيلا، ووضع ميلا موضع مستطيلا، فإعرابه كإعرابه فهو وصف للمصدر وإذا أقيم الوصف مقام الموصوف في هذا الباب لم يكن حالا من الفاعل لكن من المصدر الذي يدل الفعل عليه بلفظه نحو ساروا طويلا، وسقيتها أحسن من سقي إبلك، ونحو ذلك.
    (2/247)
    صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإنجيل
    ...
    صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإنجيل :
    تبشير يحنس الحواري برسول الله صلى الله عليه وسلم:
    قال ابن إسحاق: وقد كان - فيما بلغني عما كان وضع عيسى ابن مريم فيما جاءه من الله في الإنجيل لأهل الإنجيل - من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أثبت يحنس الحواري
    ـــــــ
    يحنس الحواري:
    فصل وذكر يحنس الحواري وسيأتي في آخر الكتاب ذكر الحواريين كلهم بأسمائهم وذكر قوله أبغضتموني مجانا، أي باطلا، وكذلك جاء في الحكمة يا بن آدم علم مجانا، كما علمت مجانا، أي بلا ثمن وفي وصايا الحكماء شاور ذوي الأسنان والعقول يعطوك من رأيهم مجانا ما أخذوه بالثمن أي بطول
    (2/247)
    لهم حين نسخ لهم الإنجيل عن عهد عيسى ابن مريم عليه السلام في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم أنه قال "من أبغضني فقد أبغض الرب، ولولا أني صنعت بحضرتهم صنائع لم يصنعها أحد قبلي، ما كانت لهم خطيئة ولكن من الآن بطروا وظنوا أنهم يعزونني، وأيضا للرب ولكن لا بد من أن تتم الكلمة التي في الناموس أنهم أبغضوني مجانا، أي باطلا. فلو قد جاء المنحمنا هذا الذي يرسله الله إليكم من عند الرب وروح القدس هذا الذي من عند الرب خرج فهو شهيد علي وأنتم
    __________
    التجارب ومن صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول الله سبحانه أنت عبدي ورسولي1 سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب2 في الأسواق ولا يدفع السيئة بالسيئة ولكن يعفو ويصفح ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، فيفتح به عيونا عميا وآذانا صما، وقلوبا غلفا ; بأن يقولوا: لا إله إلا الله.
    من صفات النبي عند الأحبار:
    ومما وجد من صفته - صلى الله عليه وسلم - عند الأحبار ما ذكره الواقدي من حديث النعمان التيمي. قال وكان من أحبار يهود باليمن فلما سمع بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - قدم عليه فسأله عن أشياء ثم قال إن أبي كان يختم على سفر ويقول [لا تقرأه] على يهود3 حتى تسمع بنبي قد خرج بيثرب فإذا سمعت به فافتحه. قال نعمان فلما سمعت بك فتحت السفر فإذا فيه صفتك كما أراك الساعة وإذا فيه ما تحل وما تحرم وإذا فيه إنك خير الأنبياء وأمتك خير الأمم واسمك: أحمد وأمتك الحامدون. قربانهم دماؤهم وأناجيلهم صدورهم وهم لا يحضرون قتالا إلا
    ـــــــ
    1 جاء قبله: إنه لموصوف في التورات ببعض صفته في القرآن.
    2 في رواية: صخاب أو صخوب.
    3 أصل العبارة في "الروض": على سفر يقول. على اليهود. والتصويب من "السيرة الحلبية": 1/250.
    (2/248)
    أيضا; لأنكم قديما كنتم معي في هذا، قلت لكم لكيما لا تشكوا.
    والمنحمنا بالسريانية: محمد وهو بالرومية البرقليطس صلى الله عليه وآله وسلم.
    ـــــــ
    وجبريل معهم يتحنن الله عليهم كتحنن النسر على فراخه ثم قال لي: إذا سمعت به فاخرج إليه وآمن به وصدق به فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحب أن يسمع أصحابه حديثه فأتاه يوما، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم –: "يا نعمان حدثنا", فابتدأ النعمان الحديث من أوله فرئي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ يتبسم ثم قال "أشهد أني رسول الله" وهو الذي قتله الأسود العنسي، وقطعه عضوا عضوا، وهو يقول إن محمدا رسول الله وإنك كذاب مفتر على الله ثم حرقه بالنار".
    (2/249)
    مبعث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما
    ...
    مبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم تسليما:
    قال ابن إسحاق: المطلبي قال فلما بلغ محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعين سنة بعثه الله تعالى رحمة للعالمين وكافة للناس بشيرا، وكان الله تبارك وتعالى قد أخذ الميثاق على كل نبي بعثه قبله بالإيمان به والتصديق له والنصر له على من خالفه وأخذ عليهم أن يؤدوا ذلك إلى كل من آمن بهم وصدقهم فأدوا من ذلك ما كان عليهم من الحق فيه. يقول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا
    ـــــــ
    كتاب المبعث:
    متى بعث رسول الله؟
    ذكر ابن إسحاق أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث على رأس أربعين من مولده عليه السلام1 وهذا مروي عن ابن عباس، وجبير بن مطعم وقباث بن أشيم وعطاء وسعيد بن المسيب، وأنس بن مالك وهو صحيح عند أهل السير والعلم بالأثر وقد روي أنه نبئ لأربعين وشهرين من مولده وقيل لقباث بن أشيم من أكبر أنت أم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال رسول الله "أكبر مني، وأنا أسن منه" وولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفيل ووقفت بي أمي على روث الفيل ويروى: خزق الطير فرأيته أخضر محيلا، أي قد أتى عليه حول وفي غير رواية البكائي من هذا الكتاب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال لبلال "لا يفتك صيام يوم الاثنين فإني قد ولدت فيه وبعثت فيه وأموت فيه2" .
    ـــــــ
    1 اضطربت الأقوال حول سنه صلى الله عليه وسلم حين بعث, وتراوحت ما بين الأربعين والثالث والأربعون.
    2 في "مسلم" عن ابي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل النبي عن صوم يوم الإثنين فقال: "ذلك يوم ولدت فيه وأنزل على فيه".
    (2/250)
    آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي} أي ثقل ما حملتكم من عهدي : {قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 81]. فأخذ الله ميثاق النبيين جميعا بالتصديق له والنصر له ممن خالفه وأدوا ذلك إلى من آمن بهم وصدقهم من أهل هذين الكتابين.
    أول ما بدئ به الرسول صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصادقة:
    قال ابن إسحاق: فذكر الزهري عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها أنها حدثته أن: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من النبوة حين أراد الله كرامته ورحمة العباد به الرؤيا الصادقة لا يرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رؤيا في نومه إلا جاءت كفلق الصبح قالت وحبب الله تعالى إليه الخلوة فلم يكن شيء أحب إليه من أن يخلو وحده.
    ـــــــ
    إعراب لما آتيتكم:
    وذكر ابن إسحاق قول الله سبحانه {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} [آل عمران: 18] الآية1. وما في هذه الآية اسم مبتدأ بمعنى: الذي، والتقدير للذي آتيناكم من كتاب وحكمة ولا يصح أن تكون في موضع نصب على إضمار فعل كما ينتصب ما يشتغل عنه الفعل بضميره لأن ما بعد اللام الثانية لا يجوز أن يعمل فيما قبلها، وما لا يجوز أن يعمل فيه ما قبله فلا يجوز أن يكون تفسيرا لما يعمل فيه وقد قيل إن ما هذه شرط. والتقدير لمهما آتيتكم من كتاب وحكمة لتؤمنن به وهو ظاهر قول سيبويه لأنه جعلها بمنزلة إن وقول الخليل إنها بمنزلة الذي، أي إنها اسم لا حرف ويمكن الجمع بين قوليهما على هذا، فتكون اسما، وتكون شرطا، ويحتمل أيضا أن تكون على قول الخليل خبرية في موضع رفع بالابتداء ويكون الخبر لتؤمنن به ولتنصرنه وإن كان الضميران عائدين على الرسول لا على الذي، ولكن لما قال {رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا
    ـــــــ
    1 يقول طاوس والحسن البصري وقتادة في تفسير الآية: "أخذ الله ميثاق النبيين أن يصدق بعضهم بعضا", وهذا التفسير حق, وتنكير كلمة رسول في الآية يؤيده.
    (2/251)
    تسليم الحجارة والشجر عليه صلى الله عليه وسلم:
    قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الملك بن عبيد الله بن أبي سفيان بن العلاء ابن جارية الثقفي، وكان واعية عن بعض أهل العلم:
    أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أراده الله بكرامته وابتدأه بالنبوة كان إذا خرج لحاجته أبعد حتى تحسر عنه البيوت ويفضي إلى شعاب مكة وبطون أوديتها، فلا يمر
    ـــــــ
    مَعَكُمْ} [آل عمران: 81] لما معكم ارتبط الكلام بعضه ببعض واستغنى بالضمير العائد على الرسول عن ضمير يعود على المبتدأ وله نظير في التنزيل منه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} [البقرة: 234] خبره {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} [البقرة: من الآية228] ولم يعد على المبتدإ شيء لتشبث الكلام بعضه ببعض وقد لاح لي بعد نظري الكتاب أن الذي قاله الخليل وقول سيبويه قول واحد غير أنه قال ودخول اللام على ما، كدخولها على إن يعني: في الجزاء ولم يرد أن يعمل ما جزاء وإنما تكلم على اللام خاصة والله أعلم.
    النبوءة وأولو العزم:
    وذكر قول ابن إسحاق والنبوءة أثقال ومؤنة لا يحملها ولا يستطيعها إلا أهل القوة والعزم من الرسل ووقع في رواية يونس عن ابن إسحاق في هذا الموضع عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن قال سمعت وهب بن منبه وهو في مسجد منى - وذكر له يونس النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال كان عبدا صالحا، وكان في خلقه ضيق فلما حملت عليه أثقال النبوءة ولها أثقال تفسخ تحتها تفسخ الربع تحت الحمل الثقيل1 فألقاها عنه وخرج هاربا، وفي رواية عن ابن إسحاق إن أولي العزم من الرسل منهم نوح وهود وإبراهيم أما نوح فلقوله: {يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ} [يونس: 71] وأما هود فلقوله: {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا
    ـــــــ
    1 الربع بضم الراء وفتح الباء: الفصبل, ينيتج في الربيع, وهو أول الناتج والمقصود: ضعف وعجز.
    (2/252)
    رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحجر ولا شجر إلا قال السلام عليك يا رسول الله قال فيلتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم حوله وعن يمينه وشماله وخلفه فلا يرى إلا الشجر والحجارة. فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك يرى ويسمع ما شاء الله أن يمكث ثم جاءه جبريل عليه السلام بما جاءه من كرامة الله وهو بحراء في شهر رمضان.
    ابتداء نزول جبريل عليه السلام:
    قال ابن إسحاق: وحدثني وهب بن كيسان مولى آل الزبير. قال سمعت عبد الله بن الزبير وهو يقول لعبيد بن عمير بن قتادة الليثي حدثنا يا عبيد، كيف كان بدء ما ابتدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من النبوة حين جاءه جبريل عليه السلام؟ قال فقال عبيد - وأنا حاضر يحدث عبد الله بن الزبير، ومن عنده من الناس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في حراء من كل سنة شهرا، وكان ذلك مما تحنث به قريش في الجاهلية. والتحنث التبرز.
    قال ابن إسحاق: وقال أبو طالب:
    وثور ومن أرسى ثبيرا مكانه ... وراق ليرقى في حراء ونازل
    بحث لغوي لابن هشام في معنى التحنث:
    قال ابن هشام: تقول العرب: التحنث والتحنف يريدون الحنيفية فيبدلون الفاء من الثاء كما قالوا: جدف وجدث يريدون القبر. قال رؤبة بن العجاج:
    لو كان أحجاري مع الأجداف
    يريد الأجداث وهذا البيت في أرجوزة له. وبيت أبي طالب في قصيدة له سأذكرها إن شاء الله في موضعها.
    ـــــــ
    تُشْرِكُونَ} [هود: 54] وأما إبراهيم فلقوله هو والذين معه: {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [اللممتحنة: 4] وأمر الله نبينا أن يصبر كما صبر هؤلاء1.
    ـــــــ
    1 من أشهر الأقوال عن أولى العزز أنهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم, ودليله أن الله تعالى نص على أسمائهم في الأحزاب [7] والشورى [13].
    (2/253)
    قال ابن هشام: وحدثني أبو عبيدة أن العرب تقول فم في موضع ثم يبدلون الفاء من الثاء.
    قال ابن إسحاق: حدثني وهب بن كيسان قال قال عبيد [بن عمير]: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم
    ـــــــ
    أول ما بدئ به النبي صلى الله عليه وسلم من النبوءة:
    فصل وذكر ابن إسحاق: ما بدئ به النبي - صلى الله عليه وسلم - من النبوءة إذ كان لا يمر بحجر ولا شجر إلا قال السلام عليك يا رسول الله1 وفي مصنف الترمذي ومسلم أيضا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال "إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن ينزل علي" وفي بعض المسندات زيادة أن هذا الحجر الذي كان يسلم عليه هو الحجر الأسود، وهذا التسليم الأظهر فيه أن يكون حقيقة وأن يكون الله أنطقه إنطاقا كما خلق الحنين في الجذع2 ولكن ليس من شرط الكلام الذي هو صوت وحرف الحياة والعلم والإرادة لأنه صوت كسائر الأصوات والصوت عرض في قول الأكثرين ولم يخالف فيه إلا النظام فإنه زعم أنه جسم وجعله الأشعري اصطكاكا في الجواهر بعضها لبعض وقال أبو بكر بن الطيب ليس الصوت نفس الاصطكاك ولكنه معنى زائد عليه وللاحتجاج على القولين ولهما موضع غير هذا، ولو قدرت الكلام صفة قائمة بنفس الحجر والشجر والصوت عبارة عنه لم يكن بد من اشتراط الحياة والعلم مع الكلام والله أعلم أي ذلك كان أكان كلاما مقرونا بحياة وعلم فيكون الحجر به مؤمنا، أو كان صوتا مجردا غير مقترن بحياة؟ وفي كلا الوجهين هو علم من أعلام النبوءة3 وأما حنين الجذع فقد سمي حنينا، وحقيقة الحنين يقتضي شرط الحياة وقد يحتمل تسليم الحجارة أن يكون مضافا في
    ـــــــ
    1 في "الترمذي" و "الدارمي": قال علي رضي الله عنه: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فخرجنا في بعض نواحيها, فما استقبله جبل ولا شجر ألا وهو يقول: السلام عليك يا رسول الله, وروى مثله الطبراني في "الوسط", وفيه مجهول.
    2 ورد حنين الجزع في حديث رواه البخاري والنسائي والترمذي.
    3 ليس لأحد أن يتكلم عن حقيقة مثل هذا, فالله وحده هو أعلم بالحقيقة.
    (2/254)
    .................................................. .............................................
    ـــــــ
    الحقيقة إلى ملائكة يسكنون تلك الأماكن يعمرونها، فيكون مجازا من قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] والأول أظهر وإن كانت كل صورة من هذه الصور التي ذكرناها فيها علم على نبوته - عليه السلام - غير أنه لا يسمى معجزة في اصطلاح المتكلمين إلا ما تحدى به الخلق فعجزوا عن معارضته.
    مدلول تفعل:
    وذكر حديث عبيد بن عمير أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يجاور بغار حراء1 ويتحنث فيه قال والتحنث التبرز. تفعل من البر وتفعل يقتضي الدخول في الفعل وهو الأكثر فيها مثل تفقه وتعبد وتنسك وقد جاءت في ألفاظ يسيرة تعطي الخروج عن الشيء واطراحه كالتأثم والتحرج. والتحنث بالثاء المثلثة لأنه من الحنث وهو الحمل الثقيل وكذلك التقذر إنما هو تباعد عن القذر وأما التحنف بالفاء فهو من باب التبرر لأنه من الحنيفية دين إبراهيم وإن كان الفاء مبدلة من الثاء فهو من باب التقذر والتأثم وهو قول ابن هشام، واحتج بجدف وجدث وأنشد قول رؤبة:
    لو كان أحجاري مع الأجداف
    وفي بيت رؤبة هذا شاهد ورد على ابن جني حيث زعم في سر الصناعة أن جدف بالفاء لا يجمع على أجداف واحتج بهذا لمذهبه في أن الثاء هي الأصل وقول رؤبة رد عليه والذي نذهب إليه أن الفاء هي الأصل في هذا الحرف لأنه من الجدف وهو القطع ومنه مجداف السفينة وفي حديث عمر في وصف الجن: شرابهم الجدف وهي الرغوة لأنها تجدف عن الماء وقيل هي نبات يقطع ويؤكل.
    ـــــــ
    1 جبل بينه وبين مكة ثلاثة أميال على يسار الذهاب إلى منى.
    (2/255)
    يجاور ذات الشهر من كل سنة يطعم من جاءه من المساكين فإذا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم جواره من شهره ذلك كان أول ما يبدأ به - إذا انصرف من جواره - الكعبة، قبل أن يدخل بيته فيطوف بها سبعا، أو ما شاء الله من ذلك، ثم يرجع إلى بيته حتى إذا كان الشهر الذي أراد الله تعالى به فيه ما أراد من كرامته من السنة التي بعثه الله تعالى فيها، وذلك الشهر شهر رمضان خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حراء، كما كان يخرج لجواره ومعه أهله حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله فيها برسالته
