أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم



سبق الكلام على جهاد الشهوات، ولما كانت الشهوات إنما تغري النفوس، فلا بد من الكلام عل جهاد النفس ذاتها.

وفي هذا الفرع تمهيد ومطلبان:

المطلب الأول: تقوية صلة النفس بربها.

المطلب الثاني: محاسبتها ومخالفتها.

وفي كل مطلب أمور.

تمهيد

إن مجاهدة النفس وإخضاعها للسير في صراط الله المستقيم، وكبح جماحها من أن تشذ عن طاعته سبحانه، إلى معصيته وإلى طاعة عدوه الشيطان الرجيم، إن تلك المجاهدة أمر شاق، ولازم، ومستمر:

شاق لما جبلت عليه النفس من محبة الانطلاق غير المحدود، لتنهب كل ما أتت عليه من شهوات وملذات، وشاق لكثرة تلك الشهوات والملذات التي لا تدع النفس تطمئن لحظة من اللحظات، دون أن تهيج إلى هذه الشهوة أو تلك، وشاق لأن أكثر الناس يعين على ارتكاب المعاصي وترك الطاعات، ولأن الشيطان لعنه الله لا يفتر عن الحض على التمرد على الله بشتى الأساليب والوسائل – كما يأتي.

وهو أمر لازم أيضاً، لأنه لا مندوحة للإنسان – إذا أراد النجاة في الدنيا والآخرة من مساخط الله وما يترتب عليها – من أن يجاهد هذه النفس الأمارة بالسوء ويقف ضد هواها المردي، وإلا زلّ عن الصراط المستقيم، وسلك السبل الهادية إلى طريق الضلال والردى.

وهو أمر مستمر كذلك ما دام الإنسان حياً، لأن النفس ملازمة له، وهي تأمره بما تهواه وتصده عما يأمره الله به في كل لحظة، فإذا انقطع عن مجاهدتها لحظة، أوقعته ولابد فيما فيه حتفه وهلاكه في تلك اللحظة.



مجالات مجاهدة النفس:

ومجالات مجاهدة النفس لا تحصى كثرة: ولكنها يمكن أن تجمل في مطلبين.
المطلب الأول: تقوية صلة النفس بخالقها وإلهها.

المطلب الثاني: محاسبتها ومخالفتها

وفي كل مطلب أمور.


المطلب الأول: تقوية صلتها بالله تعالى:

الأمر الأول: طرد جهلها الذي هو من طبيعتها بالعلم النافع:
وقد سبق أن الجهل من أعوان النفس الأمارة بالسوء، فالعلم النافع من أعظم الأسلحة التي تعين على جهاد هذه النفس.

ومصدر هذا العلم إنما هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله علَيه وسلم، لأن الله تعالى الذي خلق هذه النفس هو أعلم بها منها، وقد أنزل هذا القرآن من أجلها وبعث رسوله صلى الله علَيه وسلم مبلغاً عن وحيه الذي يشمل القرآن والسنة معاً، وليكون صلى الله علَيه وسلم قدوة عملية لمن أراد الاستجابة لداعي الله سبحانه.

قال تعالى: {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} [الملك: 14] وقال تعالى: {قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض، إنه كان غفوراً رحيماً} [الفرقان: 6]
وقال تعالى: {واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه، واعلموا أن الله غفور رحيم} [البقرة: 235].

فخالق النفس أعلم بها، والذي يعلم سرها ونجواها، هو الذي يعلم ما يصلحها وما يفسدها، ولذلك كان كتابه هو منهج هذه النفس الذي فيه هدايتها وبه سعادتها.

قال تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً} [الأحزاب: 21] وقال تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا، واتقوا الله إن الله شديد العقاب} [الحشر: 7].

والعلم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله علَيه وسلم، هو السبيل الوحيد لمعرفة الخلال التي ترضي الله تعالى، مما يجب أن يتحلى بها المؤمن، إما بالأمر بها والدعوة إليها، وإما بمدح أهلها والثناء عليهم بها، كما أن العلم بهما هو السبيل الوحيد –كذلك- لمعرفة الصفات الذميمة التي تسخط الله تعالى، مما يتصف بها أعداء الله من الكافرين والمنافقين والفاسقين: إما بالنهي عنها أو بوصف أهلها بها على سبيل الذم.

ولهذا كان كتاب الله وسنة رسوله صلى الله علَيه وسلم هما الهاديين لعباد الله المتقين إلى صراطه المستقيم. وقد بين سبحانه وتعالى ذلك في أول سورة البقرة فقال: {ألم، ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين} [البقرة: 1-2] ثم شرع تعالى في بيان صفات المؤمنين مرتباً عليها فلاحهم وهداهم، كما بين بعدها صفات أعدائه الكافرين والمنافقين [البقرة: 6-20] مشيراً سبحانه بذلك إلى هذا المعنى العظيم، وهو أن هذا الكتاب إنما أنزل لهداية النفس البشرية بما يدعو إليه من الإيمان والشريعة والخُلق، وأن من لم يستجب له فإنه في شقاء وخسارة.

كما قال تعالى: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} [الإسراء: 9] وقال: {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا} [طه: 124]. وقال النبي صلى الله علَيه وسلم: (ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة) [البخاري رقم (4981) فتح الباري (9/3) ومسلم (1/134)].


أصناف الناس ومواقفهم من هُدى الله

وقال عليه الصلاة والسلام - مبينا ما بعثه الله به من الهدى، وحظ من وفقه الله للتفقه في دينه، على ضوء ذلك الهدى، وخسران من حرم الفقه في دين الله والعمل به: (مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم،كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً، فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً، فذلك مثلُ من فقه في الدين ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به) [البخاري رقم (79) فتح الباري (1/175) ومسلم (4/1787)].

ففي هذا الحديث العظيم قسم الرسول صلى الله علَيه وسلم الناس في قبول الهدى أو عدمه، ثلاثة أقسام:

القسم الأول: العلماء العاملون.

القسم الثاني: العلماء الذين ينتفع الناس بعلمهم أكثر من انتفاعهم هم به.

القسم الثالث: من لم ينتفع بعلم ولا عمل.

قال الإمام النووي رحمه الله: "أما معاني الحديث ومقصوده، فهو تمثيل الهدى الذي جاء به صلى الله علَيه وسلم بالغيث، ومعناه أن الأرض ثلاثة أنواع، وكذلك الناس:

فالنوع الأول من الأرض ينتفع بالمطر، فيحيا بعد أن كان ميتاً، وينبت الكلأ، فتنتفع بها الناس والدواب والزرع وغيرها، وكذلك النوع الأول من الناس، يبلغه الهدى والعلم فيحفظه، فيحيا قلبه ويعمل به ويعلمه غيره، فينتفع وينفع.

والنوع الثاني من الأرض: ما لا تقبل الانتفاع في نفسها لكن فيها فائدة، وهي إمساك الماء لغيرها فينتفع بها الناس والدواب، وكذلك النوع الثاني من الناس، لهم قلوب حافظة لكن ليست لهم أفهام ثاقبة، ولا رسوخ لهم في العقل يستنبطون به المعاني والأحكام، وليس عندهم اجتهاد في الطاعة والعمل به، فهم يحفظونه حتى يأتي طالب محتاج، متعطش لما عندهم من العلم، أهل للنفع والانتفاع، فيأخذه منهم فينتفع به، فهؤلاء نفعوا بما بلغهم.

والنوع الثالث من الأرض: السباخ التي لا تنبت ونحوها، فهي لا تنتفع بالماء، ولا تمسكه لينتفع بها غيرها، وكذلك النوع الثالث من الناس، ليست لهم قلوب حافظة ولا أفهام واعية، فإذا سمعوا العلم لا ينتفعون به ولا يحفظونه لنفع غيرهم، والله أعلم.
وفي هذا الحديث أنواع من العلم منها: ضرب الأمثال، ومنها فضل العلم والتعليم وشدة الحث عليهما، وذم الإعراض عن العلم واله أعلم" [شرح النووي على مسلم (15/47-48)].

فضل أهل الفقه في الدين

وقد أثبت الرسول صلى الله علَيه وسلم الخير لمن وفقه الله ففقهه في الدين، ومعنى ذلك أن من لم يفقهه في دينه فقد حرم ذلك الخير، وكيف ينال الخير من حرم الفقه في دين الله؟

ففي حديث معاوية رضيَ الله عنه قال: سمعت النبي صلى اله عليه وسلم يقول: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) [البخاري رقم (71) فتح الباري (1/164) ومسلم (2/718)]

قال الحافظ رحمه الله: "ومفهوم الحديث أن من لم يتفقه في الدين – أي يتعلم قواعد الإسلام وما يتصل بها من الفروع- فقد حرم الخير" [فتح الباري (1/165)].

والسبب في ربط الخير بالفقه في الدين، أنه بالفقه في كتاب الله وسنة رسوله صلى اله عليه وسلم، يتعرف المؤمن بذلك على أسماء الله وصفاته، وما يجب له تعالى، وما يجب للنفس، وللناس من قريب أو بعيد، فينطلق الفقيه في الدين في عمله عن علم ومعرفة، ويفرق بين الحق والباطل، بخلاف الجاهل في ذلك كله.

وهذا يقتضي من العبد أن يجتهد في تحصيل العلم من الكتاب والسنة، وكل علم يعين على فهمهما والفقه فيهما، وأن يكون القصد من ذلك تطبيق ما علمه بعمله حتى يكون علماً نافعا،ً وإلا كان الجاهل بدين الله خيراً منه.

قال ابن تيمية رحمه الله: "وإذا كان أهل الخشية هم العلماء الممدوحين في الكتاب والسنة لم يكونوا مستحقين للذم، وذلك لا يكون إلا مع فعل الواجبات، ويدل عليه قوله تعالى: {فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين، ولنسكننكم الأرض من بعدهم، ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد} [إبراهيم: 13-14] وقوله: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} [الرحمن: 46] فوعد بنصر الدنيا وثواب الآخرة لأهل الخوف، وذلك إنما يكون لأنهم أدوا الواجب، فدل على أن الخوف يستلزم فعل الواجب، ولهذا يقال للفاجر لا يخاف الله، ويدل على هذا المعنى قوله تعالى: {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب} [النساء: 17]

قال أبو العالية: سألت أصحاب محمد عن هذه الآية فقالوا لي: كل من عصى الله فهو جاهل.. قال مجاهد: كل عاص فهو جاهل حين معصيته، وقال الحسن وقتادة وعطاء والسدي وغيرهم: إنما سموا جهالاً لمعاصيهم، لا لأنهم غير مميزين، وقال الزجاج: ليس معنى الآية أنهم يجهلون أنه سوء، لأن المسلم لو أتى ما يجهله كان كمن لم يواقع سوءً، وإنما يحتمل أمرين:

أحدهما: أنهم عملوه وهم يجهلون المكروه فيه.

والثاني: أنهم أقدموا على بصيرة وعلم بأن عاقبته مكروهة، وآثروا العاجل على الآجل، فسموا جهالاً، لإيثارهم القليل على الراحة الكثيرة والعافية الدائمة.
فقد جعل الزجاج الجهل إما عدم العلم بعاقبة الفعل، وإما فساد الإرادة، وقد يقال هما متلازمان.

والمقصود هنا أن كل عاص لله فهو جاهل، وكل خائف منه فهو عالم مطيع لله، وإنما يكون جاهلاً لنقص خوفه من الله... -إلى أن قال-: وفي الكلام المعروف عن الحسن البصري، ويروى مرسلاً عن النبي صلى الله علَيه وسلم: (العلم علمان، فعلم في القلب، وعلم على اللسان، فعلم القلب هو العلم النافع، وعلم اللسان حجة الله على عباده)" [انتهى كلامه من مجموع الفتاوى (7-21-23)].


العلم بأدواء النفس وعلاجها يعين على جهادها

ومن أعظم ما يعين العبد على نفسه، علمه بأدوائها وآفاتها، وبأعوانها على الشر، وعلمه بما يعالج به تلك الأدواء ويدفع به تلك الأعوان من الكتاب والسنة، لأنه بذلك يكون مثل الجندي الذي دُرب على معرفة عدوه، ومعرفة قوة هذا العدو وأسلحته، ومواطن ضعفه وميادين انطلاقه، وكذلك زود بالعدة والأسلحة المضادة التي تبطل مفعول أسلحة عدوه وتعطل حركته وتلجئه إلى التقهقر، ثم الفشل والهرب من الميدان في آخر الأمر، فهو في حاجة إلى الصبر والمصابرة والمرابطة في ميدان معركة عدوه الكافر، فالنفس هي التي تشح بفعل الخير، وهي التي تجود بالشر، ولذلك علق الله فلاح الإنسان على وقايته تعالى شحها.

كما قال تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيراً لأنفسكم، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} [التغابن: 16]. كما بين تعالى أنه لا فلاح للإنسان إلا بتزكية نفسه، وأن الخسران في تدنيسها: {قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها} [الشمس: 9-10] ونص تعالى على كثير من الطاعات التي تزكي هذه النفس، وتكون سبباً في فلاح صاحبها، مثل قوله تعالى: {قد أفلح المؤمنون، الذين هو في صلاتهم خاشعون} إلى قوله: {أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس فهم فيها خالدون} [المؤمنون: 1-11].

فاجتهاد المسلم في التفقه في دين الله من كتاب الله وسنة رسوله، هو محور فلاحه، وبعده عن ذلك من أعظم أسباب خسرانه.


الأمر الثاني: مجاهدة النفس بالمداومة على طاعة الله

لقد خلق الله تعالى الإنسان وفطره على الحركة والعمل في هذه الحياة، ليقوم بعمارة الأرض ويحقق استخلاف ربه إياه فيها، كما أنه تعالى زود هذا الإنسان بمنهج لحياته ينير له الطريق ويقوده إلى ما فيه سعادته، ودعاه سبحانه إلى الصراط المستقيم – فهو دائماً في سعي وحركة، لا يسكن إلا ليتحرك: {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه} [الانشقاق: 6]

قال ابن جرير رحمه الله: "يقول تعالى ذكره: إنك عامل إلى ربك عملاً فملاقيه به خيراً كان عملك ذلك أو شراً" [جامع البيان عن تأويل آي القرآن (30/115)].

وقال ابن كثير رحمه الله: "أي أنك ساعٍ إلى ربك سعيا وعامل عملا، {فملاقيه} ثم إنك ستلقى ما عملت من خير أو شر." [تفسير القرآن العظيم: (4/488)

وقال سيد قطب رحمه الله: "يا أيها الإنسان إنك تقطع رحلة حياتك على الأرض كادحا، تحمل عبئك، وتجهد جهدك، وتشق طريقك في النهاية إلى ربك، فإليه المرجع، وإليه المآب، بعد الكد والكدح والجهاد" [في ظلال القرآن: 30/3866]

وقال الرسول صلى الله علَيه وسلم: (كل الناس يغدو، فبائع نفسه، فمعتقها،أو موبقها) [صحيح مسلم: (1/203) من حديث أبي مالك الأشعري رضيَ الله عنه]

قال النووي رحمه الله: "وأما قوله صلى الله علَيه وسلم: (كل الناس يغدو، فبائع نفسه، فمعتقها، أو موبقها) فمعناه كل إنسان يسعى بنفسه، فمنهم من يبيعها لله بطاعته، فيعتقها من العذاب، ومنهم من يبيعها للشيطان والهوى، باتباعهما، فيوبقها، أي يهلكها. والله أعلم." [شرح النووي على مسلم: (3/102]

وقال ابن رجب رحمه الله: "ودل الحديث على أن كل إنسان، إما ساع في هلاك نفسه، أو في فكاكها، فمن سعى في طاعة الله، فقد باع نفسه لله، وأعتقها من عذابه، ومن سعى في معصية الله، فقد باع نفسه بالهوان، وأوبقها في الآثام الموجبة لغضب الله وعقابه" [جامع العلوم والحكم، ص: 193]

فظهر مما تقدم أن الإنسان لا بد أن يشغل وقته بعمل وسعي، فإن ملأه بالعمل بمنهاج الله، فقد حافظ على عمره الذي منحه الله، فلا يشذ به عن طاعته التي يخلص بها نفسه من غضبه وأليم عقابه، أو يملأ ذلك الوقت بطاعة الشيطان، فيكون في ذلك هلاك نفسه باستحقاها سخط الله وعقابه.

ولعل ذلك من أسباب تعظيم الله للزمن، حيث أقسم تعالى به في مواضع من كتابه، على فلاح الإنسان وفوزه بالعمل الصالح، أو خسرانه بعمل المعاصي، لأن عمر الإنسان محدود بزمن معين، له بداية ونهاية، فهو يتقلب فيه مفلحا فائزا، أو مفلساً خاسراً.

كما قال تعلى: {والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} [العصر] وقال تعالى: {والليل إذا يغشى، والنهار إذا تجلى، وما خلق الذكر والأنثى، إن سعيكم لشتى. فأما من أعطى واتقى. وصدق بالحسنى. فسنيسره لليسرى. وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى. فسنيسره للعسرى} [الليل: 1-10] وقال تعالى: {والشمس وضحاها. والقمر إذا تلاها. والنهار ‘ذا جلاها. والليل إذا يغشاها. والسماء وما بناها. والأرض وما طحاها. ونفس وما سواها. قد أفلح من زكاها. وقد خاب من دساها.} [الشمس: 1-10]

وصرح سبحانه وتعالى، بأن المقصود من خلق الليل والنهار-يخلف كل منهما الآخر-منح عباده المتقين، التذكر والشكر، أي الدوام على عبادته وطاعته، كما قال تعالى: {وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أرد أن يذكر أو أراد شكورا} [الفرقان: 62]

قال ابن كثير رحمه الله: "أي يخلف كل واحد منهما صاحبه، يتعاقبان لا يفتران، إذا ذهب هذا جاء هذا، وإذا جاء هذا ذهب ذاك... وقوله تعالى: {لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا} أي جعلهما يتعاقبان، توقيتا لعبادة عباده له عز وجل، فمن فاته عمل في الليل، استدركه في النهار، ومن فاته عمل في النهار، استدركه في الليل.

وقد جاء في الحديث الصحيح، أن الله عز وجل يبسط يده بالليل، ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار، ليتوب مسيء الليل" [تفسير القرآن العظيم: (3/324)]
ولهذا يحاسب الله تعالى أهل النار يوم القيامة، على ما أعطاهم من الفسحة في أعمارهم التي منحهم إياها، ليتذكروا حقه عليهم، ويتبعوا هداه الذي أرسل إليهم به رسله عليهم السلام.

كما قال تعالى: {والذين كفروا لهم نار جهنم، لا يقضى عليهم فيموتوا، ولا يخفف عنهم من عذابها، كذلك نجزي كل كفور. وهم يصطرخون فيها، ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل، أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير. فذوقوا فما للظالمين من نصير.} [فاطر: 36،37]

قال ابن كثير رحمه الله: "أي أوما عشتم في الدنيا أعمارا، لو كنتم ممن ينتفع بالحق، لا انتفعتم به في مدة عمركم." تفسير القرآن العظيم: (3/558)]

وفي صحيح البخاري، من حديث أبي هريرة رضيَ الله عنه، عن النبي صلى الله علَيه وسلم، قال: (أعذر الله إلى امرئ أخر أجله، حتى بلغ ستين سنة) [رقم الحديث:(6419) وهو في الفتح: (11/238)]

قال الحافظ ابن حجر، رحمه الله: "قال ابن بطال: إنما كان الستون حدا لهذا، لأنها قريبة من المعترك، وهي سن الإنابة والخشوع وترقب المنية، فهذا إعذار بعد إعذار، لطفا من الله بعباده، حتى نقلهم من حالة الجهل إلى حالة العلم، ثم أعذر إليهم فلم يعاقبهم إلا بعد الحجج الواضحة، وإن كانوا فطروا على حب الدنيا وطول الأمل، لكنهم أمروا بمجاهدة النفس في ذلك، ليمتثلوا ما أمروا به من الطاعة، وينزجروا عما نهوا عنه من المعصية." [فتح الباري: (11/240)]

وفي سنن الترمذي، من حديث ابن مسعود، عن النبي صلى الله علَيه وسلم، قال: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة، من عند ربه، حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وماذا عمل فيما علم) [الترمذي رقم: 2531. وهو في تحفة الأحوذي: (7/99-100) والحديث فيه ضعف، ولكن النصوص السابقة واضحة في أن الإنسان مسؤول عما عمله في عمره، فهي دالة على معناه.]

فالزمن الذي يعيش فيه المكلف، هو مسؤول عنه أمام الله تعالى يوم القيامة، وذلك يقتضي أن يجاهد المرء نفسه باستمرار، بملء هذا الزمن بطاعة الله، لا بمعاصيه.

مفسدة تفريط الإنسان في الفراغ

ولما كان عمر الإنسان كله - في حال تكليفه - لا بد من تحركه وسعيه وكسبه فيه، فإن نجاحه وفلاحه، لا يتحققان إلا بملء وقته بطاعة الله، وإلا أصيب بمفسدة الفراغ الذي حذر منه الرسول صلى الله علَيه وسلم، وأخبر أن الفراغ نعمة يندم على تفويتها صاحبها، إذا لم يستغلها في طاعة ربه، لأن الذي لا يشغل وقته بطاعة الله، سيشغلها بمعصيته.

ففي حديث ابن عباس، رضيَ الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله علَيه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ) [صحيح البخاري: رقم (6412) وهو في الفتح: (11/229)]

قال الحافظ: "قال ابن بطال: معنى الحديث أن المرء لا يكون فارغا، حتى يكون مكفيا صحيح البدن، فمن حصل له ذلك، فليحرص على ألاّ يغبن، بأن يترك شكر الله على ما أنعم به عليه، ومن شكره امتثال أوامره واجتناب نواهيه، فمن فرط في ذلك، فهو المغبون" [فتح الباري: (11/230)]

ولقد وعى السلف الصالح، وعلى رأسهم أصحاب رسول الله صلى الله علَيه وسلم، خطر التفريط في الفراغ، وعدم شغله بطاعة الله تعالى، ومن ذلك وصية عبد الله بن عمر رضيَ الله عنهما التي كان يعظ بها الناس، قال: "أخذ رسول الله صلى الله علَيه وسلم بمنكبي" فقال: (كن في الدنيا كأنك غريب أوعابر سبيل).

وكان ابن عمر يقول: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك" [صحيح البخاري، رقم: (6416) وهو في الفتح: (11/233)]

قال ابن رجب رحمه الله: "قوله: وخذ من صحتك لسقمك، ومن حياتك لموتك، يعني اغتنم الأعمال الصالحة، قبل أن يحول بينك وبينها السقم، ومن الحياة قبل أن يحول بينك وبينها الموت. وقد روي معنى هذه الوصية عن النبي صلى الله علَيه وسلم، وذكر حديث ابن عباس السابق.

وفي صحيح الحاكم عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله علَيه وسلم، قال لرجل وهو يعظه: (اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك) [جامع العلوم والحكم: ص 336]

ولقد أخبر الله في كتابه، أن الذي لا يشغل فراغه بطاعة ربه في الدنيا، يندم على ذلك يوم القيامة، ويتمنى أن يعود إلى الدنيا ليحصل له فراغ يشغله بطاعة الله، ولكن ذلك الندم لا ينفعه، لأنه فوت على نفسه وقتا كافيا منحه الله إياه، شغله بغير طاعة الله.
كما قال تعالى: {وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له، من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون. واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم، من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون. أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله، وإن كنت لمن السا خرين. أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين. أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين. بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين} [الزمر: 54-59] والآيات في هذا المعنى كثيرة.

قال الأستاذ محمد قطب رحمه الله - مبينا خطر الفراغ على الإنسان -: "إن الفراغ مفسد للنفس، إفساد الطاقة المختزنة بلا ضرورة، وأول مفاسد الفراغ، هو تبديد الطاقة الحيوية لملء الفراغ، ثم التعود على العادات الضارة التي يقوم بها الإنسان لملء هذا الفراغ، والإسلام حريص على شغل الإنسان شغلا كاملا، منذ يقظته إلى منامه، بحيث لا يجد الفراغ الذي يشكو منه، ويحتاج إلى ملئه إلى تبديد الطاقة أو الانحراف بها عن نهجها الأصيل." [منهج التربية الإسلامية (1/253)]

لا فراغ عند المسلم الملتزم بمنهج الله

وعندما حذر الله تعالى عبده خطر الفراغ والتفريط فيه، وأمره بملئه بطاعته، لم يترك سبحانه هذا العبد يتخبط في وضع منهج عملي يملأ به ذلك الفراغ، من عند نفسه، بل تفضل الله سبحانه على عبده بمنهج عملي شامل لحياته كلها، من وقت ولادته إلى أن يلقى ربه.

فليس عند المسلم الملتزم بمنهج الله، وقت فراغ يملؤه بغير طاعة الله مطلقا، وهذا المنهج الرباني يشمل نشاط قلبه وعقله وجسمه وروحه، في كل جزء من أجزاء حياته، ويطلق على هذا المنهج: "العبادة" أو "العمل الصالح" وما أشبه ذلك من الألفاظ الدالة عليه، كـ"الخير" و"البر" و"الطاعة" و "المعروف"