أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم






"الجهل والغفلة والهوى"

ومع أن النفس الأمارة بالسوء، هي منبع الشر ومأوى الفساد، فإن لها من الأعوان، والجنود ما يزيدها شراً على شرها وفساداً على فسادها. ومن أهم أعوانها على شرها وفسادها الأمور الآتية:

الأمر الأول: الجهل:

والجهل حمأة منتنة، يتفجر منها قيح المعاصي من الشرك بالله إلى أصغر معصية، والجاهل يقف أمام الحق معانداً وجاحداً ومستكبراً، ولو كانت حجج هذا الحق أوضح من الشمس في كبد السماء في يوم صحو. كما قال تعالى: {ولو أننا نزَّلنا إليهم الملائكة، وكلَّمهم الموتى، وحشرنا عليهم كلّ شيء قُبُلاً، ما كانوا ليؤمنون إلا أن يشاء الله، ولكن أكثرهم يجهلون} [الأنعام: 111].

والجاهل يحجب جهلُه عقلَه، من أن يفقه أوضح القضايا وأظهرها على الإطلاق، وهي وحدانية الله، ولو كان الداعي إليها نبياً رسولاً موجودا بين ظهراني الجهال. قال تعالى: {وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم، قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، قال إنكم قوم تجهلون} [الأعراف: 138].

وقال تعالى عن عاد قوم هود، عندما دعاهم إلى توحيد الله وحذرهم من عذابه العظيم: {قالوا أجئتنا لتَأفِكَنا عن آلهتنا؟! فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين. قال إنما العلم عند الله وأبلِّغكم ما أرسلت به ولكني أراكم قوماً تجهلون} [الأحقاف: 22-23] هذا في الشرك بالله تعالى.

وقال تعالى في قوم لوط الذين ارتكبوا أقبح فاحشة من المعاصي بعد الشرك بالله: {ولوطاً إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون، أئنكم لتأتون الرجال شهوةً من دون النساء!! بل أنتم قوم تجهلون} [النمل: 54-55].

والجهال لا يكتفون بارتكاب معصية الله بأنفسهم، بل يبلغ بهم جهلهم ، أن يأمروا بها أهل العلم بالله ويدعوهم إليها، ولذلك أمر الله نبيه أن ينكر عليهم هذا الأمر، وأن يفاصلهم مفاصلة كاملة، كما قال تعالى: {قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون} [الزمر: 64].

وقال تعالى: {قل يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون} إلى قوله: {لكم دينكم ولي دين} [الكافرون].

وقد استعاذ موسى عليه السلام بربه، من أن يكون من الجاهلين، عندما اتهمه قومه بأنه يستهزئ بهم ويسخر منهم؛ ولم يقل: أعوذ بالله أن أكون من الساخرين أو المستهزئين، بل قال: {أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين} [البقرة: 67] لأن الجهل سبب الهزء والسخرية في مقام يقتضي الجد، قال القرطبي بعد أن فسر هذه الآية: "وفي هذا كله أدل دليل على قبح الجهل وأنه مفسد للدين" [الجامع لأحكام القرآن (1/447)].

وعندما اشتد حزن الرسول صَلى الله عليه وسلم لِما رأى من عناد قومه وتعنتهم عليه بأن يأتيهم بآية ليؤمنوا به،لم ينهه الله عن الجزع والتحسر الشديدين، وإنما نهاه عن منبعهما وهو الجهل [انظر الجامع لأحكام القرآن (6/418)].

كما قال تعالى: {وإن كان كَبُر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فتأتيهم بآية، ولو شاء الله لجمعهم على الهدى، فلا تكوننَّ من الجاهلين} [الأنعام: 35].

ما المقصود بالجهل؟

هذا وليس المقصود بالجهل أن الإنسان الموصوف به غير عالم مطلقاً، بل قد يكون عنده علم بالحق وأدلته مقنعة لعقله، ولكنه لا يستجيب لذلك الحق، بل يعاديه ويرده ويحارب أهله، ولذلك صار بمنزلة من لم يعلم لعدم عمله بعلمه، كما يُنفَى عن العاقل عقلُه، لعدم انتفاعه به.

