أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


بسم الله الرحمن الرحيم

لمَّا رحلَّ يعقوب عليه السلام وهو إسرائيل مع بنيه الإثني عشر من موطنهم فلسطين، التي كان يسكنها الكنعانيون قبلهم، إلى مصر وكانوا حين ذاك اثني عشر سبطاً وهم يوسف عليه السلام وإخوته مع ذريتهم، فذلك قوله تعالى (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ۖ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ۖ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ۚ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (يوسف:100). ثمَّ كما رُويَ عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيرهِ أَّنَّ اللهَ تعالى لما قبضَ يوسفَ وهلك المُلكُ الذي كان معه وتوارثت الفراعنة مُلكَ مصرَ وفَرَّق اللهُ بني إسرائيل لم يزلْ بنو إسرائيل تحت يد الفراعنة وهم على بقايا من دينهم مما كان يوسف ، ويعقوب ، وإسحاق ، وإبراهيم عليهم السلام شرعوا فيهم من الإسلام حتى كان فرعونُ موسىَ ، وكان أعتاهم على الله وأعظمهم قولا وأطولهم عمرا ، واسمه فيما ذُكِرَ الوليد بن مصعب ، وكان سَيئ المَلَكَةِ والحُكمِ على بني إسرائيل يعذبهم ويجعلهم عبيداً ويسومهم سوء العذاب، فبعثَ اللهُ موسى مع أخيه هارون عليهما السلام ليستنقذهم وينجيهم من آلِ فرعونَ، فذلك قوله تعالى (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ۚ وَفِي ذَٰلِكُم بَلَاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ) (البقرة: 49).

فلمَّا فرق اللهُ وفصلَ البحرَ بهم اثني عشر طريقاً بعددِ الأسباطِ الإثني عشر سلك كلُ سبطٍ طريقاً منها فأنجاهم اللهُ بفضله ومنته وأغرق آلَ فرعونَ، الذين لحقوهم، في البحر(1)، فذلك قوله تعالى (وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ) (البقرة: 50)، وقوله تعالى (وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَّا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَىٰ * فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ) (طه:77-78).ثُمَّ اللهُ عزوجل وعدَ موسى الطُورَ, ووعده موسى اللقاءَ. فكان الله عزوجل لموسى واعدًا مواعدًا له المناجاة على الطُور، وكان موسى واعدًا لربه مواعدًا له اللقاءَ(1). وعن أبي العالية في قوله تعالى (وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة)، قال: يعني ذا القعدة وعشرا من ذي الحجة. وذلك حين خلف موسى أصحابَهُ واستخلف عليهم هارونَ, فمكث على الطُور أربعين ليلة, وأنـزل عليه التوراة في الألواح ، وكانت الألواح من بَرَد ، فقربه الربُ إليه نجيا, وكلمه, وسمِعَ صريفَ القلمِ. وبلغنا أنه لم يحدث حدثا في الأربعين ليلة، أي لم يكربه ما يكرب الناس من قضاء الحاجة ، حتى هبط من الطور. فصنع بنو إسرائيل العجل من ذهبٍ واتخذوه إلهاً في مدة مغيب موسى عليه السلام في تلك الأربعين ليلةً وكان سبب ذلك استبطاؤهم رجوع موسى(2)، فذلك قوله تعالى (وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَىٰ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ) (البقرة: 51). وكذا قوله تعالى (وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ۚ وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) (الأعراف: 142)، يقول تعالى: وواعدنا موسى لمناجاتنا ثلاثين ليلة؛ وقيل: إنَّها ثلاثون ليلةً من ذي القعدة، وأتممناها بعشرٍ، يقول تعالى: وأتممنا الثلاثينَ الليلةَ بعشرِ ليالٍ تتمةَ أربعينَ ليلةً(1). عن ابن جريج قوله تعالى: وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً ، الآية، قال: يقول تعالى: إنَّ ذلكَ بعدَ ما فرغَ من فرعون وقبلَ الطُورِ، لمَّا نجى اللهُ موسى عليه السلام من البحر وغرّق آل فرعون،وأمرَه ربُه أنْ يلقَاه, فلما أراد لقاءَ ربِه، استخلفَ هارونَ على قومِه, وواعدَهم أنْ يأتيَهم إلى ثلاثين ليلة، ميعادًا من قِبَله، من غيرِ أمرِ ربِه ولا ميعادِه. فتوجه ليلقى ربَه, فلما تمت ثلاثون ليلةً، قال عدو اللهِ السامريُّ: ليس يأتيكم موسى, وما يصلحُكم إلاَّ إلهٌ تعبدونَه ! فناشدهم هارونُ وقال: لا تفعلوا، انظروا ليلتَكم هذه ويومَكم هذا, فإنْ جاءَ وإلاَّ فعلتم ما بدا لكم ! فقالوا: نعم! فلما أصبحوا من غدٍ ولم يروا موسى، عاد السامري لمثلِ قولِه بالأمسِ. قال: وأحدثَ الله الأجلَ بعدَ الأجلِ الذي جعلَه بينَهم عشرًا، فتم ميقات ربِه أربعينَ ليلةً, فعاد هارون فناشدهم إلا ما نظروا يومهم ذلك أيضًا, فإن جاء وإلا فعلتم ما بدا لكم! ثم عاد السامري الثالثة لمثل قوله لهم, وعاد هارون فناشدهم أن ينتظروا، ... فلما لم يروا عبدوا العجلَ، فذلك قوله تعالى (وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ ۖ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَٰنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي) (طه:90). فأوحى الله إليه أيامَ المناجاةِ في الطُورِ أنَّ قومَهُ عبدوا العجل في غيابِهِ ، فذلك قوله تعالى (وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَىٰ * قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَىٰ أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ * قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ) (طه:83-85).

