النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: أية أجرة ... ؟!!

  1. #1
    ~ [ نجم صاعد ] ~
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    المغرب
    المشاركات
    88

    أية أجرة ... ؟!!

    يسعدني ويشرفني أحبابي وأصدقائي أن أطل عليكم بعد غياب طويل أرغمته ظروف صعبة بهذا العمل المتواضع وأسأل الله أن يروقكم وأن تسعفوني بآرائكم وتوجيهاتكم حوله ولكم جزيل الشكر :

    إنها الساعة الرابعة بعد الزوال، العصر على وشك.
    لم تشأ أن تكمل ما بدأته من عمل ( طرز الأحزمة التقليدية النسائية وسروج الخيول والبوابيج النسائية- الشرابيل بالمصطلح المحلي- وذلك بواسطة خيوط ذهبية)، العمل الذي من أجرته تجلب لنفسها أو لأحد أبنائها ما تستطيع اقتناءه من ملابس أو ما تحتاجه في البيت ولا يوفره لها زوجها أو أجرة الاستحمام التي غالبا ما لا تحصل عليها منه. أخفت كل وسائلها بعيدا عن تناول عيالها الصغار: مروة الشقية ذات ثمان سنوات، أحمد ذو الست، هشام ذو الثلاث والنصف و وحيد الذي لم يكمل بعد ربيعه الثاني. بعد أن صلت عصرها أرضعت صغيرها ذا العينين الغائرتين والوجه الشاحب من سوء التغذية. نهضت بهمة مصطنعة وخفة فيها ما فيها من مكابرة متحدية ببسالة عناء الحياة الرتيب و عسر الحال الذي أذهب نور وجهها وشباب روحها.
    عليها أن تعد طعام الفطور وهو حسب العادة المألوفة قدرا من الحساء ( الحريرة) وعليها أيضا أن تعجن الخبز وتعد في نفس الوقت ما ستقدمه للأسرة عند العشاء فالليلة هي أعظم ليلة في هذا الشهر المبارك: ليلة القدر الموافقة هذا العام لليلة من ليالي أغسطس الحارة. كل النساء هذا اليوم يواظبن على إعداد أكلة متميزة، أكلة الكسكس هي الشائعة والأكثر استهلاكا.
    « ليس لدينا لحم وطابق الكسكس يلزمه قطعة من لحم البقر أو الدجاج.» فكرت بحسرة صاحبتها شهقة.
    قررت أن يكون الطابق من غير لحم فلا مشكلة ما دامت لن تستقبل ضيوفا. هيأت كل شيء ووضعت المائدة المتواضعة بعدما نظفت البيت واستمرت في الحركة والانشغال حتى بعد آذان المغرب، حيث اقتصرت على تناول جرعة ماء باردة تفطر عليها مما يؤكد سمو نفسها القنوعة، أجلت تناول فطورها إلى حين أن تنهي كل شيء. لكن ما مرة ينتهي كل شيء: هموم البيت وإدارته أمر مضن بالنسبة لأم لديها أطفال بحاجة إلى الرعاية، فرغم مساعدة ابنتها البكر لها فإن الأمر يبقى شاقا إلى حد كبير.
    بعد إفراغ مائدة الإفطار مما عليها من سلطانيات فخارية وقدر وملاعق وبعد غسل كل الأواني فكرت في أخذ قسط من الراحة لكنها فوجئت بالزوج يأمرها بإعداد الأرغفة التي يصمم على أخذها للمسجد حيث سيقضي ليلته حتى الساعة الأخيرة من الليل ليعود بعد صلاة الصبح. تلك الأرغفة ينوي التكرم بها على المصلين.
    «آه ربي كم سيكلفني هذا ؟ ! أليس لي حق في الراحة؟» قالت لنفسها مخفية تدمرها عن زوجها المستبد، فلو سمعها لا كانت في موقف حرج جدا.
    كانت تنوي بعد دقائق قليلة من الراحة استئناف عملها كي تقبض ثمنه بالغد وتشتري به ما تستطيع شراءه من ملابس العيد للأولاد.
    « غدا سأعيد الشغل للمعلم و بما سيدفع لي سأشتري لأحمد و مروة شيئا يلبسانه يوم العيد، ستون درهما ماذا ستكفي يا ربي؟» همهمت وهي تطعم ابنها وحيد.
    لكن العقوبة التي فرض عليها زوجها ستضطرها لليلة بيضاء حتى يتسنى لها إتمام العمل.
    « لا بأس سيمضي كل شيء مع الصبر. » أضافت بصوت شجي و هي تتنهد بعمق.
