أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


كيف نشأ القول بصحة إيقاع صيام الست من شوال في غير شوال؟
 من الأقوال المشهورة عن الإمام مالك: عدم سنية صيام ست من شوال، ووافقه عبد الرزاق وأبو يوسف، بينما ذهب أكثر أهل العلم إلى استحباب ذلك، واعتمدوا في ذلك على حديث أبي أيوب، وثوبان رضي الله عنهم، وقد اتفق متأخرو المذاهب الفقهية الأربعة على استحباب ذلك، والعمل به.
 لأصحاب الإمام مالك أجوبة مشهورة في تخريج مذهب الإمام وتسبيب عدم أخذه بحديث الباب، أشهرها ثلاثة مسالك:
المسلك الأول: أنه لم يبلغه الحديث، أو أنه بلغه ولم يصح عنده.
المسلك الثاني: أنه ليس عليه العمل؛ فلم يرى الإمام مالك أحدًا من أهل العلم والفقه يصومها، ولم يبلغه ذلك عن أحد من السلف.
المسلك الثالث: سدا للذريعة، أن يتخذه أهل الجفاء زيادة في صوم رمضان، فيلحق به ما ليس منه، أو لئلا يظن وجوبها.
وهذان المسلكان الأخيران، هما اللذان نص عليهما الإمام مالك في الموطأ.
 اعتبار الإمام مالك للعمل في المسألة، يدعو للبحث والنظر، وربما يقال: إن الحديث لم يكن مشهورا، وإن كان مخرجه من المدينة، فالحديث إذا لم يشتهر مبكرا؛ ولم يكن شائعا العمل به؛ فإنه لا يحتج بترك العمل على ما فيه.
 ترك العمل بالحديث لاحتمال ظن الجهال أنها من رمضان بعيد جدا مع وجوب فطر يوم العيد، ومن هنا قال الحسن بن زياد: (كفى بيوم الفطر مفرقا بينهن وبين رمضان)، كما أن توهم اعتقاد وجوبه ضعيف؛ لأنه لا يخفى ذلك على أحد، ويلزم على قوله أنه يكره صوم عرفة وعاشوراء وسائر الصوم المندوب إليه، وهذا لا يقوله أحد.
 هاتان هما الطريقتان المشهورتان عن أهل العلم:
- اعتبار صيام الست من شوال، وهذا مذهب الجمهور.
- وعدم اعتبار صيام الست من شوال، وهذا مذهب الإمام مالك وأبي يوسف وعبد الرزاق.
إلى أن جاء الإمام ابن العربي المالكي: فنصر مذهب الإمام مالك في استحباب صيام الست من شوال، وأن المراد من الحديث صيام ستة أيام، سواء كانت في شوال أو في غيره.
وكان هذا القول من ابن العربي يأتي ضمن سياق تخريج مذهب مالك مع الحديث، فهو جواب عن الحديث، وتخريج لمذهب الإمام أكثر من كونه قولا في المسألة.
 تبع ابنَ العربي على ذلك: بعض المالكية مثل الشبيبي والقرافي، وجعله ابن مفلح في الفروع احتمالا.
 وخلاصة ما تستند إليه هذه الطريقة ترجع إلى مأخذين:
المأخذ الأول: الدلالة البعدية لحديث ثوبان:
حديث ثوبان رضي الله عنه: (من صام ستة أيام بعد الفطر كان تمام السنة)، فبعد الفطر كما يشمل شوال فإنه يشمل ما بعده من الشهور.
ويجاب عنه: بأن الإطلاق في حديث ثوبان يقيد بما في حديث أبي أيوب من ذكر قيد شوال؛ وأيضا فإن في اعتبار شوال اعتبار بعدية قريبة تناسب عادة الشارع في نوافل الفرض التي تفعل في زمن متقارب من الفرض، إضافة إلى أن بعض أهل العلم فهم من البعدية في حديث ثوبان: المبادرة بصومه بعد انقضاء يوم العيد.
المأخذ الثاني: علة المضاعفة:
لفظ حديث أبي أيوب: (فكأنما صام الدهر)، والرواية الأخرى في حديث ثوبان: : (جعل الله الحسنة بعشر أمثالها فشهر بعشرة أشهر وصيام ستة أيام تمام السنة): فيكون من صام 36 يوما كأنه صام 360 يوما، وهو صوم الدهر، ، فالحسنة بعشرة أمثالها، وهذا أمر يستوي فيه شوال بغيره من الأشهر، وهذا تعليل منصوص، والعلة المنصوصة تعمم الحكم بعمومها، بل استحب ابن العربي إيقاعها في غير شوال جمعا بين تحصيل الأجر، وبين البعد عن شهر رمضان وتوهم الجهال كونها من الفرض، وقد استحب بعضهم جعل الست في عشر ذي الحجة لفضل تلك الأيام.
