أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


*هذه الحلقة الرابعة من ملخصات ينبوع الغواية الفكرية -( عبد الله بن صالح العجيري)
تلخيص :م. وائل منصور



من أكثر من تكلم في مقامات الحق و الباطل، و فصل أسباب إعراض الخلق عن الحق، و كشف عن الأبعاد النفسية التي تقف خلف كثير من الإنحرافات؛ العلامة عبد الرحمن بن يحي المعلمي اليماني في كتابه اللطيف (القائد إلي تصحيح العقائد) :
• نوازع الحق و الباطل في النفس، و تحقيق مشهد الإبتلاء :
إنَّ مدار كمال المخلوق على حبِّ الحقِّ وكراهية الباطل، فخَلقَ اللهُ - تعالى -الناسَ مفطورين على ذلك، وقدَّر لهم ما يؤكد تلك الفطرة، وما يدعوهم إلى خلافها، ليكون عليهم في اختيار الكمال، وهو مقتضى الفطرة مشقةٌ وتعبٌ وعناء، ولهم في خلاف ذلك شهوةٌ وهوى، فمن اختار منهم مقتضى الفطرة وصبر على ما فيه من المشقة والعناء وعما في خلافه من الراحة العاجلة واللذة = استحقَّ أن يُحمد، فاستحق الكمال فناله، ومن آثر الشهوة واتبع الهوى استحق الذمَّ فسقط!
والإنسان لا يكره الحقَّ من حيث هو باطل، ولكنه يحبٌّ الحقَّ بفطرته، ويحبٌّ الباطل لهواه وشهوته، ومدار الفوز أو الخسران على الإيثار، قال - تعالى -: {فأما من طغى * وآثر الحياة الدنيا * فإن الجحيم هي المأوى * وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى * فإنالجنة هي المأوى} [النازعات : 37-41]، و لك أن تقول : إن الله تبارك و تعالي في جانب، و الهوي في جانب.

• من دقيق أسباب الإعراض عن الحق صعوبة الاعتراف بالخطأ :
(أن يرى الإنسان أن اعترافه بالحق يستلزم اعترافه بأنه كان على باطل، فالإنسان ينشأ على دينٍ, أو اعتقادٍ, أو مذهبٍ, أو رأيٍ, يتلقاه من مربيه ومعلمه على أنه حق، فيكون عليه مدة، ثم يتبين له أنه باطلآ؛ شقَّ عليه أن يعترف بذلك، وهكذا إذا كان آباؤه أو أجداده أو متبوعه على شيء، ثم تبين له بطلانه، وذلك أنه يرى نقصهم مستلزمٌ لنقصه، فاعترافه بضلالهم أو خطأهمآ؛ اعترافٌ بنقصه، حتى إنك لترى المرأة في زماننا هذا إذا وقفت على بعض المسائل التي كان فيها خلاف بين أم المؤمنين عائشة وغيرها من الصحابة أخذت تحامي عن قول عائشة، لا لشيءآ؛ إلا لأنَّ عائشة امرأة مثلها، فتتوهم أنها إذا زعمت أن عائشة أصابت وأن من خالفها من الرجال أخطأوا، كان في ذلك إثبات فضيلةٍ, لعائشة على أولئك الرجال، فتكون تلك الفضيلة للنساء على الرجال مطلقاً، فينالها حظُّ من ذلك، وبهذا يلوح لك سرَّ تعصب العربي للعربي، والفارسي للفارسي، والتركي للتركي، وغير ذلك، حتى لقد يتعصب الأعمى في عصرنا هذا للمعري!.)

(ومخالفة الهوى للحق في العلم والإعتقاد قد تكون لمشقة تحصيلية، فإنه يحتاج إلى البحث والنظر، وفي ذلك مشقة ويحتاج إلى سؤال العلماء والإستفادة منهم وفي ذلك ما مر في الاعتراف، ويحتاج إلى لزوم التقوى طلباً للتوفيق والهدى وفي ذلك ما فيه من المشقة، وقد تكون لكراهية العلم والإعتقاد نفسه وذلك من وجهات، الأول: ما تقدم في الاعتراف فأنه كما يشق على الإنسان أن يعترف ببعض ما قد تبين له، فكذلك يشق عليه أن يتبين بطلان دينه، أو اعتقاده، أو مذهبه، أو رأيه الذي نشأ عليه، واعتزَّ به، ودعا إليه، وذهب عنه، أو بطلان ما كان عليه آباؤه وأجداده وأشياخه، ولا سيما عندما يلاحظ أنه إن تبين له ذلك تبين أن الذين يطريهم ويعظمهم، ويثنى عليهم بأنهم أهل الحق والإيمان والهدى والعلم والتحقيق، هم على خلاف ذلك، وإن الذين يحقرهم ويذمهم ويسخر منهم وينسبهم إلى الجهل والضلال والكفر هم المحقون. ومن أوضح الأدلة على غلبة الهوى على الناس أنهم – كما تراهم – على أديان مختلفة، ومقالات متباينة، ومذاهب متفرقة، وآراء متدافعة ثم تراهم كما قال الله تبارك وتعالى:[ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ].)

