أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم





ومن آداب الجهاد: الخيلاء في المعركة: أي تبختر المجاهد المسلم في ساحة القتال إشعاراً للعدو بعلو الهمة، والشجاعة، واستقبال الموت في سبيل الله برباطة جأش وسكينة نفس، وفي ذلك ما فيه من الإغاظة والإرهاب للعدو، وإغاظة العدو وإرهابه عبادة يكتبها الله للمجاهدين، ويعدها من إحسانهم.
كما قال تعالى: {ما كان لأهل المدينة ومن حولها من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله، ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه، ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله، ولا يطئون موطئاً يغيظ الكفار، ولا ينالون من عدو نيْلاً؛ إلا كتب لهم به عملٌ صالحٌ، إن الله لا يضيع أجر المحسنين} [التوبة: 120].

وللخيلاء صورتان:

الصورة الأولى: إظهار التجلد للعدو، حتى ولو كان المجاهد ضعيفاً لمرض أو جوع أو عطش أو كبر أو غير ذلك، ليبدو للعدو قوياً فيهابه. يدل على هذا أمر النبي صلّى الله عليه وسلم أصحابه، أن يسرعوا في طوافهم بالبيت، عند قدومهم لأداء العمرة في عمرة القضاء، وقد قال المشركون: أضعفتهم حمى يثرب، ليعلم المشركون أن الصحابة أقوياء وليسوا ضعفاء.

كما في حديث ابن عباس رَضي الله عنه ما قال: "قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم وقد وهنهم حمى يثرب، فأمرهم النبي صلّى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا ما بين الركنين، ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم" [البخاري، رقم الحديث 1602، فتح الباري (3/ 469)، ومسلم (2/923)].

وقوله: "ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم" يدل على أن الرمل في الثلاثة أشواط كلها من الحجر إلى الحجر هو السنة، وإنما خفف الرسول صلّى الله عليه وسلم على أصحابه فلم يأمرهم بالرمل بين الركنين، وقد بينت ذلك رواية جابر بن عبد الله لصفة طوافه صلّى الله عليه وسلم في حجة الوداع، إذ قال جابر: "رمل الثلاثة أطواف من الحجر إلى الحجر". [مسلم (2/921)].

قال الإمام النووي رحمه الله في تعليقه على رواية جابر هذه: "فيه بيان أن الرمل يشرع في جميع المطاف من الحجر إلى الحجر، وأما حديث ابن عباس المذكور بعد هذا بقليل، قال: وأمرهم النبي صلّى الله عليه وسلم أن يرملوا ثلاثة أشواط ويمشوا ما بين الركنين فمنسوخ بالحديث الأول – يعني حديث جابر - لأن حديث ابن عباس كان في عمرة القضاء سنة سبع قبل فتح مكة، وكان في المسلمين ضعف في أبدانهم، وإنما رملوا إظهاراً للقوة، واحتاجوا إلى ذلك في غير ما بين الركنين اليمانيين، لأن المشركين كانوا جلوساً في الحجر [بكسر الحاء وسكون الجيم] وكانوا لا يرونهم بين هذين الركنين، ويرونهم فيما سوى ذلك" [شرح النووي على مسلم (9/9)].

وقول النووي رحمه الله في حديث ابن عباس أنه منسوخ بحديث جابر، لا داعي له، لأنه صرح في حديث ابن عباس نفسه أنه ما منع رسول الله صلّى الله عليه وسلم من أمرهم بالرمل في الطواف كله، إلا الإبقاء عليهم، ومعنى هذا أن ضعفهم كان سبباً في التخفيف عنهم، بل إنه يفهم من حديث ابن عباس شيء آخر، وهو أن أمرهم بالرمل فيما دون ما بين الركنين مع ضعفهم، كان من أجل إظهار قوتهم لعدوهم وإشعار العدو بأن ما توهموه من ضعف الصحابة غير صحيح، ولولا ذلك لرخص لهم في ترك الرمل أصلاً، وهو مستحب كما صرح النووي بقوله: (باب استحباب الرمل في الطواف والعمرة) [9/6].

وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح: "ويؤخذ منه جواز إظهار القوة بالعدة والسلاح، ونحو ذلك للكفار إرهاباً لهم، ولا يعد ذلك من الرياء المذموم" [الفتح (3/470)].

وهذا وإن لم يكن أثناء الحرب في المعركة، فإن دلالته باعتبار أن حالة الحرب كانت قائمة بين الإسلام والشرك، وهذه العمرة كانت في وقت هدنة ومصالحة.

الصورة الثانية: أن يختال في مشيته أمام عدوه، ويتبختر تبختراً يظهر به عزته على العدو: {أعزة على الكافرين} [المائدة: 54].

ففي حديث جابر بن عتيك أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يقول: (من الغيرة ما يحب الله، ومنها ما يبغض الله، فأما التي يحبها الله عز وجل فالغيرة في الريبة، وأما التي يبغضها الله في غير ريبة، وإن من الخيلاء ما يبغض الله، ومنها ما يحب الله، فأما الخيلاء التي يحب الله فاختيال الرجل بنفسه عند القتال، واختياله عند الصدقة، وأما التي يبغضها الله عز وجل فاختياله في البغي)، قال موسى: والفخر. [مسند الإمام أحمد (5/445) وسنن النسائي (5/58) وسنن الترمذي رقم الحديث 2642 تحفة الأحوذي (7/320) واللفظ للترمذي ما عدا لفظة: (بنفسه) فهي في المسند والنسائي، ولفظها في الترمذي: (فاختيال الرجل نفسه) بدون باء، وسنن أبي داود رقم الحديث 114 (3/114)].

وقد ذم الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم الخيلاء في غير الحرب، كما قال تعالى: {ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحاً إن الله لا يحب كل مختال فخور} [لقمان: 18].

وفي حديث ابن عمر رَضي الله عنه ما، يقول: "سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: (من تعظم في نفسه أو اختال في مشيته لقي الله وهو عليه غضبان) [مسند الإمام أحمد (2/118)].

وفي سيرة ابن هشام، عن رجل من الأنصار من بني سلمة، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم حين رأى أبا دجانة يتبختر: (إنها لمشية يبغضها الله، إلا في مثل هذا الموطن) [السيرة النبوية (3/19)].

قال في مجمع الزوائد: "وعن خالد بن سليمان بن خالد بن عبد الله بن خالد بن سماك بن خرشة عن أبيه عن جده، أن أبا دجانة يوم أحد أعلم بعصابة حمراء، فنظر إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهو يختال في مشيته بين الصفين، فقال: (إنها مشية يبغضها الله إلا في هذا الموضع) رواه الطبراني، وفيه من لم أعرفه" [مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (6/109)] ا هـ.

وذكر هذا الحديث الضعيف بهذا السند، وكذا الرواية التي قبله المذكورة في السيرة النبوية، المقصود منه تفسير الاختيال المشروع والاختيال الممنوع في حديث جابر بن عتيك.

ومشروعية الاختيال في هذا الموضع، مخصصة للحظر العام الوارد في النصوص الأخرى مثل الآية السابقة {إن الله لا يحب كل مختال فخور...}.

وحديث أبي هريرة رَضي الله عنه ، ورأى رجلاً يجر إزاره، فجعل يضرب الأرض برجله، وهو أمير على البحرين، وهو يقول: جاء الأمير، جاء الأمير، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى من يجر إزاره بطراً) [صحيح مسلم (3/1653)].

ولقد حفظ عمر بن الخطاب لمن خطر واختال على أعداء الله في المعركة، حقه بعد استشهاده، فأكرم من أجل ذلك ابنه، وفضله على غيره معللاً ذلك التفضيل بتلك المزية التي يحبها الله ورسوله في ذلك المقام.

فعن زيد بن أسلم أن عمر بن الخطاب رَضي الله عنه لما فرض للناس: "فرض لعبد الله بن حنظلة ألفي درهم، فأتاه طلحة بابن أخ له، ففرض له دون ذلك، فقال: يا أمير المؤمنين: فضلت هذا الأنصاري على ابن أخي؟ قال: نعم لأني رأيت أباه يستن يوم أحد بسيفه كما يستن الجمل" [الجهاد لابن المبارك (1/74)، ونقل المحشي عن النهاية (2/186) أن معنى يستن يمرح ويخطر].

عدم الخروج من معسكر المجاهدين بدون إذن الأمير:

وجوب طاعة المجاهد لأميره، من الأمور البدهية في الإسلام، وسيأتي الكلام عن ذلك في موضعه إن شاء الله، في فصل: صفات المجاهدين، وفي فصل عوامل النصر وعوامل الهزيمة.

ومن طاعة الأمير عدم الخروج من معسكر المجاهدين بدون إذنه، لما في ذلك من عدمن الالتزام بطاعته من جهة، ولما فيه من المحاذير التي قد يلحق ضررها الجنود الذين لم يستأذنوا، والجيش الإسلامي كذلك.

فقد يقع الجندي المسلم في كمين من مقاتلي العدو، فيقتلونه أو يأسرونه، وقد يعذبونه حتى يدلهم على مواقع الجيش الإسلامي، وعددهم، وما عندهم من قوة أو ضعف في العتاد، وفي ذلك ما فيه من ضرر على الجندي الذي خرج بدون استئذان وعلى أمته.

وليس الأمر كذلك إذا خرج بإذن من قائده، فإن القائد سينصحه بما يجب عليه عمله، وقد يأمر بأن يصحبه من يحميه من كمائن العدو، وغير ذلك من الأمور الاحتياطية التي لا تتوافر للفرد وحده.

ولهذا كان من أهم صفات المؤمن الدالة على قوة إيمانه، عدم ذهابه بدون إذن أميره، في الأحوال التي تستدعي ذلك، كما قال سبحانه: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله، فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم إن الله غفور رحيم} [النور: 62].

فقد حصر الله تعالى في مطلع هذه الآية الكريمة المؤمنين فيمن اتصفوا بالإيمان به وبرسوله، وبعدم الذهاب بدون إذنه إذا كانوا معه على أمر جامع، كما جعل الاستئذان في وسط الآية من علامة الإيمان به وبرسوله، وجعل تعالى الرسول صلّى الله عليه وسلم مخيرا في آخر الآية في الإذن لمن شاء، مع الاستغفار لمن أذن له، لما في استئذانه من تركٍ للشأن العام الذي تعود مصلحته لعامة المسلمين، بخلاف شأنه الخاص، مهما كانت أهميته.

قال ابن جرير رحمه الله في تفسير هذه الآية: "يقول تعالى ذكره: ما المؤمنون حق الإيمان إلا الذين صدقوا الله ورسوله. {وإذا كانوا معه على أمر جامع} يقول: وإذا كانوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم {على أمر جامع} يقول على أمر يجمعهم جميعا، من حرب حضرت، أو صلاة اجتمع لها، أو تشاور في أمر نزل (لم يذهبوا) يقول لم ينصرفوا عما اجتمعوا له من الأمر، حتى يستأذنوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم – إلى أن قال -: "

وقوله: {إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله} يقول تعالى ذكره: إن الذين لا ينصرفون يا محمد إذا كانوا معك في أمر جامع عنك إلا بإذنك لهم، طاعة منهم لله ولك، وتصديقا بما أتيتهم به من عندي، أولئك الذين يصدقون الله ورسوله حقا، لا من يخالف أمر الله ورسوله، فينصرف عنك بغير إذن منك له، بعد تقدمك إليه ألا ينصرف عنك إلا بإذنك". أ.هـ. [من جامع البيان عن تأويل آي القرآن 18/175-176]

وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى: {فأذن لمن شئت منهم}:" فكان النبي صلّى الله عليه وسلم بالخيار، إن شاء أن يأذن، وإن شاء منع {واستغفر لهم الله} أي لخروجهم عن الجماعة إن علمت لهم عذرا " أ.هـ [الجامع لأحكام القرآن 12/321].

ويفهم مما مضى أن استئذان الجندي للانصراف لبعض شأنه، في حال اجتماع المسلمين مع أميرهم لأمور مهمة مكروه، وإن أذن له الأمير، بدليل أمر الله لرسوله بالاستغفار لمن أذن له.

والأصل في المؤمن ألا يستأذن أميره في الذهاب في تلك الحال، إلا إذا كان له عذر يقتضي الاستئذان، وهو لا يستأذن إلا إذا كان صادقا في حصول عذر له، بخلاف المنافق، فإنه ينتحل الأعذار ويكذب على قائده، من أجل أن يسوغ بهربه عدم القيام بواجبه، بإذن أميره.

كما قال تعالى: {ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا} [الأحزاب 13]

وفي مختصر الخرقي: "وإذا غزا الأمير لم يجز أن يتعلف ولا يحتطب، ولا يبارز علجا، ولا يخرج من المعسكر، ولا يحدث حدثا، إلا بإذنه".

وقال ابن قدامة – معلقا على هذه الجملة –: "يعني لا يخرج من المعسكر... إلا بإذن الأمير، لقوله تعالى: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه} ولأن الأمير أعرف بحال الناس، وحال العدو ومكامنهم ومواضعهم وقربهم وبعدهم، فإذا خرج خارج بغير إذنه، لم يأمن أن يصادف كميناً للعدو فيأخذه، أو طليعة لهم، أو يرحل الأمير بالمسلمين ويتركه فيهلك، وإذا كان الأمير لم يأذن لهم إلا إلى مكان آمن، وربما يبعث معهم من الجيش من يحرسهم ويطلع لهم... " [المغني 9/216].

قلت: وقد يعاقب الله تعالى من يخرج من جيش المسلمين، بدون إذن الأمير، بما لا يدور في ذهنه من أنواع العقاب العاجلة، مع الإثم الذي سيلقى جزاءه في الآخرة.

وتأمل هذه القصة الثابتة من حديث أبي حميد، رَضي الله عنه ، قال: "خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في غزوة تبوك – إلى أن قال – وانطلقنا حتى بلغنا تبوك، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: (ستهب عليكم الليلة ريح شديدة، فلا يقم فيها أحد منكم، فمن كان له بعير فليشد عقاله) فهبت ريح شديدة، فقام رجل، فحملته الريح حتى ألقته بجبل طيئ..." [صحيح مسلم (4/1785]

قال النووي رحمه الله: "هذا الحديث فيه هذه المعجزة الظاهرة، من إخباره صلّى الله عليه وسلم بالغيب وخوف الضرر من القيام وقت الريح، وفيه ماكان عليه صلّى الله عليه وسلم من الشفقة على أمته والرحمة لهم، والاعتناء بمصالحهم، وتحذيرهم ما يضرهم في دين أو دنيا - وقال -: وجبلا طيئ مشهوران، يقال لأحدهما: "أجاء" بفتح الهمزة والجيم وبالهمزة. والآخر "سلمى" بفتح السين، و"طيئ" بياء مشددة، بعدها همزة، على وزن سيد، وهو أبو قبيلة في اليمن. [شرح النووي على صحيح مسلم 15/42]

وإذا كان الرسول صلّى الله عليه وسلم قد أخبر أصحابه، بالغيب الذي إذا فعلوه حصل عليهم منه ضرر، فإن الواجب على المسلم أن يحذر مخالفته لأميره، الذي لا يعلم الغيب، ولا يخرج بدون إذنه، لأن ذلك معصية قد يعاقبه الله عليها بما يشاء، مما لا يعلمه الأمير ولا المأمور.

وقد كان جابر بن عبد الله رَضي الله عنه ، مع رسول الله عليه وسلم، قافلاً إلى المدينة بعد إحدى الغزوات، وكانت نفسه تتوق إلى زوجه، وكان حديث عهد بزواج، فلم يلب رغبة نفسه إلا بعد أن استأذن من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ليسرع، فأذن له.

فقد قال: "فقلت: يا رسول الله! إني عروس، فاستأذنته فأذن لي، فتقدمت الناس إلى المدينة..." [صحيح البخاري، رقم الحديث 2967 – فتح الباري 6/121]