تأمل موقف الكفار من الرسول صَلى الله عليه وسلم الذين دعاهم إلى الله، وتلا عليهم آيات الله وأقام عليهم الحجة، فلم يزدادوا إلا عتوا واستكبارا، وطلبوا من الله تعالى أن يهلكهم إذا ثبت أن الذي جاء به رسوله هو الحق، كما قال تعالى عنهم: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (31) قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32)} [الأنفال] أليس كان الأجدر بهم أن يقولوا: إن كان هذا هو الحق فاهدنا له؟!

قال ابن تيمية رحمه الله: "فأهل الخوف لله والرجاء له، هم أهل العلم الذين مدحهم الله، وقد روي عن أبي حيان التميمي أنه قال: العلماء ثلاثة: فعالم بالله ليس عالماً بأمر الله، وعالم بأمر الله ليس عالماً بالله، وعالم بالله عالم بأمر الله، فالعالم بالله هو الذي يخافه، والعالم بأمر الله هو الذي يعلم أمره ونهيه.

وفي الصحيح عن النبي صَلى الله عليه وسلم: (والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بحدوده) [صحيح البخاري (7/96) وصحيح مسلم (4/1829) بلفظ آخر مقارب].

وإذا كان أهل الخشية هم العلماء الممدوحين في الكتاب والسنة،لم يكونوا مستحقين للذم، وذلك لا يكون إلا مع فعل الواجبات، ويدل عليه قوله تعالى: {فأوحى إليهم ربُّهم لنهلكنَّ الظالمين، ولَنُسْكِنَنَّكُم الأرض من بعدهم، ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد} [إبراهيم: 13-14]. وقوله: {ولِمن خاف مقام ربه جنتان} [الرحمن: 46].

فوعد بنصر الدنيا وبثواب الآخرة أهل الخوف، وذلك إنما يكون لأنهم أدوا الواجب، فدل على أن الخوف يستلزم فعل الواجبات، ولهذا يقال للفاجر: لا يخاف الله، ويدل على هذا المعنى قوله تعالى: {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب} [النساء: 17].

قال أبو العالية: سألت أصحاب محمد عن هذه الآية؟ فقالوا لي: كل من عصى الله فهو جاهل… قال محمد: كل عاص فهو جاهل حين معصيته، وقال الحسن وقتادة وعطاء والسدي وغيرهم: إنما سُمُّوا جهالاً لمعاصيهم، لا أنهم غير مميَّزين.

وقال الزجاج: ليس معنى الآية أنه يجهلون أنه سوء، لأن المسلم لو أتى ما يجهله كان كمن لم يواقع سوءا،ً وإنما يحتمل أمرين:

أحدهما أنهم عملوه وهم يجهلون المكروه فيه.

والثاني أنهم قدموا على بصيرة وعلم بأن عاقبته مكروهة، وآثروا العاجل على الآجل فسموا جهالاً، لإيثارهم القليل على الراحة الكثيرة والعافية الدائمة. فقد جعل الزجاج الجهل إما عدم العلم بعاقبة الفعل، وإما فساد الإرادة، وقد يقال هما متلازمان...

والمقصود هنا أن كل عاص لله فهو جاهل، وكل خائف منه فهو عالم مطيع له، وإنما يكون جاهلاً لنقص خوفه من الله، إذ لو تم خوفه من الله لم يعص... وفي الكلام المعروف عن الحسن البصري -ويروى مرسلاً - عن النبي صَلى الله عليه وسلم: (العلم علمان، فعلم في القلب، وعلم على اللسان، فعلم القلب هو العلم النافع، وعلم اللسان حجة الله على عباده).

وقد أخرجا في الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صَلى الله عليه وسلم أنه قال: (... ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر...).