قلت: قد يتراءى للبعض في بادئ الأمر أن هذا فيه وجاهة، فهو تعميم للعلة المنصوصة، ويكون ذكر شوال على سبيل المبادرة أو التخفيف لاعتياد الصائم على الصوم.
لكن هذا النظر الأصولي الظاهر فيه نظر لأمور عديدة، منها ما يلي:
أولا: أن قيد الصيام في شوال كما حديث أبي أيوب: (ثم صام ستا من شوال)، الأصل إجراؤه على ظاهره، لما فيه من اعتبار الأوصاف المذكورة في النصوص، ولا يلغى تأثيره في الحكم حتى تكون دلالة الإلغاء أقوى من دلالة الاعتبار، ويدل على اعتباره "ثانيا".
ثانيا: أن المبادرة في شوال قد تكون مقصودة، فإن الشيء إذا لم تنتهز فيه الفرصة، ويفعل في آنه فإنه يفوت كما هو معتاد، فيبدو أن نظر الشارع إلى شوال له معنى مقصود يتجاوز المضاعفة، إلى تحقيق المبادرة والمسارعة، ويساعد هذا "ثالثا".
ثالثا: ذكر الزركشي في البحر المحيط أن مصير بعض المالكية إلى الاكتفاء في اتباع رمضان بصوم ستة أيام من غير شوال، نظرا لمعنى تكميل السنة، وبيَّن أن هذا يبطل خصوص شوال الذي دل عليه النص، وبين أنه يشترط في العلة المستنبطة ألا ترجع على الأصل بالإبطال؛ إذ الظن المستفاد من النص أقوى من المستفاد من الاستنباط، لأنه فرع لهذا الحكم، والفرع لا يرجع على إبطال أصله، وإلا لزم أن يرجع إلى نفسه بالإبطال( ).
لكن يشكل على كلامه: أنها علة منصوصة، لأنها جاءت في بعض الروايات، وقد يقال إنها منصوصة باعتبار المضاعفة، لكنها مستنبطة باعتبار إلغاء قيد شوال، وقد يقال أيضا إنها جزء من العلة، وليست هي كل العلة لما في شوال من أوصاف أخرى، أقرَّ بها المخالف كالمسارعة أو التخفيف.
رابعا: أن عادة الشرع جبر الفرائض بالنوافل "المؤقتة"، فلما كان صوم رمضان لا بد أن يقع فيه نوع تقصير وتفريط وهضم من حقه وواجبه، ندب إلى صوم ستة أيام من شوال جابرة له ومسددة لخلل ما عساه أن يقع فيه، فجرت هذه الأيام مجرى سنن الصلوات التي يتنفل بها بعدها جابرة ومكملة، وعلى هذا تظهر فائدة اختصاصها بشوال( )، وسيظهر ذلك أكثر في "خامسا".
خامسا: أن النوافل جوابر الفرائض كما في حديث السنن، فإن نقصت فرائضه كملت به من نوافله، فهل يقال بإلغاء توقيت السنن الرواتب، وأن الغرض الجبر؟ فالمطلوب الاستكثار من التطوع، وإنما أقتت للمبادرة وخوف الفوات والتسويف.
إذا تأملت تجد أن الفرق بينهما ليس واسعا، بل جاء عن الإمام مالك نفسه اعتبار هذا المعنى وأنه لا توقيت في عدد التطوع مع الفرائض لا زيادة ولا نقصانا، وأن من يوقت هم أهل العراق! وذكر بعض أصحابه أن الأعداد الواردة في الأحاديث: ليست للتحديد، وإنما ذكر التحديد تبركا بالعدد الوارد.
أرأيت! فالمسائل رحم بعضها من بعض! أما "سادسا" فهي أقرب في الرحم!
سادسا: يلزم من القول بصحة إيقاع الست في غير شوال، صحة إيقاع صيام الثلاثة أيام من كل شهر في شهر واحد! لأن صيام الثلاثة أيام هو أيضا صيام الدهر! قال صلى الله عليه وسلم لعمرو رضي الله عنه : (وصم من الشهر ثلاثة أيام فإن الحسنة بعشر أمثالها وذلك مثل صيام الدهر)، فعدد الشهور 12 شهرا، وفي كل شهر ثلاثة أيام، 3 × 12 = 36، والحسنة بعشرة أمثالها، وذلك صيام الدهر! وحينئذ لا يكون صيام الثلاثة أيام من كل شهر متعينا، وإنما المطلوب صيام 33 يوما في السنة، وله أن يفرقها في الشتاء، فإنه ربيع المؤمن! فهل يوجد قائل بهذا القول، ولا فرق؟ وقد حكى ابن قدامة أنه لا يعلم خلافا في استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر. إن للشارع مقاصد في تعيين وقت الصيام وتحديد زمانه وقربه من الفرائض، ما كان قبلها وما كان بعدها.
سابعا: أنه يلزم من إلغاء قيد شوال أنه لا فضل خاص لصيامها، بل هي مثل صيام التطوع تماما، فهذا هو أيضا أجر صيام التطوع، ومن ذلك فإنه لو صام 33 يوما أخرى كان كصيام دهرين، فألغيت خصوصية صيامها، وآلت إلى صوم التطوع.
ويلزم أيضا: أنه يحصل أجر صيام الست بما لو صام عشر ذي الحجة أو عاشوراء أو صيام شهر محرم أو شعبان، فيلغى تعيين استحبابها( ).
وبه يتبين: صحة انحصار الخلاف القديم بين قولين: الاستحباب، وعدم الاستحباب، أم القول المحدث بعدهما في صحة صيام ست شوال في غير شوال، فهو في حقيقته عدم الاستحباب، ولذا ولد في رحم هذا القول.
 أنه لو كان المقصود مجرد ستة أيام مع رمضان لقال: (من صام مع رمضان ستة أيام)، ولما قال: (ثم أتبعه)، بحيث يكون للمكلف سعة أن يقدمها أو يؤخرها، لكن لما كان لرمضان سنة قبلية، وهي الإكثار من صيام شعبان، ناسب أن يكون لرمضان سنة بعدية وهي الستة.
 أنه لو كان المقصود مجرد صيام ستة أيام مع رمضان لأجزأ أن يصوم الستة في شعبان، وبهذه الطريقة يكون مخالفا لنص الحديث: "ثم أتبعه ستا من شوال"، فقد صار رمضان حينئذ هو التابع!

 يرى بعض الشافعية أن المراد من قوله صلى الله عليه وسلم: «كصيام الدهر» أي فرضا، أي ثوابه كثواب الفرض وإلا لم يكن لخصوصية رمضان وستة من شوال معنى، إذ من صام شهرا غير رمضان مع ستة من غيره يحصل له ثواب الدهر أي السنة، بينما يرى بعض المالكية: أن هذا الأجر مختلف: فخمسة أسداسه الناشئة عن رمضان: أجر فرض، وسدسه ثواب نفل( ).
والمقصود أنه ما دام يحتمل أثرا من أجر الفرض في صوم شوال فإنه يزيد من فائدة هذا القيد إلى ما ذكر، فهذا الاحتمال وإن كان منازعا بغيره، فإنه يصلح أن يعتضد بغيره وإن كان لا يستقل بنفسه.
 فوت صيام الست بفوات شوال هو المتبادر من فهم الحديث، ومن ساعده الظاهر المتبادر فقوله أولى، ويستأنس بأن هذا هو الظاهر المتبادر، أنه هو الذي فهمه أكثر أهل العلم الذين قالوا باستحباب صيام الست في شوال في شوال، وهو أيضا فهم الإمام مالك! فإنه هو أشهر من لم يأخذ به، لكنه فهم منه دلالته على صيام الست! إلا أنه اعتذر عن العمل به لبعض الأسباب.
وهذا التأييد الجمهوري بأخذ أكثر أهل العلم بظاهر الحديث: درجته في موضع الاستئناس لا في الاستدلال، ومن هنا مال كثير من العلماء إلى تقليد بعض المجتهدين في بعض ما أفتوا به قناعة بصحة أدوات الاجتهاد لديهم، فكيف إذا اجتمع إلى ذلك جماعة من المجتهدين؟ فكيف إذا كان هو قول الأكثر من المجتهدين؟ وهذا قريب من الاستدلال بالإجماع الظني، فما بينه وبين قول الأكثر إلا درجة أو نصيفها.
 وأخيرا: فإن القول بصحة إيقاع الست في غير شوال، وإن كان في بادئ الأمر يبدو سائغا، نظرا إلى التعليل الوارد في الحديث إلا أنه عند النظر إليه، وتقليب ألفاظه، ومقارنته بنظائره في الصوم أو في التطوع، يظهر أنه بعيد عن عادة الشارع، فلا يوجد صوم عدد محدد من الأيام، تصومه في أي يوم من السنة، فهذا صوم التطوع المطلق، وكل ما بحثت في المسألة، وفتشت في جذورها وفروعا: ازددت قناعة أنه ليس إلا قولان في المسألة الاستحباب أو عدمه، وما خرج عن ذلك فهو في حقيقته راجع إلى أحدهما.