فانصرف موسى إلى قومه من بني إسرائيل بعد انقضاء الأربعين ليلة غَضْبَانَ أَسِفًا، متغيظا على قومه، حزينا لما أحدثوه بعده من الكفر بالله(1)، فذلك قوله تعالى (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا) (الأعراف:150)، وقوله تعالى (فَرَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا) (طه:86). وابتدأ بخطابِ قومهِ كُلِهم، وقد علمَ أنَّ هارونَ لم يكنْ تابعًا مؤيدًا لهم، فلذلك ابتدأ بخطاب قومهِ(2)، فذلك قوله تعالى (قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِي) (الأعراف: 150)، وقوله تعالى (قَالَ يَا قَوْمِ) (طه:86)،. ثم ألقى موسى الألواحَ غضبًا على قومه الذين عبدوا العجل(1)، فذلك قوله تعالى (وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ) (الأعراف:150)،ووجَّهَ الخطابَ إلى هارونَ، لمَّا فرغَ من خطاب قومه ومراجعته إياهم على جُرمِ فعلهم ، لائماً إياهُ على على تركهِ السيرَ في أثَرَهِ بمن أطاعه من أهل الإيمانِ على ما كان عهد إليه، فذلك قوله تعالى (وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ ۚ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (الأعراف:150)، وقوله تعالى (قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ ۖ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) ( طه:92-93). فقال له هارون: إني خشيت أن تقول، فرّقت بين جماعتهم، فتركت بعضهم وراءك، وجئت ببعضهم، فذلك قوله تعالى (وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ ۖ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَٰنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي) (طه:90)، وقوله تعالى ( قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي ۖ إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) (طه94). وأنَّ القومَ عصوا أمرَهُ، فذلك قوله تعالى (قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّىٰ يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَىٰ) (طه:91)(1). فقال لهم موسى يا قومِ ألم يعدكم ربكم وعداً حسناً، فذلك قوله تعالى (فَرَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا ۚ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا ۚ) (طه:86) ، والوعْدُ الحسن هو : وعده مُوسى بإنزال التّوارة ، ومواعدتُهُ ثلاثينَ ليلةً للمناجاة ، وقد أعلمهم بذلك ، فهو وعدٌ لقومهِ لأنَّ ذلك لِصلاحِهم ، ولأنَّ اللهَ وعدَهُم بأن يكونَ ناصراً لهم على عدوِّهم وهادياً لهم في طريقهم ، وهو المحكي في قوله تعالى (وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ) (طه:80)(2). وقوله تعالى ( أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي) (طه: 86) يقول موسى: أفطال عليكم العهدُ بي، وبجميلِ نعمِ اللهِ عندَكم، وأياديهِ لديكم، أم أردتم أن يحلَّ عليكم غضبٌ من ربكم؛ أي أم أردتم أن يجب عليكم غضب من ربكم فتستحقوه بعبادتكم العجل، وكفركم بالله، فأخلفتم موعدي. وكان إخلافهم موعده، عكوفهم على العجل، وتركهم السير على أثر موسى للموعد الذي كان الله وعدهم، وقولهم لهارون: ( لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى) (طه:91) إذ نهاهم عن عبادة العجل، ودعاهم إلى السير معه في أثر موسى (1).

ولمَّا سكت عن موسى الغضبُ أخذَّ الألواحَ بعدما ألقاها, وقد تحطَّم منها ما تحطَّم، وفيما نُسِخ فيها أي كُتِب فيها؛ هدى و بيانٌ للحق ورحمةٌ للذين يخافون الله ويخشون عقابَه على معصيتهِ(1)، فذلك قوله تعالى (وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ ۖ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) (الأعراف: 154). كذا قال تعالى (وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (البقرة: 53)؛ ففي ما روي عن ابن عباس وأبي العالية ومجاهد: من أنَّ الفرقانَ الذي ذكرَ اللهُ أنَّهُ آتاه موسى في هذا الموضع، هو الكتابُ الذي فرقَ به بين الحقِ والباطلِ , وهو نعتٌ للتوراة وصفةٌ لها . فيكون تأويل الآية حينئذ: وإذ آتينا موسى التوراة التي كتبناها له في الألواح وفرقنا بها بين الحق والباطل لعلكم تهتدون بها. فيكون " الكتاب " نعتًا للتوراة أُقيم مقامُها، استغناءً به عن ذكرِ التوراةَ , ثم عطف عليه ب " الفرقان " , إذ كان من نعتها(1). و قال موسى لقومه من بني إسرائيل: يا قوم إنكم ظلمتم أنفسَكم . وظلمُهم إياها، كان فعلَهم بها ما لم يكن لهم أن يفعلوه بها، مما أوجب لهم العقوبة من الله تعالى. وكذلك كلُ فاعلِ فعلاً يستوجبُ بهِ العقوبةَ من الله تعالى فهو ظالمٌ لنفسهِ بإيجابه العقوبةَ لها من الله تعالى . وكان الفعلَ الذي فعلوه فظلموا به أنفسَهم, هو ما أخبر اللهُ عنهم: من ارتدادهم باتخاذهم العجل ربًا بعدَ فراقِ موسى إياهم. ثم أمرهم موسى بالمراجعة من ذنبهم، والإنابة إلى الله من ردتهم، بالتوبة إليه , والتسليم لطاعته فيما أمرهم به. وأخبرهم أن توبتهم من الذنب الذي ركبوه قتلهم أنفسهم(1)، فذلك قوله تعالى (وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة: 54). فعن السدي قال لهم موسى :فصفوا صفين، ثم اجتلدوا بالسيوف . فتضارب الذين عبدوه والذين لم يعبدوه بالسيوف , فكان من قُتل من الفريقين شهيدًا , حتى كُثرَ القتلُ، حتى كادوا أنْ يهلكوا حتى قُتل بينهم سبعون ألفا, وحتى دعا موسى وهارون ربنا هلكت بنو إسرائيل! ربنا البقية البقية!! فأمرهم أن يضعوا السلاح , وتاب عليهم . فكان من قُتل شهيدًا , ومن بقي كان مُكفرًا عنهُ.

واختار موسى من قومهِ سبعين رجلاً للوقت والأجل الذي وعده الله أن يلقاه فيه بهم، للتوبة مما كان من فعل سفهائهم من عبادةِ العجل والإعتذار له سبحانه وتعالى على ذلكَ، فقال لهم صوموا وتَطَهَّروا, وطهِّروا ثيابكم!(1)، فذلك قوله تعالى (وَاخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِّمِيقَاتِنَا ۖ) (الأعراف:155). فاقتضى ذهابهم للإعتذار لله العظيم قتلَ أنفسِهم لتطهيرِ بني إسرائيل من رجس عبادة العجل وليتوبَ اللهُ عليهم وكذا تطهيرَ أرواحهم بالصيامِ وتطهيرَ أبدانِهم وثيابٍهم لأنَّ اللهَ عزوجل يحبُ التوابين والمتطهرين لقوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (البقرة: 222). وما رُوي عن ابن إسحاق لمَّا خرج بهم موسى إلى طور سيْناء، لميقات وقَّته له ربُه. وكان لا يأتيهُ إلا بإذن منه وعلم. فقال السبعون لموسى حين صاموا وتطهَّروا وطهَّروا ثيابهم, وخرجوا معه للقاء ربِّه : اطلب لنا نسمع كلام ربِّنا! فقال: أفعل. فلما دنا موسى من الجبلِ, وقعَ عليه عمودُ الغمامِ، حتى تغشى الجبلَ كلهُ. ودنا موسى فدخل فيهِ, وقال للقوم: ادنوا! وكان موسى إذا كلمه الله وقَع على جبهته نورٌ ساطعٌ, لا يستطيعُ أحدٌ من بني آدم أنْ ينظرَ إليه! فضُربَ دونَهُ بالحجابِ. ودنا القوم، حتى إذا دخلوا في الغمام وقَعوا سجودًا, فسمعوه وهو يكلِّم موسى, يأمره وينهاه: افعل، ولا تفعل! فلما فرغ الله من أمرِه، انكشف عن موسى الغمام. أقبل إليهم، فقالوا لموسى: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة! فأخذتهم الرجفة وهي الصاعقة فَافْتُلِتَتْ أرواحهم؛ أي ماتوا بغتةً، فماتوا جميعًا، فذلك قوله تعالى (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ) (البقرة: 55). وعن السدي، قال: إن الله أمر موسى عليه السلام أن يأتيه في ناسٍ من بني إسرائيل، يعتذرون إليه من عبادة العجل, ووعدهم موعدًا، فاختار موسى قومه سبعين رجلا على عينه, ثم ذهب بهم ليعتذروا. فلما أتوا ذلك المكان قالوا: لن نؤمن لك يا موسى حتى نرى الله جهرة, فإنك قد كلمته، فأرناه! فأخذتهم الصاعقة فماتوا، فقام موسى يبكي ويدعو الله ويقول: رَبِّ ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم, لو شئتَ أهلكتهم من قبل وإيّاي!(1). وقد أهلكهم اللهُ بالصاعقةِ لإشتراطِهم رؤيةَ اللهِ عزوجل حتى يُصدقوهُ ويُقروا بما جاءهم به من أمرِ اللهِ ونهيهِ لهم في التوراة(1)، وفي ذلك برهانٌ ساطعٌ أنَّ خيار قومِ موسى عليه السلام يوجدُ في قلوبهم إيمانٌ غيرُ مكتملٍ، لقولهم (لَن نُّؤْمِنَ لَكَ)، فالنفي هنا نفي كمال وليس نفي أصل لأنهم آمنوا بنبيهم واتبعوه ، مع عدم يقينٍ بالله الملك العظيم يتمثل في إشتراطهم رؤية الله عزوجل حتى يؤمنوا لنبيهم موسى عليه السلام، بالإضافة إلى عتوٍّ واستكبار في أنفسهم تجاه أوامر الله عزوجل. أمَّا لو قابلنا بين إيمانِهم وإيمانِ حواريِّي عيسى عليه السلام فنجدُ في قلوبِهم إيمانٌ، لقولهم ( وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا )، فإقرارهم أنَّ عيسى عليه السلام قد صدقَهُم الرسالةَ يفيد تصديقَهُم إياه فيما دعاهم إليه أي إيمانُهم برسالته عكسَ خيارِ قومِ موسى الذين اشترطوا تصديقَه برؤية اللهِ عزوجل ، يشوبهُ بعضُ الإرتيابِ والشكِ أي عدمُ اليقينِ الكاملِ الراسخِ بالله الملك العظيم ولكنهم لا توجد لديهم نزعةُ الإستكبارُ الموجودة في خيار قومِ موسى عليه السلام وإنما توجد لديهم الحاجة والفقر إلى الطمأنينة والسكينة ولذلك سألوا نبيهم عليه السلام أن يُنزل اللهُ عزوجل عليهم آيةَ المائدةِ لتُرسخَ هذه المعجزةُ الإيمانَ في قلوبِهم فيتولد ُاليقينُ باللهِ سبحانه وتعالى في قلوبِهم. أمَّا لو قابلنا بين إيمانِ كليهما وإيمانِ أصحاب الحبيب المصطفى سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم فنجد أنَّه في قلوبهم إيمانٌ كاملٌ، لقوله تعالى عنهم (وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ) ، فقوله تعالى " كُلٌّ آمَنَ " يفيد إثباتَ كمالِ الإيمانِ وعُمومَهُ جميعَهم وتَحققه ورسوخَهُ في قلوبهم ، مع يقين راسخ بالله الملك العظيم، لقوله تعالى عنهم (وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)، يتمثل في تصديقهم وإستجابتهم لكلام الله سبحانه وتعالى بالإنقياد والخضوع والإستسلام الكامل لله عزوجل والذي يتمثل في الطاعة الكاملة لله عزوجل بدون أي شروط، لأنَّه من كان موقناً بالله عزوجل فإنه لا يملكُ إلا أن يستسلمَ ويخضعَ لخَالِقه ومَالِكه ومشيئتهِ بدافعِ الإخلاص ولعظمتِه ولكبريائِه ولحكمتِه سبحانه وتعالى.

وهؤلاء الأخيار الذين اختارهم موسى لميقات ربهم هم من الذين آمنوا مع هارون وأطاعوه ولم يعبدوا العجل. و موسى إنمَّا حَزِنَ على هلاك السبعين، فذلك قوله تعالى (فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ ۖ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا) (الأعراف: 155)، وأنّه إنما عنى ب " السفهاء " عبدةَ العجل. وذلك أنه محالٌ أن يكون موسى صلى الله عليه وسلم كان تخيَّر من قومه لمسألة ربِّه إلا الأفضل منهم, ومحالٌ أن يكون الأفضل عنده كان مَنْ أشرك في عبادة العجل واتخذَه دون الله إلهًا(1). وإنمَّا قال أتهلكنا بما فعل السفهاء منا لأنَّ عبدة العجل هم أصل الفتنة فبسببهم غضب الله على قوم موسى فاختار سبعين رجلاً من خيار قومهِ ليعتذروا لله وسألوا رؤية اللهَ فأهلكهم اللهُ بالصاعقة لطلبهم ذلك، فكانت عبادة السفهاء للعجل هي السبب في هلاك السبعين رجلاً. وأما قوله تعالى (ۖ إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاءُ وَتَهْدِي مَن تَشَاءُ ۖ ) (الأعراف:155) أي هذه الفعلةُ التي فعلَها قومي، من عبادتِهم ما عبَدُوا دونَك, إلا فتنةٌ منك أصَابتهم والمقصود ب " الفتنة "، الابتلاء والاختبار، فالله عزوجل ابتلاهم بها، ليتبينَ الذي يضلُّ عن الحق بعبادته إياه، والذي يهتدي بترك عبادته، أي العجل. وأضاف إضلالهم وهدايتهم إلى الله, إذ كان ما كان منهم من ذلك عن سببٍ منه جل ثناؤه أي بتقدير اللهِ وتدبيرهِ لغايةِ ابتلاهم وامتحانهم. وقوله تعالى (أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۖ وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ) (الأعراف: 155) يقول: أنت ناصرنا، "فاغفر لنا" يقول: فاستر علينا ذنوبَنا بتركك عقابَنا عليها، " وارحمنا " أي تعطف علينا برحمتك، " وأنت خير الغافرين " يقول: أنت خير من صَفَح عن جُرم، وسَتر على ذنب. ثم أحياهم الله من بعد موتهم بالصاعقة التي أهلكتهم(1)، فذلك قوله تعالى ( ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (البقرة: 56)، لعلهم يشكرون اللهَ على نعمة العفو عنهم بإحيائهم بعد مماتهم بدعاء موسى ورجائه اللهَ تعالى. عن مجاهد: " فلما أخذتهم الرجفة "، ماتوا ثم أحياهم.

أمَّا في قوله تعالى (يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاءِ ۚ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَىٰ أَكْبَرَ مِن ذَٰلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ۚ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَٰلِكَ ۚ وَآتَيْنَا مُوسَىٰ سُلْطَانًا مُّبِينًا( (النساء: 153) فحرف العطف ثم يفيد التراخي الرُتبي لا الزمني(2). و المقصود بالتراخي الرُتبي هوالتباعد أو الترتيب الرُتبي الذي يفيد أنَّ المعطوف بحرف العطف " ثم " أهم في الرتبةِ أو في الغرضِ المسوقُ إليه الكلامُ من المعطوف عليه، كما في قوله تعالى (لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۖ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ* ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (الحج:28-29)، فحرف ثم عطف الوفاءَ بالنذرِ والطوافَ بالبيتِ العتيقِ على نحر الهدايا إذ هما نسكين أعظمَ منهُ. وأخذتهم الصاعقة بظلمهم ، فذلك قوله تعالى (فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَىٰ أَكْبَرَ مِن ذَٰلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ) (النساء: 153) ، وذلك قوله تعالى ( فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ) (البقرة: 55)، وكان ذلك إرهاباً لهم وزجراً على ظلمهم والظلم هو المحكي في سورة البقرة، في قوله تعالى (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ) (البقرة: 55)، من امتناعهم من تصديق موسى إلى أن يروا الله جهرة ، وليس الظلم لمجرّد طلب الرؤية؛ لأنّ موسى قد سألَ مثلَ سؤالِهم قبلَهم في قوله تعالى (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ۚ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَٰكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا ۚ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) (الأعراف: 143)، وبيّن أنّهم لم يردعهم صعقُ موسى أي غشيه الذي أفاق منه وتوبتُهُ من سؤال رؤيةَ اللهِ عزوجل من سؤالِهم رؤيةَ اللهِ عزوجل. واتَّخذوا العجل إلهاً من بعد ما جاءتهم البيّنات الدالّة على وحْدانية الله ونفي الشريك وعطفت جملة اتّخاذهم العجل على جملة سؤال رؤية اللهَ عزوجل حتى يؤمنوا بحرف " ثمّ " المفيد في عطفه الجمل معنى التراخي الرتبى . فإنّ اتّخاذهم العجل إلهاً أعظم جرماً ممّا حكي قبله ، ومع ذلك عفا الله عنهم وآتى موسى سلطاناً مبيناً ، أي حجّة واضحة عليهم في تمرّدهم ، فصار يزجرهم ويؤنّبهم . ومن سلطانه المبين أن أحرق لهم العجل الذي اتّخذوه إلهاً(2).

فلمَّا أحياهم اللهُ بعد مماتِهم أخذ اللهُ ميثاقهم؛ و" الميثاق "،" المفعال "، من " الوثيقة "، إما بيمين, وإما بعهد أو غير ذلك من الوثائق. ويعني بقوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ )الميثاق الذي أخبر عزوجل أنَّهُ أُخِذَ منهم في قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِّنكُمْ وَأَنتُم مُّعْرِضُونَ * وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَارَىٰ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ ۚ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ۚ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) (البقرة: 83-85)(1). وكان سبب أخذ الميثاق عليهم فيما ذكره أبو بكر بن عبد الله قال: هذا كتاب الله، أتقبلونه بما فيه, فإنَّ فيه بيانَ ما أحلَّ لكم وما حرَّم عليكم، وما أمرَكم وما نهاكم! قالوا: انشُرْ علينا ما فيها, فإنْ كانتْ فرائضُها يسيرةً وحدودُها خفيفةً، قبلنَاها! قال: اقبلوها بما فيها! قالوا: لا حتى نعلم ما فيها، كيف حدودها وفرائضها! فراجعوا موسى مرارًا, فأوحى الله إلى الجبل فانقلع فارتفع في السماء، حتى إذا كان بين رؤوسهم وبين السماء قال لهم موسى: ألا ترون ما يقول ربِّي؟ " لئن لم تقبلوا التوراةَ بما فيها لأرمينَّكم بهذا الجبل ". قال: فحدثني الحسن البصريّ، قال: لما نظروا إلى الجبل خرَّ كلُّ رجل ساجدًا على حاجبه الأيسر, ونظر بعينه اليُمْنَى إلى الجبلِ, فَرَقًا،أي خوفاً، من أن يسقط عليه، فلذلك ليس في الأرض يهوديُّ يسجدُ إلا على حاجبه الأيسر, يقولون: هذه السجدة التي رُفِعت عنا بها العقوبة، قال أبو بكر: فلما نشر الألواح فيها كتاب الله كتَبَه بيده, لم يبقَ على وجه الأرض جبلٌ ولا شجرٌ ولا حجرٌ إلا اهتزّ, فليس اليوم يهوديّ على وجه الأرضِ صغيرٌ ولا كبير تقرأ عليه التوراة إلا اهتزّ، ونَفضَ لها رأسَه. وعن ابن زيد قال: ولو كانوا أخذوه، أي التوراة كتابُ اللهِ، أولَ مرةٍ، لأخذوه بغير ميثاق. فذلك قوله تعالى (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 63)، وقوله تعالى (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (الأعراف: 171). وقد رفع اللهُ الجبلَ فوق بني إسرائيل كي يُجبرَهم على القبولِ بأوامره ونواهيه عزوجل في التوراة فلا يعودوا إلى استكبارهم في أنفسهم كما كان منهم في سؤالِهم رؤيةَ اللهِ جهرةً حتى يصدقوا موسى بما سمعوه من تكليمِ اللهُ له، فيتجاوزوا الحدَ في الإستكبارِ عن أمرِه ونهيِه عزوجل. وتأويلُ قولِه تعالى : (وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) يعني : واذكروا ما فيما آتيناكم من كتابِنا من وعدٍ ووعيدٍ شديدٍ، وترغيبٍ وترهيبٍ, فاتلُوه، واعتبِروا به، وتدبَروه إذا فعلتم ذلك، كي تتقوا وتخافوا عقابي بإصراركم على ضلالكم فتنتهوا إلى طاعتي، وتنـزعوا عما أنتم عليه من معصيتي(1).

ولكنَّهم بعدما أخذَ اللهُ عليهم العهدَ والميثاقَ بالإلتزام بأوامره ونواهيه في التوراة، عصَوه برفضِهم قتالَ الجبابرة ودخولَ الأرضَ المقدسةَ. فقوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا ۖ قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ ۚ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (البقرة: 93) يعني أنَّهم أقَروا بالميثاقِ على أنفسِهم ثم عصوا اللهَ فيما عاهدوا اللهَ عليه؛ فالواو حرف عطف يفيد الترتيب، "سمعنا وعصينا" أي سمعنا وعصينا، ففعل "سمعنا" فعل حدث في الماضي حُكيَ عنه في زمن الماضي، أمَّا فعل "عصينا" فعل حدث في المستقبل حُكيَ عنهُ في زمن الماضي، كما في قوله تعالى (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) (إبراهيم: 21)، وقوله تعالى (وَنَادَىٰ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ) (الأعراف: 44) فهي أحداث تقع في المستقبل في الآخرة ولكنَّها حُكي عنها في زمن الماضي لإفادةِ تَحققَ وقوعِها في المستقبلِ كأنَّها قد حصلَت ودخلَت الوجودَ في زمنِ الماضيِ فصارَت متحققةُ الحدوثَ في المستقبل.

والتأويل في قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ) يقول تعالى وإذ أخذنا ميثاقكم أن خذوا ما آتيناكم من التوراة ، التي أنـزلتها إليكم أن تعملوا بما فيها من أمري وتنتهوا عما نهيتكم فيها، بجد منكم في ذلك ونشاط، واسمعوا ما أمرتكم به وتقبلوه بالطاعة،ورفعنا فوقكم الطور من أجل ذلك(1). وأما قوله تعالى: ( سمعنا)، فإن الكلام خرج مخرج الخبر عن الغائب بعد أن كان الابتداء بالخطاب, فإنَّ ابتداءَ الكلامُ، إذا كان حكايةً، فالعربُ تخاطبُ فيه، كما في قوله تعالى "وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا" ، ثم تعود فيه إلى الخبر عن الغائب، وتخبر عن الغائب، كما في قوله تعالى "قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ"، ثم تخاطب، كما في قوله تعالى "قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ"(1).

فالوجه في معنى هذه الآية هوما نقلَهُ الفخرُ عن أبي مسلم أنَّ قولَهم " عصينا " كان بلسانِ الحالِ يعني فيكون " قالوا " مُستعملاً في حقيقتِه ومجازِه كليهما أي قالوا : سمعنا بلسانِهم حقيقةً وعصوا فكأنَّ لسانُهم يقولُ عصينَا مجازاً. : ويحتمل أن قولهم " عصينا " وقع في زمنٍ متأخرٍ عن وقتِ نزول التوراة بأن قالوا عصينا في حثِهم على بعضِ الأوامرِ مثل قولهم لموسى حين قال لهم : "ادخلوا القرية " في قوله تعالى ( لن ندخلها أبداً ) (المائدة : 24 ) . وفي هذا بيانٌ لقوله في الآية الأولى ( ثم توليتم من بعد ذلك ) ( البقرة : 64 ( (2). فذلك قوله تعالى (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ ۖ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ ) (البقرة: 63-64)، وذلك قوله تعالى (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِّنكُمْ وَأَنتُم مُّعْرِضُونَ) (البقرة: 83) يقول تعالى في هاتين الآيتين أنَّه عزوجل أخذ الميثاق والعهد عليهم في التوراة ثم تولوا وعصوا إلا قليلاً منهم، قوله تعالى " ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ"، وقوله تعالى " ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِّنكُمْ وَأَنتُم مُّعْرِضُونَ ".

وعصيانُهم هو رفضُهم دخولَ الأرضَ المُقدسةَ، فذلك قوله تعالى (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ * قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ * قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا ۖ فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ) (المائدة: 21-24). يقول تعالى ادخلوا الأرضَ المقدسةَ التي أُثبِت في اللوحِ المحفوظِ أنَّها لكم مساكنٌ ومنازلٌ دونَ الجبابرةِ التي فيها، ولا تخرجُ من أنْ تكونَ من الأرضِ التي ما بين الفراتِ وعريشِ مصرِ، لإجماعِ جميعُ أهلِ التأويلِ والسِّير والعلماء بالأخبارِ على ذلك، وقيل هي دمشق وفلسطين وبعض الأرْدُنّ. فأبوا على نبيهم موسى عليه السلام الإجابة إلى ما أمرَهم به من ذلك، واعتلّوا عليه في ذلك بأن قالوا، إن في الأرض المقدسة التي تأمرنا بدخولها، قومًا جبارين لا طاقةَ لنا بحربِهم، ولا قوةَ لنا بهم. وسموهم " جبّارين "، لأنهم كانوا لشدة بطشِهم وعظيمِ خلقِهم، فيما ذُكر لنا، قد قهروا سائرَ الأممِ غيرَهم. وكان موسى عليه السلام قد بعث اثنى عشر نقيبًا من جميع أسباط بني إسرائيل، ليأتوه بخبر الجبَّارين، فلمَّا أخبروه عن عظمةِ خلقِهم وشدةِ بطشهم عهِدَ إليهم تركَ إعلامَ بني إسرائيل بما رأوا وعاينوا من الجبابرة الكنعانيين كي لا يجبنَ ولا يجزعَ قومُه من قتالِهم فوفيا بعهدِه رجلانِ صالحان منهم فقط هما " يوشع بن نون " فتى موسى و" كالب بن يافنا "، ووصفهما الله عز وجل بأنهما ممن يخافُ اللهَ ويراقبُه في أمرِه ونهيِه. وقد قالا لقومه لمَّا جبنوا وخافوا الدخول على الجبارين: ادخلُوا عليهم، أيُّها القومُ بابَ مدينتِهم، فإنَّ اللهَ معكم، وهو ناصرُكم، وإنكم إذا دخلتم البابَ غلبتمُوهم. فرفضَ الملأ من بني إسرائيلَ دخول الأرضَ المقدسة ما دام الجبارون مقيمين فيها وقالوا بكفرهم وضلالتهم " فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ "(1).

والتأويل في قوله تعالى: (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ ۚ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) يقول تعالى وأشربوا في قلوبهم حب العجل، و قل يا محمد ليهودِ بني إسرائيل: بئسَ الشيءُ يأمركم به إيمانُكم؛ إن كان يأمرُكم بقتلِ أنبياءَ اللهِ ورسلِه, والتكذيبِ بكتبِه, وجحودِ ما جاءَ من عنده. ومعنى " إيمانهم " تصديقهم الذي زعموا أنهم به مصدقون من كتاب الله, إذْ قيل لهم: (آمِنُوا بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ) . فقالوا: (نُؤْمِنُ بِمَا أُنْـزِلَ عَلَيْنَا) . وقوله: (إن كنتم مؤمنين)، أي: إن كنتُم مصدقينَ كما زعمتم بما أنـزلَ اللهُ عليكم، وإنما كذبَهم اللهُ بذلكَ - لأن التوراة تنهي عن ذلك كلَه، وتأمر بخلافِه. فأخبرهم أن تصديقَهم بالتوراةِ، إن كان يأمرُهم بذلك، فبئس الأمر تأمرُ به. وإنَّما ذلك نفي من الله تعالى ذِكرُه عن التوراة، أن تكونَ تأمرُ بشيءٍ مما يكرههُ اللهُ من أفعالِهم, وأن يكونَ التصديق بها يدل على شيء من مخالفة أمرِ اللهِ، وإعلام منه جل ثناؤه أن الذي يأمرهم بذلك أهواؤُهم, والذي يحملهم عليه البغيُ والعدوانُ(1).

ولمَّا رفضوا دخول الأرضَ المُقدسةَ تاهوا في الأرضِ أربعين سنةً، فذلك قوله تعالى (قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا ۖ فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي ۖ فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ * قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ۛ أَرْبَعِينَ سَنَةً ۛ يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) (المائدة: 24-25). وهذا خبرٌ منَ الله جل وعز عن قيلِ قومِ موسى حين قالَ له قومُه ما قالوا، من قولهم: (إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) أنه قال عندَ ذلك، وغضِبَ من قيلهم له، داعياً: يا رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي،يعني بذلك، لا أقدرُ على أحدٍ أن أحملَه على ما أحبُ وأريدُ من طاعتِك واتّباعِ أمرِك ونهيِك، إلا على نفسي وعلى أخي. فافصل بيننا وبينهم بقضاء منك تقضيه فينا وفيهم فتبعِدُهم منّا. وعن السدي، قال: غضب موسى صلى الله عليه وسلم حين قال له القوم: ( اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون (، فدعا عليهم فقال: ( رب إنّي لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين )، وكانت عَجْلَةً من موسى عِجلها، و المَعنيُّ ب"الفاسقين " الخارجين عن الإيمان بالله وبه إلى الكفر بالله وبه(1).

عن السدي: لما تاب اللهُ على قومِ موسى، وأحيا السبعين الذين اختارهم موسى بعد ما أماتَهم , أمرهم الله بالسيرِ إلى أريحا ، وهي أرض بيت المقدس . فساروا حتى إذا كانوا قريبا منها بعثَ موسى اثني عشر نقيبا . فكان من أمرِهم وأمرِ الجبارينَ وأمرِ قومِ موسى، ما قد قصَّ اللهُ في كتابِه. فقال قوم موسى لموسى : (اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون). فغضب موسى فدعا عليهم فقال: (رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ). فكانت عَجْلَةً من موسى عجلها، فقال الله تعالى: (إنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض). ومعنى: " يتيهون في الأرض "، يحارونَ فيها ويَضلِّون، ومن ذلك قيل للرجل الضال عن سبيل الحق: " تائه ". وكان تيههم ذلك: أنهم كانوا يَصبحونَ أربعينَ سنةً كُلَ يومٍ جادِّين في قدرِ ستةَ فراسخَ للخروج منه، فيمسونَ في الموضعِ الذي ابتدأوا السيرَ منهُ . فلما ضُرب عليهم التيه، ندم موسى , وأتاه قومُه الذين كانوا معه يطيعونه فقالوا له: ما صنعت بنا يا موسى؟ فلما ندم، أوحى الله إليه: أن لا تأس على القوم الفاسقين ، أي لا تحزن على القوم الذين سميتهم فاسقين ، فلم يحزن(1).

فقالوا: يا موسى كيف لنا بماء ههنا ؟ أين الطعام؟ فأنـزل ألله عليهم المنَّ، وقد قيل إن " المن " الذي أُنزِل على بني إسرائيلَ هو الترنجبين، وهو مُعرب الترانگبين، و هو كل طلٌ ينزِلُ مِنَ السماءِ على شجرٍ أو حجرٍ، و يحلُو و ينعقدُ عسلاً، و يجفُ جفافَ الصمغِ. والسلوى ، وهو طير يشبه السُّمانى ، فكان يأتي أحدهم فينظر إلى الطير، إن كان سمينا ذبحه وإلا أرسلَهُ , فإذا سَمِن أتاه . فقالوا: هذا الطعام , فأين الشراب؟ فأمر اللهُ موسى فضربَ بعصاهُ الحجرَ فانفجرتْ منه اثنتا عشرةَ عينًا , لكُلِ سبط من الأسباط الاثني عشر عينًا من الحجرِ ، يشربُ منها دونَ سائرِ الأسباطِ غيرِه، لا يدخلُ سبطٌ منهم في شُربِ سبطِ غيرِه. وكانَ مع ذلك لُكلِ عينٍ من تلكَ العيونِ الاثنتي عشرة، موضعٌ من الحجرِ قد عرفَه السبطُ الذي منه شُربُه. فلذلك خصَّ جل ثناؤه هؤلاء بالخبرِ عنهم: أنَّ كلَ أناسٍ منهم كانوا عالمين بمشربِهم دونَ غيرِهم من الناسِ. إذ كان غيرهم، في الماء الذي لا يملكه أحد، شركاء في منابعِه ومسايلِه. وكان كلُ سبطٍ من هؤلاء مفردًا بشُربِ منبعَ من منابعِ الحجرِ ، دون سائر منابعه ، خاصٌ لهم دونَ سائرِ الأسباطِ غيرهم. فلذلك خصوا بالخبر عنهم: (أن كل أناس منهم قد علموا مشربهم)(1). وعن ابن زيد قال: استسقى لهم موسى في التيهِ , فسُقوا في حجرٍ مثلِ رأسِ الشاةِ، قال: يُلقونه في جوانبِ الجوالَقِ إذا ارتحلوا، الجوالق : وعاءٌ كبيرٌ منسوجٌ من صوفٍ أو شعرٍ ، تُحمل فيه الأطعمة ، وهو الذي نُسميه في بلادنا "الشِوال" مُحرفةٌ من"الجوالق". ويقرَعهُ موسى بالعصا إذا نـزِلَ , فتنفجر منه اثنتا عشرة عينًا , لكلِ سبطٍ منهُم عينٌ ، فكان بنو إسرائيل يشربون منهُ , حتى إذا كان الرحيل اسْتمسكَتْ العيونُ , وقِيلَ به، أي رُفِع وحُمِل، فَأُلقى في جانبِ الجوالقِ . فإذا نـزِل رمى به ، فقرَعهُ بالعصا , فتفجرت عينٌ من كل ناحيةٍ مثلَ البحرِ. فذلك قوله تعالى (وَإِذِ اسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ ۖ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ۖ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ ۖ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (البقرة: 60) يعني بقوله تعالى " كُلُوا وَاشْرَبُوا مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ " أنَّه أمرهم بأكلِ ما رزقَهم في التيه من المنِ والسلوى , وبشربِ ما فجَّرَ لهم فيه من الماء من الحجر المُتعاور، أي المُتدَاولِ، الذي لا قرارَ له في الأرض, ولا سبيلَ إليه إلاَّ لِمَالكيه، يتدفقُ بعيونِ الماءِ، ويزخرُ بينابيعَ العذبِ الفراتِ، بقدرة ذي الجلالِ والإكرامِ، وكذا نهاهُم عن السعي في الأرضِ فسادًا والعَثَا فيها استكبارًا (1).

فقالوا: هذا الطعام والشراب؟ فأين الظل؟ فظلَّلَ اللهُ عليهم الغمامَ ليسترهم من حر الشمس و " الغمام " جمع " غمامة "، كما السحاب جمع سحابة ," والغمام " هو ما غمَّ السماء فألبسها من سحابٍ وقتامٍ، وغيرِ ذلك مما يسترها عن أعين الناظرين . وكل مُغطى فالعرب تُسميهِ مغمومًا، وقد قيل: إنَّ الغمام التي ظلَّلْها اللهُ على بني إسرائيل لم تكن سحابا. فقالوا: هذا الظل، فأين اللباس؟ فكانت ثيابهم تطول معهم كما تطول الصبيان , ولا يتخرق لهم ثوب , فذلك قوله( وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ ۖ كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ۖ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (البقرة: 57) يعني تعالى بقوله " كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ " ما كانَ القومُ فيه من هنيء العيش الذي أعطاهم , فوصف ذلك ب " الطيب "، الذي هو بمعنى اللذة. ويعني تعالى بقوله "وما ظلمونا "، وما وضعوا فعلَهم ذلكَ وعصيانَهم إيانا موضعَ مضرةً علينا ومَنقصَةً لنا , ولكنَّهم وضعوهُ مِن أنفسِهم موضِعَ مَضرةً عليها ومَنقصةً لها .وكذلك ربنا جل ذكره، لا تضرُه معصيةُ عاصٍ , ولا يتحيَّفُ خزائنَه ظلمُ ظالمٍ , ولا تنفعُه طاعةُ مُطيعٍ , ولا يزيدُ في ملكِه عدلُ عادلٍ، بل نفسَه يظلمُ الظالمُ , وحظَها يبخسُ العاصي , وإياها ينفعُ المطيعُ , وحظَها يصيبُ العادلُ (1). فإذا التظليلُ بالغمامِ والمنُ والسلوى رحمةً من اهلل عزوجل لهم لمَّا ضُرِبَ عليهم التيهُ إكراماً لنبيهم موسى عليه السلام، فذلك قوله تعالى (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ ۖ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ ) (البقرة: 63-64) يعني تعالى بقوله " فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ " لولا فضلُ ورحمةُ اهِذ لكم بالغمامِ والمنِ والسلوى لكنتم من الهالكين في صحراء التيه.

والمَعني بقوله تعالى (قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ۛ أَرْبَعِينَ سَنَةً ۛ يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) (المائدة: 25) أنَّ الأرضَ المُقدسةَ مُحرمةً عليهم أربعين سنةً؛ ف "الأربعين " مَنصوبة بـ" التحريم " ، وإنّ قوله تعالى: ( محرمة عليهم أربعين سنة ) معنيٌّ به جميعُ قومِ موسى، لا بعضٌ دونَ بعضٍ منهُم. لأنَّ اللهَ عز ذكره عمَّ بذلك القومَ، ولم يُخَصصْ منهم بعضًا دونَ بعضٍ. وقد وفَى الله جل ثناؤه بما وعدهم به من العقوبة، فتيَّههم أربعين سنة، وحرَّم على جميعهم، في الأربعين سنة التي مكثوا فيها تائهينَ، دخولَ الأرض المقدَّسة، فلم يدخلْها منهم أحدٌ، لا صغيرٌ ولا كبيرٌ، ولا صالحٌ ولا طالحٌ، حتى انقضتْ السنونُ التي حرَّمَ اللهُ عز وجَل عليهم فيها دخولَها. ثم أذنَ لمنْ بقي منهم وذراريِهم بدخُولِها مع نبيِ اللهِ موسى والرجلين اللذين أنعمَ الله عليهما، وافتتح قرية الجبارين، إن شاء الله، نبيُّ الله موسى صلى الله عليه وسلم، وعلى مقدّمته يوشع، وذلك لإجماع أهل العلم بأخبار الأوَّلين أن عوج بن عناق قتلَه موسى صلى الله عليه وسلم. فلو كان قتلُه إياه قبلَ مصيرِه في التيه، وهو من أعظم الجبارينَ خَلقًا، لم تكن بنو إسرائيل تجزَع من الجبارين الجزعَ الذي ظهر منها. ولكن ذلك كان، إن شاء الله، بعد فناء الأمة التي جزعت وعصت ربها، وأبت الدخول على الجبارين مدينَتهم. وبعدُ: فإن أهل العلم بأخبار الأوّلين مجمعون على أن بلعم بن باعور، كان ممن أعان الجبارين بالدعاء على موسى. ومحالٌ أن يكون ذلك كان وقوم موسى ممتنعون من حربهم وجهادهم، لأن المعونة إنما يحتاج إليها من كان مطلوبًا، فأما ولا طالبٌ، فلا وجه للحاجة إليها(1). وعن ابن عباس قال: كانت عصا موسى عشرةَ أذرعٍ، ووثبتُه عشرةَ أذرعٍ، وطولُه عشرةَ أذرعٍ، فوثب فأصاب كعبَ عوج فقتلَه، فكانَ جسرًا لأهل النيل سنةً.

لكنَّ موسى عليه السلام توفاهُ اللهُ قبل أنْ يدخل الأرضَ المُقدسة ومن فتحها هو الرجل الصالح يوشع بن نون، فتى موسى، الذي جعله موسى في مقدِّمة الجيش، بعدما مهد لهم طريق فتحها بقتلِ عوج بن عناق،أعظمُ الجبارين خلقاً، وما يدل على ذلك هو قولُ ابن عباس أنَّه لم قَتَلهُ موسى كان جسدُه جسرًا لأهل النيل سنةً، ونهر النيل هو عند بداية رحلة موسى مع قومه إلى الأرض المقدسة التي مات خلالها موسى عند الكثيب الحمر في الأردن قبل أن يفتحوا المدينة المقدسة وهي بيت المقدس، كما رُوي عن أبي هريرةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قال : ( أُرْسِلَ مَلَكُ الموتِ إلى موسى عليهما السلامُ ، فلما جاءَهُ صكَّهُ ، فرجع إلى ربهِ ، فقال : أَرْسَلْتَنِي إلى عبدٍ لا يريدُ الموتَ ، قال : ارجع إليهِ ، فقل لهُ يضعُ يدَهُ على متنِ ثورٍ ، فلهُ بما غطَّتْ يدُهُ بكلِّ شعرةٍ سَنَةٌ ، قال : أي ربِّ ، ثم ماذا ؟ قال : ثم الموتُ ، قال : فالآنَ ، قال : فسأل اللهَ أن يُدنيهِ من الأرضِ المقدسةِ رميةً بحجرٍ ) . قال أبو هريرةَ : فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ : ( لو كنتُ ثَمَّ لأريتكم قبرَهُ ، إلى جانبِ الطريقِ تحت الكثيبِ الأحمرِ ) . قال : وأخبرنا معمرٌ ، عن همامٍ : حدَّثنا أبو هريرةَ ، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ : نحوَهُ .) ( الراوي: أبو هريرة المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 3407 خلاصة حكم المحدث: صحيح ). فقوله " فسأل اللهَ أن يُدنيهِ من الأرضِ المقدسةِ رميةً بحجرٍ " يدلُ على أنَّ الكثيبَ الأحمرَ هو ذلكَ الجبلُ الذي يقعُ في الأردن بالقرب من بيتِ المقدسِ. ما يفيدُ بأنَّ موسى عليه السلام لم يدخل الأرض المقدسة وهي بيت المقدس.
ولمَّا دخلوا القرية وهي بيت المقدس أمرَهم اللهُ أن يدخلوا باب الحطة سُجدًا ويقولوا حِطَّةٌ، فدخلوا الباب ، الذي أُمروا أنْ يدخلوا منه سُجدًا ، يزحفون على أستاههم، يقولون: حنطة. ويقولُ بعضُهم: حبةٌ في شعيرةٍ، فأهلكهم اللهُ بالطاعونِ، فذلك قوله تعالى (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَٰذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ ۚ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) (البقرة: 58-59) يقول تعالى وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية، هي بيت المقدس، مباحًا لكم كلُ ما فيها من الطيباتِ , مُوسعًا عليكم بغير حسابٍ ؛ وادخلوا الباب سُجدًا , وقيل هو باب الحطة، من باب إيلياء، من بيت المقدس، وقولوا: سجودُنا هذا لله حطةٌ من ربنا لذنوبِنا يحطُ به آثامَنا , نتغمدُ لكم ذنوبَ المُذنبِ منكم فنسترُها عليه , ونحطُ أوزارَه عنه , وسنـزيدُ المحسنَ منكم، إلى إحساننا السالف عنده ، إحسانًا. فدخلوا البابَ ، الذي أُمروا أنْ يدخلوا منه سُجدًا ، يزحفونَ على أستاهِهم، يقولون: حنطةٌ في شعيرةٍ كما رُوي عن ابن عباس عن الرسول صلى الله عليه وسلم. وعن ابن زيد قال: لمَّا قيلَ لبني إسرائيل: ادخلوا البابَ سُجدًا وقولوا حِطةٌ، فبدلَ الذين ظلموا منهم قولاً غير الذي قيل لهم، بعثَ الله جل وعز عليهم الطاعونَ , فلم يبق منهم أحدٌ. وقرَأ(: فأنـزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون) ، قال: وبقي الأبناء ففيهم الفضلُ والعبادةُ ، التي توصف في بني إسرائيل، والخيرُ وهلكَ الأباءُ كلُهم , أهلكَهم الطاعونُ، وقوله تعالى " بما كانوا يفسقون" يعني بما كانوا يتركون طاعة الله عز وجل, فيخرجون عنها إلى معصيته وخلاف أمره (1).

فما أعظمَها من حكايةٍ، وما أخلصَهُ وما أكرمَهُ من نبيٍ مُخلَصٍ كريمٍ، فكان يُسب ويُنتقص ولا يغضبُ لنفسِه ، بل كان يغضبُ لله إذا انتُهِكت حُرماتُ اللهِ. فقد استهزأ فرعونُ اللعينُ به عليه الصلاة والسلام يقول: (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ* فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) (الزخرف: 52-53) ولم يغضبْ لنفسِه. وقد أذاه قومُه بنو إسرائيل حين رموهُ بالأُدْرة ولم يغضبْ لنفسه قال لهم: (وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ۖ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (الصف: 5)، حتى عندما غضبَ وقتل القبطي خطأً لم يكن ذلك لنفسِه إنَّما كان لإستغاثة رجلٌ من بني إسرائيلَ على قبطيٍ من قومِ فرعونَ، فذلك قوله تعالى (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَٰذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ ۖ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ ۖ قَالَ هَٰذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ) (القصص: 15). لكن عندما عبدَ قومُه العجلَ في غيابه غضب للهِ عزوجل وألقى الألواحَ، المكتوبةُ التوراةُ فيها، غضبًا على قومه الذين عبدوا العجل. فمثلُه كمثلِ أخيه وحبيبه الحبيب المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم، سيد الأنبياء، الذي لم يغضب لنفسِه قطُّ وإنَّما كان يغضب للهِ فقط كما رُوي عن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما ضرب خادما قط و لا أمراة ، و لا ضرب رسول الله بيده شيا قط ، إلا أن يجاهد في سبيل الله ، و لا خير بين أمرين إلا كان أحبهما إليه أيسرهما حتى يكون إثما ، فإذا كان إثما كان أبعد الناس من الإثم ، و لا انتقم لنفسه من شيء يؤتى إليه حتى تنتهك حرمات الله عز وجل ، فيكون هو ينتقم لله عز وجل) ( الراوي: عائشة أم المؤمنين المحدث: الألباني - المصدر: السلسلة الصحيحة - الصفحة أو الرقم: 507 خلاصة حكم المحدث: إسناده صحيح على شرط الشيخين). حتى عندما عبس الرسول صلى الله عليه وسلم في وجه الأعمى ابن مكتوم رضي الله عنه وأعرض عنه وأقبل على بعضِ عظماء قريش طمعاً في إيمانهم لِما في ذلكَ من عزةٍ ونُصرةٍ للإسلام والمسلمين، فلم يكنْ عبسُهُ بسبب أمرٍ خاصٍ به أو لمنفعةٍ له وإنَّما كان لأمرٍ مُتعلقٍ بالدعوة إلى دينِ اللهِ عزوجل الإسلام الحنيف. وما أقبحَهم وما أجحدَهم من قومٍ، ولعنةُ اللهِ على كُل من بدلَ منهم بعد نبيهِ موسى عليه السلام الهدى بالضلال ولم يؤمن بأخويه عيسى عليه السلام، كلمةُ اللهِ وروحِه، والرسول صلى الله عليه وسلم حبيبُ اللهِ وصفيهُ من خلقهِ. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

المراجع:
1) تفسير الطبري.
2) تفسير ابن عاشور.

الكاتب: أخوكم خالد صالح أبودياك.