    نادت ابنتها البكر زكية لترعى إخوتها بينما هي سوف تعد الأرغفة. اتخذت مكانا فوق سطح المنزل وأشعلت بعض الأعواد وقطع خشبية التي كانت مركونة هناك وشرعت في القلي، بعدما قد أعدت العجين في المطبخ. الإنارة الضعيفة زادت من صعوبة الإنجاز. والدخان المنبعث سبب لها دوارا مصحوبا بألم في رأسها. لكنها لم تكل بل استأنفت تحضير أقراص الأرغفة مصرة على أن تكون شهية حتى لا يحتج عليها زوجها بأسلوبه الفظ المفعم بالاحتقار. فهي قد عودت نفسها على تجنب ما يثير غضبه حتى لا تسمع منه ما لا يرضيها وإن كان يسمعه لها بغير مكان وأنى شاء على أتفه الأشياء و بحضرة الأولاد بل وفي حضرة أي كان من الضيوف.
    الساعة العاشرة ليلا وهي لا زالت منشغلة فوق السطوح والحرارة مفرطة. الدخان وحرارة لهيب الكانون زادت من إحساسها بحر الجو وزادت من تصبب عرقها وسيول أنفها وانهمار دموعها. صعدت إليها ابنتها تستأذنها في تقديم العشاء. أشارت عليها بإبقاء طابق من الكسكس يتغذى عليه الأولاد في اليوم الموالي وطابق آخر منه لأبيها حين يعود من المسجد ل يتعشى ويجدد وضوءه. أما عن نفسها فقالت:
    « ليست لي إرادة للأكل و لا وقت لدي أيضا. كلوا أنتم بألف هناء.»
    خفضت رأسها وهي تقلب الرغيف بأناملها فاحترق طرفا إبهامها وسبابتها فصرخت متأففة ثم وضعت يدها في قدح طيني أصفر به ماء وتابعت الإنجاز وكل مرة تلسعها حرارة الصاج كانت تضع يدها في الماء إلى أن أنهت أخيرا كل العجين. و كي لا تهمد النار على فراغ قررت تحضير إبريق من الشاي و آخر من القهوة.
    غادرت السطح مقوسة الظهر متصببة العرق منهوكة القوى ملتهبة المفاصل، كل عضو في جسمها النحيل يؤلمها و كلها اشتهاء في غفوة وهي مستلقية على فراشها.
    « هذا لا يجوز فعلي إتمام طرز السرج الباقي لأدفعه غدا صباحا وأقبض ثمن العمل، هذا أكيد.» قالت تكلم نفسها.
    لا وقت للراحة، بعد أن تأكدت من أن العيال قد تناولوا عشاءهم وناموا، صلت عشاءها وتناولت على عجل لقمتين من فضلات طابق الكسكس و أخذت وسائلها لتتم الشغل. يداها تؤلماها من جراء ما تعرضت له من لسعات الصاج وهي تعد أقراص الرغيف، عيناها أيضا، أخمصا القدمين مندملان متورمان. كان عليها أن تقاوم كل هذا وبصبر خيالي.
    وهي غارقة في ما عليه من عناء، دخل زوجها مخاطبا إياها بنفس الجفاف:
    « أحضري العشاء وهيئي لي قصعة الأرغفة لآخذها معي وأنا عائد إلى المسجد، لا تنسي إبريق الشاي.»
    «حاضر، سأوقظ أمين ليصطحبك.» قالت منخورة القوى.
    أمين ابنها ذو الإحدى عشر سنة، طفل بوعي رجل، عاطفي إلى حد ما، يشفق على أمه كثيرا وهو يراها كالنحلة لا تكف عن الحركة و النزق. لم ينم بعد وإنما كان مغمضا عينيه متمددا على فراشه الذي يتقاسمه وأحمد. سمع ما قالت أمه زهور، فقام من نفسه كي يساعدها.
    « نهضت يا ولدي، أحسنت فلست قادرة على حمل نفسي.»
    « سمعت ما قلت فقمت كي لا تأتي إلي لتوقظينني، بماذا أساعدك أمي؟»
    « خذ الأشياء مع أبيك ولا تنسى الإبريق والكؤوس في المسجد، فهمت يا ولدي؟»
    « نعم يا أمي كوني مطمئنة.» قال هذه الكلمات وهو يضع طابق الكسكس لأبيه الذي أفرغ من وضوءه.
    « طيب، كل شيء جاهز يا امرأة؟» قال بصوت خشن بعدما التهم الطابق.
    كان يريد حمل الأرغفة للصدقة والمباهاة في تناقض داخلي. هناك من يأتي بشيء للمسجد فلا يصح له أن يتخلف هو. ماذا سيقول الناس الذين يدعونه الفقيه؟
    بعد تناوله العشاء ارتشف كأسا من القهوة وشرب قدحا من الماء وانصرف وابنه يجر قدميه وراءه حاملا القصعة المغطاة بمنديل أبيض مطرز.
    قامت زهور لتغلق الباب خلفهما لكنها سمعته يقرع وكانت بالكاد قد أدارت وجهها بعد إقفاله وخطت خطوتين، سألت:
    « من الطارق؟»
