أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم




وفيه بيان معنى الأمن، وأقسامه، وأصول الحياة الطيبة التي لا أمن للبشرية بفقدها، ولا تستقيم لها حياة بدونها.

1- معنى الأمن

2- أقسام الأمن

3- أصول الحياة الطيبة.

1- معنى الأمن:

أصل الأمن طمأنينة النفس وعدم خوفها، يقال: أمن، كَسَلِم. وأمن البلد: اطمأن به أهله.[تراجع مادة: (أ م ن) في كتب اللغة، كلسان العرب، ومفردات الأصفهاني، والمصباح المنير.]

والمراد بالأمن هنا اطمئنان الفرد والأسرة والمجتمع على أن يحيوا حياة طيبة في الدنيا، لا يخافون على أنفسهم وأموالهم وعقولهم ونسلهم، من الاعتداء عليها، أو على ما يتممها ويكملها.

وكذلك الاطمئنان على التمكن من سعيهم إلى كل ما يرضي ربهم، لينالوا الأمن في الآخرة بإحلال رضوانه عليهم، وينعموا بجزيل فضله وثوابه، والنجاة من عقابه.

هذا هو الأمن بمعناه الإجمالي: الأمن على الحياة الطيبة في الدنيا، والأمن على نيل رضا الله وثوابه، والنجاة من عقابه في الآخرة.


أقسام الأمن:

يتضح مما تقدم أن الأمن ينقسم قسمين:

القسم الأول: الأمن في الدنيا:

وهو الاطمئنان على ضرورات الحياة، وحاجياتها ومكملاتها، بحيث لا يعتدي أحد على تلك الضرورات وما يتبعها، بل يتعاون الناس الذين تربط بينهم علاقات الحياة المعيشية فيما بينهم على توفيرها، فإذا هم أحد بالاعتداء على شيء منها، وجد ما يزجره عنها من الزواجر التي وضعها الله تعالى، من العقاب الأخروي، أو العقاب الشرعي في الدنيا.

وهذا القسم من الأمن يحرص على تحقيقه جميع الأحياء من العقلاء، لأنه محسوس عاجل، والنفس مولعة بحب العاجل، فلا يقدم أحد على فعل يكون سبباً في فقد أمن نفسه، إلا لسببين:

السبب الأول: عدم علمه بأن ما يقدم عليه قد يكون سبباً في فقد أمنه، كمن يقدم على قتل نفس محرمة فيزهقها - خفية في ظنه - ثم يُكشف أمره، فينال جزاءه وهو القصاص.

السبب الثاني: أن يترجح عنده الإقدام والعزم على الدفاع عن أمنه، إذا أراد أحد أن يعتدي على نفسه أو عرضه أو ماله، فيدافع عن ذلك، حتى يقتل، سواء كان قتله في ميدان المدافعة ضد المعتدي، أم تحت تجبر طاغية استغل قوته في قتله؛ لأنه يرى أن دفاعه والمحافظة على شرفه وعزته، خير من المحافظة على حياة لا يتوفر له فيها الأمن الحق والحياة الحرة الطيبة.

والأمن الدنيوي الذي يرزقه الله الأمم، لا يدوم مع الكفر، بل يبدلها الله به الخوف والجوع والحياة النكدة والضنك، كما قال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل 112] وقد تتمتع بأمن غير كامل، بل توجد معه منغصات لا تطمئن معه في حياتها، وتقوى هذه المنغصات أو تضعف بحسب ما يتناسب مع حكمة الله في تدبير الناس لأشئون حياتهم.

ومن الأمم التي أعطاها الله الأمن، ثم بدلها به الخوف لكفرانها مشركو قريش، الذين قال تعالى فيهم: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش 3-4].

وعندما أصروا على كفرهم بعد بعثة الرسول صَلى الله عليه وسلم، ودعوته لهم، أبدلهم الله بالأمن خوفاً، وبالغنى فقراً، وبالشبع جوعاً، وسلط الله عليهم نبيه محمداً صَلى الله عليه وسلم، وأصحابه المؤمنين، فأخافوهم في بدر والأحزاب، ثم دخلوا عليهم مكة فاتحين آمنين منتصرين، وهم خائفون، وأيقنوا أنه لا أمن ولا طمأنينة لهم إلا بالدخول في الإسلام، ولهذا دخلوا في دين الله أفواجاً، فنالوا الأمن، وأصبحوا بدخولهم في دين الله سادة الدنيا وقادة أهلها.

ويدخل في هذا الأمن نهوض الأمة باتخاذ الأسباب التي تمكنها من النهوض بين الأمم في الأرض، كالصناعة والزراعة والتجارة، وغيرها مما يكسبها قوة تغنيها عن غيرها، وتحميها من أعدائها، هذا هو القسم الأول من أقسام الأمن في الحياة الدنيا.