    ـــــــ
    وقيل كل إناء كشف عنه غطاؤه جدف والجدف القبر من هذا، فله مادة وأصل في الاشتقاق فأجدر بأن تكون الفاء هي الأصل والثاء داخلة عليها1.
    حول مجاورته في حراء:
    وقوله يجاور في حراء إلى آخر الكلام. الجوار بالكسر في معنى المجاورة وهي الاعتكاف ولا فرق بين الجوار والاعتكاف إلا من وجه واحد وهو أن الاعتكاف لا يكون إلا داخل المسجد والجوار قد يكون خارج المسجد كذلك قال ابن عبد البر، ولذلك لم يسم جواره بحراء اعتكافا، لأن حراء ليس من المسجد ولكنه من جبال الحرم، وهو الجبل الذي نادى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قال له ثبير وهو على ظهره اهبط عني ; فإني أخاف أن تقتل على ظهري فأعذب فناداه حراء: إلي إلي يا رسول الله2.
    ـــــــ
    1 الجدف بالذال والدال: القبر, وكذلك الجدث, وفي "القاموس" عن الجدف أنه نبات باليمن يغني آكله عن شرب الماء عليه.
    2 حديث يروى في السير, وذكره القاضي عياض في "الشفا" بلا سند فهي أسطورة.
    (2/256)
    ورحم العباد بها، جاءه جبريل عليه السلام بأمر الله تعالى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
    ـــــــ
    كيفية الوحي:
    فصل: وذكر نزول جبريل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في الحديث فأتاني وأنا نائم وقال في آخره فهببت من نومي، فكأنما كتبت في قلبي كتابا، وليس ذكر النوم في حديث عائشة ولا غيرها، بل في حديث عروة عن عائشة ما يدل ظاهره على أن نزول جبريل حين نزل بسورة اقرأ كان في اليقظة لأنها قالت في أول الحديث أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرؤيا الصادقة كان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب الله إليه الخلاء - إلى قولها - حتى جاءه الحق، وهو بغار حراء، فجاءه جبريل. فذكرت في هذا الحديث أن الرؤيا كانت قبل نزول جبريل على النبي - عليه السلام - بالقرآن وقد يمكن الجمع بين الحديثين بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاءه جبريل في المنام قبل أن يأتيه في اليقظة توطئة وتيسيرا عليه ورفقا به لأن أمر النبوءة عظيم وعبؤها ثقيل والبشر ضعيف وسيأتي في حديث الإسراء من مقالة العلماء ما يؤكد هذا ويصححه وقد ثبت بالطرق الصحاح عن عامر الشعبي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكل به إسرافيل فكان يتراءى له ثلاث سنين ويأتيه بالكلمة من الوحي والشيء1 ثم وكل به جبريل فجاءه بالقرآن والوحي فعلى هذا كان نزول الوحي عليه - صلى الله عليه وسلم - في أحوال مختلفة فمنها: النوم كما في حديث ابن إسحاق، وكما قالت عائشة أيضا : أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرؤيا الصادقة2 وقد قال إبراهيم عليه السلام: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات: 102] فقال له ابنه: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات 102]، فدل على أن الوحي كان يأتيهم في المنام كما يأتيهم في اليقظة.
    ـــــــ
    1 هذا مخالف لما ثبت في الأحاديث الصحيحة.
    2 ورد هذا في حديث رواه الشيخان والترمذي.
    (2/257)
    "فجاءني جبريل وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب فقال اقرأ قال قلت: ما
    ـــــــ
    ومنها: أن ينفث في روعه الكلام نفثا، كما قال عليه السلام "إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل أجلها ورزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب1" وقال مجاهد، وأكثر المفسرين في قوله سبحانه {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً} [الشورى: 51]. قال هو أن ينفث في روعه بالوحي.
    ومنها: أن يأتيه الوحي في مثل صلصلة الجرس2 وهو أشده عليه وقيل إن ذلك ليستجمع قلبه عند تلك الصلصلة، فيكون أوعى لما يسمع وألقن لما يلقى.
    ومنها: أن يتمثل له الملك رجلا، فقد كان يأتيه في صورة دحية3 بن خليفة ويروى أن دحية إذا قدم المدينة لم تبق معصر4 إلا خرجت تنظر إليه لفرط جماله. وقال ابن سلام في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً} [الجمعة: 11]. قال كان اللهو نظرهم إلى وجه دحية لجماله.
    ومنها: أن يتراءى له جبريل في صورته التي خلقه الله فيها، له ستمائة جناح ينتشر منها اللؤلؤ والياقوت.
    ومنها: أن يكلمه الله من وراء حجاب إما في اليقظة كما كلمه في ليلة الإسراء وإما في النوم كما قال في حديث معاذ الذي رواه الترمذي، قال "أتاني ربي في أحسن صورة فقال فيم يختصم الملأ الأعلى، فقلت: لا أدري. فوضع كفه بين كتفي فوجدت بردها بين ثندوتي وتجلى لي علم كل شيء وقال يا محمد
    ـــــــ
    1 رواه أبو نعيم في "الحلية" عن أبي أمامة, وعلم عليه السيوطي [أنه ضعيف.
    2 ورد هذا في حديث متفق عليه.
    3 دحية –بكسر الدال وقد تفتح- بن خليفة بن فروة بن فضالة بن زيد بن امرئ القيس بن الخروج.
    4 المرأة بلغت شبابها وأدركت.
    (2/258)
    .................................................. .............................................
    ـــــــ
    فيم يختصم الملأ الأعلى، فقلت: في الكفارات فقال وما هن؟ فقلت: الوضوء عند الكريهات ونقل الأقدام إلى الحسنات وانتظار الصلوات بعد الصلوات فمن فعل ذلك عاش حميدا، ومات حميدا، وكان من ذنبه كمن ولدته أمه" وذكر الحديث. فهذه ستة أحوال وحالة سابعة قد قدمنا ذكرها، وهي نزول إسرافيل عليه بكلمات من الوحي قيل جبريل فهذه سبع صور في كيفية نزول الوحي على محمد - صلى الله عليه وسلم - لم أر أحدا جمعها كهذا الجمع وقد استشهدنا على صحتها بما فيه غنية، وقد أملينا أيضا في حقيقة رؤيته عليه السلام ربه في المنام على أحسن صورة ويروى: على صورة شاب مسألة بديعة كاشفة لقناع اللبس فلتنظر هنالك.
    من تفسير حديث الوحي:
    فصل: وذكر في الحديث أن جبريل أتاه بنمط من ديباج فيه كتاب فقال اقرأ قال بعض المفسرين في قوله وقال ابن سلام في قوله تعالى: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 1، 2] إنها إشارة إلى الكتاب الذي جاءه به جبريل حين قال اقرأ وفي الآية أقوال غير هذه منها: أنها إشارة إلى ما تضمنه قوله سبحانه {الم} ; لأن هذه الحروف المقطعة تضمنت معاني الكتاب كله فهي كالترجمة له.
    معنى {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} :
    وقوله "ما أنا بقارئ" أي إني أمي، فلا أقرأ الكتب قالها1 ثلاثا فقيل له: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} أي إنك لا تقرؤه بحولك، ولا بصفة نفسك، ولا بمعرفتك، ولكن اقرأ مفتتحا باسم2 ربك مستعينا به فهو يعلمك كما خلقك وكما نزع عنك
    ـــــــ
    1 قيل إن ما استفهامية, لما ورد في رواية أبي الأسود عن عروة: كيف أقرأ؟
    2 أي ناويا بقراءته وجه الله تعالى.
    (2/259)
    أقرأ؟ قال فغتني به حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني، فقال اقرأ قال قلت: ما أقرأ؟ قال فغتني به حتى ظننت أنه الموت. ثم أرسلني، فقال اقرأ قال قلت: ماذا أقرأ؟ قال فغتني به حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني، فقال اقرأ قال فقلت: ماذا أقرأ؟ ما أقول ذلك إلا افتداء منه أن يعود لي بمثل ما صنع بي، فقال {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1 – 5] قال فقرأتها ثم انتهى، فانصرف
    ـــــــ
    علق الدم ومغمز الشيطان بعدما خلقه فيك، كما خلقه في كل إنسان. والآيتان المتقدمتان لمحمد والآخرتان لأمته وهما قوله تعالى: {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 4، 5] لأنها كانت أمة أمية لا تكتب فصاروا أهل كتاب وأصحاب قلم فتعلموا القرآن بالقلم وتعلمه نبيهم تلقينا من جبريل نزله على قلبه بإذن الله ليكون من المرسلين.
    حول بسم الله:
    فصل وفي قوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} من الفقه وجوب استفتاح القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم1 غير أنه أمر مبهم لم يبين له بأي اسم من أسماء ربه يفتتح حتى جاء البيان بعد في قوله: {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا} [هود: 41] ثم قوله تعالى: {وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل: 30]. ثم كان بعد ذلك ينزل جبريل عليه ببسم الله الرحمن الرحيم مع كل سورة وقد ثبتت في سواد المصحف بإجماع من الصحابة على ذلك وما ذكره البخاري من مصحف الحسن البصري، فشذوذ فهي على هذا من القرآن إذ لا يكتب في المصحف ما ليس بقرآن ولا يلتزم قول الشافعي أنها آية من كل سورة ولا أنها آية من الفاتحة بل نقول إنها آية من كتاب الله تعالى، مقترنة مع السورة وهو قول داود وأبي حنيفة، وهو قول بين القوة لمن أنصف،
    ـــــــ
    1 يقول ابن كثير: افتتح بها الصحابة كتاب الله, واتفق العلمخاء على أنها بعض آية من سورة النمل.
    (2/260)
    عني، وهببت من نومي، فكأنما كتبت في قلبي كتابا. قال فخرجت حتى إذا كنت في وسط من الجبل سمعت صوتا من السماء يقول يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل. قال فرفعت رأسي إلى السماء أنظر فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء يقول يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل. قال فوقفت أنظر إليه فما أتقدم وما أتأخر وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك فما زلت واقفا ما أتقدم أمامي، وما أرجع ورائي، حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي، فبلغوا أعلى مكة، ورجعوا إليها، وأنا واقف في مكاني ذلك ثم انصرف عني.
    ـــــــ
    وحين نزلت بسم الله الرحمن الرحيم سبحت الجبال فقالت قريش: سحر محمد الجبال ذكره النقاش وإن صح ما ذكره فلمعنى ما سبحت عند نزولها خاصة وذلك أنها آية أنزلت على آل داود، وقد كانت الجبال تسبح مع داود، كما قال الله تعالى: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْأِشْرَاقِ} [ص: 18] وقال: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل: 30].
    وفي الحديث ذكر نمط الديباج من الكتاب وفيه دليل وإشارة إلى أن هذا الكتاب يفتح على أمته ملك الأعاجم، ويسلبونهم الديباج والحرير الذي كان زيهم وزينتهم وبه أيضا ينال ملك الآخرة ولباس الجنة وهو الحرير والديباج وفي سير موسى بن عقبة، وسير سليمان بن المعتمر زيادة وهو أن جبريل أتاه بدرنوك1 من ديباج منسوج بالدر والياقوت فأجلسه عليه غير أن موسى بن عقبة قال ببساط ولم يقل درنوك، وقال في سير بن المعتمر إن الله تعالى أنزل عليه: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1] الآيات كأنه يشير به فمسح جبريل صدره وقال اللهم اشرح صدره وارفع ذكره وضع عنه وزره ويصحح ما رواه ابن
    ـــــــ
    1 في "النهاية" لآبن الأثير: ستر له خمل وجمعه: درانك, ويقال درموك أيضا, وفي "القاموس": ضرب من الثياب أو البسط كالدرنيك بكسر الدال.
    (2/261)
    .................................................. .............................................
    ـــــــ
    المعتمر أن الله تعالى أنزل عليه {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1] الآيات كأنه يشير إلى ذلك الدعاء الذي كان من جبريل والله أعلم.
    الغط:
    وقوله في الحديث فغطني1، ويروى: فسأبني، ويروى: سأتني، وأحسبه أيضا يروى: فذعتني2 وكلها بمعنى واحد وهو الخنق والغم، ومن الذعت حديثه الآخر أن الشيطان عرض له وهو يصلي قال فذعته حتى وجدت برد لسانه على يدي ثم ذكرت قول أخي سليمان: {وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي}
    [ص: 35] الحديث وكان في ذلك إظهار للشدة والجد في الأمر وأن يأخذ الكتاب بقوة ويترك الأناة فإنه أمر ليس بالهوينى، وقد انتزع بعض التابعين وهو شريح القاضي من هذا: ألا يضرب الصبي على القرآن إلا ثلاثا كما غط جبريل عليه السلام محمدا - صلى الله عليه وسلم - ثلاثا، وعلى رواية ابن إسحاق أن ذلك في نومه كان يكون في تلك الغطات الثلاث من التأويل ثلاث شدائد يبتلى بها أولا، ثم يأتي الفرج والروح وكذلك كان لقي هو وأصحابه شدة من الجوع في شعب الخيف، حين تعاقدت قريش ألا يبيعوا منهم ولا يتركوا ميرة تصل إليهم وشدة أخرى من الخوف والإيعاد بالقتل وشدة أخرى من الإجلاء عن أحب الأوطان إليه ثم كانت العاقبة للمتقين والحمد لله رب العالمين.
    ـــــــ
    1 غطني: ضمني وعصرني, والغث: حبس النفس.
    2 ذعته: ذأته ومعكه في التراب, ودفعه دفعا عنيفا وتقال بالدال أيضا, و السأب: العصر في الحلق, والسأب: الخنق.
    (2/262)
    رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص على خديجة ما كان من أمر جبريل معه:
    وانصرفت راجعا إلى أهلي، حتى أتيت خديجة فجلست إلى فخذها مضيفا إليها، فقالت يا أبا القاسم أين كنت؟ فوالله لقد بعثت رسلي في طلبك، حتى بلغوا مكة ورجعوا لي، ثم حدثتها بالذي رأيت، فقالت أبشر يا بن عم واثبت فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة.
    ـــــــ
    ما أنا بقارئ:
    وقوله في حديث ابن إسحاق: اقرأ قال ما أقرأ يحتمل أن تكون ما استفهاما، يريد أي شيء أقرأ؟ ويحتمل أن تكون نفيا، ورواية البخاري ومسلم تدل على أنه أراد النفي أي ما أحسن أن أقرأ كما تقدم من قوله ما أنا بقارئ1.
    رؤية جبريل ومعنى اسمه:
    وذكر رؤيته لجبريل وهو صاف قدميه وفي حديث جابر أنه رآه على رفرف2 بين السماء والأرض ويروى: على عرش بين السماء والأرض وفي حديث البخاري الذي ذكره في آخر الجامع أنه حين فتر عنه الوحي كان يأتي شواهق الجبال يهم بأن يلقي نفسه منها، فكان جبريل يتراءى له بين السماء والأرض يقول له أنت رسول الله وأنا جبريل. واسم جبريل سرياني، ومعناه عبد الرحمن أو عبد العزيز. هكذا جاء عن ابن عباس موقوفا ومرفوعا أيضا، والوقف أصله. وأكثر الناس على أن آخر الاسم منه هو اسم الله وهو إيل وكان شيخنا رحمه الله يذهب مذهب طائفة من أهل العلم في أن هذه الأسماء إضافتها مقلوبة وكذلك الإضافة في كلام العجم، يقولون في غلام زيد زيد غلام فعلى
    ـــــــ
    1 فإن قيل: لم كرر ثلاثا؟ أجاب ابو شامة: بأن يحمل قوله أولا: ما أنا بقارئ على الإمتناع, وثانيا: على الإحبار بالنفي المحض, وثالثا على الإستفهام.
    2 البساط أو الستر, أصله ما كان من الديباج وغيره رقيقا حسن الصنعة. ثم توسع فيه.
    (2/263)
    خديجة بين يدي ورقة تحدثه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:
    ثم قامت فجمعت عليها ثيابها، ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وهو ابن عمها، وكان ورقة قد تنصر وقرأ الكتب وسمع من أهل التوراة والإنجيل، فأخبرته بما أخبرها به رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى وسمع فقال ورقة بن نوفل: قدوس قدوس والذي نفس ورقة بيده لئن كنت صدقتيني يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى. وإنه لنبي هذه الأمة فقولي له فليثبت. فرجعت خديجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بقول ورقة بن نوفل، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم جواره وانصرف صنع كما كان يصنع بدأ بالكعبة، فطاف بها، فلقيه ورقة بن نوفل، وهو يطوف بالكعبة، فقال يا بن أخي أخبرني بما رأيت وسمعت، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له ورقة والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة ولقد
    ـــــــ
    هذا يكون إيل عبارة عن العبد ويكون أول الاسم عبارة عن اسم من أسماء الله تعالى، ألا ترى كيف قال في حديث ابن عباس: جبريل وميكائيل كما تقول عبد الله وعبد الرحمن ألا ترى أن لفظ عبد يتكرر بلفظ واحد والأسماء ألفاظها مختلفة.
    حول معنى إل وخرافة الرهبان:
    وأما إل بالتشديد من قوله تعالى: {إِلّاً وَلا ذِمَّةً} [التوبة: 10] فحذار حذار من أن تقول فيه هو اسم1 الله فتسمي الله باسم لم يسم به نفسه ألا ترى أن جميع أسماء الله تعالى معرفة و "إل" نكرة وحاشا لله أن يكون اسمه نكرة وإنما الأل كل ما له حرمة وحق، فمما له حق ويجب تعظيمه القرابة والرحم والجوار والعهد وهو من أللت: إذا اجتهدت في الشيء وحافظت عليه ولم تضيعه ومنه الأل في