    « أنا يا امرأة، افتحي.»
    فتحت الباب فقال لها رافعا يده اليمنى وهو يشير بسبابته، وإبهامه قابض على الوسطى:
    « عليك أن تستعدي للذهاب أنت والأولاد منذ الفجر إلى باب القصر الملكي.» (كان يقصد الباب الذي يستعمله العاملون بالقصر و يطلق عليه باب دار المخزن).
    « إنهم يعطون لكل نفر صاعا من القمح. ذهابك باكرا يجعلك أول الصف. إياك إذن أن تنامي إلى الظهر ثانيا. فلن تحصلي على صاع واحد، أسمعت؟» أضاف متوعدا وهو يحرك سبابته بشكل أسرع هذه المرة.
    صعقت عندما كلفها بعقوبة أخرى، وما كان عليها إلا أن تخفي تدمرها وتجيب:
    « حاضر سآخذ العيال وأنطلق بعد صلاة الصبح.»
    « أقفلي الباب جيدا وأطفئي المصابيح هه، تعلمين أن تكلفة الكهرباء باهظة وأنا لست وزيرا للطاقة.» قال هذا بنبرة فيها سخرية و ازدراء.
    لم تكن المرة الأولى التي يهين فيها هذا الزوج المتشدد أم أولاده هكذا، لا يقر لها أبدا بحسن صنيعها وهي تتحمل معه أعباء مسؤولية الصبيان وتبذل قصارى جهدها في ذلك مؤمنة بما تقوم به بكل تفان و إخلاص على أنه واجبها هي أيضا.
    أقفلت الباب وهي تكفكف دمعاتها الحارة. أطفأت المصباح الكهربائي وأوقدت شمعة وانهمكت في شغلها متناسية احتقار زوجها لها، ودارت بذهنها ذكريات من الماضي: يتمها، نشأتها عند أهلها، زواجها فطلاقها وحرمانها من بنتها البكر ثم رجوعها لطليقها وهو متزوج بأخرى تقيم بنفس المسكن، تذكرت كل هذا و كل حدث وكل جدال وكل احتقار صاحب كل هذا و ذاك. تنهدت عميقا واستمرت في العمل.
    في الساعة الثالثة صباحا كانت آخر إبرة في السرج، والخاتمة كانت مصحوبة بوخزة عميقة أدمت أنملها وأبكت عينيها. لم تحدث صوتا خشية أن توقظ الصغار تألمت في صمت وهي تضع أصبعها في فمها لتمتص دمه وتبصقه. لملمت كل شيء وفي نفسها بعض السرور إذ أنها على كل حال قد أنجزت عملها قبل الصباح.
    أرادت أن تستلقي فطردت الفكرة من رأسها خوفا من أن يأخذها النوم فتحرم هي و الأولاد من تتناول وجبة السحور. أيقظت زكية وعلي وسمير و ثريا و نجاة. أولائك من عليهم الصيام، كانت تجد صعوبة في إيقاظ الذكور أكثر. كان همها أن لا يصبحوا وبطونهم فارغة، فالنهار طويل و شاق لحرارة الجو:
    « هيا أفيقوا جميعكم كي لا تفوتكم بركة السحور.»
    تناول كل واحد كأسا من القهوة وقطعة من الخبز المدهون بالزبدة، ثم توجه كل من علي و سمير إلى المسجد بعد أن سألتهم أمهم هل يرافقانها إلى (دار المخزن) فأجابا بالرفض لكنها لم تعلق على الأمر متفهمة أن كبرياءهما لا يسمح لهما، وهما في سن المراهقة ، فقالت:
    «لا عليكما، سآخذ معي بدلكما هشام و وحيد، هكذا لن يضيع منا صاعين من القمح.»
    وهي تقفل الباب خلفهما سمعت صراخ وحيد الرضيع، علمت أن عليها تغيير قماطه. فهرولت إليه حتى لا يعلو صراخه.
    « حسنا ... حسنا ... أنا هنا يا ولدي.» قالت تكلم وليدها.
    غيرت له وطلبت من زكية أن توقظ الطفلين الآخرين الباقيين مروة و أحمد.
    « ليستعد الجميع لمرافقتي.» قالت لبناتها حتى يتسنى لهم التقدم في الطابور على طول جدار دار المخزن العالي.
    بعد أذان الصبح، أدت الأم وبناتها الصلاة، ارتدت هي برنسا غطت به وجهها، والبنات كل منهن ارتدت جلبابا ووضعت خمارا غطت به وجهها تاركة عيناها مكشوفتين ونصف جبينها. أخذن الصغار معهن وهن في أول الزقاق التقى بهن أمين، فقالت الأم:
    « تقبل الله صلاتك يا بني، أوصل الأواني إلى البيت، هل معك المفتاح؟»
    « لا يا أمي.» قال بصوت منخفض.
    « خذ، افتح الباب وأغلقه من خلفك ولا تفتح حتى يعود أبوك وأخواك، ثم التحق بنا، احذر الطريق.»