(و منها أن يميل إلي ما وقع في ذهنه أولاً، فيصعب علي نفسه أن تعترف أنها أخطأت أولاً، و لا سيما إذا كان قد أظهر قوله أولاً، فيصعب علي نفسه أن تعترف أنها أخطأت أولاً، و لا سيما إذا كان قد أظهر قوله الأول، و إذا تمكن الهوي عميت البصيرة، فتعرض علي صاحبه الحجة النيرة فيري أنها شبهة فقط، حتي أنه كثيراً ما يقول : إنها شبهة لا أقدر علي حلها، و تعرض عليه الشبهة الضعيفة الموافقة لهواه، فيرب أنها برهان قاطع)

• علاج مرض العصبية للآباء و الأشياخ :
(هذا و ما منا إلا من يعتز بآبائة و أشياخه، و يعز عليه أن يتبين أنهم كانوا علي باطل، و لكن أقل ما يجب علينا أن نعلم أن آبائنا و أشياخنا لم يكونوا معصومين، و هب أنهم يبعد عندنا جداً أن يكونوا تعمدوا الباطل، فما الذي يبعد أن يكونوا غلطوا أو أخطؤوا.
ثم إن شئت فاعرض مقالة آبائك و أشياخك عما وافقه حمدت الله تعالي علي ذلك، و ما خالفه التمست لهم العذر، برجاء أن يكونوا لم يتعمدوا الباطل، و لم يقصروا تقصيراً لا يسعه عفو الله تبارك و تعالي، بل قد يثبت رجوع بعض أكابرهم، و لعل غيرهم قد رجع و إن لم ينقل، فإذا سلكت هذة الطريق فقد هديت، و إن أبيت إلا التعصب لآبائك و أشياخك، و الجمود علي اتباعهم، فقد قامت عليك الحجة و الله المستعان)

• أثر المصالح الشخصية في التعلق بالباطل :
(أن يكون قد صار في الباطل جاه و شهرة و عيشة، فيشق عليه أن يعترف بأنه باطل فتذهب تلك الفوائد)

• أثر الكبر في الإعراض عن الحق :
(الكبر، يكون الإنسان على جهالةٍ, أو باطل، فيجيء آخر فيبيِّن له الحجَّة، فيرى أنه إنِ اعترفَ كان معنى ذلك اعترافه بأنه ناقص، وأنَّ ذلك الرجل هو الذي هداه، ولهذا ترى من المنتسبين إلى العلم لا يشقٌّ عليه الاعتراف بالخطأ إذا كان الحق تبيِّن له ببحثه ونظره، ويشقٌّ عليه ذلك إذا كان غيره هو الذي بيِّن له).

• أثر الحسد في الإعراض عن الحق :
(الحسد، وذلك إذا كان غيره هو الذي بيِّن الحقَّ، فيرى أن اعترافه بذلك الحق يكون اعترافاً لذلك المبيِّن بالفضل والعلم والإصابة، فيعظم ذاك في عيون الناس)

• من دقيق الهوي الباعث علي التعلق بالباطل :
(و مسالك الهوي قد تكون خفيه جداً، فيتوهم الإنسان أنه لا سلطان للهوي عليه، و أنه ممن يحاهد في الله طلباً للحق أني كان، مع أنه في الحقيقة علي خلاف ذلك)

(و من الجهات أنه إذا شق عليه عمل كالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر هوي عدم وجوبه، و إذا ابتلي بشيء يشق عليه أن يتركه كسرب المسكر هوي عدم حرمته، و كما يهوي ما يخف عليه فكذلك يهوي ما يخف علي من يميل إليه، و ما يشتد علي من يكرهه)

(افرض أنه بلغك أنَّ رجلاً سبَّ رسول الله صلَّ الله عليه و سلَّم، وآخر سبَّ داود - عليه السلام -، وثالثاً سبَّ عمر أو علياً - رضي الله عنهما -، ورابعاً سبَّ إمامك، وخامساً سبَّ إماماً آخر، أيكون سخطك عليهم وسعيك في عقوبتهم وتأديبهم أو التنديدِ بهم موافقاً لما يقتضيه الشرع، فيكون غضبك على الأول والثاني قريباً من السواء وأشد مما بعدهما جداً، وغضبك على الثالث دون ذلك وأشد مما بعده، وغضبك على الرابع والخامس قريباً من السواء دون ما قبلهما بكثير؟