    ـــــــ
    1 له الحق في أن يحذر من هذا, فهو ليس من الأسماء الحسنى, وإن كان موجودا في بعض معاجم اللغة.
    (2/264)
    جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى، ولتكذبنه ولتؤذينه ولتخرجنه ولتقاتله ولئن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرن الله نصرا يعلمه ثم أدنى رأسه منه فقبل يافوخه ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزله.
    ـــــــ
    السير وهو الجد، ومنه قول الكميت [يصف رجلا]:
    وأنت ما أنت في غبراء مجدبة ... إذا دعت ألليها الكاعب الفضل1
    يريد اجتهدت في الدعاء وإذا كان الأل بالفتح المصدر فالإل بالكسر الاسم كالذبح في الذبح فهو إذا الشيء المحافظ عليه وقول الصديق [عن كلام مسيلمة]: هذا كلام لم يخرج من إل ولا بر أي لم يصدر عن ربوبية لأن الربوبية حقها واجب معظم وكذلك فسره أبو عبيد، واتفق في اسم جبريل عليه السلام أنه موافق من جهة العربية لمعناه وإن كان أعجميا، فإن الجبر هو إصلاح ما وهى، وجبريل موكل بالوحي وفي الوحي إصلاح ما فسد وجبر ما وهى من الدين ولم يكن معروفا بمكة ولا بأرض العرب فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم خديجة به انطلقت تسأل من عنده علم من الكتاب كعداس ونسطور الراهب2 فقال لها: قدوس قدوس أنى لهذا الاسم أن يذكر في هذه البلاد وقد قدمنا هذا الخبر عنها، وهو في سير التيمي لما ذكرناه قبل وفي كتاب المعيطي عن أشهب قال سئل مالك عن التسمي بجبريل أو من يسمي به ولده فكره ذلك ولم يعجبه.
    معنى الناموس:
    وقول ورقة لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى. الناموس صاحب سر الملك قال بعضهم هو صاحب سر الخير والجاسوس هو صاحب
    ـــــــ
    1 في الأصل: إليهما, والبيت في "اللسان" هو:
    وأنت ما أنت في غبراء مظلمة ... إذا دعت الكيها الكعاعب الفضل.
    2 عداس –كما قال- نصراني من نينوي وانظر قصته في "السيرة الحلبية": 1/278.
    (2/265)
    امتحان خديجة برهان الوحي:
    قال ابن إسحاق: وحدثني إسماعيل بن أبي حكيم مولى آل الزبير: أنه حدث عن خديجة رضي الله عنها أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي ابن عم أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك؟ قال "نعم". قالت فإذا جاءك فأخبرني به. فجاءه جبريل عليه السلام، كما كان يصنع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لخديجة "يا خديجة هذا جبريل قد جاءني"، قالت قم يا ابن عم فاجلس على فخذي اليسرى، قال فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجلس عليها، قالت هل تراه؟ قال "نعم"، قالت فتحول فاجلس على فخذي اليمنى، قالت فتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس على فخذها اليمنى، فقالت هل تراه؟ قال "نعم"، قالت فتحول فاجلس في حجري، قالت فتحول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجلس في حجرها، قالت هل تراه؟ قال "نعم"، قال فتحسرت وألقت خمارها - ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في حجرها - ثم قالت له هل تراه؟ قال "لا", قالت يا ابن عم اثبت وأبشر فوالله إنه لملك وما هذا بشيطان .
    قال ابن إسحاق: وقد حدثت عبد الله بن حسن هذا الحديث فقال قد سمعت أمي فاطمة بنت حسين تحدث بهذا الحديث عن خديجة إلا أني سمعتها تقول أدخلت رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها وبين درعها، فذهب عند ذلك جبريل فقالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن هذا لملك وما هو بشيطان.
    __________
    سر الشر1 وقد فسره أبو عبيد وأنشد:
    فأبلغ يزيد إن عرضت ومنذرا ... عمهما والمستشز المنامسا2
    لم ذكر موسى ولم يذكر عيسى؟
    وإنما ذكر ورقة موسى ولم يذكر عيسى، وهو أقرب لأن ورقة كان قد تنصر
    ـــــــ
    1 جزم البخاري أنه صاحب السر, وقال ابن دريد: صا حب الوحي, وأهل الكتاب يسمون جبريل: الناموس الأكبر, والخشني يقول: أصل الناموس هو: صاحب السر الرجل في خيره وشره.
    2 البيت للكميت كما ذكر "اللسان".
    (2/266)
    .................................................. .............................................
    ـــــــ
    والنصارى لا يقولون في عيسى: إنه نبي يأتيه جبريل إنما يقولون فيه إن أقنوما من الأقانيم1 الثلاثة اللاهوتية حل بناسوت المسيح واتحد به على اختلاف بينهم في ذلك الحلول وهو أقنوم الكلمة والكلمة عندهم عبارة عن العلم فلذلك كان المسيح عندهم يعلم الغيب ويخبر بما في غد فلما كان هذا من مذهب النصارى الكذبة على الله المدعين المحال عدل عن ذكر عيسى إلى ذكر موسى لعلمه أو لاعتقاده أن جبريل كان ينزل على موسى، لكن ورقة قد ثبت إيمانه بمحمد عليه السلام2 وقد قدمنا حديث الترمذي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رآه في المنام وعليه ثياب بيض إلى آخر الحديث.
    حول هاء السكت والفعل تدرك:
    وقول ورقة لتكذبنه ولتؤذينه ولا ينطق بهذه الهاء إلا ساكنة لأنها هاء السكت وليست بهاء إضمار. وقوله إن أدرك ذلك اليوم أنصرك نصرا مؤزرا، وقال في الحديث إن يدركني يومك وهو القياس لأن ورقة سابق بالوجود والسابق هو الذي يدركه من يأتي بعده كما جاء في الحديث أشقى الناس من أدركته الساعة وهو حي، ورواية ابن إسحاق أيضا لها وجه لأن المعنى: أترى ذلك اليوم فسمى رؤيته إدراكا، وفي التنزيل: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] أي لا تراه على أحد القولين. وقوله مؤزرا من الأزر وهو القوة والعون.
    شرح: أومخرجي؟
    فصل وفي حديث البخاري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لورقة: "أومخرجي هم" لا بد من تشديد الياء في مخرجي لأنه جمع، والأصل مخرجوي فأدغمت الواو في
    ـــــــ
    1 الاقنوم: كلمة رومية معناها: الأصل.
    2 هذا بعيد عن الصواب, لأن الجن الذين سمعوا القرآن قالوا: {سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} [الاحقاف: 30] انظر الرد على ذلك في "فتح الباري": 1/29.
    (2/267)
    .................................................. .............................................
    ـــــــ
    الياء وهو خبر ابتداء مقدم ولو كان المبتدأ اسما ظاهرا لجاز تخفيف الياء ويكون الاسم الظاهر فاعلا لا مبتدأ كما تقول أضارب قومك، أخارج إخوتك فتفرد لأنك رفعت به فاعلا، وهو حسن في مذهب سيبويه والأخفش ولولا الاستفهام ما جاز الإفراد إلا على مذهب الأخفش فإنه يقول قائم الزيدون دون استفهام فإن كان الاسم المبتدأ من المضمرات نحو أخارج أنت وأقائم هو؟ لم يصح فيه إلا الابتداء لأن الفاعل إذا كان مضمرا لم يكن منفصلا لا تقول قام أنا، ولا ذهب أنت وكذلك لا تقول أذاهب أنت على حد الفاعل ولكن على المبتدإ وإذا كان على حد المبتدإ فلا بد من جمع الخبر، فعلى هذا تقول أمخرجي هم تريد مخرجون ثم أضيف إلى الياء وحذفت النون وأدغمت الواو كما يقتضي القياس.
    حول اليافوخ والذهاب إلى ورقة:
    فصل: وذكر أن ورقة بن نوفل لقي النبي عليه السلام فقبل يافوخه قد تقدم ذكر اليافوخ وأنه يفعول مهموز وأنه لا يقال في رأس الطفل يافوخ حتى يشتد وإنما يقال له الغاذية وذكرنا قول العجاج:
    ضرب إذا أصاب اليآفيخ حفر.
    ولو كان يافوخ فاعولا، كما ظن بعضهم لم يجز همزه في الواحد. ولا في الجمع1 وفي رواية يونس عن ابن إسحاق بسنده إلى أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل2 أن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال لخديجة "إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء وقد خشيت والله أن يكون لهذا أمر" . قالت معاذ الله ما كان الله ليفعل ذلك بك. فوالله إنك لتؤدي الأمانة وتصل الرحم. وتصدق الحديث فلما دخل أبو بكر، وليس [عندها] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم ذكرت خديجة له ذلك فقالت يا عتيق اذهب مع
    ـــــــ
    1 هو في "اللسان" مادة: أفخ, وقال: هو موضع التقاء عظم مؤخره, وفي "القاموس": أفخه: ضرب يافوخه والجمع: يوافيخ.
    2 ذكره البخاري وغيره في التابعين, ووثقه ابن معين وآخرون.
    (2/268)
    .................................................. .............................................
    ـــــــ
    محمد إلى ورقة فلما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ أبو بكر بيده. فقال انطلق بنا إلى ورقة بن نوفل. فقال "ومن أخبرك"؟ قال خديجة فانطلقا إليه فقصا عليه فقال: "إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء خلفي: يا محمد يا محمد فأنطلق هاربا في الأرض" فقال له لا تفعل إذا أتاك فاثبت حتى تسمع ما يقول لك. ثم ائتني، فأخبرني، فلما خلا ناداه يا محمد قل بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين. حتى بلغ ولا الضالين. قل لا إله إلا الله. فأتى ورقة فذكر ذلك له فقال له ورقة أبشر ثم أبشر فأنا أشهد أنك الذي بشر به ابن مريم، وأنك على مثل ناموس موسى، وأنك نبي مرسل وأنك ستؤمر بالجهاد بعد يومك هذا. ولئن أدركني ذلك لأجاهدن معك. فلما توفي ورقة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد رأيت القس في الجنة وعليه ثياب الحرير لأنه آمن بي وصدقني" يعني: ورقة وفي رواية يونس أيضا أنه عليه السلام قال لرجل سب ورقة: "أما علمت أني رأيت لورقة جنة أو جنتين" ، وهذا الحديث الأخير قد أسنده البزار1لقد خشيت على نفسي:
    فصل: وفي الصحيح أنه قال لخديجة: "لقد خشيت على نفسي" وتكلم العلماء في معنى هذه الخشية بأقوال كثيرة فذهب أبو بكر الإسماعيلي2 إلى أن هذه الخشية كانت منه قبل أن يحصل له العلم بأن الذي جاءه ملك من عند الله وكان أشق شيء عليه أن يقال عنه مجنون ولم ير الإسماعيلي أن هذا محال في مبدإ الأمر لأن العلم الضروري قد لا يحصل دفعة واحدة وضرب مثلا بالبيت من الشعر تسمع أوله فلا تدري أنظم هو أم نثر فإذا استمر الإنشاد علمت قطعا أنه قصد به قصد الشعر كذلك لما استمر الوحي واقترنت به القرائن المقتضية للعلم
    ـــــــ
    1 ورواه الحاكم في "مستدركه". وهذه روايات ساقطة لا يعتد بها.
    2 احمد بن إبراهيم بن العباس الإسماعيلي الجرجاني, قال الحاكم: كان واحد عصره, وشيخ المحدثين والفقهاء. (ت: 371 هـ)
    (2/269)
    .................................................. .............................................
    ـــــــ
    القطعي حصل العلم القطعي، وقد أثنى الله تعالى عليه بهذا العلم فقال: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون} إلى قوله: {وملائكته وكتبه ورسله} [البقرة: 285] فإيمانه بالله وبملائكته إيمان كسبي موعود عليه بالثواب الجزيل كما وعد على سائر أفعاله المكتسبة كانت من أفعال القلب أو أفعال الجوارح وقد قيل في قوله: "لقد خشيت على نفسي" أي خشيت ألا أنهض بأعباء النبوة وأن أضعف عنها، ثم أزال الله خشيته ورزقه الأيد والقوة والثبات والعصمة وقد قيل إن خشيته كانت من قومه أن يقتلوه ولا غرو فإنه بشر يخشى من القتل والإذاية الشديدة ما يخشاه البشر ثم يهون عليه الصبر في ذات الله كل خشية ويجلب إلى قلبه كل شجاعة وقوة وقد قيل في معنى الخشية أقوال غير هذه رغبت عن التطويل بذكرها1.
    ـــــــ
    1 في "فتح الباري": اختلف العلماء في المراد بها على اثني عشر قولا:
    أولها: الجنون, وأن يكون ما رآه من جنس الكهانة, وقد أبطله أبو بكر بن العربي, وحق له أن يبطل.
    ثانيها: الهاجس, وهنو باطل أيضا, لأن لا يستقر, وهذا استقر.
    ثالثها: الموت من شدة الرعب.
    رابعها: المرضو وقد جزم به ابن أبي جمرة.
    خامسها: دوام المرض.
    سادسها: العجز ع حمل أعباء النبوة.
    سابعها: العجز عن النظر إلى الملك من الرعب.
    ثامنها: عدم الصبر على أذى قومه.
    تاسعها: الخوف من أن يقتلوه.
    عاشرها: مفارقة الوطن.
    حادي عشرها: تكذيبهم إياه.
    ثاني عشرها: تعييرهم إياه.
    وأولى هذه الأقوال وأسماها من الإرتياب: الثالث واللذان بعده, وما عداها معترض واله أعلم.
    (2/270)
    ابتداء تنزيل القرآن
    ...
    ابتداء تنزيل القرآن
    قال ابن إسحاق: فابتدئ رسول الله رضي الله عنهن بالتنزيل في شهر رمضان بقول الله عز وجل: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185]. وقال الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 1-5]. وقال الله تعالى: {حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [الدخان: 1 - 5]. وقال تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [الأنفال: 41]. وذلك ملتقى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركين ببدر.
    ـــــــ
    متى نزل القرآن؟
    فصل: وذكر قول الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185]. إلى آخر الآية مستشهدا بذلك على أن القرآن أنزل في شهر رمضان وفي ليلة القدر من رمضان وهذا يحمل تأويلين أحدهما: أن يكون أراد بدء النزول وأوله لأن القرآن نزل في أكثر من عشرين سنة في رمضان وغيره والثاني: ما قاله ابن عباس: أنه نزل جملة واحدة إلى سماء الدنيا، فجعل في بيت العزة مكنونا في الصحف المكرمة المرفوعة المطهرة ثم نزلت منه الآية بعد الآية
    (2/271)
    قال ابن إسحاق: وحدثني أبو جعفر محمد بن علي بن حسين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم التقى هو والمشركون ببدر يوم الجمعة. صبيحة سبع عشرة من رمضان.
    قال ابن إسحاق: ثم تتام الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو مؤمن بالله مصدق بما جاءه منه قد قبله بقبوله وتحمل منه ما حمله على رضا العباد وسخطهم والنبوة أثقال ومؤنة لا يحملها، ولا يستطيع بها إلا أهل القوة والعزم من الرسل بعون الله تعالى وتوفيقه لما يلقون من الناس وما يرد عليهم مما جاءوا به عن الله سبحانه وتعالى.
    __________
    والسورة بعد السورة في أجوبة السائلين والنوازل الحادثة إلى أن توفي - صلى الله عليه وسلم - وهذا التأويل أشبه بالظاهر وأصح في النقل والله أعلم1.
    حول إضافة شهر إلى رمضان:
    فصل: وفي قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ} [البقرة: 185] فذكر الشهر مضافا إلى رمضان واختار الكتاب والموثقون النطق به بهذا اللفظ دون أن يقولوا: كتب في رمضان وترجم البخاري والنسوي2 على جواز اللفظين جميعا وأوردا حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من صام رمضان وإذا جاء رمضان" ، ولم يقل شهر رمضان وقد بينت أن لكل مقام مقامه ولا بد من ذكر شهر في مقام ومن حذفه في مقام آخر والحكمة في ذكره إذا ذكر في القرآن والحكمة أيضا في حذفه إذا حذف من اللفظ وأين يصلح الحذف ويكون أبلغ من الذكر كل هذا مبين في كتاب "نتائج الفكر", فهناك أوردنا فيه فوائد تعجز عنها همم أهل هذا العصر. أدناها تساوي رخلة عند من عرف قدرها، غير أنا نشير إلى بعضها، فنقول قال سيبويه: ومما لا يكون
    ـــــــ
    1 ما ورد في نزول القرآن جملة واحدة إلى بيت العزة, أو إلى سماء الدنيا, كلام لا سند له صحيح والصحيح ما ورد في القرآن: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185] إلى غير ذلك من الآيات.
    2 هو أبو العباس الحسن بن سفيان النسوي, وله مسند مشهور.
    (2/272)
    قال فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر الله على ما يلقى من قومه من الخلاف والأذى.
    ـــــــ
    العمل إلا فيه كله المحرم وصفر يريد أن الاسم العلم يتناول اللفظ كله وذلك إذا قلت: الأحد أو الاثنين فإن قلت يوم الأحد أو شهر المحرم كان ظرفا، ولم يجر مجرى المفعولات وزال العموم من اللفظ لأنك تريد في الشهر وفي اليوم ولذلك قال عليه السلام من صام رمضان ولم يقل شهر رمضان ليكون العمل فيه كله وهذه إشارة إلى بعض تلك الفوائد التي أحكمناها في غير هذا الكتاب.
    (2/273)
    إسلام خديجة بنت خويلد:
    ...
    إسلام خديجة بنت خويلد:
    وآمنت به خديجة بنت خويلد، وصدقت بما جاءه من الله ووازرته على أمره وكانت أول من آمن بالله وبرسوله وصدق بما جاء منه فخفف الله بذلك عن نبيه صلى الله عليه وسلم لا يسمع شيئا مما يكرهه من رد عليه وتكذيب له فيحزنه ذلك إلا فرج الله عنه به إذا رجع إليها، تثبته وتخفف عليه وتصدقه وتهون عليه أمر الناس رحمها الله تعالى.
