أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


أمِنْ أقوال ابْنِ القَيِّمِ فِي كِتَابِهِ (أَسْرَارُ الصَّلَاة)
[مُقَدِّمَة]
1- فاعلم أنه لا ريب أن الصلاة قرة عُيون المحبين ، و لذة أرواح الموحدين ، و بستان العابدين ،ولذة نفوس الخاشعين ،ومحك أحوال الصادقين ،وميزان أحوال السالكين ،وهي رحمةُ الله المهداة إلى عباده المؤمنين .
[القَلْبُ يَسْتَسْقِي الرَّب جَلَّ وَعلا]
2- ولا يزال القلب في استسقاء و استمطار هكذا دائما ، يشكو إلى ربه جدبه ، و قحطه ، و ضرورته إلى سُقيا رحمته ، و غيث برِّه ، فهذا دأب العبد أيام حياته.
3- وكذلك القلب يَيبسُ إذا خلا من توحيد الله وحبه ومعرفته وذكره و دعائه .
4-والقلب الميت القاسي كالشجرة اليابسة لا يصلحان إلا للنَّار: { فويلٌ للقاسية قُلوبهم مِّن ذكر الله أولئك في ضلال مُّبين} [الزمر :22].
[لِكُلِّ جَارِحَةٍ عُبُوديَّةٌ خَاصَّة]
5- و لله في كل جارحة من جوارح العبد عبودية تخُصُّه ، و طاعة مطلوبة منها ، خلقت لأجلها و هيئت لها .
[أَقْسامُ النَّاس فِي اسْتِعمَالِ جَوارِحِهِم]
6- والناس بعد ذلك ثلاثة أقسام :
أحدهما : من استعمل تلك الجوارح فيما خلقت له ، و أريد منها ، فهذا هو التاجر الرابح.
والثـاني : من استعمل جوارحه فيما لم تُخلق له ، بل حبسها على المخالفات و المعاصي ،فهذا هو الذي خابَ سعيه ،وخسرت تجارته ،وفاته رضا ربَّه عزَّ وجل عنه ،وجَزيل ثوابه ، و حصل على سخطه و أليم عقابه.
والثـالث : مَن عطَّل جوارحه ،وأماتها بالبطالة ،والجهالة ،فهذا أيضاً خاسر بائر أعظم خسارة من الذي قبله ،فإن العبد إنما خُلق للعبادة و الطاعة لا للبطالة .
[الربُّ يَدعو عِبَادهُ لِينَالو مِن عَطَايَاهُ]
7- فدعا الله عباده المؤمنين الموحدين إلى هذه الصلوات الخمس ،رحمة منه بهم ،وهَيَّأ لهم فيها أنواع العبادة ؛ لينال العبد من كلِّ قول و فعل و حركة و سكون حظه من عطاياه.
[سِرُّ الصَّلاةِ وَلُبُّها]
8- و كان سرُّ الصلاة و لُبها إقبال القلب فيها على الله ، و حضوره بكلِّيته بين يديه.
9- فكما أنه لا ينبغي أن يصرف العبد وجهه عن القبلة ،فكذلك ينبغي له أن لا يصرف قلبه عن ربِّه ؛ بل يجعل الكعبة ـ التي هي بيت الله ـ قبلة وجهه و بدنه ، و رب البيت تبارك و تعالى قبلة قلبه و روحه.
10-و على حسب إقبال العبد على الله في صلاته ،يكون إقبال الله عليه ،وإذا أعرضَ أعرض الله عنه ، فكما تدين تُدان.
11- و جعل سبحانه و تعالى الصلاة سببا موصلا إلى قُربه ،ومناجاته ،ومحبته ،والأنس به .
[الطَّهَارَةُ أوَّلاً]
12- فبالوضوء يتطَّهر من الأوساخ ،ويُقدم على ربِّه متطهراً ،والوضوء له ظاهر ،وباطن :
* فظاهره : طهارة البدن ، وأعضاء العبادة.
* وباطنه وسرّه : طهارة القلب من أوساخ الذنوب والمعاصي وأدرانه
بالتوبة ؛ولهذا يقرن تعالى بين التوبة والطهارة في قوله تعالى : { إن الله يحب التَّوابين و يحب المتظهرين }[ البقرة : 222].
13- فكمَّل له مراتب العبودية والطهارة باطناً وظاهراً ،فإنه بالشهادة يتطهر من الشرك ،وبالتوبة يتطهر من الذنوب ، وبالماء يتطهر من الأوساخ الظاهرة .
14- والعبد في حال غفلته كالآبق من ربه ،فإذا جاء إليه فقد رجع من إباقه ،واستدعى عطف سيِّده عليه ،وإقباله عليه.
[اسْتِقبَالُ الْقِبْلَةِ]
15- وأُمر بأن يستقبل القبلة ـ بيته الحرام ـ بوجهه ،ويستقبل الله عز وجل بقلبه .
16-ثم أقبل بكليته عليه ، ثم كبَّره بالتعظيم و الإجلال وواطأ قلبه لسانه في التكبير ،فكان الله أكبر في قلبه من كلِّ شيء.
[دُعَاءُ الاسْتِفْتَاحِ]
17- فإذا قال: " سبحانك اللهم و بحمدك" ،وأثنى على الله تعالى بما هو أهله ، فقد خرج بذلك عن الغفلة وأهلها ،فإن الغفلة حجاب بينه و بين الله.
18- وأتى بالتحية والثناء الذي يُخاطب به الملك عند الدخول عليه تعظيماً له وتمهيداً ، وكان ذلك تمجيداً ،ومقدمة بين يدي حاجته.
[الاسْتِعَاذَةُ]
19- فإذا شرع في القراءة قدَّم أمامها الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم فإنه أحرص ما يكون على خُذلان العبد في مثل هذا المقام.
20- فإذا استعاذ الإنسان بالله من الشيطان الرجيم أبعده الله عنه .
21- وإن النفس منفعلة للشيطان ، سامعة منه ، مطيعة فإذا بَعُدَ عنها ، وطُرِدَ ألَمَّ بها الملَك ،وثبَّتها ،وذكّرها بما فيه سعادتها ونجاتها.
[نَصِيْحَةٌ غَالِيَة]
22- و قال لي شيخ الإسلام ابن تيمية يومًا : إذا هاش عليك كلب الغنم فلا تشتغل بمحاربته ،ومدافعته ،وعليك بالراعي فاستغث به فهو يصرف عنك الكلب ،ويكفيكه.
[مُخَاطبَةُ العَبْدِ رَبَّهُ فِي صَلَاتِهِ]
23- فإذا أخذ العبد في قراءة القرآن ،فقد قام في مقام مخاطبة ربِّه ومناجاته ،فليحذر كل الحذر من التعرّض لمقته وسخطه بأن يناجيه و يخاطبه وقلبه معرِض عنه ،ملتفت إلى غيره...
[الفَاتِحَة]
24- فينبغي بالمصلي أن يقف عند كل آية من الفاتحة وقفة يسيرة ، ينتظر جواب ربِّه له ، و كأنه يسمعه و هو يقول : " حمدني عبدي " إذا قال : {الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ}.
فإذا قال : {الرَّحمن الرَّحيم} وقفَ لحظة ينتظر قوله : " أثنى عليَّ عبدي ".
فإذا قال : {مالكِ يومِ الدِّينِ} انتظر قوله : " مجَّدني عبدي ".
فإذا قال : { إيَّاك نَعبدُ و إيَّاك نَستعين } انتظر قوله تعالى : " هذا بيني و بين عبدي ".
فإذا قال : {اهدِنا الصِّراط المُستقيم} إلى آخرها انتظر قوله : " هذا لعبدي و لعبدي ما سأل".
[الحَمدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِيْن]
25- وفي قوله : {الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالمَيِن} تجد في هذه الكلمة إثبات كلّ كمال للرب اسماً ،ووصفا ،وفعلاً.
26- وَحَمْدُهُ تعالى قد ملأ الدنيا والآخرة ،والسموات والأرض ،وما بينهما وما فيهما ،وحمدُه هو سبب وجود كل شيء موجود.
27-وهو سبحانه هو الذي حمِد نفسه على لسان الحامد ،كما قال النبي : (إن الله تعالى قال على لسان نبيه : سَمعَ اللهُ لمن حَمِدَه).
28- فالعبد و لو استنفد أنفاسه كلّها في حمد ربه على نعمة من نعمه كان ما يجب عليه من الحمد عليها فوق ذلك ،وأضعاف أضعافه.
[اللهُ رَبُّ الْعَالَمِيْن]
29- وقوله : {ربِّ العالمين} من العبودية شهود تفرّده سبحانه بالربوبية وحده .
30- وكما أنه رب العالمين ،وخالقهم ،ورازقهم ،ومدبِّر أمورهم ،وموجدهم ،ومغنيهم ،فهو أيضا وحده إلههم ،ومعبودهم ،وملجأهم ،ومفزعهم عند النوائب ،فلا ربَّ غيره ، و لا إله سواه.
[الرَّحْمـاـنِ الرَّحِيْمِ]
31- وقوله:{ الرَّحمن الرَّحيم} عبودية تخصه سبحانه ، و هي شهود العبد عموم رحمته وشمولها لكلّ شيء ،وسعتها لكلِّ مخلوق: {ربَّنا وسعتَ كُلَّ شيء رَّحمةً وعلما} [ غافر :7]
[مَالِكِ يَوْمِ الدِّيْنِ]
32- وفي قوله :{مالك يوم الدِّين} عبودية الذلِّ والانقياد له سبحانه ،وتفرَّد الربِّ في ذلك اليوم بالحكم بين خلقه ، كما قال تعالى : {وقُضيَ بينَهم بالحقِّ و قيل الحمدُ لله ربِّ العالمين}[الزمر:75].
[إيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِيْن]
33- قوله : {إيَّاك نعبدُ و إيَّاك نستعين} فالعبادة لله ،والاستعانة للعبد ،ولذلك قدَّمَ العبادة على الاستعانة.
[اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيْم]
34- قوله: {اهدنا الصِّراط المُستقيم} يتضمن (1)معرفة الحق ،وقصده وإرادته ،(2)والعمل به ،(3)والثبات عليه ،(4)والدعوة إليه ،(5)والصبر
على أذى المدعو إليه ،فباستكمال هذه المراتب الخمس يستكمل العبد الهداية و ما نقص منها نقص من هدايته.
[أَنوَاعُ الْهِدَايَاتِ الَّتِي يَفْتَقِرُ إِلَيْهَا الْعَبْدُ]
35- أنواع الهدايات التي يحتاجها العبد:
أ- الهداية إلى التوبة:وتكون للعاصين والمذنبين.
ب-الهداية إلى تفاصيل الأمور:وتكون بعد معرفة مجملها(أصلها).
ج-هداية التمام:وتكون بعد معرفة شئ من وجه دون وجه،وهي زيادة الهدى على الهدى.
د-الهداية في المستقبل:أي أن يحصل له من الهداية في المستقبل ما حصل له في الماضي.
ه-الهداية إلى الاعتقاد الصحيح والنيَّةِ السليمة.
و-الهداية إلى اليقين ورفع الشك.
ز-هداية التوفيق إلى الفعل.
ح-هداية القدرة على الفعل.
ط-هداية الثبات على الدين والطاعة.
[أقسامُ الْخَلْقِ بِالنِّسْبَةِ لِلْهِدَايَةِ]
36- فانقسم الخلق إذن إلى ثلاثة أقسام بالنسبة إلى هذه الهداية :
أ) مُنعم عليه : بحصولها له وثباته عليها.
ب)وضالٌ : لم يُعطَ هذه الهداية و لم يُوفق لها .
ج)ومغضوب عليه : عَرفها و لم يوفق للعمل بموجبها.
37- فالأول المنعم عليه قائم بالهدى ،ودين الحق علما وعملاً ،والضال منسلخ منه علماً وعملاً ،والمغضوب عليه لا يرفع بذلك رأساً.
[التأْمِين ، وَحسَدِ الْيَهودِ لِلْمُسْلِمِيْن]
38- و شرع له التأمين في آخر هذا الدعاء تفاؤلاً بإجابته ،وحصوله ؛ولهذا اشتد حسدُ اليهود للمسلمين عليه حين سمعُوهم يجهرون به في صلاتهم.
[التَّكْبِيْرُ وَرَفعُ الْيَدَيْنِ]
39- ثم شرع له رفع اليدين عند الركوع تعظيما لأمر الله ،وزينةً للصلاة ، وعبودية خاصةً لليدين كعبودية باقي الجوارح ، و اتباعاً لسنَّة رسول الله  ،فهو حليةُ الصلاة ،وزينتها وتعظيمٌ لشعائرها.
40- والتكبير الذي هو في انتقالات الصلاة من رُكن إلى ركن ؛كالتلبية في انتقالات الحاجِّ ، من مشعر إلى مشعر ، فهو شعار الصلاة ، كما أن التلبية شعار الحج.
[الرُّكُوعُ خُضُوعٌ وَخُشُوع]
41-وفي الركوع خضوعٌ لعظمة الرب جل وعلا ،واستكانة لهيبته ،وتذللاً لعزته.
42-وتمام عبودية الركوع أن يتصاغر الراكع ،ويتضاءل لربه بحيث يمحو تصاغره لربه من قلبه كلَّ تعظيم فيه لنفسه .
43- و كلما استولى على قلبه تعظيم الربِّ وقوى ،خرج منه تعظيم الخلق.
[الاعتِدَالُ مِنَ الرُّكُوعِ]
44- ثم شرع له أن يحمد ربه عند اعتداله وانتصابه ورجوعه إلى أحسن تقويم ، بأن وفقه وهداه لهذا الخضوع الذي قد حُرِمَهُ غيره.
[السُّجودُ قُرْبٌ وانْكِسَارٌ]
45- ثم شرع له أن يكبر ويدنو ويخرَّ ساجداً ،فيضع أشرف ما فيه ـ و هو وجهه ـ بالأرض بين يدي سيِّده ،راغماً أنفه ،خاضعاً له قلبه وجوارحه ، متذلِّلاً لعظمة ربه ،قد صارت أعاليه ملويةً لأسافله.
46- وقد طابق قلبُه في ذلك حال جسده ، فسجد القلب للرب كما سجد الجسد بين يدي الله.
47- و شرع له أن يُقلَّ فخذيه عن ساقيه ،وبطنه عن فخذيه ،وعَضُديه عن جنبيه ، ليأخذ كل جزءٍ منه حظّه من الخضوع لا يحملَ بعضه بعضاً .
48-وسئل سهل بن عبد الله التستري: هل يسجد القلب ؟ ،قال : أي والله سجدةً لا يرفع رأسه منها حتى يلقى الله عزَّ و جل.
[أَركَانُ الصَّلَاةِ الخَمْسَة]
49- ولما بنيت الصلاة على خمس :القراءة ،والقيام ،والركوع ،والسجود ،والذكر ،سمّيت باسم كل واحد من هذه الخمس :
* فسمّيت " قياماً " لقوله : { قُم اللَّيل إلاَّ قليلاً} [ المزمل :2] ، و قوله : {وقُومُوا لله قانتين} [البقرة :238].
* و "قراءةً" لقوله : {وقرآن الفَجر إنَّ قُرآن الفَجر كان مشهُوداً} [الإسراء :78] ، {فاقرءوا ما تيَسَّر منه} [المزمل :48].
*و سمّيت " ركوعاً " لقوله : {واركعُوا مع الرَّاكعين}[ البقرة :43] ،{وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعُون}[المراسلات :48].
*و " سجوداً " لقوله :{فسبِّح بحمد ربِّك و كن مّن السَّاجدين}[ الحجر : 98] ، وقوله :{واسجُد واقترب}[العلق :19].
*و "ذكراً " لقوله : { فاسعوا إلى ذكر الله}[ الجمعة :9] ،{ لا تُلهكم أموالكم و لا أولادكم عن ذكر الله }[ المنافقون :9].
[أَشْرَفُ الأَفْعَالِ وَالأَذْكَارِ]
50- وأشرف أفعالها السجود ، وأشرف أذكارها القراءة ، وأول سورة أنزلت على النبي  سورة { اقرأ باسم ربِّك } افتتحت بالقراءة ، و خُتمت بالسجود ، فوضعت الركعة على ذلك ،أولها قراءة وآخرها سجود.
[الجُلُوسُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ]
51- والعبد في هذا القعود يتمثَّل جاثيا بين يدي ربه ، مُلقيا نفسه بين يديه ، مُعتَذراً إليه ، راغباً فيما عنده.
[القَلْبُ وَالنَّفْسُ شُرَكَاء]
52- و القلب شريك النفس في الخير والشر ، والثواب والعقاب ، والحمد والذم .
53- والنفس من شأنها الإباق والخروج من رقِّ العبودية ،وتضييع حقوق الله عز وجل ،والقلب شريكها إن قوي سلطانها ،وهي شريكته وأسيرته إن قوي سلطانه.
[الدُّعَاءُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ]
54- فشرع للعبد إذا رفع رأسه من السجود أن يجثو بين يدي الله تعالى مستعديا على نفسه ، معتذراً من ذنبه إلى ربه ومما كان منها ،راغباً إليه أن يرحمه ،ويغفر له ،ويهديه ،ويرزقه ،ويعافيه ، وهذه الخمس كلمات ، قد جمعت جماع خير الدنيا و الآخرة.
[سَجدةٌ وَاحِدَةٌ لَا تَكْفِي]
55- و لا يكتفي منه بسجدة واحدة في الركعة كما اكتفى منه بركوع واحد ؛ وذلك لفضل السجود وشرفه وقرب العبد من ربِّه وموقعه من الله عز وجل ، حتى إنَّه أقرب ما يكون إلى ربه و هو ساجد.
[الطَّوافُ نَظِيْرُ السُّجُود]
56- و كما أنه أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ، فكذلك أقرب ما يكون منه في المناسك وهو طائف .
57-وكما قال ابن عمر لمن خطب ابنته وهو في الطواف فلم يرد عليه فلما فرغ من الطواف قال : أتذكر أمراً من أمور الدنيا ونحن نتراءى لله سبحانه وتعالى في طوافنا.
[الكَمَالُ فِي تِكْرَارِ الأَعمَالِ]
58- وشُرع له تكرير هذه الأفعال والأقوال ؛ إذ هي غذاء القلب و الروح التي لا قوام لهما إلا بها ، فكان تكريرها بمنزلة تكرير الأكل لقمة بعد لقمة حتى يشبع ، و الشرب نَفَسَاً بَعْدَ نَفَسٍ حتى يَروى.
[الجُلُوسُ الأَخِيْرِ وَأَدَاءُ التَّحِيَّةِ]
59- فلما قضى صلاته و أكملها و لم يبق إلا الانصراف منها ،فشرع الجلوس في آخرها بين يدي ربه مُثنياً عليه بما هو أهله ، فأفضل ما يقول العبد في جلوسه هذه التحيات التي لا تصلح إلا لله ، و لا تليق بغيره.
60- وكل تحية تَحَيَّا بِهَا ملك من سجود أو ثناء ، أو بقاء ، أو دوام فهي لله على الحقيقة ؛و لهذا أتى بها مجموعة معرَّفة بالألف و اللام إرادة للعموم ، و هي جمع تحية ، تحيا بها الملوك ، وهي " تُفعُلة" من الحياة ، وأصلها " تحييه" على وزن " تكرمه" ، ثم أدغم إحدى اليائين في الآخر فصارت " تحيَّة " فإذا كان أصلها من الحياة ، والمطلوب منها لِمَن تَحَيَّ بها دوام الحياة .
61- ويراد بها دوام الملك والحياة ، وذلك كله لا ينبغي إلا لله الحي القيوم الذي لا يموت.
[الصَّلَوَاتُ الطيِّبَاتُ للهِ]
62-وهو سبحانه طيِّبٌ ، و كلامه طيِّب ، و فعله كلّه طيب ، ولا يصدر منه إلا طيّب ، ولا يضاف إليه إلا الطيِّب ، ولا يصعد إليه إلا الطيّب ، وهو إله الطيبين وربهم ، وجيرانه في دار كرامته ، هم الطيبون.
[أَطْيَبُ الكَلامِ بَعْدَ الْقُرْآنِ]
63- فتأمل أطيب الكلمات بعد القرآن، وهي : (سبحان الله ،والحمد لله ،ولا إلـاـه إلا الله ،والله أكبر ،ولا حول ولا قوة إلا بالله) .
فـ" سبحان الله " تتضمن تنزيهه عن كل نقص وعيب وسوء و تنزيهه عن خصائص المخلوقين و شبههم.
و " الحمد لله " تتضمن إثبات كلّ كمال له قولاً ،وفعلاً ،ووصفاً على أتمِّ الوجوه ، و أكملها أزلاً و أبداً .
و " لا إله إلا الله " تتضمن انفراده بالإلهية ، وأن كل معبود سواه باطل ، وأنه وحده الإله الحق .
و " الله أكبر " تتضمن أنه أكبر من كلِّ شيء ،وأجلُّ ،وأعظم ،وأعز ،وأقوى ،وأمنع ،وأقدر ،واعلم ،وأحكم .
[التَّسْلِيْم عَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِيْن]
64- وشُرِعَت تحية المخلوق بعد تحية الخالق وَقَدَّمَ في هذه التحية النَّبِي  وهو أولى الخلق بها وَمِنْ ثمَّ على سائر عباد الله الصالحين ، وأخصهم بهذه التحية الأنبياء والملائكة ،ثم أصحاب محمد  ،وأتباع الأنبياء مع عمومها كل عبد صالح في السماء و الأرض.
[خَاتِمَةُ الصَّلَاة وَخَاتِمَةُ الْحَيَاة]
65-وَجُعِلَتْ شهادة الحق خاتمة الصلاة كما شرع أن تكون هي خاتمة الحياة ،وكذلك شُرعَ للمتوضئ أن يختتم وضوءه بالشهادتين.
[أَعْظَمُ الْوَسَائِلِ بَيْنَ يَدَي الدُّعَاءِ]
66- وَشُرِعَ له أن يتوسل قبلها بالصلاة على النبي  ، فإنها من أعظم الوسائل بين يدي الدعاء.
[سُنَن الأَذَان الخَمْس]
67- ونظير هذا ما شرع لمن سمع الآذان :
- أن يقول كما يقول المؤذن.
- وأن يقول: رضيت بالله ربا ، و بالإسلام دينا ، و بمحمَّدٍ رسولاً.
- وأن يسأل الله لرسوله الوسيلة و الفضيلة ، وأن يبعثه المقام المحمود.
- ثم ليصل عليه .
- ثم يسأل حاجته.
فهذه خمس سنن في إجابة المؤذن لا ينبغي الغفلة عنها.
[حَقِيْقَةُ الإِسْلَامِ: التَّسْلِيْمُ]
68- وحقيقة الاسلام من التسليم ، فإنه لما سلّم لحكم ربه الديني الأمري ، ولحكمه الكوني القدري بقيامه بعبودية ربه فيه لا باسترساله معه في الهوى ، والشهوات ، والمعاصي ، استحقَّ اسم الإسلام فقيل له: مُسْلِم.
[ثَمَرَةُ الصَّلَاة]
69- وكما أن الصوم ثمرته تطهير النفس ،وثمرة الزكاة تطهير المال ، وثمرة الحج وجوب المغفرة ،وثمرة الجهاد تسليم النفس إليه ، التي اشتراها سبحانه من العباد ،وجعل الجنة ثمنها ؛فالصلاة ثمرتها الإقبال على الله ، وإقبال الله سبحانه على العبد ،وفي الإقبال على الله في الصلاة جميع ما ذُكِرَ من ثمرات الأعمال وجميع ثمرات الأعمال في الإقبال على الله فيها.
[الْفَرْقُ بَيْنَ السَّمَاعِ وَالْقُرآنِ]
70- فنحن نناشد أهل السماع بالله الذي لا إله إلا هو ، هل يجدون في سماعهم مثل هذا الذوق أو شيء منه؟ ، بل نناشدهم بالله ، هل يدعهم السماع يجدون بعض هذا الذوق في صلاتهم أو جزءاً يسيراً منها؟.
71- وكلَّما قوي ذوق أحدهما-السماع أو القرآن- وسلطانه ضعف ذوق الآخر وسلطانه ؛لأن كلاً منهما مباين للآخر من كل وجه.
[الْفَرْقُ بَيْنَ ذَوْقِ الآيَاتِ وَذَوْقِ الأَبْيَاتِ]
72- ولا يخفى على من له أدنى عقل ،وحياة قلب الفرق بين ذوق الآيات ، وذوق الأبيات ، وبين ذوق القيام بين يدي رب العالمين ،والقيام بين يدي المغنين ،وبين ذوق اللذة والنعيم بمعاني ذكر الله تعالى والتلذذ بكلامه ، وذوق معاني الغناء والتطريب الذي هو رقية الزنا وقرآن الشيطان ، والتلذذ بمضمونها فما اجتمع والله الأمران في قلب إلا وطَرَدَ أحدهما الآخر...
