أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


بسم الله الرحمن الرحيم

هذه أيها الأحبة مقالة جديدة لشيخنا أبي عبد الله حمزة النايلي (وفقه الله)، نفعنا الله وإياكم بها.

تذكير المسلمين بأهمية التوكل على رب العالمين

الحمد لله رب العالمين و الصلاة والسلام على أشرف المرسلين،نبينا محمد و على آله،وصحبه أجمعين.
أما بعد:
إن التوكل على العزيز الحميد أيها الأفاضل من أهم مباني التوحيد!، وهو من أشرف العبادات التي يُتقرب بها إلى الكريم المجيد، وتحقيقه واجب على العبيد ،يقول شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- :"التوكل على الله واجب من أعظم الواجبات كما أن الإخلاص لله واجب وحب الله ورسوله واجب ".مجموع الفتاوى ( 7 /16)
فالتوكل على الرحمن أيها الأحبة والإخوان لا غنى للإنسان عنه مهما كان!فالعبد مهما علت مكانته وارتفعت درجته فهو في افتقار دائم للعزيز المنان, يقول الشيخ السعدي – رحمه الله -: " التوكل على الله والاستعانة به خلق جليل يضطر إليه العبد في أموره كلِّها دينيِّها ودنيويها، لأنَّه وإن كان الله تعالى قد أعطى العبد قدرة وإرادة تقع بها أفعاله الاختيارية، ولم يجبره على شيء منها، فإنَّه لا حول له ولا قوة إلا بالله، فإذا اعتمد بقلبه اعتماداً كلياً قوياً على ربه في تحصيل وتكميل ما يريد فعله من أمور دينه ودنياه، ووثق به أعانه وقوّى إرادته وقدرته، ويسّر له الأمر الذي قصده، وصرف عنه الموانع أو خففها، وتضاعفت قوة العبد وازدادت قدرته، لأنَّه استمد واستماح من قوة الله التي لا تنفذ ولا تبيد ".فتح الرحيم الملك العلام (ص107)
ولهذا كان من هدي الأنبياء والمرسلين التوكل على أرحم الراحمين في كل وقت وحين،فعن عبد الله بن عباس-رضي الله عنهما- قال:"(حسبنا الهل ونعم الوكيل ) قالها إبراهيمُ عليه السلام حين ألقي في النَّار،وقالها محمدٌ صلى الله عليه وسلم حين قالوا:(إنَّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل)[آل عمران :173]". رواه البخاري ( 4287)
يقول الإمام ابن القيم –رحمه الله- :" وهو حسب من توكل عليه، وكافي من لجأ إليه، وهو الذي يؤمن خوف الخائف ويجبر المستجير،وهو نعم المولى ونعم النصير، فمن تولاه واستنصر به وتوكل عليه وانقطع بكليته إليه تولاه، وحفظه، وحرسه،وصانه،ومن خافه واتقاه آمنه مما يخاف ويَحذر، وجلب إليه كل ما يحتاج إليه من المنافع".بدائع الفوائد(2/ 463)
وهو من صفات أهل الإيمان كما أخبرنا بذلك عنهم العزيز الرحمن قال تعالى :( وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين) [ المائدة :23].
يقول الشيخ السعدي –رحمه الله- :"التوكل على الله من أعظم واجبات التوحيد والإيمان، وبحسب قوة توكل العبد على الله يقوى إيمانه، ويتم توحيده، والعبد مضطر إلى التوكل على الله والاستعانة به في كل ما يريد فعله أو تركه من أمور دينه أو دنياه. وحقيقة التوكل على الله: أن يعلم العبد أن الأمر كله لله، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه هو النافع الضار المعطي المانع، وأنه لا حول ولا قوة إلا بالله، فبعد هذا العلم يعتمد بقلبه على ربه في جلب مصالح دينه ودنياه، وفي دفع المضار، ويثق غاية الوثوق بربه في حصول مطلوبه، وهو مع هذا باذل جهده في فعل الأسباب النافعة.