    ـــــــ
    حب الرسول صلى الله عليه وسلم وطنه:
    بقية من حديث ورقة وذلك أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لتكذبنه فلم يقل له النبي صلى الله عليه وسلم شيئا، ثم قال ولتؤذينه فلم يقل له شيئا، ثم قال ولتخرجنه فقال: "أومخرجي هم؟" ففي هذا دليل على حب الوطن وشدة مفارقته على النفس وأيضا فإنه حرم الله وجوار بيته وبلدة أبيه إسماعيل فلذلك تحركت نفسه عند ذكر الخروج منه ما لم تتحرك قبل ذلك فقال "أومخرجي هم؟" والموضع الدال على تحرك النفس وتحرقها إدخال الواو بعد ألف الاستفهام مع اختصاص الإخراج بالسؤال عنه وذلك أن الواو ترد إلى الكلام المتقدم وتشعر المخاطب بأن الاستفهام على جهة الإنكار أو التفجع لكلامه أو التألم منه.
    (2/273)
    تبشير الرسول لخديجة ببيت من قصب:
    قال ابن إسحاق: وحدثني هشام بن عروة، عن أبيه عروة بن الزبير، عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أمرت أن أبشر خديجة ببيت من قصب لا صخب فيه ولا نصب".
    قال ابن هشام: القصب هاهنا : اللؤلؤ المجوف.
    ـــــــ
    ذكر عبد الله بن حسن:
    فصل: وذكر عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب، وقوله حدثتني أمي فاطمة بنت الحسين أن خديجة أدخلته بين ثوبها. الحديث1 عبد الله هذا هو عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب، وأمه فاطمة بنت الحسين أخت سكينة واسمها: آمنة وسكينة لقب لها التي كانت ذات دعابة ومزح وفي سكينة وأمها الرباب يقول الحسين بن علي - رضي الله عن جميعهم:
    كأن الليل موصول بليل ... إذا زارت سكينة والرباب2
    أي: زارت قومها، وهم بنو عليم بن جناب من كلب، ثم من بني كعب بن عليم3 ويعرف بنو كعب بن عليم ببني زيد غير مصروف لأنه اسم أمهم وعبد الله بن حسن هو والد الطالبيين القائمين على بني العباس وهم محمد ويحيى وإدريس مات إدريس بإفريقية فارا من الرشيد ومات مسموما في دلاعة أكلها، ووقع في كتاب الزبير بن أبي بكر قال قال عبد الرحمن بن زيد: قال آدم عليه السلام مما فضل به علي ابني صاحب البعير أن زوجه كانت عونا له على تبليغ أمر الله وأن زوجي كانت عونا لي على المعصية.
    ـــــــ
    1 هذا الحديث رواه الطبراني قي "االأوسط".
    2 من قصيدة تنسب إلى الحسين في سكينة ابنته وامها الرباب زوجته, وهي في "الأغاني" وفي "نسب قريش": ص 59. ط 1.
    3 والرباب أم سكينة هي بنت امريء القيس بن عدي بن أوس بن جابر بن كعب بن عليم بن جناب.
    (2/274)
    .................................................. .............................................
    ـــــــ
    حديث عبد الله بن جعفر وغيره عن خديجة:
    فصل: وذكر حديث عبد الله بن جعفر بن أبي طالب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر أن يبشر خديجة ببيت من قصب لا صخب فيه ولا نصب. هذا حديث مرسل وقد رواه مسلم متصلا عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: ما غرت على أحد ما غرت على خديجة ولقد هلكت قبل أن يتزوجني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بثلاث سنين ولقد أمر أن يبشرها ببيت من قصب في الجنة.
    وفي حديث آخر أن عائشة قالت ما تذكر من عجوز حمراء الشدقين هلكت في الدهر قد أبدلك الله خيرا منها، فغضب وقال "والله ما أبدلني الله خيرا منها ; آمنت بي حين كذبني الناس وواستني بمالها حين حرمني الناس ورزقت الولد منها، وحرمته من غيرها، وروى يونس عن عبد الواحد بن أيمن المخزومي قال حدثنا أبو نجيح قال أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم جزور أو لحم فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عظما منها، فناوله الرسول بيده فقال اذهب بهذا إلى فلانة فقالت عائشة لم غمرت1 يدك؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مغضبا: "إن خديجة أوصتني بها" ، فغارت عائشة وقالت لكأنه ليس في الأرض امرأة إلا خديجة فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مغضبا، فلبث ما شاء الله ثم رجع فإذا أم رومان قالت يا رسول الله ما لك ولعائشة؟ إنها حدثة وإنك أحق من تجاوز عنها، فأخذ بشدق عائشة وقال ألست القائلة "كأنما ليس على الأرض امرأة إلا خديجة والله لقد آمنت بي إذ كفر قومك، ورزقت مني الولد وحرمتموه" وفي صحيح مسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "خير نسائها: مريم بنت عمران وخير نسائها: خديجة " والهاء في نسائها حين ذكر مريم عائدة على السماء والهاء في نسائها حين ذكر خديجة عائدة على الأرض وذلك أن هذا الحديث رواه وكيع وأبو أسامة وابن نمير في آخرين وأشار وكيع من
    ـــــــ
    1 الغمر بالتحريك: زنج اللحم, وما يعلق باليد من دسمه.
    (2/275)
    .................................................. .............................................
    ـــــــ
    بينهم حين حدث بالحديث بإصبعه إلى السماء عند ذكر مريم، وإلى الأرض عند ذكر خديجة، وهذه إشارة ليست من رأيه وإنما هي زيادة من حديثه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وزيادة العدل مقبولة ويحتمل أن يكون معنى إشارته إلى السماء والأرض عند ذكرهما، أي هما خير نساء بين السماء والأرض وهذا أثبت عندي بظاهر الحديث. ولعلنا أن نذكر اختلاف العلماء في التفضيل بين مريم وخديجة وعائشة - رضي الله عنهن - وأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وما نزع به كل فريق منهم.
    حول ما بشرت به خديجة:
    وأما قوله ببيت من قصب فقد رواه الخطابي مفسرا، وقال فيه قالت خديجة: يا رسول الله هل في الجنة قصب؟ فقال "إنه قصب من لؤلؤ مجبى" قال الخطابي: يجوز أن يكون معناه مجوبا من قولك: جبت الثوب إذا خرقته، فيكون من المقلوب ويجوز أن يكون الأصل مجببا بباءين من الجب وهو القطع أي قطع داخله1 وقلبت الباء ياء كما قالوا: تظنيت من الظن وتقصيت أظفاري، وتكلم أصحاب المعاني في هذا الحديث وقالوا: كيف لم يبشرها إلا ببيت وأدنى أهل الجنة منزلة من يعطى مسيرة ألف عام في الجنة كما في حديث ابن عمر خرجه الترمذي، وكيف لم ينعت هذا البيت بشيء من أوصاف النعيم والبهجة أكثر من نفي الصخب وهو رفع الصوت فأما أبو بكر الإسكاف فقال في كتاب فوائد الأخبار له معنى الحديث أنه بشرت ببيت زائد على ما أعد الله لها مما هو ثواب لإيمانها وعملها ; ولذلك قال لا صخب فيه ولا نصب أي لم تنصب فيه ولم تصخب. أي إنما أعطيته زيادة على جميع العمل الذي نصبت فيه. قال المؤلف رحمه الله لا
    ـــــــ
    1 هو في "السيرة" مجوف, وفي "النهاية" لابن الأثير: قيل: هو من الجوف وهو نقير يجمع فيه الماء.
    (2/276)
    .................................................. .............................................
    ـــــــ
    أدري ما هذا التأويل ولا يقتضيه ظاهر الحديث ولا يوجد شاهد يعضده وأما الخطابي، فقال البيت هاهنا عبارة عن قصر وقد يقال لمنزل الرجل بيته والذي قاله صحيح يقال في القوم هم أهل بيت شرف وبيت عز وفي التنزيل: {غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات: 36] ولكن لذكر البيت هاهنا بهذا اللفظ ولقوله ببيت ولم يقل بقصر معنى لائق بصورة الحال وذلك أنها كانت ربة بيت إسلام لم يكن على الأرض بيت إسلام إلا بيتها حين آمنت وأيضا فإنها أول من بنى بيتا في الإسلام بتزويجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورغبتها فيه وجزاء الفعل يذكر بلفظ الفعل وإن كان أشرف منه لما جاء "من كسا مسلما على عري كساه الله من حلل الجنة ومن سقى مسلما على ظمإ سقاه الله من الرحيق" ومن هذا الباب قوله عليه السلام "من بنى لله مسجدا بنى الله له مثله في الجنة1"ل م يرد مثله في كونه مسجدا، ولا في صفته ولكن قابل البنيان بالبنيان أي كما بنى يبنى له كما قابل الكسوة بالكسوة والسقيا بالسقيا، فهاهنا وقعت المماثلة لا في ذات المبني أو المكسو وإذا ثبت هذا، فمن هاهنا اقتضت الفصاحة أن يعبر لها عما بشرت به بلفظ البيت وإن كان فيه ما لا عين رأته ولا أذن سمعته ولا خطر على قلب بشر ومن تسمية الجزاء على الفعل بالفعل في عكس ما ذكرناه قوله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67] {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل عمران: 54].
    وأما قوله لا صخب فيه ولا نصب فإنه أيضا من باب ما كنا بسبيله لأنه - عليه السلام - دعاها إلى الإيمان فأجابته عفوا، لم تحوجه إلى أن يصخب كما يصخب البعل إذا تعصت عليه حليلته ولا أن ينصب بل أزالت عنه كل نصب وآنسته من كل وحشة وهونت عليه كل مكروه وأراحته بما لها من كل كد ونصب فوصف منزلها الذي بشرت به بالصفة المقابلة لفعالها وصورته.
    ـــــــ
    1 رواه البخاري ومسلم وأحمد والترمذي وابن ماجه عن عثمان, وفبه: "يبتغي به وجه الله" .
    (2/277)
    جبريل يقرئ خديجة السلام:
    قال ابن هشام: وحدثني من أثق به أن جبريل عليه السلام أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أقرئ خديجة السلام من ربها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا خديجة هذا جبريل
    ـــــــ
    وأما قوله من قصب ولم يقل من لؤلؤ وإن كان المعنى واحدا، ولكن في اختصاصه هذا اللفظ من المشاكلة المذكورة والمقابلة بلفظ الجزاء للفظ العمل أنها - رضي الله عنها - كانت قد أحرزت قصب السبق إلى الإيمان دون غيرها من الرجال والنسوان. والعرب تسمي السابق محرزا للقصب.
    قال الشاعر:
    مشى ابن الزبير القهقرى، وتقدمت ... أمية حتى أحرزوا القصبات
    فاقتضت البلاغة أن يعبر بالعبارة المشاكلة لعملها في جميع ألفاظ الحديث فتأمله.
    الموازنة بين خديجة وعائشة رضي الله عنهما:
    فصل: وذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لخديجة: " هذا جبريل يقرئك السلام من ربك" الحديث1 يذكر عن أبي بكر بن داود أنه سئل أعائشة أفضل أم خديجة؟ فقال "عائشة أقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام من جبريل وخديجة أقرأها جبريل السلام من ربها على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - فهي أفضل ، قيل له فمن أفضل أخديجة أم فاطمة؟ فقال إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "إن فاطمة بضعة مني2 فلا أعدل ببضعة من رسول الله أحدا" وهذا استقراء حسن ويشهد لصحة هذا الاستقراء أن أبا لبابة حين ارتبط نفسه وحلف ألا يحله إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاءت فاطمة لتحله فأبى من أجل قسمه
    ـــــــ
    1 قي الحديث المتفق عليه عن ابي هريرة –رضي الله عنه- قال: "أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام وطعام...." الحديث.
    2 وروى المسور بن مخرمة أن النبي صلى عليه وسلم قال: "فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني".
    (2/278)
    يقرئك السلام من ربك " فقالت خديجة الله السلام ومنه السلام وعلى جبريل السلام.
    ـــــــ
    فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إنما فاطمة مضغة مني" فحلته وسنذكر الحديث بإسناده في موضعه إن شاء الله تعالى،
    ويدل أيضا على تفضيل فاطمة قوله - عليه السلام - لها: "أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة1 إلا مريم"؟ فدخل في هذا الحديث أمها وأخواتها، وقد تكلم الناس في المعنى الذي سادت به فاطمة غيرها دون أخواتها، فقيل إنها ولدت سيد هذه الأمة وهو الحسن الذي يقول فيه النبي - صلى الله عليه وسلم – "إن ابني هذا سيد" وهو خليفة بعلها خليفة أيضا، وأحسن من هذا القول قول من قال سادت أخواتها وأمها، لأنهن متن في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - فكن في صحيفته ومات أبوها وهو سيد العالمين فكان رزؤه في صحيفتها وميزانها، وقد روى البزار من طريق عائشة أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لفاطمة "هي خير بناتي، إنها أصيبت بي" فحق لمن كانت هذه حاله أن يسود نساء أهل الجنة وهذا حسن والله أعلم. ومن سؤددها أيضا أن المهدي المبشر به آخر الزمان من ذريتها، فهي مخصوصة بهذا كله والأحاديث الواردة في أمر المهدي كثيرة2 وقد جمعها أبو بكر بن أبي خيثمة فأكثر ومن أغربها إسنادا ما ذكره أبو بكر الإسكاف في فوائد الأخبار مسندا إلى مالك بن أنس عن محمد بن المنكدر عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من كذب بالدجال فقد كفر ومن كذب بالمهدي فقد كفر" وقال في طلوع الشمس من مغربها مثل ذلك فيما أحسب.
    الله السلام:
    وقول خديجة: الله السلام ومنه السلام وعلى جبريل السلام علمت بفقهها أن الله سبحانه لا يرد عليه السلام كما يرد على المخلوق لأن السلام دعاء بالسلامة
    ـــــــ
    1 في حديث متفق عليه عن عائشة "ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة, أو نساء المؤمنين" ولم يذكر مريم فيه.
    2 استغل هذه الاسطورة أعداء الله, فظهر عشرات الدجاجلة يزعم كل منهم أنه هو المهدي.
    (2/279)
    .................................................. .............................................
    ـــــــ
    فكان معنى قولها: الله السلام فكيف أقول عليه السلام والسلام منه يسأل ومنه يأتي؟ ولكن على جبريل السلام فالذي يحصل من هذا الكلام من الفقه أنه لا يليق بالله سبحانه إلا الثناء عليه فجعلت مكان رد التحية على الله ثناء عليه كما عملوا في التشهد حين قالوا: السلام على الله من عباده السلام على فلان فقيل لهم لا تقولوا هذا، ولكن قولوا: التحيات لله وقد ذكرنا في غير هذا الكتاب فوائد جمة في معنى التحيات إلى آخر التشهد. وقولها: ومنه السلام إن كانت أرادت السلام التحية فهو خبر يراد به التشكر كما تقول هذه النعمة من الله وإن كانت أرادت السلام بالسلامة من سوء فهو خبر يراد به المسألة كما تقول منه يسأل الخير. وذهب أكثر أهل اللغة إلى أن السلام والسلامة بمعنى واحد كالرضاع والرضاعة ولو تأملوا كلام العرب وما تعطيه هاء التأنيث من التحديد لرأوا أن بينهما فرقانا عظيما، وأن الجلال أعم من الجلالة بكثير وأن اللذاذ أبلغ من اللذاذة وأن الرضاعة تقع على الرضعة الواحدة والرضاع أكثر من ذلك فكذلك السلام والسلامة وقس على هذا: تمرة وتمرا، ولقاة ولقى، وضربة وضربا، إلى غير ذلك وتسمى سبحانه بالسلام لما شمل جميع الخليقة، وعمهم من السلامة من الاختلال والتفاوت إذ الكل جار على نظام الحكمة كذلك سلم الثقلان من جور وظلم أن يأتيهم من قبله سبحانه فإنما الكل مدبر بفضل أو عدل أما الكافر فلا يجري عليه إلا عدله وأما المؤمن فيغمره فضله فهو سبحانه في جميع أفعاله سلام لا حيف ولا ظلم ولا تفاوت ولا اختلال ومن زعم من المفسرين لهذا الاسم أنه تسمى به لسلامته من الآفات والعيوب فقد أتى بشنيع من القول إنما السلام من سلم منه والسالم من سلم من غيره وانظر إلى قوله سبحانه {كُونِي بَرْداً وَسَلاماً} [الأنبياء: 69] وإلى قوله {سَلامٌ هِيَ} [القدر: 5] ولا يقال في الحائط: سالم من العمى، ولا في الحجر أنه سالم من الزكام أو من السعال إنما يقال سالم فيمن تجوز عليه الآفة ويتوقعها ثم يسلم منها، والقدوس سبحانه متعال عن توقع الآفات متنزه عن جواز النقائص ومن هذه صفته لا يقال سلم ولا يتسمى بسالم وهم قد جعلوا سلاما بمعنى سالم والذي
    (2/280)
    فترة الوحي ونزول سورة الضحى:
    قال ابن إسحاق: ثم فتر الوحي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فترة من ذلك حتى شق ذلك عليه فأحزنه فجاءه جبريل بسورة الضحى، يقسم له ربه وهو الذي أكرمه بما أكرمه به ما ودعه وما قلاه فقال تعالى: {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}. يقول ما صرمك فتركك، وما أبغضك منذ أحبك. {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} أي لما عندي من مرجعك إلي خير لك مما عجلت لك من الكرامة في الدنيا . {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} من الفلج في الدنيا، والثواب في الآخرة {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} [الضحى: 1-8] يعرفه الله ما ابتدأه به من كرامته في عاجل أمره ومنه عليه في يتمه وضلالته واستنقاذه من ذلك كله برحمته.