وهذا المنافق يقرأ القرآن يحفظه ويتصور معانيه، وقد يُصَدِّق أنه كلام الله وأن الرسول حق، ولا يكون مؤمنا،ً كما أن اليهود يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وليسوا مؤمنين، وكذلك إبليس وفرعون وغيرهما، لكن من كان كذلك لم يكن حصل له العلم التام والمعرفة التامة... ولهذا صار يقال لمن لم يعمل بعلمه: إنه جاهل كما تقدم" [مجموع الفتاوى 7/21-24 باختصار بعض الجمل، ومن أراد مزيداً من الإيضاح فليراجعه].

وقد جعل رحمه الله الجهل والظلم منشأ جميع السيئات، فقال: "وأما السيئات فمنشؤها الجهل والظلم، فإن أحداً لا يفعل سيئة قبيحة، إلا لعدم علمه بكونها سيئة قبيحة، أو لهواه وميل نفسه، ولا يترك حسنة واجبة، إلا لعدم علمه بوجوبها أو بغض نفسه لها" [مجموع الفتاوى (14/287)].

وبهذا يتضح خطر الجهل على النفس البشرية التي هي منبع الشر ومأوى السوء في ذاتها.

الأمر الثاني: الغفلة

والغفلة داء عضال تحجب صاحبها عن النظر إلى أبواب مفتوحة من الخير، لولاها لَوَلَج كلَّ باب فيها، ليحقق رضا الله عنه بفعل طاعته، كما أنها – أي الغفلة – تحجبه كذلك عن رؤية أضرار لا حصر لها داخل أبواب مغلقة، يحطمها بمطارق شهواته فَيلجها، ليحمل نفسه من عظائم أوزارها.

وإن الإنسان الذي يصاب بداء الغفلة، لتمر به أيام عمره ولياليه،وهو صاد معرض عن كل خير، منهمك في معاصي الله وسخطه، حتى يأتيه هادم اللذات فينزع منه روحه وهو في غفلة، فلا يفيق من غفلته، إلا في ذلك الوقت الذي يشعر فيه بالندم ولات ساعة مندم.

وهاهو القرآن الكريم ينعى على أهل الغفلة غفلتهم، وينذرهم قرب يوم الحساب على ما قدموا وهم سادرون، ويرتب على غفلتهم إعراضَهم عن ذكر الله، وموقفهم منه موفق اللاعب الذي لا يبالي ولا يفكر فيما يضره أو ينفعه: {اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون، ما يأتيهم من ذِكر من ربهم مُحْدَثٍ إلا استمعوه وهم يلعبون، لاهيةً قلوبهم وأسرُّوا النَّجْوى الذين ظلموا هَلْ هذا إلا بَشَرٌ مثلكم؛ أفتأتون السحر وأنتم تبصرون} [الأنبياء: 1-3].

وتتجسم آيات الله للمتقين، فتبهر عقولهم، وتملأ قلوبهم إيمانا،ً وتزيدهم علماً بالله، ولكن أهل الغفلة يمرون على كل آية، وتمر عليهم كل آية، دون أن يفيقوا من غفلتهم، ولذلك ترى كل تصرفاتهم صادرة عن سكون إلى الدنيا وركون إليها، وعدم خوف من الله خالقهم وخالق تلك الآيات: {هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون. إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السموات والأرض لآيات لقوم يتقون، إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن ءاياتنا غافلون، أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون} [يونس: 5-8].

وإذا كانت سنة الله تعالى في أكثر الناس أنهم لا يؤمنون: {وما أكثر الناس لو حرصت بمؤمنين} [يوسف: 103] فإن هذه الكثرة هي التي أصيبت بداء الغفلة: {وإن كثيراً من الناسعن آياتنا لغافلون} [يونس: 92].

الغافل عن الآخرة جاهل ولو أبدع في الدنيا

وقد يكون الغافل مبدعاً في معايش الدنيا ومصالحها المادية البحتة، في الطب والهندسة والكيمياء والفلك وأنواع الصناعات وغيرها، وقد يصل إلى اكتشافات مادية مدهشة يغزو بها الفضاء، ويقرب للناس المسافات البعيدة في الأسفار والأصوات والرؤية وغير ذلك، كما هو الحال في هذا العصر.

ولكن ذلك لا يخرجه عن كونه جاهلا غافلاً مصاباً بداء الغفلة، لأن الغفلة الحقيقية هي الغفلة عن آيات الله التي تجلب الإيمان به وتعمقه وتلفت النظر إليه، وتنبه القلب إلى الإيمان باليوم الآخر وما أعد الله فيه من الثواب والعقاب لأوليائه وأعدائه، فلا يخرج عن الغافلين من تعمق في علوم الكون، دون أن يستفيد شيئاً من ذلك.

لا بل إن كثيرا ممن يسمون بالعلماء في هذا العصر، ليسوا بعلماء عند الله تعالى، بسبب تلك الغفلة التي جعلتهم يفقدون التفكير في آيات الله العظيمة. قال تعالى: {وَعْدَ الله لا يخلف الله وَعْدَه، ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون، يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون، أولم يتفكَّروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى، وإن كثيراً من الناس بلقاء ربهم لكافرون} [الروم: 6-8].

وقد وصف الله أهل جهنم، أنهم لا يستفيدون من قلوبهم ولا من أعينهم ولا من آذانهم، وما خلقها الله من أجله، وأنهم أكثر ضلالاً من الأنعام، وختم تلك الصفات بالغفلة بصيغة حصرهم فيها.

كما قال تعالى: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون} [الأعراف: 179].

وعندما أمر الله نبيه صَلى الله عليه وسلم – وأمره له أمرٌ لأمته – بذكره، حذره من الغفلة والكون في عداد أهلها، لأنها تلهي عن ذكر الله المأمور به، فقال: {واذكر ربك في نفسك تَضَرُّعاً وخِيفةً ودون الجهر من القول بالغدوِّ والآصال، ولا تكن من الغافلين} [الأعراف: 205].

ندم الغافلين يوم لا ينفع الندم.

وإن أهل الغفلة ليتحسرون عند دنو وعد الله – يوم القيامة – ويلومون أنفسهم، ويقرون أنهم كانوا ظالمين بسبب تلك الغفلة، ولكنه تحسر غير مجدٍ، ولوم غير مفيد، وإقرار لا يترتب عليه إلا عذاب الله: {حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون، واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا ياويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين، إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون} [الأنبياء: 96-98].

ويتذكر الغافل - يوم القيامة الذي ظل غافلا عن أهواله طيلة حياته- يتذكر غفلته تلك في وقت زالت فيه الغفلة وانقشع غطاؤها، فإذا هو يعاين كل شيء: {وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد، لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد} [ق:21-22].

قال ابن تيمية رحمه الله يصف خطر الغفلة: "فالغفلة عن الله والدار الآخرة، تسد باب الخير الذي هو الذكر واليقظة، والشهوة تفتح باب الشر والسهو والخوف، فيبقى القلب مغموراً بما يهواه ويخشاه غافلاً عن الله، رائداً غير الله، ساهياً عن ذكره قد اشتغل بغير الله، قد انفرط أمره قد ران حب الدنيا على قلبه، كما روي في صحيح البخاري وغيره عن أبي هريرة عن النبي صَلى الله عليه وسلم أنه قال: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش، إن أُعْطِيَ رضي، وإن مُنِع سخط)" [الفتاوى (10/597) والحديث في صحيح البخاري (3/1057)].

ونهى الله نبيه صَلى الله عليه وسلم – ونهيه له نهي لأمته – أن يطيع من أغفل الله قلبه عن ذكره فقال: {ولا تُطِعْ من أغفلنا قلبه عن ذكرنا، واتَّبع هواه، وكان أمرُه فُرُطاً} [الكهف: 28].

وعزا ابن القيم رحمه الله الزهد عن الحياة - العليا حياة الأنبياء والرسل وأتباعهم - إلى أصلين:

أحدهما ضعف الإيمان، والثاني جثوم الغفلة على القلب، وقال في هذا الأخير: "السبب الثاني: جثوم الغفلة على القلب، فإن الغفلة نوم القلب، ولهذا تجد كثيراً من الأيقاظ في الحس نياماً في الواقع..." [مدارج السالكين (3/284)]

وقال شيخه ابن تيمية رحمه الله: "فالغفلة والشهوة أصل الشر، قال تعالى: {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً}" [الفتاوى (14/289) والآية في سورة الكهف: 28].