القسم الثاني: الأمن الأخروي:

وهذا هو الأمن الحق؛ الذي إذا وفق الله له أمة من الأمم، وهيأ لها أسبابه، ووقاها من موانعه، فسعت لتحقيقه، تحقق لها معه أمن الدنيا أيضاً.

وأهم أسباب هذا الأمن: الالتزام بمنهاج الله وعبادته وحده لا شريك له، وعدم طاعة غيره في معصيته، كما قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} [النور 55].

فالأمة التي تؤمن بالله وتعمل صالحاً، فتعبد الله ولا تشرك به شيئاً، هي الأمة الجديرة بالاستخلاف والتمكين والأمن في الأرض، كما هي جديرة بالأمن التام يوم القيامة يوم الفزع الأكبر، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت 40].

فالنجاة من النار يوم القيامة، والتمتع بدخول الجنة ونعيمها وغرفاتها، هو الأمن الحق، كما قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} [الحجر 45-46].

وقال تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ 37].

هذا هو الأمن التام الذي لا يتحقق إلا بالخوف التام؛ أعني الخوف من الله تعالى وحده، والتوكل عليه وحده، وعدم الخوف من سواه، وهو الأمن الذي جادل به أبو الأنبياء - إبراهيم صَلى الله عليه وسلم - قومه، عندما خوفوه بآلهتهم. كما قال الله تعالى: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)} [الأنعام].

وبهذا يعلم أن الأمة التي تحوز الأمن التام في الدنيا والآخرة، هي أمة التوحيد والطاعة لله ولرسول الله صَلى الله عليه وسلم، وأن أي أمة تسعى للحصول على الأمن في الدنيا، أو في الآخرة، أو فيهما معاً، بغير ذلك، فسعيها ضرب من اللعب واللهو، وإن ابتلاها الله بما تظنه أمنا في ظاهره، فالعبرة بالنهايات، وليست بالبدايات، وتاريخ الأمم في أدواره شاهد على ذلك، ومنها الأمة الإسلامية التي مرت بأدوار متنوعة من الأمن والخوف والقوة والضعفـ والغنى والفقر، والشبع والجوع...

كما قال تعالى في الآيات السابقة: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}.

ومن أجل هذا الأمن أنزل الله كتبه، وبعث رسله، وخلق خلقه، وأعد جنته وناره. قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}[56].

{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [36].

مواقف غالب الأمم من أسباب الأمن الحقيقي:

ومع ذلك فإن أغلب الأمم التي تدعي أنها تنشد الأمن والرخاء والاستقرار، لا تسلك سبيل هذا القسم، بل إنها لتضع السدود أمام سالكيه، وتحاربهم، وتصد من أراد أن يستجيب لهم، يدل على ذلك قصص الأنبياء والرسل مع قومهم، وتاريخ الدعاة إلى الله مع الأجيال المتلاحقة.

اقرأ قصص الأنبياء مع قومهم، من نوح إلى محمد صلى الله عليهم وسلم أجمعين. وتأمل تاريخ الأمم إلى يومنا هذا، لترى أن أغلب تلك الأمم تسعى - في الواقع - جاهدة لتعاطي كل سبيل يوصلها إلى خوفها وهلاكها ودمارها، وسد كل باب يوصلها إلى أمنها واطمئنانها واستقرارها، على الرغم من دعواها السعي الجاد لنيل الأمن والاستقرار، ثم تتبع ما ذكر الله في كتابه من أن أكثر الناس ضالون مضلون فاسقون كافرون غير مؤمنين. كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ}[البقرة 243].

وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}[الأنعام 116]. وقال تعالى: {إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ}[هود 17]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً}[الفرقان 50]. وقال تعالى: {لِتُنذِرَ قَوْم مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}[يس 6-7].

وتأمل كيف يستهزئ الناس الذين يفقدون الأمن بدعاة الخير والأمن من الرسل، فينالون بذلك غاية التحسر والتندم. كما قال تعالى: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون}[يس 30]. وتأمل كذلك قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمْ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الحج 72]. بل إن أعداء الأمن يحاربون دعاة الأمن ويقتلونهم، كما قال تعالى: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ}[المائدة 70].

ومن هنا يتضح لنا ضرورة التربية الإسلامية التي لا يتحقق الأمن الحق في أي أمة إلا إذا تزكى أفرادها وأسرها ومجتمعها بتلك التزكية الربانية.{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}[الجمعة 2].

أصول الحياة الطيبة:

وهذه الأصول التي لا تكون الحياة طيبة بدونها، هي التي يسميها العلماء بالضرورات الخمس، وهي: الدين، والنفس، والنسل، والعقل، والمال، وبعضهم يضيف إليها ضرورة سادسة وهي: العرض. هذه الضرورات إذا لم تحفظها أي أمة، فإن بقاء تلك الأمة بقاء آمنا مستقرا من نوع المستحيلات، وشقاؤها ومعيشة ضنكها ونكدها في الدنيا من الواقعات المحققات، وفي الآخرة تنال أشنع الجزاء وأعظم العقوبات.