    تفسير ابن هشام لمفردات سورة الضحى:
    قال ابن هشام: سجى: سكن. قال أمية بن أبي الصلت الثقفي:
    ـــــــ
    ذكرناه أول هو معنى قول أكثر السلف والسلامة خصلة واحدة من خصال السلام1.
    فترة الوحي:
    فصل: وذكر فترة الوحي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يذكر مقدار مدة الفترة وقد جاء في بعض الأحاديث المسندة أنها كانت سنتين ونصف سنة فمن هنا يتفق ما قاله أنس بن مالك أن مكثه بمكة كان عشر سنين وقول ابن عباس: ثلاث عشرة سنة وكان قد ابتدئ بالرؤيا الصادقة ستة أشهر فمن عد مدة الفترة وأضاف إليها الأشهر الستة كانت كما قال ابن عباس، ومن عدها من حين حمي الوحي وتتابع كما في حديث جابر كانت عشر سنين. ووجه آخر في الجمع بين القولين أيضا، وهو
    ـــــــ
    1 في "النهاية" عن السلام: "سلامته مما يلحق الخلق من العيب والفناء والشلام في الأصل: السلامة" وعند الراغب في "مفرداته": وصف بذلك من حيث لا يلحقه العيوب والآفات التي تلحق الخلق. وانظر "بدائع الفوائد": 2/135.
    (2/281)
    إذ أتى موهنا وقد نام صحبي ... وسجا الليل بالظلام البهيم1
    وهذا البيت في قصيدة له ويقال للعين إذا سكن طرفها: ساجية وسجا طرفها.
    قال جرير بن الخطفي :
    ولقد رمينك - حين رحن - بأعين ... يقتلن من خلل الستور سواجي
    وهذا البيت في قصيدة له. والعائل الفقير قال أبو خراش الهذلي:
    إلى بيته يأوي الضريك إذا شتا ... ومستنبح بالي الدريسين عائل
    وجمعه عالة وعيل وهذا البيت في قصيدة له سأذكرها في موضعها - إن شاء الله والعائل أيضا: الذي يعول العيال. والعائل أيضا: الخائف. وفي كتاب الله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء: 3].
    وقال أبو طالب:
    بميزان قسط لا يخس شعيرة ... له شاهد من نفسه غير عائل
    وهذا البيت في قصيدة له سأذكرها - إن شاء الله - في موضعها. والعائل أيضا:
    ـــــــ
    أن الشعبي قال وكل إسرافيل بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ثلاث سنين ثم جاءه بالقرآن جبريل وقد قدمنا هذا الحديث ورواه أبو عمر في كتاب الاستيعاب وإذا صح فهو أيضا وجه من الجمع بين الحديثين والله أعلم.
    شرح شعر الهذلي والفرزدق:
    فصل: وذكر ابن إسحاق قول أبي خراش خويلد بن مرة الهذلي:
    إلى بيته يأوي الضريك إذا شتا ... ومستنبح بالي الدريسين عائل
    الضريك: الضعيف المضطر2
    والمستنبح الذي يضل عن الطريق في ظلمة
    ـــــــ
    1 الموهن: ساعة من الليل. والبهيم: الشديد السواد ليس فيه ضياء.
    2 الضريك أيضا: النسر الذكر والأحمق والزمن والضرير.
    (2/282)
    الشيء المثقل المعيي. يقول الرجل: قد عالني هذا الأمر أي أثقلني وأعياني، قال الفرزدق:
    ترى الغر الجحاجح من قريش ... إذا ما الأمر في الحدثان عالا
    وهذا البيت في قصيدة له.
    {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} [الضحى: 9-10] أي لا تكن جبارا ولا متكبرا، ولا فحاشا فظا على الضعفاء من عباد الله. {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11] أي بما جاءك من الله من نعمته وكرامته من النبوة فحدث أي اذكرها، وادع إليها، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر ما أنعم الله به عليه وعلى العباد به من النبوة سرا إلى من يطمئن إليه من أهله
    ـــــــ
    الليل فينبح ليسمع نباح كلب1 والدريس الثوب الخلق وقول الفرزدق:
    ترى الغر الجحاجح من قريش ... إذا ما الأمر في الحدثان عالا
    قياما ينظرون إلى سعيد ... كأنهم يرون به هلالا
    يعني: سعيد بن العاصي بن أمية، ويقال: إن مروان بن الحكم حين سمع الفرزدق ينشد هذا البيت حسده فقال له قل قعودا ينظرون إلى سعيد يا أبا فراس. فقال له الفرزدق: والله يا أبا عبد الملك إلا قياما على الأقدام2. وذكر سبب نزول سورة الضحى، وأن ذلك لفترة الوحي عنه وخرج البخاري من طريق جندب بن سفيان3 أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتكى، فلم يقم ليلتين أو ثلاثا، فقالت له امرأة إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك، فأنزل الله تعالى سورة الضحى4.
    ـــــــ
    1 عبر الخشني عن ذلك فقال: المستنبح الذي يصل بالليل, فينبح نباح الكلاب, لتسمعه الكلاب فتجاوبه, فيعلم ومض ع البيوت فيقصدها.
    2 مدح الفرزدق مروان سعيدا بهذا, زكان حينئذ أمير المدينة من قبل معاوية –رحمه الله- وكان يوليه معاوية سنة, ويولي مروان سنة أخرى. انظر "الخشني" ص 78.
    3 سفيان: جده, وابوه عبد الله, وهو ينسبب إلى أبيه وإلى جده.
    4 واخ-رجه مسلم ومالك وأحمد والترمذي والنسائي وابن أبي خرير وقيل: إن هذه المرأة هي أم جميل امرأة أبي لهب.
    (2/283)
    ابتداء فرض الصلاة:
    ...
    ابتداء فرض الصلاة:
    وافترضت الصلاة عليه فصلى رسول الله صلى الله عليه وآله والسلام عليه وعليهم ورحمة الله وبركاته.
    افترضت الصلاة ركعتين ركعتين ثم زيدت:
    قال ابن إسحاق: وحدثني صالح بن كيسان عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: افترضت الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما افترضت عليه ركعتين ركعتين كل صلاة ثم إن الله تعالى أتمها في الحضر أربعا، وأقرها في السفر على فرضها الأول ركعتين.
    ـــــــ
    فرض الصلاة:
    وذكر حديث عروة عن عائشة فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فزيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر1 وذكر المزني أن الصلاة قبل الإسراء2 كانت صلاة قبل غروب الشمس وصلاة قبل طلوعها، ويشهد لهذا القول قوله سبحانه: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْأِبْكَارِ} [غافر: 55]. وقال يحيى بن سلام مثله وقال كان الإسراء وفرض الصلوات الخمس قبل الهجر بعام فعلى هذا يحتمل
    ـــــــ
    1 رواه البخاري ومسلم ومالك وأبو داود والنسائي.
    2 ذكر الحافظ في "الفتح" كان صلى الله عليه وسلم قبل الإسراء يصلي قطعا وكذلك أصحابثه. أقول: وفي ختام سورة المزمل, وهي التي بعد القلم: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [المزمل: 20] وآيات غيرها تؤكد.
    (2/284)
    تعليم جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم الوضوء والصلاة:
    قال ابن إسحاق: وحدثني بعض أهل العلم: أن الصلاة حين افترضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو بأعلى مكة ، فهمز له بعقبه في ناحية الوادي، فانفجرت منه عين فتوضأ جبريل عليه السلام، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه ليريه كيف الطهور للصلاة ثم توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رأى جبريل توضأ ثم قام به جبريل فصلى به وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصلاته ثم انصرف جبريل عليه السلام.
    تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم خديجة الوضوء والصلاة:
    فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة فتوضأ لها ليريها كيف الطهور للصلاة كما أراه جبريل فتوضأت كما توضأ لها رسول الله عليه الصلاة والسلام ثم صلى بها رسول الله عليه الصلاة والسلام كما صلى به جبريل فصلت بصلاته.
    ـــــــ
    قول عائشة: فزيد في صلاة الحضر أي زيد فيها حين أكملت خمسا، فتكون الزيادة في الركعات وفي عدد الصلوات ويكون قولها: فرضت الصلاة ركعتين أي قبل الإسراء وقد قال بهذا طائفة من السلف منهم ابن عباس، ويجوز أن يكون معنى قولها: فرضت الصلاة أي ليلة الإسراء حين فرضت الخمس فرضت ركعتين ركعتين ثم زيد في صلاة الحضر بعد ذلك وهذا هو المروي عن بعض رواة هذا الحديث عن عائشة ومن رواه هكذا الحسن والشعبي أن الزيادة في صلاة الحضر كانت بعد الهجرة بعام أو نحوه وقد ذكره أبو عمر وقد ذكر البخاري من رواية معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: فرضت الصلاة ركعتين ركعتين ثم هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، ففرضت أربعا. هكذا لفظ حديثه وهاهنا سؤال يقال هل هذه الزيادة في الصلاة نسخ أم لا؟ فيقال أما زيادة ركعتين أو ركعة إلى ما قبلها من الركوع حتى تكون صلاة واحدة فنسخ لأن النسخ رفع الحكم وقد ارتفع حكم الإجزاء من الركعتين وصار من سلم منهما عامدا أفسدهما، وإن أراد أن يتم صلاته بعدما سلم وتحدث عامدا لم يجزه إلا أن يستأنف الصلاة من أولها، فقد ارتفع حكم الإجزاء بالنسخ وأما الزيادة في عدد الصلوات حين أكملت خمسا بعدما كانت اثنتين فيسمى نسخا على مذهب أبي حنيفة، فإن الزيادة عنده
    (2/285)
    تعيين جبريل أوقات الصلاة للرسول صلى الله عليه وسلم:
    قال ابن إسحاق: وحدثني عقبة بن مسلم مولى بني تميم، عن نافع بن جبير بن مطعم - وكان نافع كثير الرواية - عن ابن عباس قال: لما افترضت الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل عليه السلام، فصلى به الظهر حين مالت الشمس ثم صلى به العصر حين كان ظله مثله ثم صلى به المغرب حين غابت الشمس ثم صلى به
    ـــــــ
    على النص نسخ وجمهور المتكلمين على أنه ليس بنسخ ولاحتجاج الفريقين موضع غير هذا1.
    الوضوء:
    فصل: وذكر نزول جبريل عليه السلام بأعلى مكة حين همز له بعقبه فأنبع الماء وعلمه الوضوء وهذا الحديث مقطوع في السيرة ومثله لا يكون أصلا في الأحكام الشرعية ولكنه قد روي مسندا إلى زيد بن حارثة - يرفعه - غير أن هذا الحديث المسند يدور على عبد الله بن لهيعة وقد ضعف ولم يخرج عنه مسلم ولا البخاري ; لأنه يقال إن كتبه احترقت فكان يحدث من حفظه وكان مالك بن أنس يحسن فيه القول ويقال إنه الذي روي عنه حديث بيع العربان2 في الموطإ مالك عن الثقة عنده عن عمرو بن شعيب، فيقال إن الثقة هاهنا ابن لهيعة ويقال إن ابن وهب حدث به عن ابن لهيعة وحديث ابن لهيعة هذا، أخبرنا به أبو بكر الحافظ محمد بن العربي قال نا أبو المطهر سعد بن عبد الله بن أبي الرجاء عن أبي نعيم الحافظ قال نا أبو بكر أحمد بن يوسف العطار قال نا الحارث بن أبي أسامة،
    ـــــــ
    1 ليس في القرآن آية منسوخة بالمعنى الذي فسر به النسخ علماء الأصول, وانحذر من القول بنسخ آية فيه فنحكم ببطلان ما هو حق.
    2 بيع العربان هو أن يشتري السلعة, ويدفع إلى صاحبها شيئا, فإن أمضى البيع حسب من الثمن وإلا كان لصاحب السلعة, ولم يرتجعه المشتري, وهو بيع باطل عند الفقهاء لما فيه من الشرط والغرر وأجازه أحمد.
    (2/286)
    العشاء الآخرة حين ذهب الشفق ثم صلى به الصبح حين طلع الفجر ثم جاءه فصلى به الظهر من غد حين كان ظله مثله ثم صلى به العصر حين كان ظله مثليه ثم صلى به المغرب حين غابت الشمس لوقتها بالأمس ثم صلى به العشاء الآخرة حين ذهب ثلث الليل الأول ثم صلى به الصبح مسفرا غير مشرق ثم قال يا محمد الصلاة فيما بين صلاتك اليوم، وصلاتك بالأمس.
    ـــــــ
    قال: نا الحسن بن موسى عن ابن لهيعة عن عقيل بن خالد عن الزهري، عن عروة عن أسامة بن زيد قال حدثني أبي زيد بن حارثة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أول ما أوحي إليه أتاه جبريل عليه السلام، فعلمه الوضوء فلما فرغ من الوضوء أخذ غرفة من ماء فنضح بها فرجه وحدثنا به أيضا أبو بكر محمد بن طاهر، عن أبي علي الغساني عن أبي عمر النمري عن أحمد بن قاسم عن قاسم بن أصبغ، عن الحارث بن أبي أسامة بالإسناد المتقدم فالوضوء على هذا الحديث مكي بالفرض مدني بالتلاوة لأن آية الوضوء مدنية وإنما قالت عائشة فأنزل الله تعالى آية التيمم ولم تقل آية الوضوء وهي هي لأن الوضوء قد كان مفروضا قبل غير أنه لم يكن قرآنا يتلى، حتى نزلت آية المائدة.
    (2/287)
    ذكر أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أول ذكر أسلم:
    ...
    ذكر أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أول ذكر أسلم:
    قال ابن إسحاق: ثم كان أول ذكر من الناس آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى معه وصدق بما جاءه من الله تعالى: علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم - رضوان الله وسلامه عليه - وهو يومئذ ابن عشر سنين.
    نشأته في حجر الرسول صلى الله عليه وسلم وسبب ذلك:
    وكان مما أنعم الله على علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام.
    (2/287)
    قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد بن جبر بن أبي الحجاج قال كان من نعمة الله على علي بن أبي طالب، ومما صنع الله له وأراده به من الخير أن قريشا أصابتهم أزمة شديدة وكان أبو طالب ذا عيال كثير فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للعباس عمه وكان من أيسر بني هاشم:
    "يا عباس إن أخاك أبا طالب كثير العيال وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة فانطلق بنا إليه فلنخفف عنه من عياله آخذ من بنيه رجلا، وتأخذ أنت رجلا، فنكلهما عنه" فقال العباس نعم فانطلقا، حتى أتيا أبا طالب فقالا له إنا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه فقال لهما أبو طالب إذا تركتما لي عقيلا، فاصنعا ما شئتما
    قال ابن هشام: ويقال عقيلا وطالبا. فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا، فضمه إليه وأخذ العباس جعفرا فضمه إليه فلم يزل علي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بعثه الله تبارك وتعالى نبيا، فاتبعه علي رضي الله عنه وآمن به وصدقه ولم يزل جعفر عند العباس حتى أسلم واستغنى عنه.
    أبو طالب يكتشف إيمان علي
    قال ابن إسحاق: ذكر بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكة، وخرج معه علي بن أبي طالب مستخفيا من أبيه أبي طالب ومن جميع أعمامه وسائر قومه فيصليان الصلوات فيها، فإذا أمسيا رجعا، فمكثا كذلك إلى ما شاء الله أن يمكثا. ثم إن أبا طالب عثر عليهما يوما وهما يصليان،
    ـــــــ
    إمامة جبريل:
    وذكر حديث عبد الله بن عباس في إمامة جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتعليمه إياه أوقات الصلوات الخمس في اليومين وهذا الحديث لم يكن ينبغي له أن يذكره في هذا الموضع لأن أهل الصحيح متفقون على أن هذه القصة كانت في الغد من ليلة الإسراء وذلك بعدما نبئ بخمسة أعوام وقد قيل إن الإسراء كان قبل الهجرة بعام ونصف وقيل بعام فذكره ابن إسحاق في بدء نزول الوحي وأول أحوال
    (2/288)
    فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا بن أخي ما هذا الدين الذي أراك تدين به؟ قال: "أي عم هذا دين الله، ودين ملائكته ودين رسله ودين أبينا إبراهيم" - أو كما قال - صلى الله عليه وسلم - "بعثني الله به رسولا إلى العباد وأنت أي عم أحق من بذلت له النصيحة ودعوته إلى الهدى، وأحق من أجابني إليه وأعانني عليه" أو كما قال. فقال أبو طالب أي ابن أخي، إني لا أستطيع أن أفارق دين آبائي، وما كانوا عليه ولكن والله لا يخلص إليك بشيء تكرهه ما بقيت.
    ـــــــ
    أول من آمن:
    وذكر أن أول ذكر آمن بالله علي - رضي الله عنه - وسيأتي قول من قال أول من أسلم أبو بكر ولكن ذلك - والله أعلم - من الرجال لأن عليا كان حين أسلم صبيا لم يدرك ولا يختلف أن خديجة هي أول من آمن بالله وصدق رسوله وكان علي أصغر من جعفر بعشر سنين وجعفر أصغر من عقيل بعشر سنين1 وعقيل أصغر من طالب بعشر سنين وكلهم أسلم إلا طالبا اختطفته الجن، فذهب ولم يعلم بإسلامه2 وأم علي فاطمة بنت أسد بن هاشم وقد أسلمت وهي إحدى الفواطم التي قال فيهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلي رضي الله عنه "اقسمه بين الفواطم الثلاث" يعني ثوب حرير قال القتبي. يعني: فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفاطمة بنت أسد، ولا أدري من الثالثة ورواه عبد الغني بن سعيد اقسمه بين الفواطم الأربع وذكر فاطمة بنت حمزة مع اللتين تقدمتا، وقال لا أدري من الرابعة قاله في كتاب "الغوامض والمبهمات3".
    ـــــــ
    1 هو كاما قال في "نسب قريش": ص 39.
    2 هذا خرافة.
    3 استدل من حكموا بسبق علي رضي الله عنه بحديث عند الطبراني أن النبي صلى اللله عليه وسلم صلى أول يوم الإثنين, وصلت خديجة آخره, وصلى علي يوم الثلاثاء.
    (2/289)