ويصف سيد قطب رحمه الله أصحاب الغفلة واللهو في كتابه [في ظلال القرآن] في مطلع سورة الأنبياء فيقول: "مطلع قوي يهز الغافلين هزاً، والحساب يقترب وهم في غفلة، والآيات تعرض وهم معرضون عن الهدى، والموقف جد وهم لا يشعرون بالموقف وخطورته، وكلما جاءهم من القرآن جديد، قابلوه باللهو والاستهتار واستمعوه وهم هازلون يلعبون {لاهية قلوبهم} والقلوب هي موضع التأمل والتدبر والتفكر. إنها صورة للنفوس الفارغة التي لا تعرف الجد، فتلهو في أخطر المواقف، وتهزل في مواطن الجد وتستهتر في مواقف القداسة، فالذكر الذي يأتيهم، يأتيهم {من ربهم} فيستقبلونه لاعبين بلا وقار ولا تقديس. والنفس التي تفرغ من الجد والاحتفال بالقداسة، تنتهي إلى حالة من التفاهة والجدب والانحلال، فلا تصلح للنهوض بعبء، ولا الاضطلاع بواجب، ولا القيام بتكليف، وتغدوا الحياة عاطلة هينة رخيصة، إن روح الاستهتار التي تلهو بالمقدسات روح مريضة، والاستهتار غير الاحتمال، فالاحتمال قوة جادة شاعرة، والاستهتار فقدان للشعور واسترخاء" [في ظلال القرآن (17/2367) طبع دار الشروق].

وبهذا يظهر كذلك خطر الغفلة على صاحبها وعلى البشرية كلها.

الأمر الثالث: الهوى

"الهوى: ميل النفس إلى الشهوة، ويقال ذلك للنفس المائلة إلى الشهوة وقيل: سمي بذلك لأنه يَهْوِي بصاحبه في الدنيا إلى كل داهية، وفي الآخرة إلى الهاوية، والهوى سقوط من علو إلى أسفل" اهـ [المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني ص:3-4].

وإذا كانت النفس الأمارة بالسوء، هي منبع الشر ومأوى السوء، كما سبق، فإن هواها هو قائدها إلى كل شر وكل سوء، وهواها محنة لصاحبها مثلها، كلاهما يوبقه إذا استسلم ولم يقاوم، ويسقطه في قعر الخسران وسخط الرحمن.

القرآن يسلط أضواءه على الهوى ويعريه.

والهوى المردي هو الذي تبرأ منه أولياء الله، لأنه يورث أصحابه الحيرة والقلق في الأرض، والشيطان هو الذي يزينه ويدعو صاحبه إليه، بخلاف أولياء الله، فإنهم يدعون إلى هدى الله ويزينونه للناس، حتى لا يُردوا على أعقابهم وقد أمروا أن يسلموا لربهم. كما قال تعالى: {قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين} [الأنعام: 71].

وفي مقابل استهواء الشياطين من لهم عليهم سلطان، ذكر الله تعالى أن ما جاء به محمد صَلى الله عليه وسلم، إنما هو وحي منه، مُبَرِّئاً له من أن ينطق بشيء من هوى نفسه، فقال تعالى: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} [النجم: 3-4].

ويشتط صاحب الهوى حتى يسخر من الحق وأهله، وينكر المعروف ويعرف المنكر، ويبالغ في ذلك، حتى إنه ليحاول أن يثبت للناس أنه صاحب حق أوتي صبراً على التزامه، وأن صاحب الحق – في الواقع – إنما يريد إضلاله، وهو - في الواقع - قد صار إلهه هواه، فلا يستحسن إلا هواه، ولا يتنفع بأدوات العلم التي منحه الله إياها، لأنه فاق في ضلاله الأنعام. كما قال تعالى: {وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا. إن كاد ليضلنا عن ءالهتنا لولا أن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا. أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا. أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا} [الفرقان: 41-44]

وإذا اتخذ الإنسان إلهه هواه، فمتى يُطْمَع فيه أن يفرق بين الحق والباطل؟ بل متى يطمع فيه أن يبقى مستحسناً شيئاً مَّا في وقت، دون أن يستقبحه ويستحسن ضده في وقت آخر؟

ولهذا اشتد نهي الله عن اتباع الإنسان هوى نفسه أو هوى غيره من أهل الضلال والكذب والجهل والكفر والظلم، لأن كل تلك الصفات سببها الهوى، فمن اتبع هواه أو هوى غيره، وقع في ذلك ولا بد.

فالهوى سبب في تعاطي الظلم ومجانبة العدل، قال تعالى: {يا أيها الذين ءامنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا} [النساء: 135].

وقال تعالى: {بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل الله وما لهم من ناصرين} [الروم: 29].

وقال تعالى: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب} [ص:26].

وقال تعالى: {قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون} [الأنعام: 150].

ففي آية سورة "ص" نهى الله داود عليه السلام عن اتباع الهوى في حكمه بين الناس، ورتب على اتباع الهوى أنه يضله عن سبيل الله، وفي آية الأنعام نهى الله محمداً صَلى الله عليه وسلم عن اتباع أهواء المكذبين بآيات الله، الذين يحرمون ما شاءوا من عند أنفسهم بدون علم، بل إنهم يتبعون الظن، ثم ينسبون شركهم وتحريمهم إلى الله، لأنه شاءهما هو سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا.

ومن أعظم النصوص التي وصفت الهوى بالوصف اللائق به آية "المؤمنون" التي نصت على أن السماوات والأرض ومن فيهما، يصيبها الفساد لو كان الهوى هو قائد الحق.
كما قال تعالى: {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون } [المؤمنون: 71].

قال ابن كثير: "وقوله: {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن} قال مجاهد وأبو صالح والسدي: الحق هو الله عز وجل، والمراد لو أجابهم الله إلى ما في أنفسهم من الهوى وشرع الأمور على وفق ذلك، لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن، أي لفساد أهوائهم واختلافها..." [تفسير القرآن العظيم (3/250)].

وقال سيد قطب: "فالحق واحد ثابت، والأهواء كثيرة متقلبة، وبالحق الواحد يدبر الكون كله، فلا ينحرف ناموسه لهوى عارض، ولا تتخلف سنته لرغبة طارئة، ولو خضع الكون للأهواء العارضة والرغبات الطارئة، لفسد كله، ولفسد الناس معه، ولفسدت القيم والأوضاع، واختلت الموازين والمقاييس، وتأرجحت كلها بين الغضب والرضا، والكره والبغض، والرغبة والرهبة، والنشاط والخمول، وسائر ما يعرض من الأهواء والمواجد والانفعالات والتأثرات. وبناء الكون المادي واتجاهه إلى غايته، كلاهما في حاجة إلى الثبات والاستقرار والاطراد، على قاعدة ثابتة ونهج مرسوم لا يتخلف ولا يتأرجح ولا يحيد، وفي هذه القاعدة الكبرى في بناء الكون وتدبيره، جعل الإسلام التشريع للحياة البشرية جزءً من الناموس الكوني، تتولاه اليد التي تدبر الكون كله وتنسق أجزاءه جميعاً، والبشر جزء من هذا الكون خاضع لناموسه الكبير، فأولى أن يشرع لهذا الجزء من يشرع للكون كله ويدبره في تناسق عجيب، بذلك لا يخضع نظام البشر لأهواء فيفسد ويختل، ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن ،إنما يخضع للحق الكلي ولتدبير صاحب التدبير" [في ظلال القرآن (18/2475)].

فإذا رأيت من يصر على أي معصية لله تعالى ولا يتوب منه، ومنها ظلم الناس بحجبهم عن حقوقهم التي أعطاهم الله تعالى، فاعلم أنه قد غاص في ظلمات الجهل والغفلة واتباع هواه، حتى أصبح هواه هو إمامه الذي يهديه إلى سلوك سبل الشيطان وأوليائه.