البند الأول: (إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام...): وكرر النبي هذه التوصية، وها نحن اليوم في زمن تزهق فيه الأرواح، وتراقفيه الدماء البريئة، وتنتهب فيه أموال الشعوب، ويعتدى فيه على الناس في كلوقت وحين، والاستدمار الصليبي واليهودي ما زال ينهش في جسم الأمة بالمخلب والناب.
البند الثاني:(ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي...): وها هي الأمة الإسلامية اليوم قد مزقتها الحروب القومية والطائفية والعرقية والمذهبية، وأعداء الإسلام ينبشون التراب عن الجيفة المنتنة، تلك القومية العربية والأمازيغية والوطنية ... كل هذه المصائب كانت نتيجة تلك المخالفة لهذا البند.
البند الثالث:في باب المعاملات: فكل ربا موضوع وأن للناس أموالهم لا يَظلمون ولا يُظلمون. وما الأزمة الاقتصادية التي حلت بعالمنا اليوم وبدأت تنخر في كيان الدول العظمى والصغرى وتنذربانتكاس راياتها إلا بسبب المعاملات الربوية المحرمة.
البند الرابع:حدد فيه النبي زمن الحجبعدما كان المشركون يتلاعبون بالأشهر، فلا حج إلا في شهر اسمه ذو الحجة. وهو الشهر الذي حج فيه سيدنا رسول الله حجته الأخيرة.
البند الخامس:وضع فيه النبي أسس حقوق المرأة في الإسلام؛ فأوصى بالنساء خيراً، وهي وصية جامعة شاملة تهدف إلى القضاء على الظلم ضد المرأة.
البند السادس:أوصى النبي بالاعتصام بالكتاب والسنة وهُمَا المخرج من كل ضيق والدواء لكل داء والأمان من كلتيه وشقاء وضلال وزيغ. وما الشقاء والذل والهوان الذي أصاب الأمةالإسلامية إلا ببعدها عن هذين المنبعين، مصدر كل عزة وكرامة ونصر وتمكين.
وخلاصة المرام في تحقيق المقام:
بذلك المنهاج النبوي الجامع، بين الرحمة والقوة، والجهاد والتربية، والعدلوالإحسان أخذت جذوة الباطل تخمد رويدا رويدا، حتى أفل نجم الجاهلية، وظهرفجر الإسلام وثبتت دعائمه. وخضع العرب بعدما لان قيادهم للحق- بعدما انكمش الباطل واندثر- في حجة الوداع.
وانتهت مناسك الحج وسمع الناس كلهم صوت الحق المبين، فحث سيد الوجودالركاب إلى مدينته المنورة لا ليأخذ حظا من الراحة في منتزهاتها، بل يستأنف حياة الجهاد ويستقبل الوفود الوافدة على الإسلام لترجع إلى قومها مبلغة للرسالة الخالدة، ويعبئ جيشا ليكسر به أنفة الروم وكبرياءهم.
إنها أمانة عجزت السموات والأرض عن حملها، وراحة أصحاب الرسالات عندما يرون بواكير نجاح الدعوة دانية القطاف، وثمرتها طيبة مباركة.
وتحققت الوعود الإلهية وسننه الثابتة:
﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾( طه [132]).
﴿وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ ( الصف [8]).
﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً﴾ ( الإسراء [81]).
وقوله{اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً} ( المائدة [3] ) هذه أكبر نعم الله تعالى على هذه الأمة حيث أكمل تعالى لهم دينهم, فلا يحتاجون إلى دين غيره, ولا إلى نبي غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليه, ولهذا جعله الله تعالى خاتم الأنبياء وبعثه إلى الإنس والجن, فلا حلال إلاما أحله, ولا حرام إلا ما حرمه, ولا دين إلا ما شرعه, وكل شيء أخبر به فهوحق وصدق لا كذب فيه ولا خلف كما قال تعالى: {وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً}أي صدقاً في الأخبار, وعدلاً في الأوامر والنواهي, فلما أكمل لهم الدين, تمت عليهم النعمة, ولهذا قال تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً}أي فارضوه أنتم لأنفسكم, فإنه الدين الذي أحبه الله ورضيه, وبعث به أفضل الرسل الكرام, وأنزل به أشرف كتبه.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله {اليوم أكملت لكم دينكم} وهوالإسلام, أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أنه قد أكمل لهم الإيمان, فلا يحتاجون إلى زيادة أبداً, وقد أتمه الله فلا ينقصه أبداً, وقد رضيه الله فلا يسخطه أبداً. وقال أسباط عن السدي: نزلت هذه الاَية يومعرفة, ولم ينزل بعدها حلال ولا حرام, ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات قالت أسماء بنت عميس: حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الحجة فبينما نحن نسير إذ تجلى له جبريل, فمال رسول الله صلى الله عليه وسلم على الراحلة, فلم تطق الراحلة من ثقل ما عليها من القرآن, فبركت, فأتيته فسجيت عليه برداً كان علي. وقال ابن جرير : مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يوم عرفة بأحد وثمانين يوماً, رواهما ابن جرير, ثم قال: حدثنا ابن فضيل عن هارون بن عنترة, عن أبيه, قال: لما نزلت {اليوم أكملت لكم دينكم}وذلك يوم الحج الأكبر, بكى عمر, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «ما يبكيك ؟» قال: أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا, فأما إذا أكمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص, فقال «صدقت» ويشهد لهذا المعنى الحديث الثابت «إن الإسلام بدأ غريباً, وسيعود غريباً, فطوبى للغرباء».