    وذكروا أنه قال لعلي أي بني ما هذا الدين الذي أنت عليه؟ فقال يا أبت آمنت بالله وبرسول الله وصدقته بما جاء به وصليت معه لله واتبعته. فزعموا أنه قال له أما إنه لم يدعك إلا إلى خير فالزمه.
    (2/290)
    إسلام زيد بن حارثة ثانيا:
    ...
    إسلام زيد بن حارثة ثانيا:
    قال ابن إسحاق ثم أسلم زيد بن حارثة بن شرحبيل بن كعب بن عبد العزى بن امرئ القيس الكلبي، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أول ذكر أسلم، وصلى بعد علي بن أبي طالب.
    نسبه وسبب تبني رسول الله صلى الله عليه وسلم له:
    قال ابن هشام: زيد بن حارثة بن شراحيل بن كعب بن عبد العزى بن امرئ القيس بن النعمان بن عامر بن عبد ود بن عوف بن كنانة بن بكر بن عوف بن عذرة بن زيد اللات بن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة. وكان حكيم بن حزام بن
    ـــــــ
    إسلام زيد:
    فصل: وذكر حديث زيد بن حارثة، وقال فيه حارثة بن شرحبيل وقال ابن هشام شراحيل قال أصحاب النسب كما قال ابن هشام، ورفع نسبه إلى كلب بن وبرة ووبرة هو ابن ثعلب بن حلوان بن الحاف بن قضاعة1، وأم زيد سعدى بنت ثعلبة [بن عبد عامر] من بني معن من طيء، وكانت قد خرجت بزيد لتزيره أهلها، فأصابته خيل من بني القين بن جسر، فباعوه بسوق حباشة وهو من أسواق العرب، وزيد يومئذ ابن ثمانية أعوام، ثم كان من حديثه ما ذكر ابن إسحاق، ولما بلغ زيدا قول أبيه بكيت على زيد ولم أدر ما فعل. الأبيات. قال بحيث يسمعه الركبان:
    ـــــــ
    1 في "جمهرة ابن حزم" حلوان بت عمران بن الحاف بن قضاعة, وورد فيها: زيد بن حارثة بن شراحيل بن عبد العزي بن عامر بن النعمان بن عامر بن عبد ود بن عوف بن كنانة بن عوف بن عذرة بن زيد بن اللاة بن رفيدة بن كلب بن وبرة.
    (2/290)
    خويلد قدم من الشام برقيق1 فيهم زيد بن حارثة وصيف. فدخلت عليه عمته خديجة بنت خويلد، وهي يومئذ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: اختاري يا عمة أي هؤلاء الغلمان شئت فهو لك ، فاختارت زيدا فأخذته فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم عندها، فاستوهبه منها، فوهبته له فأعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبناه وذلك قبل أن يوحى إليه.
    شعر حارثة حين فقد ابنه زيداً، وقدومه على رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله رده عليه:
    وكان أبوه حارثة قد جزع عليه جزعا شديدا، وبكى عليه حين فقده فقال:
    بكيت على زيد ولم أدر ما فعل ... أحي، فيرجى أم أتى دونه الأجل
    فوالله ما أدري، وإني لسائل ... أغالك بعدي السهل أم غالك الجبل
    ويا ليت شعري هل لك الدهر أوبة ... فحسبي من الدنيا رجوعك لي بجل
    تذكرنيه الشمس عند طلوعها ... وتعرض ذكراه إذا غربها أفل
    وإن هبت الأرواح هيجن ذكره ... فيا طول ما حزني عليه وما وجل
    ـــــــ
    أحن إلى أهلي، وإن كن نائيا ... بأني قعيد البيت عند المشاعر
    فكفوا من الوجد الذي قد شجاكم ... ولا تعملوا في الأرض نص الأباعر
    فإني بحمد الله في خير أسرة ... كرام معد كابرا بعد كابر
    فبلغ أباه قوله فجاء هو وعمه كعب حتى وقفا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة وذلك قبل الإسلام فقالا له يا بن عبد المطلب، يا بن سيد قومه أنتم جيران الله وتفكون العاني وتطعمون الجائع وقد جئناكم في ابننا عبدك، لتحسن إلينا في فدائه فقال "أوغير ذلك"؟ فقالا: وما هو؟ فقال ادعوه وأخيره فإن اختاركما فذاك وإن اختارني فوالله ما أنا بالذي أختار على من اختارني أحدا", فقالا له قد زدت على النصف فدعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما جاء قال "من هذان" ؟ فقال هذا أبي حارثة بن شراحيل وهذا عمي: كعب بن شراحيل، فقال "قد خيرتك إن شئت
    ـــــــ
    1 وذلك أن أم زيد, وهي سعدي بنت ثعلبة, من بني معن من طيء, كانت قد خرجت بزيد لتزيره أهلها, فأصابته خيل من بني القين بن جسر, فباعوه بسوق حباشة, وهي من أسواق العرب, وزيد يومئذ ابن ثمانية أعوام.
    (2/291)
    سأعمل نص العيس في الأرض جاهدا ... ولا أسأم التطواف أو تسأم الإبل
    حياتي أو تأتي علي منيتي ... فكل امرئ فان وإن غره الأمل
    ثم قدم عليه - وهو عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم – "إن شئت فأقم عندي، وإن شئت فانطلق مع أبيك فقال بل أقيم عندك" فلم يزل عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بعثه الله فصدقه وأسلم، وصلى معه فلما أنزل الله عز وجل {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5] قال أنا زيد بن حارثة.
    __________
    ذهبت معهما، وإن شئت أقمت معي", فقال بل أقيم معك، فقال له أبوه يا زيد أتختار العبودية [على الحرية و] على أبيك وأمك وبلدك وقومك؟ فقال إني قد رأيت من هذا الرجل شيئا، وما أنا بالذي أفارقه أبدا فعند ذلك أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده وقام به إلى الملإ من قريش، فقال: "اشهدوا أن هذا ابني، وارثا وموروثا فطابت نفس أبيه عند ذلك وكان يدعى: زيد بن محمد حتى أنزل الله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5].
    وفي الشعر الذي ذكره ابن إسحاق لحارثة بعد قوله:
    حياتي وإن تأتي علي منيتي ... فكل امرئ فان وإن غره الأمل
    سأوصي به قيسا وعمرا كليهما ... وأوصي يزيد ثم أوصي به جبل
    يعني: يزيد بن كعب [بن شراحيل] وهو ابن عم زيد وأخوه [لأمه] ويعني بجبل جبلة بن حارثة أخا زيد وكان أسن منه. سئل جبلة: من أكبر أنت أم زيد؟ فقال زيدا أكبر مني، وأنا ولدت قبله يريد أنه أفضل منه بسبقه للإسلام.
    (2/292)
    إسلام أبي بكر الصديق رضي الله عنه وشأنه
    ...
    إسلام أبي بكر الصديق رضي الله عنه وشأنه
    نسبه:
    قال ابن إسحاق: ثم أسلم أبو بكر بن أبي قحافة، واسمه عتيق واسم أبي
    __________
    إسلام أبي بكر:
    فصل: وذكر إسلام أبي بكر ونسبه قال واسمه عبد الله وسمي عتيقا
    (2/292)
    قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر.
    قال ابن هشام: واسم أبي بكر عبد الله وعتيق لقب لحسن وجهه وعتقه.
    إسلامه:
    قال ابن إسحاق: فلما أسلم أبو بكر رضي الله عنه أظهر إسلامه ودعا إلى الله وإلى رسوله.
    منزلته في قريش، ودعوته للإسلام:
    وكان أبو بكر رجلا مؤلفا لقومه محببا سهلا، وكان أنسب قريش لقريش وأعلم قريش بها، وبما كان فيها من خير وشر وكان رجلا تاجرا، ذا خلق ومعروف وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر لعلمه وتجارته وحسن مجالسته فجعل يدعو إلى الله وإلى الإسلام من وثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه.
    ـــــــ
    لعتاقة وجهه والعتيق: الحسن كأنه أعتق من الذم والعيب - وقيل سمي عتيقا ; لأن أمه كانت لا يعيش لها ولد فنذرت إن ولد لها ولد أن تسميه عبد الكعبة، وتتصدق به عليها، فلما عاش وشب سمي عتيقا، كأنه أعتق من الموت وكان يسمى أيضا: عبد الكعبة إلى أن أسلم، فسماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله وقيل سمي عتيقا ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له حين أسلم: "أنت عتيق من النار1" وقيل كان لأبيه ثلاثة من الولد معتق ومعيتق وعتيق2 وهو أبو بكر وسئل ابن معين عن أم أبي بكر فقال أم الخير عند اسمها، وهي أم الخير بنت صخر بن عمرو بنت
    ـــــــ
    1 في "الترمذي": قالت عائشة: دخل أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنت عتيق الله من النار. قالت فمن يومئذ سمي: عتيفا.
    2 في "جمهرة ابن حزم": ولد أبي قحافة أبو بكر, اسمه عبد الله, وعتيق ومعتق لا عقب لهما. ص127.
    (2/293)
    ـــــــ
    عم أبي قحافة واسمها: سلمى، وتكنى: أم الخير وهي من المبايعات وأما أبوه عثمان أبو قحافة فأمه قيلة - بياء باثنتين منقوطة من أسفل - بنت أذاة بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب.
    وامرأة أبي بكر أم ابنه عبد الله وأسماء قتلة بنت عبد العزى بتاء منقوطة باثنتين من فوق وقيل فيها: بنت عبد أسعد بن نصر بن حسل بن عامر وهو قول الزبير وذكر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عرض عليه الإسلام فما عكم عند ذلك أي ما تردد وكان من أسباب توفيق الله إياه - فيما ذكر - رؤيا رآها قبل ذلك وذلك أنه رأى القمر ينزل إلى مكة، ثم رآه قد تفرق على جميع منازل مكة وبيوتها، فدخل في كل بيت منه شعبة، ثم كأنه جمع في حجره فقصها على بعض الكتابيين فعبرها له بأن النبي المنتظر الذي قد أظل زمانه تتبعه وتكون أسعد الناس به فلما دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام لم يتوقف وفي مدح حسان الذي قاله فيه وسمعه النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكره دليل على أنه أول من أسلم من الرجال،
    (2/294)
    ذكر من أسلم من الصحابة بدعوة أبي بكر رضي الله عنه
    ...
    ذكر من أسلم من الصحابة بدعوة أبي بكر رضي الله عنه
    إسلام عثمان، والزبير وعبد الرحمن وسعد وطلحة:
    قال: فأسلم بدعائه - فيما بلغني - عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، والزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي. وعبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن عبد بن الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي، وسعد بن أبي وقاص، واسم أبي وقاص مالك بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي. وطلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي، فجاء بهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين استجابوا له فأسلموا وصلوا، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول فيما بلغني: "ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت فيه عنده كبوة ونظر وتردد إلا ما كان من أبي بكر بن أبي قحافة ما عكم عنه حين ذكرته له وما تردد فيه".
    (2/294)
    قال ابن هشام: قوله "بدعائه" عن غير ابن إسحاق.
    قال ابن هشام: قوله عكم تلبث.
    قال رؤبة بن العجاج:
    وانظاع وثاب بها وما عكم
    قال ابن إسحاق: فكان هؤلاء النفر الثمانية الذين سبقوا الناس بالإسلام فصلوا وصدقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما جاءه من الله.
    إسلام أبي عبيدة، وأبي سلمة، والأرقم، وأبناء مظعون، وعبيدة بن الحارث، وسعيد بن زيد وامرأته، وأسماء، وعائشة، وخباب:
    ثم أسلم أبو عبيدة واسمه عامر1 بن عبد الله بن الجراح بن هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر. وأبو سلمة واسمه عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي. والأرقم بن أبي الأرقم. واسم أبي الأرقم عبد مناف بن أسد - وكان أسد يكنى: أبا جندب - بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي. وعثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي. وأخواه قدامة وعبد الله ابنا مظعون بن حبيب. وعبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى بن عبد الله بن قرط بن رياح بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي، وامرأته فاطمة بنت الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن عبد الله بن قرط بن رياح بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي، أخت عمر بن الخطاب. وأسماء بنت أبي بكر. وعائشة بنت أبي بكر، وهي يومئذ صغيرة. وخباب بن الأرت، حليف بني زهرة.
    قال ابن هشام: خباب بن الأرت من بني تميم، ويقال هو من خزاعة
    ـــــــ
    وفيه:
    خير البرية أتقاها، وأفضلها ... بعد النبي وأوفاها بما حملا
    ـــــــ
    1 وقيل اسمه عبد الله بن عامر. والصحيح أن اسمه عامر. انظر "الاستيعاب".
    (2/295)
    إسلام عمير وابن مسعود وابن القاري:
    قال ابن إسحاق: وعمير بن أبي وقاص، أخو سعد بن أبي وقاص. وعبد الله بن مسعود بن الحارث بن شمخ بن مخزوم بن صاهلة بن كاهل بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل حليف بني زهرة ومسعود بن القاري وهو مسعود بن ربيعة بن عمرو بن سعد بن عبد العزى بن حمالة بن غالب بن محلم بن عائذة بن سبيع بن الهون بن خزيمة من القارة.
    شيء عن القارة:
    قال ابن هشام: والقارة1: لقب ولهم يقال:
    قد أنصف القارة من راماها
    وكانوا قوما رماة.
    ـــــــ
    والثاني التالي المحمود مشهده ... وأول الناس قدما صدق الرسلا2
    إسلام أبي عبيدة وسعيد بن زيد:
    وذكر إسلام أبي عبيدة بن الجراح واسمه وقد اختلف فيه فقيل عبد الله بن عامر وقيل عامر بن عبد الله. وأمه أميمة بنت غنم بن جابر بن عبد العزى بن عامرة بن وديعة بن الحارث بن فهر، قاله الزبير.
    وذكر إسلام سعيد بن زيد، وقد ذكرناه فيما مضى، وذكرنا أمه فاطمة بنت بعجة3 بن خلف الخزاعية وما وقع في نسبه من التقديم والتأخير ومن الفتح في
    ـــــــ
    1 والقارة قبيلة, وهم عضل والديش ابنا الهون بن خزيمة.
    2 ورد قبلهما:
    إذ تذكرت شجوا من أخي ثقة ... فا ذكر أخاه أبا بكر بما فعلا.
    وقيل إن ابن عباس كان يستشهد بهذه الأبيات على أ ولية إسلام أبي بكر –رضي الله عنه-.
    3 في "الإصابة": بعجة بن مليح.
    (2/296)
    إسلام سليط وأخيه، وعياش وامرأته، وخنيس، وعامر:
    قال ابن إسحاق: وسليط بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي بن غالب بن فهر. وعياش بن أبي ربيعة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي. وامرأته أسماء بنت سلامة1 بن مخربة التميمية. وخنيس بن حذافة بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي. وعامر بن ربيعة بن عنز بن وائل، حليف آل الخطاب بن نفيل بن عبد العزى.
    قال ابن هشام: عنز بن وائل أخو بكر بن وائل، من ربيعة بن نزار.
    إسلام ابني جحش، وجعفر وامرأته، وأولاد الحارث ونسائهم، والسائب، والمطلب وامرأته:
    قال ابن إسحاق: وعبد الله بن جحش بن رئاب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة. وأخوه أبو أحمد بن جحش، حليفا بني أمية بن عبد شمس. وجعفر بن أبي طالب، وامرأته أسماء بنت عميس بن النعمان بن كعب بن مالك بن قحافة، من خثعم، وحاطب بن الحارث بن معمر بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي، وامرأته فاطمة بنت المجلل بن عبد الله أبي قيس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي بن غالب بن فهر. وأخوه خطاب2 بن الحارث، وامرأته فكيهة
    ـــــــ
    رزاح بن عدي والكسر وأن رزاح بن ربيعة هو الذي لم يختلف في كسر الراء منه ويكنى سعيدا: أبا الأعور توفي بأرضه بالعقيق ودفن بالمدينة في أيام معاوية سنة خمسين أو إحدى وخمسين وهو ابن بضع وسبعين سنة روى عنه ابن عمر
    ـــــــ
    1 وقيل: أسماء بنت سلمة.
    2 كذا في "الإستيعاب", وفي الأصول: خطاب –بالخاء المعجمة- وهو تصحيف.
    (2/297)
    بنت يسار. ومعمر بن الحارث بن معمر بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي. والسائب بن عثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب. والمطلب بن أزهر بن عبد عوف بن عبد بن الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي، وامرأته رملة بنت أبي عوف بن صبيرة بن سعيد بن سعد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي. والنحام، واسمه نعيم بن عبد الله بن أسيد أخو بني عدي بن كعب بن لؤي.
    إسلام نعيم ونسبه:
    قال ابن هشام: هو نعيم بن عبد الله بن أسيد بن عبد الله بن عوف بن عبيد بن عويج بن عدي بن كعب بن لؤي، وإنما سمي النحام، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال: "لقد سمعت نحمة في الجنة" .
    قال ابن هشام: نحمه صوته وحسه.
    __________
    وعمرو بن حريث، وأبو الطفيل عامر بن واثلة وجماعة من التابعين1 ولم يرو عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا حديثين2. أحدهما : "من غصب شبرا من أرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين3" وهو أحد العشرة الذين شهد لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجنة وأحد الذين رجف بهم الجبل فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "اثبت حراء ; فإنما عليك نبي أو صديق أو شهيد" . ويروى: "اثبت أحد" , وأن القصة كانت في جبل أحد، ويروى أنها كانت في جبل ثبير ذكره الترمذي، وأنهم كانوا أربعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم الخلفاء الأربعة ولعل هذا أن يكون مرارا، فتصح الأحاديث كلها، والله أعلم.