افرض أنك وقفت على حديثين لا تعرف صحتهما ولا ضعفهما، أحدهما يوافق قولاً لإمامك والآخر يخالفه، أيكون نظرك فيهما سواء، لا تبالي أن يصحَّ سند كل منهما أو يضعف؟)

(افرض أنك و عالماً تحبه و آخر تكرهه أفتي كل منكم في قضية و اطلعت علي فتويي صاحبيك فرأيتهما صواباً، ثم بلغك أن عالماً آخر اعترض علي واحدة من تلك الفتاوي و شدد النكير عليها أتكون حالك واحدة سواء كانت هي فتواك أم فتوي صديقك أم فتوي مكروهم؟)

(وبالجملة فمسالك الهوى أكثر من أن تحصى، وقد جرَّبتُ نفسي أنني انظر في القضية زاعماً أنه لا هوى لي، فيلوحُ لي فيها معنى، فأقرره تقريراً يعجبني، ثم يلوح لي ما يخدش في ذلك المعنى، فأجدني أتبرم بذلك الخادش وتنازعني نفسي إلى تكلَّف الجواب عنه وغضَّ النظر عن مناقشة ذاك الجواب، وإنما هذا لأني لما قررت ذلك المعنى أولاً، تقريراً أعجبني صرت أهوى صحته، هذا مع أنه لم يعلم بذلك أحدٌ من الناس، فكيف إذا كنت قد أذعته في الناس ثم لاح لي الخدش؟ فكيف لو لم يلح لي الخدش ولكن رجلاً آخر اعترض عليَّ به؟ فكيف لو كان المعترض ممن أكرهه؟)

• أهمية التعرف إلي محرك الفكرة

لقد نوَّع القرآن أساليب الدعوة بناء علي طبيعة البواعث و المحركات الكامنة للإقبال أو الإعراض عن الحق، فمثلاً قال تعالي : {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل : 125] قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله :
(ليكن دعاؤك للخلق ـ مسلمهم وكافرهم ـ إلى سبيل ربك بِالْحِكْمَةِ أي: كل أحد على حسب حاله وفهمه وقوله وانقياده)

و مما يسترعي الانتباه في المعالجة القرآنية لكثير من الانحرافات و الأخطاء علي مستوي التصور و السلوك و يؤكد ضرورة التنبه إلي الطبيعة المركبة للإنحراف عن الحق؛ التذكير بالبعد الإيماني طلباً للتصحيح و إزالة الإشكال، فليس الأمر قاصراً علي إزالة الإشكال المعرفي فقط بل ينبغي التنبه إلي المكون الإيماني و أثر ضعفه أو انعدامه في الإعراض عن الحق، تأمل في تنبيه الرب تعالي إلي السبب الباعث عند الكفار علي رد الوحي و المطالبة بتغييره، يقول الله تعالي : {وَإِذَا تُتْلَىظ° عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ غ™ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَظ°ذَا أَوْ بَدِّلْهُ غڑ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي غ– إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىظ° إِلَيَّ غ– إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [يونس : 15]
و لذا فليس من المستغرب أن يتم التنبيه و التذكير بالبعد الإيماني عند ذكر واجب الرد إلي الله و الرسول في حال التنازع و الخلاف؛ تحفيزاً للمؤمن للقيام بهذا الواجب : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء : 59]

و تأمل كيف نبه الله إلي البعد الإيماني عند حديثه عن مقام القدوة في شخص النبي صلَّي الله عليه و سلَّم و أنه لا ينتفع به إلا من كان محققاً لمقامات الإيمان : {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [ الأحزاب : 21]

و المقصود مما سبق جميعاً التأكيد علي تعدد أسباب الإنحراف، و أنه غير منحصر في خطأ النظر العقلي أو الاجتهاد المعرفي بل قد توجد هذة صحيحة في النفس و تتخلف آثارها من الاعتراف بالحق و العمل بمقتضاه، فيصبح المرء مع صحة التصور أسيرَ الباطل لاعتبارات متعددة كغلبة الهوي أو العصبية للكبراء أو العجب و الغرور أو التحاسد .. إلخ، بل قد يبلغ بالمرء حداً من جحد الحق و إعلان التكذيب مع قيام الحجة العيانية عليه، و قد بين الله شيئاً من أحوال أولئك المكذبين في الدنيا فقال سبحانه : {القول في تأويل قوله تعالى : وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ } [الأنعام : 111]

ا.هـ #


رابط الحلقات الثلاث السابقة :
http://goo.gl/6kXaho