أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


التهذيب لمسائل المدونة والمختلطة، لأبي سعيد خَلَف بن أبي القاسم البراذعي -رحمه الله - وهو من علماءِ القَرنَيْن الرَّابعِ والخَامسِ الهجْريَّيْن (1).
==== ===== =====
ذهبَ الهلالي في "إتحاف المقتنع بالقليل"، ص: 229، 230، إلى أنَّ تهذيبَ البراذعي للمدونة هو أشهر مختصراتِها، وذَكَر في سبب تهذيب البراذعي للمدونة أن الطلبةَ طلبوا من ابنِ أبي زيد اختصارَها للدرسِ؛ فاختصرَها، وزاد في مختصرِه زياداتٍ من العتبية، والموازيةِ والواضحة، فامتنع الطلبةُ من درسه؛ لِما فيه من الزيادات، فبلغ ذلك أبا سعيد فاختصرَها فأخرجها، وطالعَها ابن أبي زيد، فقال: هذا هو الذي يوافقُ الطلبةَ، ومال الناس إلى درس هذا الكتابِ دون غيره.اهـ.
وسَوَّى الونشريسي في" القصد الواجب"، ص:28، بين "التهذيب" وبين "المدونة" في اصطلاح المذهب، فقال: إن ابن الحاجب رحمه الله ... لم يرتبط بقوله (وفيها) للتكنية عن الأمهات التي هي أصل "التهذيب" الذي هو "المدونة" اليوم.اهـ.
ونظم هذا المعنى النابغة الغَلاويُّ في "بوطليحية"، ص: 73 ، فذكره في عِداد الكتب المعتمدة في المذهب قائلاً:
واعْتَمَدوا التَّهذيبَ للبَرَاِذُعِي *** وبالمُدَوَّنَةِ في البَرَا دُعِي


وذَكَر ابنُ السالك في "عون المحتسب"، ص:61، أن أهل المذهب يُعبِّرون عن تهذيب البراذعي بـ "المدونة الصغرى".
وأشار القاضي عياض في "المدارك":7/257، إلى أن بركةَ هذا الكتاب قد ظهرت على طلبة الفقه، وعليه معولُ أكثرهم بالمغرب والأندلس؛ على أنّ أبا محمد عبد الحق ألَّفَ عليه جزءاً، فيما وَهِم فيه على المدونة، وأنا أقول: إن البراذعي ما أدخل ما أُخِذ عليه فيه؛ إلا كما نقلَه أبو محمد ابن أبي زيد.اهـ.
قُلتُ: أخذ بعضُهم من كلام عياض ما اتهُم به البراذعي في تهذيبِه من الاعتماد على اختصار ابن أبي زيد، وأنه ساق "التهذيبَ" على نسق المدونة، وحذف ما زادَ أبو محمد.
وفي هذه المسألة كلامٌ حسَنٌ أورده الهلالي في إتحافِهِ المقتنعَ بالقليل، ص: 229،230، أسوقُه بطوله: قال ابن ناجي: هذا غير صحيح؛ لأنه كثيراً ما يختصر خلاف ما في مختصر أبي محمد مما هو معروف، وإنما هو منشئٌ لاختصاره لا تابعٌ، ألا ترى إلى قوله: وصححتها على أبي بكر بن أبي عقبة عن جلبة عن سحنون ... ورده ابن عبد السلام بأنه لا ينجي البراذعي كونُ غيره سبقه إلى اختيار ما اختار، فكل من رضي قولاً توجه عليه ما يعترض به على ذلك القول؛ لأن التصويب والتخطئة إنما هو على القول من حيث هو قول، وكلُّ من رضي عملَ قومٍ فهو منهم، والمرءُ مع من أحب.
قال ابن عرفة: وهذا كما قال ابن عبد السلام، ولاسيما إذا قام الباني نفسه مقامَ المنشئ المستقل، كما فعل أبو سعيد، فإنه ذكر في أول خطبته ما يدل على أنه مستقل.اهـ. من إتحاف الهلالي.
قُلتُ: ربَّما وقع هذا الأخذ والرد في علاقة تهذيب البراذعي باختصار ابن أبي زيد؛ بسبب الخلط بين "التهذيب" و"التمهيد" وكلاهما للبراذعي، وقد قال عياض في مداركه: 7/257عن ثانيهما: " من تآليفه أيضاً كتاب تمهيد مسائل المدونة على صفة اختصار أبي محمد وزياداته، ولأجل ذلك قصده بعض الطلبة ليسمعه منه؛ فلما أتم الصدر، أغلق كتابه وقال: قد سمعت الباقي على أبي محمد، وهل زدتَ فيه غير هذا الصدر".
وقدَّم أبو سعيد لتهذيبه بمقدمة وجيزة ذَكَر فيها عملَه في "التهذيب"، وأعقبه بذِكْر سنة فراغه من تأليفه فقال رحمه الله: هذا كتاب قصدتُ فيه إلى تهذيب مسائل المدونة والمختلطة خاصة دون غيرها ... واعتمدت فيها على الإيجاز والاختصار، دون البسط والانتشار، ليكون ذلك أدعى لنشاطِ الدارس، وأسرع لفهمه، وعدة لتذكره.
وجعلت مسائلها على الولاء حسب ما هي في الأمهات إلا شيئاً يسيراً ربما قدّمته أو أخّرته، واستقصيت مسائل كل كتاب فيه خلا ما تكرر من مسائله، أو ذُكِر منها في غيره، فإني تركته مع الرسوم، وكثير من الآثار، كراهيةَ التطويل ... وكان الفراغ من تأليفه سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة.اهـ.
ولم يصرحِ البراذعي في خطبة كتابِه ولا في أثنائه بعنوانٍ ارتضاه له، ولكن أُخِذَ عنوانه المتداول من قوله فيها:"هذا كتاب قصدت فيه إلى تهذيب مسائل المدونة والمختلطة"، وتواترت النسخُ الخطية على أكثر ألفاظ العنوان الذي أثبتناه أعلى هذا التعريف، وارتضيناه عنواناً للطبعة التي ستصدر بتحقيقنا إن شاء الله؛ وهو "التهذيب لمسائل المدونة والمختلطة", كما وردَ على غلاف نسخة المعهد الفرنسي بباريس, ونسخة "تيشيت" التي قابلنا عليها, ونسخة جامعة الملك سعود المحفوظة تحت رقم (5145), وأكثر النسخ المغربية في الخزانات؛ الحسنية, وابن يوسف, والحمزوية, وتازة, والقرويين؛ ومنها النسخة التي اعتمدها – أصلاً- محمد الأمين ولد محمد سالم بن الشيخ محقق طبعة دار البحوث للدراسات الإسلامية بدبي, وعَجَبٌ أنه اجتهد في وضع عنوان غير الذي نصت عليه المخطوطات التي بين يديه, فاختار لعمله عنواناً هو "التهذيب في اختصار المدونة"!!
وربما أُتيَ المحقق في اختيار عنوان الكتاب من سوء فهمه لعبارة أهل التراجم حينما ذكروا أن للبراذعي كتاباً يحمل عنوان "التهذيب" في اختصار المدونة؛ فظن أن قولهم: "في اختصار المدونة" جزءٌ من العنوان، والأمر ليس كذلك؛ بل هو بيان لموضوع كتاب التهذيب، كقولنا: وضع الشافعي كتاب "الرسالة" في أصول الفقه، فقولنا: "في أصول الفقه" ليس جزءاً من العنوان؛ بل هو بيان لموضوع الكتاب.
ولم أقف على ذِكْرٍ لكتاب "التهذيب" في اختصار المدونة – بهذه الألفاظ والترتيب- إلا عند القاضي عياض في "المدارك": 7/ 256، ومن نقل عنه أمثال ابن فرحون في ديباجه: 1/349، وغيرُه.
وإن لم نَنَلْ شرف السبق إلى تحقيق تهذيب البراذعي ونشره؛ فقد شرَّفنا الله بالسبق إلى تحقيق ونشر - أو السعي إلى نشر- مؤلفاتٍ جليلةٍ وُضِعَت عليه؛ منها تقييد الزرويلي على التهذيب، وتكميل ابن غازي للتقييد، إضافةً إلى تعليقة الوانوغي على التهذيب، وتكملة المشدالي للتعليقة.