    « حاضر يا أمي.»
    وهم لا زالوا واقفين مر عليهم علي وسمير عائدين من المسجد.
    « تقبل الله منكما، خذا الأواني و دعا أمين يرافقنا، إنا بحاجة لرجل معنا.» قالت الأم.
    « حاضر يا أمي.» ردا عليها معا في نفس الوقت.
    افترقا الفريقين، الأم تحمل رضيعها، والبنات يتوسطهن أمين، بخطوات ثابتة إلى أن وصلوا لباب دار المخزن. أناس كثيرون مصطفون: رجال وأطفال، نساء ورضع، العجزة والمعاقين من الجنسين ومختلف الأعمار.
    لحسن الحظ الطابور ليس ممتدا كثيرا، لقد أحسنت الأم صنعا أنها لم تتأخر، فعند وصولها أخذت مكانها آخر الصف ولكنها كانت على بعد أمتار قليلة من الباب الذي سيفتح بعد قليل، وبموجب ذلك أخذت الأفواج تحل والصف يمتد ويطول، والضوضاء تتعالى.
    بعد ساعة ونيف من الوقوف والتزاحم والصخب واللغط فتح الباب الضخم وطلب من المنتظرين الدخول. لم يكن أول الأمر حراس ينظمون ولوج الأفواج الشيء الذي جعل الناس تهرول في تدافع بهائمي متسابقين نحو المقدمة. وتم السباق والعنف والعراك على المقدمة إلى غاية أن وصل الجميع أمام مدخل آخر بابه لا زال مغلقا.
    انتظرت الحشود بعد سباق فيه عنف وشراسة جعل الأم وأولادها مع ثلة قليلة من المستضعفين أمثالها آخر الصف ، فقد كادت تقع أرضا وهي تحملها رضيعها الذي كان يصرخ طوال الوقت، الصغير أحمد وأمين وقعا بالفعل فالتقطتهما أختهما زكية بيد أن ثريا ونجاة قد دخلتا في جدال مع أخريات بسبب التدافع نفسه وهما متمسكتان بيدي أختهما مروة.
    الكل يلهث والشجارات اللسانية وغيرها توالت إلى حين فتح الباب الثاني.
    الخدم والحراس كثر، جعلوا الناس يدخلون مثنى مثنى، ويأمرونهم بعدم الإسراع. التقط الجميع أنفاسهم مع هذا الانضباط وإن كان الأمر ليس سهلا بالنسبة لمن كان أول الصف بالخارج فأصبح آخره بالداخل، يعني هذا استمرار معاناة الانتظار لوقت إضافي طويل آخر.
    كانت السيدة زهور لا تقوى على الوقوف ولا على حمل الرضيع ولو كان الأمر يتعلق بها لغادرت بل لما استمرت في المكوث في ذلك الوضع المريب من أول وهلة. كانت تجر أقدامها وتلهث وتشكو لبارئها في صمت. لم تكن تجد نفسا لتسكت ابنها وهو يصرخ، فارتكنت زاوية تنتظر أن يشير عليها الحرس للتقدم لترضعه عله يهدأ.
    استمر الانتظار أبعد من ذي قبل: ساعتان من الدبيب المصحوب بنفس اللغط.
    في ساحة كبيرة وتحت ظل قبة من القباب الكثيرة المحيطة بالساحة قد فرش بساط عليه قمح كثير، كل أسرة تتقدم يعد الخدم أفرادها فيمنحونهم على كل فرد صاعا وغالبا أقل من صاع نظرا للطريقة التي يقوم بها الملء ثم التفريغ في أكياسهم، ناهيك عن الزجر والدفع المصحوب باللعن والشتم من قبل الخدم.
    أخيرا جاء الفرج.
    « أسرعي، تقدمي أنت يا امرأة !» قال أحد الخدم بصوت عال مصحوب بحركة فيها احتقار.
    « حاضر يا سيدي.» قالت الأم هامسة وكأنها تكلم نفسها.
    حاولت أن تسرع من خطاها ما استطاعت إليه قدرة. ثم قال لها نفس الخدم:
    « أسرعي ... من معك؟»
    « معي بناتي الأربعة وثلاثة أولاد.» قالت مرتبكة وبصوت يكاد يسمع.
    « أهم أولادك حقا؟»
    « نعم سيدي.» ردت خافضة رأسها متجنبة أي حوار آخر وهي تمد الكيس.
    « حسنا.» قال وبدأ العد.
    ألقى الابن أمين نظرة على ما يقدم إليهم، قمح أسود أغلبه حبوب طفيليات وخشاش. فاستغرب للهالة التي قامت لأجل توزيعه.