ولذا قال الإمام الشاطبي رحمه الله: "فأما الضروريات فمعناها أنها لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجرِ مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم، والرجوع بالخسران المبين" [الموافقات (2/8) بتحقيق الشيخ عبد الله دراز..]. هذا الفساد وهذا التهارج وفوت الحياة التي ذكرها الشاطبي نشاهدها اليوم بأم أعيننا في كثير من شعوب العالم، ومنها بعض الشعوب الإسلامية.

وإذا رجعنا إلى نصوص القرآن والسنة، وكتب الشريعة الإسلامية، وجدنا أن هذه الأصول التي لا حياة بدونها، هي الهدف الذي يجب أن يكون نشاط الإنسان كله متجهاً لحفظه، وحفظ ما يكمله أو درء ما يضعفه.

وفي كتب مقاصد الشريعة وكتب أصول الفقه ما يبين هذه الأصول ومكملاتها غاية البيان، وللكاتب مؤلف مستقل في إيضاح أمثلة كثيرة لهذه الضرورات، يمكن الرجوع إليه لمن أراد، فإنه يغني عن التطويل هنا، وهو بعنوان: الإسلام وضرورات الحياة [صدر عام 1406ﻫ عن مكتبة دار المجتمع في مدينة جدة..]

أثر التربية -تربية الفرد بالعلم النافع

المقصود بالعلم هنا هو هُدى الله تعالى الذي أوحاه إلى رسله عليهم السلام لهداية الناس، وقد أخبر الله تعالى نبيه آدم أبا البشر عليه السلام وزوجه حواء، وإبليس لعنه الله، عندما أهبطهم إلى الأرض، أنه باعث إليهم ذلك العلم، فمن اتبعه نجا في الدنيا والآخرة، ومن عصاه هلك فيهما. كما قال تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(39)} [البقرة].

وهو - أي العلم - الذي أخبر الله سبحانه أن من اتبعه نال السعادة ونجا من الضلال والشقاء، ومن أعرض عنه نزل به الضيق والشدة في الدنيا، ونال العقاب الشديد في الآخرة.
كما قال عز وجل: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى(126)} [طه].

قال ابن كثير رحمه الله عند تفسير هذه الآيات: "يقول تعالى مخبراً عما أنذر به آدم وزوجه وإبليس حين أهبطهم من الجنة، أنه سينزل الكتب ويبعث الأنبياء والرسل، كما قال أبو العالية: الهدى الأنبياء والرسل والبينات والبيان. قال مقاتل بن حيان: الهدى محمد صَلى الله عليه وسلم، وقال الحسن: الهدى القرآن، وهذان القولان صحيحان، وقول أبي العالية أعمّ.
{فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ} أي أقبل على ما أنزلت به الكتب وأرسلت به الرسل {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} أي فيما يستقبلونه من أمر الآخرة {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} على ما فاتهم من أمور الدنيا، كما قال في سورة طه: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى}.

قال ابن عباس: "فلا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة". {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}، كما قال ههنا: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [تفسير القرآن العظيم (1/82)، وانظر الكتاب نفسه (3/186).].

وهذا العلم؛ هو الذي ألهم الله خليله إبراهيم وابنه إسماعيل، أن يدعواه جلّ وعلا بأن يمنّ به على ذريتهما، الذين يخلفونهما في عمارة بيت الله الحرام، مع رسول يكرمهم الله به، ليتلوه عليهم، ويعلمهم إياه، ويطهرهم به، بحيث يعبدونه ولا يشركون به شيئاً.

كما قال تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ (130)} [البقرة]

قال ابن كثير رحمه الله: "يقول تعالى إخباراً عن تمام دعوة إبراهيم لأهل الحرم، أن يبعث الله فيهم رسولاً منهم؛ أي من ذرية إبراهيم، وقد وافقت هذه الدعوة المستجابة قدر الله السابق في تعيين محمد صلوات الله وسلامه عليه رسولاً في الأميين إليهم، وإلى سائر الأعجميين من الإنس والجن..." [تفسير القرآن العظيم (1/184).].

قلت: وقد أبان سبحانه في كتابه أنه بعث فيهم رسوله محمداً صَلى الله عليه وسلم، بكتابه لتعليمهم وتزكيتهم وتطهيرهم بالعمل الصالح، كما قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164)}[آل عمران].

وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2)} [الجمعة].

وبيّن النبي صَلى الله عليه وسلم، العلم النافع الذي هو كتاب الله وسنة رسوله، وضرب له مثلاً بالغيث الذي يسقي الله به الأرض، كما ضرب أمثلة لأقسام الناس في مقدار انتفاعهم بهذا العلم وعدمه، فقسّمهم ثلاثة أقسام:

القسم الأول: يعلم هدى الله ويهتدي به، ويهدي به غيره، وهم الذين يسعون في تحصيل هذا العلم ويعملون به ويدعون إليه، وضرب لهم مثلاً بالأرض الطيبة التي تقبل الماء وتنبت الكلأ والعشب الكثير.

والقسم الثاني: يسعون في تحصيل العلم، ولكن فقههم فيه أقل من القسم الأول؛ وكذلك عملهم، فهؤلاء ضرب لهم مثلاً بالأجادب من الأرض التي تمسك الماء فيسقي الناس منها ويشربون.

والقسم الثالث: لا يسعى في تحصيل العلم ولا العمل به، وضرب لهؤلاء مثلاً بالأرض السبخة التي لا تقبل الماء ولا تنبت الكلأ.

كما روى ذلك أبو موسى الأشعري رَضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلى الله عليه وسلم: (إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً، فكانت منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس، فشربوا منها وسقوا ورعوا، وأصاب طائفة منها أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله سبحانه ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به) [البخاري في العلم (1/28) ومسلم (4/2282)].

هذا هو العلم النافع الذي جاء من عند الله، فأثمر في صاحبه العمل الصالح الذي يرضي الله تعالى، وكل علم سواه فليس بنافع النفع الشامل لحياة الدارين، ما لم يكن خادماً له مؤدياً إلى ما يؤدي إليه.

قال الإمام الشاطبي رحمه الله: "العلم الذي هو العلم المعتبر شرعاً - أعني الذي مدح الله ورسوله أهله على الإطلاق - هو الباعث على العمل الذي لا يخلي صاحبه جارياً مع هواه كيفما كان، بل هو المقيد لصاحبه بمقتضاه الحامل له على قوانينه طوعاً وكرهاً" [الموافقات (1/34) تحقيق محمد محي الدين.].

وقال: قال سفيان الثوري: "إنما يتعلم العلم ليتقي به الله، وإنما فضل العلم على غيره لأنه يتقي الله به، وعن النبي صَلى الله عليه وسلم، أنه قال: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن خمس خصال -ـ وذكر فيها-: وعن علمه ماذا عمل فيه).

وعن أبي الدرداء: إنما أنا أخاف أن يقال لي يوم القيامة: أعلمت أم جهلت؟ فأقول: علمت، فلا تبقى آية من كتاب الله آمرة أو زاجرة إلا جاءتني تسألني فريضتها، فتسألني الآمرة: هل ائتمرت؟ والزاجرة: هل ازدجرت؟ فأعوذ بالله من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن دعاء لا يسمع". [انتهى كلام الشاطبي، من الموافقات (1/29 - 30، وحديث: "لا تزولا..." في سنن الترمذي: 4/612 من حديث ابن برزة t، وقال: هذا حديث حسن صحيح.، وصححه الشيخ الألباني]

وأوضح ابن القيم رحمه الله أن العلم النافع هو العلم الذي تطيب به الحياة وينشرح به الصدر، وهو الموروث عن النبي صَلى الله عليه وسلم، فقال: "ومنها - أي من أسباب شرح الصدر - العلم، فإنه يشرح الصدر ويوسعه، حتى يكون أوسع من الدنيا، والجهل يورثه الضيق والحصر والحبس، فكلما اتسع علم العبد انشرح صدره واتسع، وليس هذا لكل علم، بل للعلم الموروث عن رسول الله صَلى الله عليه وسلم ، وهو العلم النافع، فأهله أشرح الناس صدراً وأوسعهم قلوباً وأحسنهم أخلاقاً وأطيبهم عيشاً..." [زاد المعاد (2/24).].

قلت: من أهم أسباب انشراح صدر العالم بالعلم النافع صحة تصوره لما ينفعه وما يضره؛ لأنه بذلك يصبح سيره في الدنيا مبنياً على علم بالطريق الآمن الذي يحقق له السعادة، فهو يسلكه راضياً مطمئناً، ولو حصل له بسلوكه ضرر مؤقت، فإنه يعلم حسن عاقبته، كما أنه على علم بالطريق المخوف الذي فيه شقاؤه، فلا يسلكه وإن كان فيه نفع مادي ولذة مؤقتة.

والجاهل بخلافه يضيق صدره، وإن بدا سعيداً، لأنه محجوب الرؤية عن سبيل سعادته وسبيل شقائه، فيسلك سبيل الشر ظاناً أنه ينتفع به، فينكشف له عكس ذلك مرة بعد مرة، وهو لا يتعظ ولا يفيق، وكلما وقع في شرّ ضاق صدره، قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)} [الأنعام] وقال تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (22)} [الزمر]