    ـــــــ
    1 من كبارهم: أبو عثمان النهدي, وبن المسيب, وقيس بن أبي حازم وغيرهم.
    2 في "ذخائر المواريث" ذكر له عشرة أحاديث.
    3 رواه البخاري في المظالم وبدء الخلق, ومسلم في البيوع.
    (2/298)
    .................................................. ..............................................
    ـــــــ
    إسلام سعد وابن عوف والنحام:
    وذكر فيمن أسلم بعد أبي بكر سعد بن أبي وقاص، واسم أبي وقاص مالك بن أهيب، وأهيب هو عم آمنة بنت وهب أم النبي - صلى الله عليه وسلم - والوقاص في اللغة هو واحد الوقاقيص وهي شباك يصطاد بها الطير وهو أيضا فعال من وقص إذا انكسر عنقه وأم سعد حمنة بنت سفيان بن أمية بن عبد شمس، يكنى: أبا إسحاق وهو أحد العشرة دعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يسدد الله سهمه وأن يجيب دعوته فكان دعاؤه أسرع الدعاء إجابة. وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "احذروا دعوة سعد". مات في خلافة معاوية.
    وذكر عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن عبد بن الحارث بن زهرة1، وهو أيضا أحد العشرة يكنى: أبا محمد أمه الشفاء بنت عوف بن عبد بن الحارث وهي بنت عم عوف والد عبد الرحمن بن عوف، فأبوها: عوف عم عوف وأخو عبد عوف.
    وذكر نعيم بن عبد الله النحام، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم – "سمعت نحمة في الجنة" ولم يفسر النحم ما هو وهي سعلة مستطيلة ويقال للبخيل نحام لأنه يسعل إذا سئل يتشاغل بذلك وأنشد الزبير:
    ما لك لا تنحم يا رواحه ... إن النحيم للسقاة راحه
    قال: ويقال للنحمة نحطة وقال غيره النحطة في الصدر والنحمة في الحلق والنحام أيضا طائر أحمر في عظم الإوز2. ـــــــ
    1 هكذا في "نسب قريش". وفي "جمهرة ابن حزم": نسبه: عبد الرحمن بن عوف بن عوف بن عبد بن الحارث بن زهرة بن كلاب.
    2 في "القاموس": نحط ينحط نحيطا: زفر زفيرا, النحاط كغراب: ترد البكاء في الصدر من غير أن يظهر كالنحط.
    (2/299)
    .................................................. ..............................................
    ـــــــ
    عبد الله بن مسعود ومسعود القاري:
    وذكر عبد الله بن مسعود بن شمخ بن مخزوم بن صاهلة بن كاهل بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل حليف بني زهرة، وقال في نسبه كاهل وقيده الوقشي بفتح الهاء من كاهل كأنه سمي بالفعل من كاهل يكاهل كما قال - عليه السلام لرجل استأذنه في الجهاد - واسمه جاهمة - فقال هل في أهلك من كاهل أي من قوي على التصرف والاكتهال القوة . وقال أبو عبيد: كاهل أي أسن وقال ابن الأعرابي: إنما لفظ الحديث هل في أهلك من كاهن وغيره الراوي له فقال من كاهل قال وكاهن الرجال هو الذي يخلف الرجل في أهله يقوم بأمرهم بعد يقال منه كهن يكهن كهانة.
    وذكر في نسبه أيضا شمخا وهو من شمخ بأنفه إذا رفعه عزة. وأم عبد الله هي أم عبد بنت سود بن قديم بن صاهلة هذلية1.
    وذكر مسعودا القاري وهو مسعود بن ربيعة ورفع نسبه إلى الهون بن خزيمة، وهم القارة وفيهم جرى المثل المثل قد أنصف القارة من راماها. قال الراجز:
    قد علمت سلمى، ومن والاها ... أنا نرد الخيل عن هواها
    نردها دامية كلاها ... قد أنصف القارة من راماها
    إنا إذا ما فئة نلقاها ... نرد أولاها على أخراها
    وسمي بنو الهون بن خزيمة قارة لقول الشاعر منهم في بعض الحروب:
    دعونا قارة لا تذعرونا ... فنجفل مثل إجفال الظليم
    ـــــــ
    1 في "الإصابة": أمه: أم عبيد بنت عبد ود بن سود أو اسواءة بن مريم.
    (2/300)
    .................................................. ..............................................
    ـــــــ
    هكذا أنشده أبو عبيد في كتاب الأنساب وأنشده قاسم في الدلائل.
    دعونا قارة لا تذعرونا ... فتنبتك القرابة والذمام
    وكانوا رماة الحدق فمن راماهم فقد أنصفهم والقارة: أرض كثيرة الحجارة وجمعها قور فكأن معنى المثل عندهم أن القارة لا تنفد حجارتها إذا رمي بها، فمن راماها فقد أنصف.
    وهم في نسب أبي حذيفة:
    وذكر أبا حذيفة بن عتبة. قال ابن هشام: واسمه مهشم وهو وهم عند أهل النسب فإن مهشما إنما هو أبو حذيفة بن المغيرة أخو هاشم وهشام ابني المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وأما أبو حذيفة بن عتبة فاسمه قيس فيما ذكروا1.
    عميس:
    وذكر أسماء بنت عميس امرأة جعفر بن أبي طالب، وعميس أبوها هو ابن معد بن الحارث بن تيم بن كعب بن مالك بن قحافة بن عامر بن ربيعة بن زيد بن مالك بن نسر بن وهب بن شهران بن عقرس بن حلف بن أفتل وهو جماعة خثعم بن أنمار على الاختلاف في أنمار هذا، وقد تقدم. وأمها: هند بنت عوف بن زهير بن الحارث2 من كنانة وهي أخت ميمونة بنت الحارث الهلالية زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أمهما واحدة وأخت لبابة أم الفضل امرأة العباس وكن تسع أخوات3 فيهن
    ـــــــ
    1 في "الإصابة": قيل: هاشم استشهد يوم اليمامة, وهو ابن ست وخمسين سنة.
    2 قيل: خولة بنت عوف بن زهير.
    3 قيل: عشر لأم, وست لأم واب.
    (2/301)
    .................................................. ..............................................
    ـــــــ
    قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم – "الأخوات مؤمنات" وكانت قبل جعفر عند حمزة بن عبد المطلب، فولدت له أمة الله ثم كانت عند شداد بن الهاد، فولدت له عبد الله وعبد الرحمن وقد قيل بل التي كانت عند حمزة ثم عند شداد هي أختها: سلمى، لا أسماء وتزوجها بعد حمزة أبو بكر الصديق، فولدت له محمد بن أبي بكر، وتزوجها بعده علي بن أبي طالب، فولدت له يحيى. قال الكلبي: ولدت له مع يحيى عون بن علي ولم يختلف أنها ولدت لجعفر ابنا اسمه عون وولدت له أيضا عبد الله بن جعفر، وكان جواد العرب في الإسلام وبنات عميس أسماء وسلامة وسلمى، وهن أخوات ميمونة وسائر أخواتها لأم.
    تصويب في نسب بني عدي:
    وذكر ابن إسحاق في السابقين إلى الإسلام من بني سهم: عبد الله بن قيس بنالحارث بن عدي بن سعيد بن سهم وحيثما تكرر نسب بني عدي بن سعد بن سهم يقول فيه ابن إسحاق: سعيد، والناس على خلافه وإنما هو سعد وسيأتي في شعر عبد الله بن قيس شاهد على ذلك وإنما سعيد بن سهم أخو سعد وهو جد آل عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سعيد بن سهم وفي سهم سعيد آخر وهو ابن سعد المذكور وهو جد المطلب بن أبي وداعة، واسم أبي وداعة عوف بن صبيرة1 ابن سعيد بن سعد وقد قيل في صبيرة ضبيرة بالضاد المعجمة وهو الذي كان شابا جميلا يلبس حلة ويقول للناس هل ترون بي بأسا إعجابا بنفسه فأصابته المنية بغتة فقال الشاعر فيه:
    من يأمن الحدثان بعد صب ... يرة القرشي ماتا
    سبقت منيته المشي ... ب وكان منيته افتلاتا2
    ـــــــ
    1 هكذا في "نسب قريش" وفي "جمهرة ابن حزم" هبيرة, وهو خطأ.
    2 منية: موت, افتلات: فجأة.
    (2/302)
    إسلام عامر بن فهيرة ونسبه:
    قال ابن إسحاق وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
    ـــــــ
    عنز:
    وذكر عامر بن ربيعة، وقال هو من عنز بن وائل. عنز بسكون النون ويذكر عن علي بن المديني أنه قال فيه عنز بفتح النون والسكون أعرف. ذكر أهل النسب أن وائلا [بن قاسط] كان إذا ولد له ولد خرج من خبائه فما وقعت عينه عليه سماه به فلما ولد له بكر وقعت عينه على بكر من الإبل فسماه به فلما ولد له تغلب رأى نفسين يتغالبان فسماه تغلب، فلما ولد له عنز، رأى عنزا - وهي الأنثى من المعز - فسماه عنزا، فلما ولد له الشخيص خرج فرأى شخصا على بعد صغيرا، فسماه الشخيص بهؤلاء الأربع1 هم قبائل وائل وهم معظم ربيعة، وهو عامر بن ربيعة العنزي العدوي حليف لهم ويقال هو عامر بن ربيعة بن كعب بن مالك بن ربيعة بن عامر بن سعد بن عبد الله بن الحارث بن رفيدة بن عنز بن وائل بن قاسط، وقيل عامر بن ربيعة بن مالك بن عامر بن ربيعة بن حجير بن سلامان بن هنب بن أفضى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان.
    إسلام عامر بن فهيرة:
    وذكر عامر ابن فهيرة مولى أبي بكر وفهيرة أمه هي تصغير فهر، لأن الفهر مؤنثة وكان عبدا أسود للطفيل بن الحارث بن صخرة اشتراه أبو بكر فأعتقه وأسلم قبل دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - دار الأرقم، وسيأتي في الكتاب نبذ من أخباره منها: أنه قتله عامر بن الطفيل2 يوم بئر معونة، فلما طعنه خرج من الطعنة نور وكان عامر
    ـــــــ
    1 القصة في "الاشتقاق" لابن دريد ص 6.
    2 عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر الكلابي العامري, مات كافرا بإجماع أهل النقل, وليس هو عامر بن الطفيل الأسلمي الصحابي.
    (2/303)
    قال ابن هشام: عامر بن فهيرة مولد من مولدي الأسد أسود اشتراه أبو بكر رضي الله عنه منهم.
    إسلام خالد بن سعيد وامرأته أمينة:
    قال ابن إسحاق: وخالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي، وامرأته أمينة بنت خلف بن أسعد بن عامر بن بياضة بن سبيع بن جعثمة بن سعد بن مليح بن عمرو، من خزاعة.
    قال ابن هشام: ويقال همينة بنت خلف.
    إسلام حاطب وأبي حذيفة وإسلا واقد، وشيء عنه:
    قال ابن إسحاق: وحاطب بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي بن غالب بن فهر. وأبو حذيفة واسمه مهشم - فيما قال ابن هشام - بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي. وواقد بن عبد الله بن عبد مناف بن عرين بن ثعلبة بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، حليف بني عدي بن كعب.
    قال ابن هشام: جاءت به باهلة، فباعوه من الخطاب بن نفيل، فتبناه فلما أنزل
    ـــــــ
    يقول من رجل لما طعنته رفع حتى حالت السماء دونه هذه رواية البكائي عن ابن إسحاق، وفي رواية يونس بن بكير عن ابن إسحاق أن عامرا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قدم عليه وقال يا محمد من رجل من أصحابك لما طعنته رفع إلى السماء؟ فقال "هو عامر ابن فهيرة", وروى هشام بن عروة عن أبيه أن عامرا التمس في القتلى يومئذ فلم يوجد فكانوا يرون أن الملائكة رفعته أو دفنته1 ذكره ابن المبارك.
    ـــــــ
    1 قتل عامر وسنه أربعون سنة.
    (2/304)
    الله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5] قال أنا واقد بن عبد الله، فيما قال أبو عمرو المدني.
    إسلام بني البكير، وعمار بن ياسر:
    قال ابن إسحاق: وخالد وعامر وعاقل وإياس بنو البكير بن عبد ياليل بن ناشب بن غيرة من بني سعد بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة حلفاء بني عدي بن كعب. وعمار بن ياسر، حليف بني مخزوم بن يقظة.
    قال ابن هشام: عمار بن ياسر عنسي من مذحج.
    إسلام صهيب ونسبه:
    قال ابن إسحاق: وصهيب بن سنان، أحد النمر بن قاسط، حليف بني تيم بن مرة.
    قال ابن هشام: النمر بن قاسط بن هنب بن أفصى بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار، ويقال أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد، ويقال صهيب مولى عبد الله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم.
    ـــــــ
    اصدع بما تؤمر وما المصدرية والذي:
    فصل: وذكر قول الله سبحانه {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94]1. والمعنى: اصدع بالذي تؤمر به ولكنه لما عدى الفعل إلى الهاء حسن حذفها، وكان الحذف هاهنا أحسن من ذكرها ; لأن ما فيها من الإبهام أكثر مما تقتضيه الذي، وقولهم ما مع الفعل بتأويل المصدر راجع إلى معنى الذي إذا تأملته، وذلك أن الذي تصلح في كل موضع تصلح فيه ما التي يسمونها المصدرية نحو قول الشاعر:
    عسى الأيام أن يرجعن ... يوما كالذي كانوا2
    ـــــــ
    1 في "البخاري" عن ابن عباس قال: لما نزلت {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ} [لشعراء: 214]؟ جعل النبي يدعوهم قبائل قبائل.
    2 البيت للفند –بكسر الفاء- الزماني بكسر الزاي وتشديد الميم, وهو شهل بن شيبان بن ربيعة بن زمان بن مالك بن صعب بن علي بن بكر بن وائل جاهلي قديم.
    (2/305)
    ويقال إنه رومي. فقال بعض من ذكر أنه من النمر بن قاسط: إنما كان أسيرا في أرض الروم، فاشتري منهم وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "صهيب سابق الروم".
    ـــــــ
    أي كما كانوا، فقول الله عز وجل إذا: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94] إما أن يكون معناه بالذي تؤمر به من التبليغ ونحوه وإما أن يكون معناه اصدع بالأمر الذي تؤمره كما تقول عجبت من الضرب الذي تضربه فتكون ما هاهنا عبارة عن الأمر الذي هو أمر الله تعالى، ولا يكون للباء فيه دخول ولا تقدير وعلى الوجه الأول تكون ما مع صلتها عبارة عما هو فعل للنبي - صلى الله عليه وسلم - والأظهر أنها مع صلتها عبارة عن الأمر الذي هو قول الله ووحيه بدليل حذف الهاء الراجعة إلى: ما، وإن كانت بمعنى الذي في الوجهين جميعا، إلا أنك إذا أردت معنى الأمر لم تحذف إلا الهاء وحدها، وإذا أردت معنى المأمور به حذفت باء وهاء فحذف واحد أيسر من حذفين مع أن صدعه وبيانه إذا علقته بأمر الله ووحيه كان حقيقة وإذا علقته بالفعل الذي أمر به كان مجازا، وإذا صرحت بلفظ الذي، لم يكن حذفها بذلك الحسن وتأمله في القرآن تجده كذلك نحو قوله تعالى: {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة: 33] {وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [التغابن: 4]. و {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]. و {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون]. ولم يقل خلقته، وحذف الهاء في ذلك كله وقال في الذي: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} [البقرة: 121] و {الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً} [الحج: 25] وما أشبه ذلك وإنما كان الحذف مع ما أحسن لما قدمناه من إبهامها، فالذي فيها من الإبهام قربها من ما التي هي شرط لفظا ومعنى، ألا ترى أن ما إذا كانت شرطا تقول فيها: ما تصنع أصنع مثله ولا تقول ما تصنعه لأن الفعل قد عمل فيها، فلما ضارعتها هذه التي هي موصولة وهي بمعنى الذي أجريت في حذف الهاء مجراها في أكثر الكلام وهذه تفرقة في عود الضمير على ما، وعلى "الذي" يشهد لها التنزيل والقياس الذي ذكرناه من الإبهام ومع هذا لم نر أحدا نبه على هذه التفرقة ولا أشار إليها، وقارئ القرآن محتاج إلى هذه التفرقة. وقد يحسن حذف الضمير العائد على الذي
    (2/306)
    .................................................. ..............................................
    ـــــــ
    لأنه أوجز ولكنه ليس كحسنه مع من وما، ففي التنزيل: {وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا} [التغابن: 8] فإن كان الفعل متعديا إلى اثنين كان إبراز الضمير أحسن من حذفه لئلا يتوهم أن الفعل واقع إلى المفعول الواحد وأنه مقتصر عليه كقوله تعالى: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ} [الحج: 25] {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} [البقرة: 121] وشرح ابن هشام معنى قوله اصدع شرحا صحيحا، وتتمته أنه صدع على جهة البيان وتشبيه لظلمة الشك والجهل بظلمة الليل. والقرآن نور فصدع به تلك الظلمة ومنه سمي الفجر صديعا، لأنه يصدع ظلمة الليل وقال الشماخ:
    ترى السرحان مفترشا يديه
    ... كأن بياض لبته صديع1
    على هذا تأوله أكثر أهل المعاني، وقال قاسم بن ثابت الصديع في هذا البيت ثوب أسود تلبسه النواحة تحته ثوب أبيض وتصدع الأسود عند صدرها فيبدو الأبيض وأنشد:
    كأنهن2 إذ وردن ليعا ... نواحة مجتابة صديعا
    ـــــــ
    1 في "اللسان" مادة: صدع, نسبه إلى عمرو بن معدي كرب, والشماخ شاعر ذبياني مخضرم وهو ابن ضرار بن سنان, وقيل اسمه: معقل, والشماخ لقب له, وقيل اسمه: الهيثم, والأول أصح. انظر "سمط اللآلىء" ص 58.
    2 في "معجم البكري": كأنها.
    (2/307)