73- فمتى تجئ الأذواق الصحيحة المستقيمة إلى قلوب قد انحرفت أشد الانحراف عن هدي نبيها  ،وتركت ما كان عليه هو وأصحابه والسلف الصالح ؟ ،فإنهم كانوا يجدون الأذواق الصحيحة المتصلة بالله عز وجل في الأعمال : الصلاة المشروعة ، وفي قراءة القرآن ، وتدبره واستماعه ، وفي مزاحمة العلماء بالركب ،وفي الجهاد في سبيل الله ،وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،وفي الحب في الله والبغض فيه ،وتوابع ذلك.
74- وصار ذوق المتأخرين ـ إلا من عصمه الله ـ في اليَرَاعِ-المزمار- والدف ، والمواصيل ،والأغاني المطربة من الصور الحسان والرقص ، والضجيج ،وارتفاع الأصوات ،وتعطيل ما يحبه الله ،ويرضاه من عباده.
75- فشتَّان بين ذوق الألحان وذوق القرآن ،وبين ذوق العود والطنبور ،
وذوق المؤمنين والنُّور ،وبين ذوق الزَّمر وذوق الزَمْرِ ،وبين ذوق النَّاي وذوق {اقتربت السَّاعة و انشق القمر} [القمر : 1] ،وبين ذوق المواصيل والشبَابات ،وذوق يس والصافات ،وبين ذوق غناء الشعر ،وذوق سورة
الشعراء ،وبين ذوق سماع المكاء والتصدية و ذوق الأنبياء ،و بين الذوق على سماع تُذكر فيه العيون السود والخصور والقدود ،وذوق سماع سورة يونس وهود ،وبين ذوق الواقفين في طاعة الشيطان على أقدامهم صواف ،و ذوق الواقفين في خدمة الرحمـاـن في سورة الأنعام والأعراف ،وبين ذوق الواجدين على طرب المثالث والمثاني ،وذوق العارفين عند استماع القرآن العظيم والسبع المثاني ،وبين ذوق أولى الأقدام الصفات في حظيرة سماع الشيطان ،وذوق أصحاب الأقدام الصافات بين يدي الرحمـاـن.
[لا يَجْتَمِعُ كَلَامُ الشَّيْطَانِ وَكَلَامُ الرَّحْمَنِ فِي قَلْبٍ وَاحِدٍ]
76- فوالله لا تجتمع محبة سماع قرآن الشيطان ومحبة سماع كلام الرحمـاـن في قلب رجل واحد أبداً ،كما لا تجتمع بنت عدو الله و بنت رسول الله عند رجل واحد أبداً...
أنت القتيل بكلِّ مَن أحببته فاخـ.... ـتر لنفسك في الهوى مَن تصطفي
75- كان عثمان بن عفان يقول : لو طهرت قلوبنا لما شبعت من كلام الله.
و أي والله ، كيف تشبع من كلام محبوبهم وفيه نهاية مطلوبهم؟ ،وكيف تشبع من القرآن؟ ،وإنما فتحت به-القلوب- لا بالغناء و الألحان؟!
و إذا مَرضنا تداوينا بذكركُم...فإن تركناه زادَ السقم و المرض
[جَدِّدُوا التَّوْبَةَ]
77- ولهذا كان بعض الصادقين إذا فارق السماع بادر إلى تجديد التوبة والاستغفار ،وهذا القدر إنما يعرفه أولوا الفقه في الطريق أصحاب الفِطَن.
78- ولا ريب أن الصادق في سماع الأبيات قد يجد ذوقاً صحيحاً إيمانياً ، ولكن ذلك بمنزلة من شرب عسلاً في إناء نجس.
79- ومَن عرف مقاصد الشرع في سدِّ الذرائع المفضية إلى الحرام ،قطع بتحريم هذا السَّماع ،فإنَّ المرأة الأجنبية وسماع صوتها حرام ،وكذلك الخلوة بها .
انتهى


لمشاهدة الموضوع بشكل أفضل اتبع الرابط:
http://mohhanoona.blogspot.com/2014/08/blog-post.html