فمتى استدام العبد هذا العلم وهذا الاعتماد والثقة فهو المتوكل على الله حقيقة، وليبشر بكفاية الله له ووعده للمتوكلين، ومتى علق ذلك بغير الله فهو شرك، ومن توكل على غير الله، وتعلق به، وكل إليه وخاب أمله". القول السديد شرح كتاب التوحيد ( ص122)
أيها المسلم اعلم – رحمك الرحمن – أن تحقيق هذه العبادة العظيمة لا يكون بمجرد النطق باللسان ! دون صدق اعتماد القلب على المنان , يقول الإمام ابن رجب – رحمه الله- :"التوكل هو : صدق اعتماد القلب على الله عز وجل في استجلاب المنافع ودفع المضار من أمور الدنيا والآخرة".جامع العلوم والحكم ( ص 436)
ويقول الإمام ابن القيم –رحمه الله- :" سر التوكل وحقيقته هو اعتماد القلب على الله وحده، فلا يضره مباشرة الأسباب مع خلو القلب من الاعتماد عليها والركون إليها، كما لا ينفعه قوله : توكلت على الله مع اعتماده على غيره وركونه إليه وثقته به، فتوكل اللسان شيء، وتوكل القلب شيء، كما أن توبة اللسان مع إصرار القلب شيء، وتوبة القلب وإن لم ينطق اللسان شيء، فقول العبد : توكلت على الله مع اعتماد قلبه على غيره مثل قوله : تبت إلى الله وهو مصر على معصيته مرتكب لها ".الفوائد (ص 87)
واعلم كذلك – رعاك الله – أن بذل الأسباب لا ينافي التوكل على الكبير المتعال كما يظن بعض الجهال ! بل إن اتخاذها والعمل بها من التوكل , يقول الإمام ابن رجب – رحمه الله- :" واعلم أن تحقيق التوكل لا ينافي السعي في الأسباب التي قدر الله سبحانه وتعالى المقدورات بها، وجرت سنته في خلقه بذلك، فإن الله تعالى أمر بتعاطي الأسباب مع أمره بالتوكل فالسعي في الأسباب بالجوارح طاعة له، والتوكل بالقلب عليه إيمان به".جامع العلوم والحكم (ص 437)
لكن احذر أيها المسلم – ثبتك الله – أشد الحذر من الاعتماد على الأسباب فقط ! يقول الإمام ابن القيم –رحمه الله- :" فمن أنكر الأسباب لم يستقم منه التوكل، ولكن من تمام التوكل : عدم الركون إلى الأسباب وقطع علاقة القلب بها، فيكون حال قلبه قيامه بالله لا بها ،وحال بدنه قيامه بها ".مدارج السالكين (2/120)
أيها الأحبة الأفاضل إن مما ينبغي أن نتيقن منه أننا لو ربطنا قلوبنا حقا بخالقنا جل وعلا وتوكلنا عليه حق التوكل في شؤوننا كلها لما دبَّ إلينا النقص !وضعف إيماننا ! ولرزقنا الله جل جلاله من حيث لا ندري! , فعن عمر -رضي الله عنه-أن رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال:"لو أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكَّلُونَ على اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرُزِقْتُمْ كما يُرْزَقُ الطَّيْرُ، تَغْدُو خِمَاصًا، وَتَرُوحُ بِطَانًا".رواه الترمذي(2344)،وصححه الشيخ الألباني-رحمه الله- .
قال أبو حاتم الرازي – رحمه الله- :" هذا الحديث أصل في التوكل، وأنه من أعظم الأسباب التي يستجلب بها الرزق". جامع العلوم والحكم (ص 436)
ويقول الإمام ابن القيم – رحمه الله- :"فيه إخبار بأنه سبحانه يرزق المتوكلين عليه من حيث لا يحتسبون، وأنه لا يخليهم من رزق قط، كما ترون ذلك في الطير فإنها تغدو من أوكارها خماصًا فيرزقها سبحانه حتى ترجع بطانًا من رزقه، وأنتم أكرم على الله من الطير وسائر الحيوانات، فلو توكلتم عليه لرزقكم من حيث لا تحتسبون ولم يمنع أحدا منكم رزقه". جلاء الأفهام (ص 287)
ويقول الملا علي قاري –رحمه الله- :" ( تغدو ) أي: تذهب أول النهار ( خماصاً ) بكسر الخاء المعجمة جمع خميص ، أي: جياعاً . ( وتروح ) أي: ترجع آخر النهار ( بطاناً ) بكسر الموحدة جميع بطين وهو عظيم البطن ، والمراد: شباعاً ".مرقاة المفاتيح ( 9/573)
لأن من توكل على الله جل وعلا حق التوكل فهو سبحانه حسبه وناصره ومؤيده , قال تعالى : ( من يتوكل على الله فهو حسبه ) [ الطلاق :3]
يقول الشيخ السعدي – رحمه الله- :" أي: في أمر دينه ودنياه، بأن يعتمد على الله في جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، ويثق به في تسهيل ذلك ( فهو حسبه ) أي: كافيه الأمر الذي توكل عليه به، وإذا كان الأمر في كفالة الغني القوي العزيز الرحيم، فهو أقرب إلى العبد من كل شيء، ولكن ربما أن الحكمة الإلهية اقتضت تأخيره إلى الوقت المناسب له؛ فلهذا قال تعالى: ( إِنَّ الله بَالِغُ أمره ) أي: لا بد من نفوذ قضائه وقدره، ولكنه ( قد جعل اللَّهُ لكلِّ شيء قدرًا ) أي: وقتًا ومقدارًا، لا يتعداه ولا يقصر عنه". تفسير السعدي ( ص558)
لأن التوكل الحقيقي على رب العالمين هو مفتاح كل خير وطريق كل نجاح وفلاح في الدارين بإذن أرحم الراحمين , يقول الشيخ السعدي – رحمه الله- :" والتوكل الحقيقي يطرد عن العبد الكسل، ويوجب له النشاط التام على الأمر الذي توكل على الله به، ولا يتصاعب شاقاً، ولا يستثقل أي عمل، ولا ييأس من النجاح وحصول مطلوبه، عكس ما يظنه بعض المنحرفين الذين لم يفهموا معنى التوكل، أو فهموه لكن إنكار القدر والقضاء صرفهم عن الحق، فحسبوا أنَّ التوكل يضعف الهمة والإرادة، وأساؤوا غاية الإساءة حيث ظنوا بربهم الظن السوء، فإنَّ الله أمر بالتوكل في آيات كثيرة, وأخبر أنَّه من لوازم الإيمان ووعد المتوكلين: الكفاية وحصول المطلوب، وأخبر أنَّه يحبهم، وأنَّه لا يتم الدين إلا به، ولا تتم الأمور إلا به، فالدين والدنيا مفتقرات إلى التوكل". فتح الرحيم الملك العلام (ص107)
فالعبد بتحقيقه يقطف ثمارا نافعة وفوائد جليلة من أهمها الرضا بقضاء الله جل وعلا وقدره , يقول الإمام ابن رجب – رحمه الله- :" واعلم أن ثمرة التوكل الرضا بالقضاء فمن وكل أموره إلى الله ورضي بما يقضيه له ويختاره فقد حقق التوكل ".جامع العلوم والحكم (ص 442)
وحصول المطلوب ونيل المرغوب بإذن علام الغيوب , يقول الإمام ابن القيم –رحمه الله- :" من صدق توكله على الله في حصول شيء ناله ".مدارج السالكين (2/114)
ويندفع كذلك بتحقيقه بإذن الله تعالى المكروه , يقول الإمام ابن القيم –رحمه الله- :" التوكل من أعظم الأسباب التي يحصل بها المطلوب ويندفع بها المكروه ".مدارج السالكين (2/120)
يقول الشيخ السعدي – رحمه الله- :" وللتوكل فوائد عظيمة:
منها: أنَّه لا يتم الإيمان والدين إلا به، وكذلك لا تتم الأقوال والأفعال والإرادات إلا به.
ومنها:أنَّ من توكل على الله كفاه، فإذا وعد الله عبده بالكفاية إذا توكل عليه،عُلِمَ أنَّ ما يحصل من الأمور الدينية والدنيوية،وأحوال الرزق وغيرها بالتوكل أعظم بكثير مما يحصل إن حصل إذا انقطع قلب العبد من التوكل.
ومنها:أنَّ التوكل على الله أكبر سبب لتيسير الأمر الذي تُوكِّل عليه وتكميلِه وتتميمِه، ودفع الموانع الحائلة بينه وبين تكميله.
ومنها:أنَّ المتوكل على الله قد علم أنَّه اعتمد في توكله، واستند إلى من جميعُ الأمور كلِّها في ملكه، وتحت تصريفه وتدبيره،ومن جملتها: فعل العبد، فكلما فترت همته وضعف نشاطه أَمَدَّه هذا التوكل بقوة إلى قوته، وقد وثق بكفاية ربه، والوثوق والطمع في حصول المطلوب لا شك أنَّه من أعظم الأسباب الباعثة على الأعمال المرغبة فيها، وهذا أمر مشاهد معلوم.
ومنها:أنَّ المتوكل على الله حقيقة قد أبدى الافتقار التام إلى ربه، وتبرأ من حوله وقوته، ولم يعجب بشيء من عمله، ولم يتكل على نفسه لعلمه أنَّها ضعيفة مهينة، سريعة الانحلال، بل لجأ في ذلك إلى ربه، مستعيناً به في حصول مطلوبه.
وهذا هو الغنى الحقيقي، لأنَّه استغنى بربه وكفايته، وهو مع ذلك قد أبدى غاية المجهود، فتبين أنَّ التوكل لا ينافي القيام بالأسباب الدينية والدنيوية، بل تمامه بفعلها بقوة صادقة وهمة عالية، معتمدة على قوة القوي العزيز". فتح الرحيم الملك العلام (ص107)
ومن ضيع وفرط في تحقيق هذه العبادة العظيمة أيها الكرام باء بالخسران وأصبح من أهل الحرمان , لأن من أسباب الغواية والبعد عن الهداية أيها الأحباب عدم التوكل على العزيز الوهاب , يقول الإمام ابن القيم –رحمه الله- :" فالعبد آفته : إما من عدم الهداية وإما من عدم التوكل فإذا جمع التوكل إلى الهداية فقد جمع الإيمان كله ".مدارج السالكين (2 / 127)
فلنحرص أيها الأفاضل – رعاكم الرحمن – أشد الحرص على تحقيق هذه العبادة الكريمة التي هي موصلة إلى كل خير بإذن العزيز المقتدر, ولنحذر أشد الحذر من أن نعتمد فقط على الأسباب دون ربط القلوب برب الأرباب,أو لا نسعى في تحقيق الأسباب ظنا منَّا أن ذلك ينافي التوكل على العزيز الوهاب!فهذا ليس بصواب!, يقول الشيخ السعدي-رحمه الله-:" المؤمن لا يقنط من رحمة الله،ولا ييأس من روح الله،ولا يكون نظره مقصورا على الأسباب الظاهرة،بل يكون متلفتا في قلبه كل وقت إلى مسبب الأسباب،الكريم الوهاب، ويكون الفرج بين عينيه ، ووعده الذي لا يخلفه ، بأنه سيجعل له بعد عسر يسرا ،وأن الفرج مع الكرب،وأن تفريج الكربات مع شدة الكربات وحلول المفظعات ".بهجة قلوب الأبرار (ص 319)
فالله أسأل بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يوفقنا وإياكم للسير على منهج الأنبياء واقتفاء أثر الأصفياء، ويجعلنا جميعا من عباده الأتقياء الذين يتوكلون عليه في السراء والضراء، فهو سبحانه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.
وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أبو عبد الله حمزة النايلي