  2. #2
    هذا العضو تم ايقافه بسبب ازعاجه للعضوات بالرسائل الخاصة
    تاريخ التسجيل
    Jun 2009
    الدولة
    جـــــــــــــــــده
    المشاركات
    511

    رد: الروض الأنف في شرح السيرة النبويه لابن هشام_المجلد الثاني_

    وذكر قاسم بن ثابت في غريب الحديث أن رجلا من خثعم قدم مكة معتمرا، أو حاجا، ومعه بنت له يقال لها: القتول من أوضأ نساء العالمين، فاغتصبها منه

    نبيه بن الحجاج1 وغيبها عنه فقال الخثعمي: من يعديني على هذا الرجل فقيل له عليك بحلف الفضول فوقف عند الكعبة، ونادى: يا لحلف الفضول فإذا هم يعنقون إليه من كل جانب وقد انتضوا أسيافهم يقولون جاءك الغوث، فما لك؟ فقال إن نبيها ظلمني في ابنتي، وانتزعها مني قسرا، فساروا معه حتى وقفوا على باب الدار فخرج إليهم فقالوا له أخرج الجارية ويحك، فقد علمت من نحن وما تعاقدنا عليه فقال أفعل ولكن متعوني بها الليلة فقالوا له لا والله ولا شخب لقحة2 فأخرجها إليهم وهو يقول:
    راح صحبي ولم أحي القتولا ... لم أودعهم وداعا جميلا
    إذ أجد الفضول أن يمنعوها ... قد أراني، ولا أخاف الفضولا
    لا تخالي أني عشية راح الر ... كب هنتم علي ألا أقولا
    في أبيات غير هذه ذكرها الزبير وذكر من قوله فيها أيضا:
    حلت تهامة حلة ... من بيتها ووطائها
    ولها بمكة منزل ... من سهلها وحرائها
    أخذت بشاشة قلبه ... ونأت فكيف بنأيها


    احلى اسم قبيلتي
    وصلت الى المظلومين من حلف الفضول ولي عوده

    جزاك الله خير
    وسدد خطاءكي
    تم ايقاف هذا العضو

    و على كل فتاة تتلقى ازعاج بالرسائل الخاصة


    تبليغ الإدارة لكي ياخذ جزاءه

  3. #3
    ذكريات مشرفه الصورة الرمزية غرابيــل
    تاريخ التسجيل
    Aug 2007
    الدولة
    خَلفْ السَمآءْ الثَآمنِهَ !
    المشاركات
    7,409

    رد: الروض الأنف في شرح السيرة النبويه لابن هشام_المجلد الثاني_

    الله يعطيك العافيه اخوي..

    اهم شي لقيت اسم قبيلتك..<<:مزون: :مزون:

    شاكره مرورك..

    وتواجدك العطر..

  4. #4
    إدارة عامة الصورة الرمزية أبوعبدالرحمن
    تاريخ التسجيل
    Dec 2002
    الدولة
    غرابيل
    المشاركات
    34,173

    رد: الروض الأنف في شرح السيرة النبويه لابن هشام_المجلد الثاني_

    بارك الله بك وجزيتي خيرا
    (خريفك) مع (ربيعك) مع (شتاء قلبك) مع( حرّه)=( فصول العشق ) تاخذني كذا من ( زحمة الأيام )
    لسانك لا سكت وإلا حـــكى ( لله يا درّه ) = سكوتك ( حكمة العاقل ) وهرجك ( قمة الأنغام )



    [email protected]

    www.aait.sa
    www.mta.sa

    0503444442

    اللهم إن لنا أخوان وأخوات في هذا المنتدى
    منهم من غاب عنا لأي سبب
    ومنهم من هو غائب حاضر
    ومنهم من هو مستمر حتى الآن
    شاركونا بعلمهم .. وخبراتهم .. وتجاربهم
    ناقشونا ونصحونا وعاتبونا
    واسونا في أحزاننا وشاركونا أفراحنا
    نتمنى لهم الخير والسعادة أينما كانوا
    وندعو لهم بظهر الغيب أينما حلوا
    اللهم احفظهم وأغفر لهم وأنزل عليهم رحماتك أحياءً وأمواتاً

  5. #5
    ذكريات مشرفه الصورة الرمزية غرابيــل
    تاريخ التسجيل
    Aug 2007
    الدولة
    خَلفْ السَمآءْ الثَآمنِهَ !
    المشاركات
    7,409

    رد: الروض الأنف في شرح السيرة النبويه لابن هشام_المجلد الثاني_

    الله يعطيك الف عافيه اخوي..

    شاكره مرورك..

  6. #6
    إدارة عامة الصورة الرمزية وجن محمد
    تاريخ التسجيل
    Nov 2005
    المشاركات
    29,841

    رد: الروض الأنف في شرح السيرة النبويه لابن هشام_المجلد الثاني_

    ﴿قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾
    الأنعام 15

    "لو لم يكن لنا من رادع عن معصية ربنا إلا هذه الآية لكفتنا"

    !
    ليكن حظ المؤمن منك ثلاثاً : إن لم تنفعه فلا تضره ، وإن لم تفرحه فلا تغمه ، وإن لم تمدحه فلا تذمه













  7. #7
    ذكريات مشرفه الصورة الرمزية غرابيــل
    تاريخ التسجيل
    Aug 2007
    الدولة
    خَلفْ السَمآءْ الثَآمنِهَ !
    المشاركات
    7,409

    رد: الروض الأنف في شرح السيرة النبويه لابن هشام_المجلد الثاني_

    وياك يارب,,

    شاكره مرورك..

    ولاعدمت تواجدك العطر,,


  8. #8
    ~ [ مستشار إداري ] ~
    الصورة الرمزية همس الرووح
    تاريخ التسجيل
    Mar 2008
    المشاركات
    27,875

    رد: الروض الأنف في شرح السيرة النبويه لابن هشام_المجلد الثاني_

    يعطيج العافية مجهود رائع


    تشكراات غلاتي جود


    ******
    لاتظلمن اذا ما كنت مقتدر فالظلم آخره
    يفضى إلى الندم
    تنام عيناك والمظلوم منتبه يدعو عليك
    وعين الله لم تنم

  9. #9
    منارة الأفراح الصورة الرمزية قطرات امل
    تاريخ التسجيل
    Dec 2009
    الدولة
    مدينة الامل
    المشاركات
    549

    رد: الروض الأنف في شرح السيرة النبويه لابن هشام_المجلد الثاني_

    جزاك ربي كل خير
    وعادة****قطـــرات أمل لتنير منارة الأفراح



    على ضفاف الإحزان



    .....بقلمي قطرات أمل...

  10. #10
    ~ [ عضو مؤسس ] ~

    الصورة الرمزية كاسب العز
    تاريخ التسجيل
    May 2005
    الدولة
    جــــــــــــده
    المشاركات
    26,890

    رد: الروض الأنف في شرح السيرة النبويه لابن هشام_المجلد الثاني_

    بارك الله فيك

    لك مني أجمل تحية

    تقبل مرورى

    كاسب العز
    {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ }

    أنت الزائررقم

    لمــواضيعي





    جـــده

  11. #11
    ~ [ مستشار إداري ] ~

    تاريخ التسجيل
    Oct 2005
    المشاركات
    7,511

    رد: الروض الأنف في شرح السيرة النبويه لابن هشام_المجلد الثاني_

    شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. حمل أطلس السيرة النبوية ( خرائط لأحداث السيرة النبوية مع الشرح )
    بواسطة إشراقـ أمل ـة في المنتدى الإجتماعيات
    مشاركات: 24
    آخر مشاركة: 02-03-2013, 04:04 PM
  2. الروض الأنف في شرح السيرة النبوية لابن هشام_المجلد الأول_
    بواسطة غرابيــل في المنتدى كتب السيرة النبوية
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 05-08-2010, 06:31 AM
  3. السيره النبويه العطره
    بواسطة خالد المصرى في المنتدى المنتدى الإسلامي
    مشاركات: 16
    آخر مشاركة: 17-05-2007, 01:30 PM
  4. وصف الخواج من السنة النبويه
    بواسطة طـيـف نـجـد في المنتدى المنتدى الإسلامي
    مشاركات: 10
    آخر مشاركة: 03-07-2004, 11:47 PM

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •