أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم





الهدف الرئيس من الجهاد، هو إعلاء كلمة الله، وسيأتي الكلام على أهداف الجهاد في موضعه من هذا البحث، فإذا أظهر بعض الكفار المحاربين أثناء المعركة كلمة الإسلام "الشهادتين" أو قال: أنا مسلم أو حياهم بتحية الإسلام، وجب على المسلمين الكف عنه وعدم قتله أو قتاله.

وهذا من محاسن الإسلام الذي يوجب على المسلم، أن يكف عن عدوه، وهو في حالة تشتد رغبته، في فصل رأسه عن بدنه، عليه، في وقت مقارعة السيوف، وقد يكون الذي أظهر الإسلام ممن أعمل سلاحه في المسلمين، وهم يتمنون أن يشفوا صدورهم منه، ويجوز أن يكون في واقع الأمر غير معتقد ما أظهره، وإنما أراد أن يخلص نفسه من القتل، ومع ذلك أوجب الله على المسلمين العمل بالظاهر والتثبت من الحقيقة.

كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا، ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة، كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيراً} [النساء: 94].

وفي الآية تذكير للمؤمنين بأن نعمة الإيمان هي نعمةٌ مَنَّ الله بها عليهم، وقد كانت هذه النعمة قبل أن يمن عليهم بها مفقودة فيهم، والذي من عليه بنعمة الإسلام، قادر أن يمن على عدوهم في لحظة القتال، فلا ينبغي أن يستبعد المسلمون أن يهدي الله عدوهم للإسلام في تلك اللحظة.
ولا يجوز لهم أن يتأولوا أن ذلك إنما حصل إتقاء للقتل، فالهداية بيده سبحانه {إنك لا تهدي من أحببت ولكن اله يهدي من يشاء} [سورة القصص: 56].

فقد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنْهما، قال: "لقي ناس من المسلمين رجلاً في غنيمة له، فقال: السلام عليكم، فأخذوه فقتلوه، وأخذوا تلك الغنيمة، فنزلت: {ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا...} [النساء: 94] [والحديث رواه البخاري رقم الحديث 4591، فتح الباري (8/258) ومسلم (4/2319) رقم الحديث 3024، واللفظ لمسلم].

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وفي الآية دليل على أن من أظهر شيئاً من علامات الإسلام، لم يحل دمه حتى يُختَبر أمرُه، لأن السلام تحية المسلمين، وكانت تحيتهم في الجاهلية بخلاف ذلك، فكانت هذه علامة، وأما على قراءة السَّلْم – على اختلاف ضبطه - فالمراد به الانقياد، وهو علامة الإسلام، لأن معنى الإسلام في اللغة الانقياد، ولا يلزم من الذي ذكرته الحكمُ بإسلام من اقتصر على ذلك وإجراء أحكام المسلمين عليه، بل لا بد من اللفظ بالشهادتين.." [الفتح (8/259)].

وقال الإمام ابن جرير عند تفسير الآية الآنفة الذكر: {فتبينوا}: "يقول فتأنوا في قتل من أشكل عليكم أمره، فلم تعلموا حقيقة إسلامه، ولا كفره، ولا تعجلوا فتقتلوا من التبس عليكم أمره، ولا تقدموا على قتل أحد، إلا على قتل من علمتموه يقيناً حرباً لكم ولله ولرسوله". [جامع البيان عن تأويل آي القرآن (5/221)].

قال القرطبي رحمه الله في تفسيره: "والمسلم إذا لقي الكافر ولا عهد له، جاز له قتله، فإن قال: لا إله إلا الله لم يجز قتله، لأنه قد اعتصم بعصام الإسلام المانع من دمه وماله وأهله، فإن قتله بعد ذلك قتل به. وإنما سقط القتل عن هؤلاء ـ يعني بعض الصحابة الذين قتلوا من ألقى إليهم السلام ـ لأجل أنهم كانوا في صدر الإسلام، وتأولوا أنه قالها متعوذاً وخوفاً من السلاح، وأن العاصم قولها مطمئناً، فأخبر النبي صَلى الله عليه وسلمأنه عاصم كيفما قالها.
ولذلك قال لأسامة: (أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا)؟ أخرجه مسلم [ (1/96)] أي تنظر أصادق هو في قوله أم كاذب؟ وذلك لا يمكن، فلم يبق إلا أن يبين عنه لسانه، وفي هذا من الفقه باب عظيم، وهو أن الأحكام تناط بالمظان والظواهر، لا على القطع وإطلاع السرائر " [الجامع لأحكام القرآن (5/338)].

عدم إفساد الأموال:

ليس في الأرض من يعمل صالحاً يرضاه الله ويثيبه عليه إلا المؤمن، كما قال تعالى: {فأما الذين كفروا فأعذبهم عذاباً شديداً في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين، وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم والله لا يحب الظالمين} [آل عمران: 56-57].

ومهما قدم غير المؤمن من الأعمال النافعة المفيدة، فإنه لا أجر له عند الله، لأن عمله ليس صالحا في ميزان الله، لعدم وجود الأساس الذي يكون العمل به صالحاً، قال تعالى: {ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن، فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيراً} [النساء: 124].

وهم – أي المؤمنون - وحدهم الذين لا يضيع أجرهم، لأنهم وحدهم المصلحون: {والذين يمسِّكون بالكتاب، وأقاموا الصلاة، إنا لا نضيع أجر المصلحين} [الأعراف: 170].

والسبب في ذلك أنهم لا يقدمون على عمل، إلا إذا علموا أن الله تعالى قد أذن فيه أو أمر به أو سكت عنه، كما أنهم يبتعدون كل الابتعاد عن أي أمر يغضب اللهَ فعلُه، ملتزمين بكتاب الله وسنة رسوله صَلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا، واتقوا الله إن الله شديد العقاب} [الحشر: 7].

وقد ادعى غير المؤمنين لأنفسهم الإصلاح، فكذبهم الله وأكد أنهم هم المفسدون، كما قال تعالى: {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون، ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون} [البقرة: 11-12].

والمؤمنون يقدمون ما يحبه الله، ولو كرهته نفوسهم، لعلمهم أن الخير فيما يحبه الله {كتب عليكم القتال وهو كره لكم، وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم، والله يعلم وأنتم لا تعلمون} [البقرة: 216].

لا يختارون غير ما قضى الله فيه من أمرهم، هرباً من معصيته والضلال عن سبيله: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم، ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً} [الأحزاب: 36].

وبناء على ذلك فإن المسلمين حقاً يعتبرون عمارة الأرض وإصلاحها عبادة لله تعالى، لأنهم ما خلقوا إلا لذلك: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون، ما أريد منهم من رزق ما أريد أن يطعمون، إن الله هو الرازق ذو القوة المتين} [الذاريات: 56-58].

حياتهم كلها لله، كموتهم: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين} [الأنعام: 163-1674].

ولا يقدمون على ما ظاهره الإفساد مما يعيبهم به المفسدون فعلاً، إلا إذا كان الله قد أذن لهم فيه، لأنه يؤدي إلى الإصلاح، بل عملهم ذلك يعتبر إصلاحاً: {ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمةً على أصولها فبإذن الله، وليخزي الفاسقين} [الحشر: 5].

بعد هذه المقدمة التي لا بد منها والتي تحدد سلوك المسلمين في كل شيء – ولا سيما في معاملة الأعداء في أنفسهم وأموالهم - يُسأل هذا السؤال هل يجوز للمجاهدين المسلمين تدمير بيوت المحاربين وإتلاف أموالهم والتمثيل بجثثهم؟

الأصل عدم التدمير والإتلاف:

يتضح مما مضى أن الأصل عدم مشروعية التخريب والإتلاف، للحيوانات والزروع والمنازل وغيرها، لأن المقصود هو القضاء على شوكة أعداء الإسلام، وشفاء صدور المؤمنين منهم، وإغاظتهم، فإذا حصل ذلك بدون تخريب ولا إتلاف كان بها، وإلا فإن للجيش الإسلامي أن يخرب ويتلف كلما لا يتم الانتصار على العدو إلا بتخريبه وإتلافه، كالبيوت التي يتحصنون بها، وحرق الأشجار التي يندسون فيها، أو ما يوقع الغيظ في نفوسهم، ويجعلهم يخرجون للدفاع عنه، ليتمكن المجاهدون من قتالهم والقضاء على شوكتهم.

وقد ذكر المفسرون في سبب نزول الآية قولين:

القول الأول: إنه صَلى الله عليه وسلم عندما قطع نخل بني النضير، عابه هؤلاء، واتهموه بأنه ينهى عن الفساد ويأتيه، فنزلت الآية.

القول الثاني: إن بعض الصحابة قطع النخل، وبعضهم توقف، ورأى أنه لا يسوغ القطع، لأنه مغنم للمسلمين، فنزلت الآية مبيحة فعل القاطعين، وتوقف الكارهين. [يراجع تفسير الطبري 28/34]

وعلى القول بإباحة ذلك الحنفيون، والمالكيون – في قول – والشافعيون، وأدلتهم واضحة فيما تقدم.

قال السرخسي رحمه الله: "ولا بأس بأن يحرقوا حصونهم ويغرقوها، ويخربوا البنيان، ويقطعوا الأشجار – إلى أن قال -: ثم الدليل على جوازه ما ذكره الزهري رحمه الله تعالى أن النبي صَلى الله عليه وسلمأمر بقطع نخيل بني النضير، فشق ذلك عليهم، حتى نادوه: ما كنت ترضى بالفساد يا أبا القاسم، فما بال النخيل تقطع؟! فأنزل الله {ما قطعتم من لينة أو تركتموها على أصولها} الآية ". [المبسوط 10/31، وحواشي تحفة المحتاج 9/245]

وذهب الحنبليون إلى عدم جواز ذلك، واستدلوا بعموم النهي عن الإفساد، كما قوله تعالى: {وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد} [البقرة 205]

واستدلوا بنهي أبي بكر رضي الله عنْه، عندما أوصى يزيد بن أبي سفيان، فقال: "لا تقطعوا شجرا، ولا تخربوا، ولا تفسدوا ضرعاً" [المغني لابن قدامة (9/289) وقال: "[قال في قول عامة أهل العلم] والمبسوط للسرخسي (10/31)]

وأيد ابن حزم الظاهري المذهب الأول، ورد استدلال أهل المذهب الثاني بنهي أبي بكر، فقال: "وجائز تحريق أشجار المشركين وأطعمتهم وزرعهم ودورهم وهدمها. قال تعالى: {ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين}.

وقال تعالى: {ولا يطؤون موطئاً يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح} [التوبة: 120].

وقد أحرق النبي صلى الله عليه وسلم نخل بني النضير... وقد روينا عن أبي بكر رضي الله عنْه: لا تقطعن شجراً مثمراً، ولا تخربن عامراً. ولا حجة في أحد مع رسول الله صَلى الله عليه وسلم. وقد ينهى أبو بكر عن ذلك اختياراً، لأن ترك ذلك أيضا مباح، كما في الآية المذكورة..." [المحلى 7/294]

وهناك مذهب ثالث يفصل الأمر كما يأتي: إن علم المسلمون أن ديار العدو وأشجاره وغيرها عائدة للمسلمين، فليس لهم إحراقها ولا إتلافها، وإن يئسوا منها فلهم ذلك. [يراجع تفسير القرطبي 18/8] وهو تفصيل لا دليل عليه، بل الدليل على خلافه، كما قال ابن حزم في نخل بني النضير: "وقد علم أنها تصير للمسلمين في يومه وغده". [المحلى 7/294]

وبمراجعة الأقوال السابقة ووجوه استدلال أصحابها، يظهر رجحان القول بتخريب وتدمير ما في بقائه فائدة للمسلمين، أو استبدون ضرر منه عليهم، سواء كانت الاستفادة الاحتماء به، أم التزود منه أكلا أو شربا أو غير ذلك، وما ادُّعيَ من أن في ذلك إفساداً غير جائز دعوى مردودة، لأن ما أذن الله في فعله لا يعد فسادا في ميزان الشرع، وبخاصة إذا كان ذلك وسيلة للظفر بالأعداء والانتصار عليهم.


حكم قتل دواب الكفار المحاربين:


أما دواب الكفار كالبقر والإبل والغنم والخيل والبغال والحمير، فللعلماء فيه ثلاثة مذاهب:

المذهب الأول: عدم جواز قتل الدواب، إلا ما يقاتل عليه الكفار، كالخيل ونحوها، لما ورد من النهي عن قتل الحيوان صبراً، ولنهي أبي بكر رضي الله عنْه: "ولا تعقرن شجراً مثمراً، ولا دابة عجماء، ولا شاة إلا لمأكلة.." [تكملة المجموع للعقبي 18/79، والمغني لابن قدامة 9/289، والمبسوط للسرخسي 10/37]

المذهب الثاني: وجوب ذبح الدواب وحرقها معاً، حتى لا يتقوى بها المشركون، ولما في ذلك من الإغاظة لهم، وهي مطلوبة شرعاً.

المذهب الثالث: وجوب قتل ما عجز المسلمون عن الانتفاع به، ويحرق ندباً، إن خيف من انتفاع المحاربين الكفار به، لأن في تركه بدون ذبح أو إحراق إعانة لهم، وفي ذبحه وإحراقه حرمان لهم من الانتفاع به. [حاشية الدسوقي 2/181]

والراجح عدم جواز القتل إلا في ثلاث حالات:

الحالة الأولى: أن يكون المسلمون في حاجة إلى الأكل، فلهم أن يذبحوا ما يحتاجون إليه من الحيوان المباح لهم، كالبقر والإبل والغنم.

الحالة الثانية: أن يكون الحيوان مما يستعين به الكفار على المسلمين في القتال، كالخيل التي يقاتلون عليها فعلاً.

الحالة الثالثة: أن يكون الحيوان مأذوناً في قتله شرعاً، كالخنزير، وهذا ما رجحه ابن حزم وساق أدلته. [المحلى 7/294-296].

عدم جواز قتل المشركين بالنار و التمثيل بجثثهم.

الظفر بالعدو أمر تتوق له النفس، والانتقام منه كذلك أمر ينزل البرد على القلوب.

وعندما يكون الظافر صاحب حق، ولا حق سوى الإسلام، والعدو صاحب باطل، وأعظم الباطل هو الكفر، وعندما يكون هذا العدو الكافر قد عاند الحق وجحده، وآذى المؤمن به، ولم يرع في حقه عهداً ولا قرابة، عندما يكون الظافر هو المسلم المظلوم، والمظفور به هو الكافر الظالم، تكون مسوغات الانتقام في قمة الحجة والبرهان.

وهنا تتوق النفس إلى استعمال أشد الأساليب انتقاماً، أليس للمسلم الحق أن يقتل الكافر المحارب الذي لم يأل جهداً في التنكيل بالمسلم وفتنته وإيذائه؟ وإذا كان للمسلم الحق في قتل هذا الكافر أيقتله بوسيلة سهلة، لا يذوق بها العذاب الذي أذاق المسلم ما قد يكون أشد منه؟

فتتجاوب العواطف طالبة قتله بأشد أساليب القتل، ولعل حر النار أشفى لقلب المسلم عندما يراها تلتهم كل جزء من أجزاء بدن عدوه الكافر، فليكن قتله بالنار، هو الشافي.

ولقد تحركت مشاعر رسول الله صَلى الله عليه وسلم البشرية على رجلين من كفار قريش كانا شديدي العداوة له والإيذاء والصد عن سبيل الله، كما يظهر من العقوبة التي أمر بها في حقهما في أول الأمر، أمر أصحابه، إذا وجدوهما أن يحرقوهما بالنار، اجتهاداً منه صَلى الله عليه وسلم، فلم يقره ربه على ذلك، فرجع قبل التنفيذ ونهى عن الإحراق بالنار، معللاً بأن ذلك من شأن الله وليس من شأن خلقه، ولو كان رسوله صَلى الله عليه وسلم.

فعن أبي هريرة رضي الله عنْه، قال: "بعثنا رسول الله صَلى الله عليه وسلمفي بعث، فقال: (إن وجدتم فلاناً وفلاناً، فأحرقوهما بالنار) ثم قال رسول الله صَلى الله عليه وسلم حين أردنا الخروج: (إني أمرتكم أن تحرقوا فلاناً وفلاناً، وإن النار لا يعذب بها إلا الله، فإن وجدتموهما فاقتلوهما) [البخاري في الصحيح، الحديث رقم: 3016،فتح الباري (6/149)، وكذا (12/274)].

قال الحافظ: "واختلف السلف في التحريق: فكره ذلك عمر وابن عباس وغيرهما مطلقاً، سواءً كان ذلك بسبب كفر أو في حال مقاتلة أو كان قصاصاً. وأجازه علي وخالد بن الوليد وغيرهما... إلى أن قال: وأما حديث الباب فظاهر النهي فيه التحريم، وهو نسخ لأمره المتقدم سواءً كان بوحي إليه أو باجتهاد منه. أ. هـ" [الفتح (6/150)].

والذي يظهر أن علياً رضي الله عنْه لم يبلغه النهي عن الإحراق بالنار للعدو الكافر، فأحرق بعض الكفار في عهده، كما ثبت أيضاً في الصحيح عن عكرمة، أن علياً رضي الله عنْه حرق قووماً فبلغ ابن عباس، فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم، ولقتلهم كما قال النبي صَلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه) [البخاري رقم الحديث 3017، فتح الباري (6/149)].

ولكنه رضي الله عنْه عندما بلغه كلام ابن عباس، ندم ندماً يدل على رجوعه عن ذلك، حيث جاء في رواية – في غير الصحيح – (قال فبلغ قول ابن عباس علياً، فقال: ويح ابن عباس) [هذا على رأي من قال أن (ويح) هنا للمدح والتعجب، ومعناه أن علياً قالها رضاً بما بلغه عن ابن عباس حيث حفظ ما نسيه، وانظر فتح الباري (12/271-272) والرواية المذكورة في سنن أبي داود رقم الحديث4351 (4/520)، وفي المسند (1/282) وقد أورد الإمام عبد الرزاق الصنعاني الرواية المذكورة في المصنف (5/2130)].

والراجح عدم جواز الإحراق بالنار للنهي الصريح الوارد في هذه النصوص، فليقتل العدو بما أذن الله فيه، وليصلَ نار جهنم التي أعدها الله له، والتي {وقودها الناس والحجارة} [البقرة: 24، والتحريم: 6].

هذا في القتل ابتداءً، أما إذا حرق العدو الكافر مسلماً، فقد أشار الإمام البخاري رحمه الله إلى أنه يمكن استنباط مشروعية حرق الكافر، من حديث العُرَنِييّن الذين استاقوا إبل النبي صَلى الله عليه وسلموقتلوا راعيها، قال رحمه الله: باب إذا حرق المشرك المسلم هل يحرق؟ وأورد حديث أنس رضي الله عنْه: "إن رهطاً من عُكْلٍ ثمانية، قدموا على النبي صَلى الله عليه وسلم، فاجتووا المدينة، فقالوا: يا رسول الله أبغنا رسلاً، قال: (ما أجد لكم إلا أن تلحقوا بالذود، فانطلقوا فشربوا من أبوالها، حتى صحوا وسمنوا، وقتلوا الراعي، واستاقوا الذود، وكفروا بعد إسلامهم، فأُتِيَ النبيُّ صَلى الله عليه وسلم، فبعث الطلب، فما ترجل النهار حتى أتِيَ بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم، ثم أمر بمسامير فأحميت فكحلهم بها، وطرحهم في الحرة يستسقون فما يسقون، حتى ماتوا" [صحيح البخاري رقم الحديث 3018، فتح الباري (6/153) والرسل الدَّر من اللبن] والشاهد في الحديث قوله: (ثم أمر بمسامير فأحميت فكحلهم بها).

قال الحافظ [الفتح (6/153)]:"وليس فيه التصريح بأنهم فعلوا ذلك بالرعاء، لكنه أشار إلى ما ورد في بعض طرقه، وذلك فيما أخرجه مسلم من وجه آخر عن أنس، قال: إنما سمل النبي صَلى الله عليه وسلم أعين العرنيين، لأنهم سملوا أعين الرِّعاء" [مسلم (3/1298) رقم 1671، ونصه: "إنما سمل النبي صَلى الله عليه وسلمأعين أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاء"].

وقال النووي: "قال القاضي عياض رضي الله عنْه: واختلف العلماء في معنى حديث العرنيين هذا، فقال بعض السلف: كان هذا قبل نزول الحدود وآية المحاربة والنهي عن المثلة، فهو منسوخ، وقيل ليس منسوخاً" [شرح النووي على صحيح مسلم [11/153]

والذي يظهر عدم جواز الإحراق، ولو كان على سبيل القصاص، وذلك لثلاثة أمور:

الأمر الأول: تصريح النبي صَلى الله عليه وسلمبالنهي عن الإحراق بالنار.

الأمر الثاني: تصريحه صَلى الله عليه وسلمأن النار لا يعذب بها إلا الله.

الأمر الثالث: أن حديث أنس متأخر عن حديث أبي هريرة رضي الله عنْهما، وحديث أبي هريرة فيه جواز الإحراق، ولو جزئياً، وحديث أنس فيه النهي عن الإحراق بالنار، مع ذكر العلة وهي أن الإحراق بالنار لا يكون إلا لله، والنهي يأتي بعد الإباحة.

وقد ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله اختلاف العلماء في المسألة، فقال: "ومال جماعة، منهم ابن الجوزي، إلى أن ذلك وقع عليهم على سبيل القصاص، لما عند مسلم: إنما سمل النبي صَلى الله عليه وسلمأعينهم لأنهم سملوا أعين الرعاة...

وذهب آخرون إلى أن ذلك منسوخ، قال ابن شاهين، عقب حديث عمران بن حصين في النهي عن المثلة: هذا الحديث ينسخ كل مثلة، وتعقبه ابن الجوزي بأن ادعاء النسخ يحتاج إلى تاريخ، قلت: يدل عليه ما رواه البخاري في الجهاد من حديث أبي هريرة في النهي عن التعذيب بالنار بعد الإذن فيه، وقصة العرنيين قبل إسلام أبي هريرة وقد حضر الإذن ثم النهي" [فتح الباري (1/240-141)].