    أخذت الأم الكيس و ناولته لبنتيها الكبريين. ثم تقدمت مبتعدة ببضع خطوات عن المكان الذي حصلت فيه على حصتها، فخرت جالسة لتأخذ أنفاسها. جاءها أحد الحرس فنهرها موجها لها كلاما نابيا. قامت مذعورة تهرول وأبناءها خلفها. استطاع أمين أن يحذق في وجه والدته فرأى دمعة تترقرق في عينيها. دارت بعقله أفكار صبا بريئة لم يقو على ترجمتها لواقع ملموس: أن يلقن درسا لهذا الوغد الذي شتم من غير حياء أما أمام أولادها.
    وهم يغادرون الساحة كان على الكل الوقوف ثانية أمام منعطف يؤدي إلى باب آخر كان ضيقا لوجود حواجز كالتي توضع على طول جانبي الطريق في حالة استعراض لموكب ملكي.
    المرور لم يكن سهلا مما أدى إلى بعض الفوضى: تدافع وتزاحم وصراخ.
    دخول الأم وأولادها هذا الوضع جعلها في موقف صعب. فهي لا تملك قواها بحيث ترد قوة الدفع أو تتصدى لها، أحست بقوة تدفعها كالطوفان لا تقاوم فاستسلمت لها فوجدت نفسها فوق حاجز أوقعته أرضا بالرغم منها، لم تنتبه لما قد أصاب عظام ظهرها أو ساقها بل كان همها في قفزة خاطفة أن تتفحص وليدها هل كان أصيب بشيء، فترفع عينيها إلى الناس لترى حرسا من القوات المساعدة يتقدم نحوها. كان طويلا بلون ترابي و شارب أسود يتخلل وسطه لون التبغ، أسنانه غير مرتبة بنية اللون. حين رفع يده عاليا تبدت أصابعه كأصابع الموز بأظافر غليظة اسودت أطرافها الناتئة بشكل فظيع، كان قد رفع يده الأخرى حاملة حزامه العسكري، ليهوي به على المرأة الضعيفة التي لا تعلم أي لعنة قد سببت تواجدها هنا.
    «آ الله !» صرخت من الألم.
    لم يقتصر الرجل - ولست أدري أكان من الرجولة ما فعل- على هذا بل كان ينوي أن يضيف جلدة عسكرية أخرى لكنه استبدلها برجة كادت توقع الأم الفانية على الأرض، طبعا لم يكن هذا بدون توجيه كلام نابي. جميع من انتبه للوضع استنكر ذهنيا هذا لكن متجنبا أي احتجاج أو إدانة علنية.
    جرّت السيدة زهور أذيالها وأولادها خلفها يبكون حسرة على ما حصل لهم ولأمهم وعلى ما دفعهم للإتيان إلى هذا المكان. أمين ظلت عيناه معلقتين على الحارس الذي استمر في عمله المضني بنفس الإخلاص والأمانة، كان حتما يقطع وعدا على نفسه بأن يثأر لأمه بطريقة أو أخرى.
    عادت الأسرة إلى البيت، البنات يحملن كيس القمح الذي قد لا يكفي لتحضير خبز أسبوع واحد. حاولت الأم أن تنسى ما جرى لها وأن لا تخبر زوجها بما عانته في هذه المهمة التي لن ينسى آلامها أحد. أمين بدوره لم ينس أبدا المهانة التي تعرض لها.
    بعدما ارتاحت قليلا همت بأخذ ما أنجزته لترجعه لصاحبه حتى يأجرها عليه. كان عليها أن تقطع مسافة بعيدة تفصل بين سكناها وبين محل صاحب «الشغل» الموجود في المدينة القديمة ليس بعيدا عن ضريح مولاي إدريس( جدها الأول). عند وصولها إلى المحل في حرارة الظهيرة كان عليها أن تنتظر فراغ الرجل حتى تدفع له وتقبض أجرتها.
    « أهلا سيدتي، كيف الحال؟» سأل صاحب المحل بلهجته الفاسية وببسمة عريضة لألأت لها أسنانه الذهبية.
    « الحمد لله سيدي على كل حال.» ردت هامسة بدون قوة وهي تناوله بضاعته.
    « سيدتي، تعلمين أن الحركة راكدة هذه الأيام عودي بعد أسبوع لأدفع لك أجرتك.» قال ببرودة دم شديدة ومن غير أن يكلف نفسه أن ينظر لردة فعل السيدة البائسة غير مستعد إطلاقا على سماع ما ستقوله.
    لكنها لم تقل شيئا حينما خرت لتجلس على عتبة الدكان الشاسع، وهي ترفع رأسها إلى السماء، كانت سقيفة من قصب تحجب لهيب الشمس وزرقة السماء. حطت يدها على كتفها وبالضبط موقع الجلدة التي كانت مع لسعات الصاج و وخز الإبرة كل أجرها عن شقاءها.
    [frame="5 70"]ليت يأتي زمان أو شبه زمان وأنسى
    أني كنت مهووسا ولي في المكان
    حسرتان ودمع علق بالهدب والقاني
    شكلا ثانيا أحمل حلما لا يتأسى ...[/frame]

  2. #2

    أُنثى لا تُباح إلا لـِ ملاك


    تاريخ التسجيل
    Mar 2007
    الدولة
    في جوف الألم ..!
    المشاركات
    6,753

    رد: أية أجرة ... ؟!!

    ؛



    قصة محزنة ياممغوار ..ولكنها فاتنه كـ انت


    احترامي


    .
    ؛



    المشكلة ..
    لاصرت تقبل ,, ويقفون
    كنك بقايا ذنب..
    ماكنّك ,,{ إنسان }

    .

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. أسال مجرب
    بواسطة ابو ابراهيم1 في المنتدى المنتدى الإسلامي
    مشاركات: 17
    آخر مشاركة: 05-11-2009, 08:39 PM
  2. هذي آخرة الاخلاص
    بواسطة فيصل السلمي في المنتدى منتدى الفكاهة والغربلة
    مشاركات: 15
    آخر مشاركة: 28-01-2007, 08:29 PM
  3. ~*¤ô§ô¤*~مجرة الأقمار~*¤ô§ô¤*~
    بواسطة فارس الأحزان في المنتدى منتدى الخواطر والشعر الفصيح
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 06-12-2005, 06:07 PM
  4. آخرة المهايطه
    بواسطة شـــــووشـــــه في المنتدى منتدى الفكاهة والغربلة
    مشاركات: 17
    آخر مشاركة: 05-12-2005, 04:03 PM
  5. اسئلي مجرب
    بواسطة القمر_l في المنتدى منتدى الأناقه والمكياج
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 01-08-2004, 02:10 AM

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •