أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم








جمع المال من وجه مباح، وصرفه في مصالح مفيدة غير محرمة شرعا، أمر مطلوب للإنسان، للاستغناء به عن الخلق، ولكنه قد يكون من أعوان النفس الأمارة بالسوء على طغيانها، عندما تكثر الأموال التي تلهي صاحبها وتشغله عن ربه سبحانه وتعالى، بسبب إقباله عليها وجمعه لها، من حلال أو حرام، وصرفها وإنفاقها، في حلال أو حرام، فإن الأموال الكثيرة، عندما تكون بيد صاحب النفس الأمارة بالسوء، تمكنه من الحصول على رغبات نفسه التي قد لا يقدر عليها غيره، ممن لا توجد عنده تلك الأموال.

لذلك كان المال من أهم الأسباب المؤدية إلى تكذيب الحق وأهله، والاستهزاء بالناس واحتقارهم، ومنع الخير عنهم، والاعتداء على الآخرين، والاتصاف بالصفات الذميمة.

كما قال تعالى: {فلا تطع المكذبين. ودوا لو تدهن فيدهنون. ولا تطع كل حلاف مهين. هماز مشاء بنميم. مناع للخير معتد أثيم. عتل بعد ذلك زنيم. أن كان ذا مال وبنين. إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين.} [القلم: 8-15].

قال ابن كثير رحمه الله: "وقوله تعالى: {أن كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين} يقول تعالى: هذا مقابلة ما أنعم الله عليه، من المال والبنين، كفر بآيات الله عز وجل وأعرض عنها، وزعم أنها كذب مأخوذ من أساطير الأولين. كقوله تعالى: {ذرني ومن خلقت وحيدا. وجعلت له مالا ممدودا. وبنين شهودا. ومهدت له تمهيدا. ثم يطمع أن أزيد...} وساق الآيات إلى قوله تعالى: {عليها تسعة عشر} [المدثر: 11-30، وتفسير القرآن العظيم: 4/405].

وقال سيد قطب رحمه الله: "ثم يعقب على هذه الصفات الذاتية، بموقفه من آيات الله، مع التشنيع بهذا الموقف الذي يجزي به نعمة الله عليه بالمال والبنين {أن كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين} وما أقبح ما يجزي إنسان نعمة الله عليه بالمال والبنين، استهزاء بآياته، وسخرية من رسوله، واعتداء على دينه، وهذه كلها تعدل كل ما مر من وصف ذميم" [في ظلال القرآن: 29/3663].

ويبطر صاحب المال، حتى يفتخر بكثرة ما ينفقه في معاصي الله، من شهوات نفسه، ويظن بذلك أنه قد استقل عن ربه واستغنى عن خالقه، لا بل يظن أنه لا أحد يقدر على كبح جماحه، وإيقافه عند حده.

كما قال تعالى: {لقد خلقنا الإنسان في كبد. أيحسب ألا يقدر عليه أحد. يقول أهلكت مالا لبدا. أيحسب أن لن يقدر عليه أحد.} [البلد: 4-7].

قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله: "ويطغى - يعني الإنسان -ويفتخر بما أنفق من الأموال على شهوات نفسه، حيث يقول: أهلكت مالا لبدا، أي كثيرا بعضه فوق بعض، وسمى الله الإنفاق في الشهوات والمعاصي إهلاكا، لأنه لا ينتفع المنفق بما أنفق، ولا يعود إليه من إنفاقه إلا الندم والخسارة والتعب والقلة." [تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان: 8/243]

ويبلغ المال بصاحبه من الإلهاء والاغترار، إلى ألا يكون له هم سواه، فهو يسعى بكل ما أوتي من جهد وقوة لجمعه بأي وسيلة، ثم يأخذ في تعديده باستمرار، ليعلم القدر الزائد على ما حصل عليه منه من قبل، وليكاثر به، لا بل إنه لشدة ركونه إلى المال واغتراره به، ليظن أن ذلك سيخلده في الدنيا الفانية، لكثرة ما يملك من مساكن وقصور، وما يحوز من المراكب والمآكل والمشارب والملابس وغيرها، وما سهله له ماله من شهوات الدنيا. كما قال الله تعالى: {ويل لكل همزة لمزة. الذي جمع مالا وعدده. يحسب أن ماله أخلده} [الهمزة: 1-3].

قال ابن كثير رحمه الله: "وقوله تعالى: {الذي جمع مالا وعدده} أي جمع بعضه على بعض، وأحصى عدده، كقوله تعالى: {وجمع فأوعى} [المعارج18] قاله السدي وابن جرير. وقال محمد بن كعب في قوله: {جمع مالا وعدده}: ألهاه ماله بالنهار، هذا إلى هذا، فإذا كان الليل نام كأنه جيفة منتنة. وقوله تعالى: {يحسب أن ماله أخلده} أي يظن أن جمعه المال يخلده في هذه الدار" [تفسير القرآن العظيم: 4/548]

ويأتي المال في طليعة أعذار القاعدين عن الجهاد في سبيل الله، كما قال تعالى: {سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا، فاستغفر لنا، يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم} [الفتح: 11].

قال ابن جرير رحمه الله: "يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليهَ وسلم، سيقول لك يا محمد الذين خلفهم الله في أهليهم، عن صحبتك والخروج معك في سفرك الذي سافرت، ومسيرك الذي سرت، إلى مكة معتمراً زائراً بيت الله الحرام، إذا انصرفت إليهم، فعاتبتهم على التخلف عنك: شغلتنا عن الخروج معك معالجة أموالنا، وإصلاح معايشنا." [جامع البيان عن تأويل آي القرآن: 26/77].

وقال سيد قطب رحمه الله: "فالمخلفون من الأعراب... سيقولون اعتذارا عن تخلفهم: {شغلتنا أموالنا وأهلونا} وليس هذا بعذر، فللناس دائما أهل وأموال، ولو كان مثل هذا يجوز أن يشغلهم عن تكاليف العقيدة وعن الوفاء بحقها، ما نهض أحد قط بها." [في ظلال القرآن: 26/3321].


والأموال في طليعة ما يختبر به العبد، لأنها تحول بينه وبين طاعة الله تعالى، إما بجمعها من طرق غير مشروعة، وإما بصرفها في سبل غير مشروعة كذلك، وإما بالطغيان والتكبر بها على الآخرين، وإما بذلك كله وبغيره. قال تعالى: {إنما أموالكم وأولادكم فتنة} [التغابن: 15].

قال ابن كثير رحمه الله: "يقول تعالى: {إنما أموالكم وأولادكم فتنة} أي اختبار وابتلاء من الله تعالى لخلقه، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه" [تفسير القرآن العظيم: 4/376].

والأموال من أهم ما يبارز بها إبليس ابن آدم، ويوقعه بها في شباكه، كما قال تعالى: {قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا. واستفزز من استطعت منهم بخيلك ورجلك، وشاركهم في الأموال والأولاد، وعدهم، وما يعدهم الشيطان إلا غرورا} [الإسراء: 63-64].

قال ابن كثير رحمه الله: "قوله تعالى: {وشاركهم في الأموال والأولاد} قال ابن عباس ومجاهد: هو ما أمرهم به من إنفاق الأموال في معاصي الله تعالى. وقال عطاء: هو الربا. وقال الحسن: هو جمعها من خبيث، وإنفاقها في حرام. وكذا قال قتادة. وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أما مشاركته إياهم في أموالهم، فهو ما حرموه من أنعامهم، يعني من البحائر والسوائب ونحوها. وكذا قال الضحاك وقتادة. وقال ابن جرير: والأولى أن يقال: إن الآية تعم ذلك كله" [تفسير القرآن العظيم: 3/50].

ويتعاظم الفراعنة الطغاة أعداء الله، بما يملكون من أموال وأنهار وبساتين، على غيرهم، ويجعلون ذلك مسوغا لطغيانهم، بسب قدرتهم على التصرف في ذلك كله، ويحتقرون الحق وأهله، مسوغين ذلك بعدم وجود الأموال الكثيرة معهم.

كما قال تعالى: {ونادى فرعون قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر، وهذه الأنهار تجري من تحتي، أفلا تبصرون؟ أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين. فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين} [الزخرف: 51-53].

قال ابن كثير رحمه الله: "يقول تعالى مخبرا عن فرعون وتمرده وعتوه وكفره، إنه جمع قومه، فنادى فيهم متبجحا مفتخرا بملك مصر وتصرفه فيها: {أليس ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي} قال قتادة: كانت لهم جنات وأنهار ماء {أفلا تبصرون} أي أفلا ترون ما أنا فيه من العظمة والملك؟ يعني وموسى وأتباعه فقراء ضعفاء" [تفسير القرآن العظيم: 4/129].

ويكون المال سبباً في بغي صاحبه - إن لم يكن من عباد الله المؤمنين - وفي فرحه وإفساده، ونسيان أن الله الذي خلقه هو الذي رزقه، ويفتخر به على الناس، ويتباهى عليهم بما يقدر على تحصيله بماله، من أنواع الزينة وغيرها، ليشغل الناس بتمني حصولهم على مثل ما حصل عليه. كما قال تعالى: {إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وءاتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين وابتغ فيما ءاتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين قال إنما أوتيته على علم عندي أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا باليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم}. [القصص:76ـ79].

قال سيد قطب رحمه الله: "ذلك كان المشهد الأول-يعني موقف قارون- من مشاهد القصة، يتجلى فيه البغي والتطاول والإعراض عن النصح، والتعالي على العظة، والإصرار على الفساد، والاغترار بالمال، والبطر الذي يقعد بالنفس عن الشكران. ثم يجيء المشهد الثاني - يعني موقف أهل الدنيا وأهل الآخرة من قارون وغناه -حين يخرج قارون بزينته على قومه، فتطير لها قلوب فريق منهم وتتهاوى لها نفوسهم، ويتمنون لأنفسهم مثل ما أوتي قارون، ويحسون أنه أوتي حظا عظيما يتشهاه المحرومون" [في ظلال القرآن: 20/2712].

ولقد حذر الرسول صلى الله عليهَ وسلم أمته، حين خاطب أصحابه، رضي الله عنْهم، فقال: (فوالله لا الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا، كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم) [البخاري رقم: 3158 وهو في فتح الباري: (6/257) من حديث عمرو بن عوف الأنصاري، ومسلم: (4/2273)].

حذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنة المال، أن تهلكهم كما أهلكت من قبلهم. وهاهي هذه الفتنة تكاد تدمر أهلها في هذا العصر، الذي بلغت فيه عبادة الناس الدرهم والريال والدينار، والجنيه والين والدولار ذروتها، كما بلغت تعاستهم بسبب تلك العبادة ذروتها، وتحقق فيهم قول الرسول صلى الله عليهَ وسلم: (تعس عبد الدينار...) [صحيح البخاري رقم 2730 من حديث أبي هريرة رَضي الله عنه].

ولا داعي لذكر أمثلة على هذا الأمر، فكل الناس يعلم ما أحدثه الغنى عند كثير من الناس، من بطر وتكبر وارتكاب معاصي، وظلم وطغيان...، واقرأ قصة صاحب الجنتين في سورة الكهف وحار الرجل المؤمن معه، والعاقبة التي نالها من أبطرته جنتاه.

ويكفي هذا القدر من الأمثلة على كون الشهوات من أخطر أعوان النفس الأمارة بالسوء، على ترك طاعة الله، وارتكاب معاصيه، وأن تلك الشهوات تعتبر عقبات تصد أهلها عن القيام بالجهاد في سبيل الله، ولا سبيل لهم إلى اجتيازها إلا بإيمان صادق، وإرادة قوية، وصبر طويل، وعمل متواصل، لتخليص النفس من شرورها والوقوع في شباكها.

ولقد شبه الرسول صلى الله عليهَ وسلم الشهوات، بالحواجز التي تحول بين المرء ودخول النار، فلا يدخل النار إلا من اقتحم تلك الحواجز، فقال صلى الله عليهَ وسلم: (وحفت النار بالشهوات) [صحيح مسلم: 4/2174].

والمراد بالشهوات: الملذات المحرمة. قال النووي رحمه الله: "وأما الشهوات التي النار محفوفة بها، فالظاهر أنها الشهوات المحرمة، كالخمر والزنا، والنظر إلى الأجنبية، والغيبة، واستعمال الملاهي، ونحو ذلك. وأما الشهوات المباحة، فلا تدخل في هذه، لكن يكره الإكثار منها، مخافة أن يجر إلى المحرمة، أو يقسي القلب، أو يشغل عن الطاعات، أو يحوج إلى الاعتناء بتحصيل الدنيا للصرف فيها، ونحو ذلك.