------------------------
(1) وَهِم بعض من ترجم للمؤلف- ومنهم صاحب الأعلام خير الدين الزركلي- فذهب إلى أن سنة وفاته هي 372هـ، ومَردُّ هذا الوهم إلى أن الزركلي اعتمد في تراجم أعلام المغرب على بطاقات كتب الخزانة العامة في الرباط، فخلط بين سنة الفراغ من تأليف "التهذيب" وسنة وفاة المؤلف، استناداً إلى قول البراذعي في خطبة كتابه: (وكان الفراغ من تأليفه سنة اثنين وسبعين وثلاثمائة).
قُلتُ: ومِن العَجَب أن يأتي على غلاف طبعة دار البحوث للدراسات الإسلامية بدبي، بتحقيق محمد الأمين ولد محمد سالم بن الشيخ، بعد اسم المؤلف -رحمه الله- ما نصه: (من علماء القرن الرابع الهجري)، وهذا يناقض ما نقله المحقق نفسه (في مقدمة التحقيق:1/124) من قول القاضي عياض: (لم يبلغني وقت وفاته)، ونقلَه عن الذهبي (في سير أعلام النبلاء: 17/523) أنه بقى إلى بعد ثلاثين وأربعمائة، فضلاً عما نقله من طرَّة صفحة العنوان لمخطوط "التهذيب" التي يحفظ أصلها في خزانة القرويين تحت رقم (40/320) ونصه: (مؤلفه البراذعي مات بالقيروان سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة، بعد موت ابن أبي زيد القيرواني باثنين وخمسين عاماً).
والجمع بين الأقوال يقتضي حمل قول عياض على أنه لم يبلغه – على وجه التحديد- وقت وفاته؛ وهذا مطلق يقيده ما ذكره الذهبي في السير، وما جاء في طرَّة المخطوط الذي فُرِغ من نسخه بعد أقل من قرن على سنة الوفاة الذي نُصَّ عليها في الطرة؛ فيصار إلى عدم ذِكر سنة وفاة المؤلف على سبيل الجزم، ولكن لا يبعد أن يكون في الربع الثاني من القرن الخامس الهجري، والله أعلم وأحكم.