أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


أولاً: إنَّ ابن حبان ذكر منهجه في مقدمة كتابه، وذكر فيها أنه لا يضع في كتابه إلا ما اعتقد أنه مقبول بشروط خمسة في ناقليه وهي: العدالة، والصدق، والعقل، والعلم، انظرها على التفصيل في مقدمة كتابه [1/151-الرسالة]، وهذا يعني: أنَّه لن يضع في كتابه إلا ما كان مقبولاً عنده وتحققت في ناقليه هذه الشروط الخمسة، فينبغي أن نفهم عباراته في الصحيح المتعلقة بالتفرد على ضوء ذلك .
ثانيًا: لقد بيَّن ابن حبان في مقدمة كتابه منهجه في قبول زيادة الألفاظ من المحدِّث الثقة، وأنَّه كان يحتاط في ذلك أشدَّ الاحتياط، لا كما يظنه البعض فيه أنَّه متساهل، فكان لا يقبل زيادة الثقة من الحافظ المتقن إلا أن يغلب عليه الفقه، ويحدِّث من كتابه لا من حفظه، فلا يقبل الزيادة إلا بهذه الشروط الثلاثة، وهي أن تكون هذه الزيادة من محدِّث متقن، يحدِّث من كتاب، يغلب عليه الفقه إذا كانت الزيادة متعلقة بالمتن، فقال: وأما زيادة الألفاظ في الروايات فإنا لا نقبل شيئا منها إلا عن من كان الغالب عليه الفقه حتى يُعلَم أنَّه كان يروي الشيء ويعلمُه حتى لا يشك فيه أنه أزاله عن سَننه أو غيَّره عن معناه أم لا؛ لأن أصحاب الحديث الغالب عليهم حفظ الأسامي والأسانيد دون المتون، والفقهاء الغالب عليهم حفظ المتون وأحكامها وأداؤها بالمعنى دون حفظ الأسانيد وأسماء المحدثين، فإذا رفعَ محدِّثٌ خبرًا وكان الغالب عليه الفقه لم أقبل رفعه إلا من كتابه؛ لأنه لا يعلم المسند من المرسل ولا الموقوف من المنقطع، وإنما همته إحكام المتن فقط، وكذلك لا أقبل عن صاحب حديث حافظ متقن أتى بزيادة لفظة في الخبر؛ لأن الغالب عليه إحكام الإسناد وحفظ الأسامي والإغضاء عن المتون وما فيها من الألفاظ إلا من كتابه، هذا هو الاحتياط في قبول الزيادات في الألفاظ.اهـ
وعليه فإنَّ كلَّ زيادات الألفاظ التي أشار إليها ابن حبان في كتابه قد تحقق فيها هذا الشرط عنده، فينبغي أن نفهم عباراته في الصحيح المتعلقة بالتفرد على ضوء ذلك، وسليمان التيمي كان من عبَّاد أهل البصرة، وصالحيهم ثقة وإتقاناً وحفظاً وسنة، هكذا قال عنه ابن حبان في [الثقات/1/300/3011-الفكر]. كأنه يشير إلى مسألة الفقه بقوله «من عباد أهل البصرة، وصالحيهم ... وسنة»، ويؤكد على شدة تثبته وإتقانه مع ذلك بقوله«ثقة وإتقاناً وحفظاً» .
ثالثًا: إنَّ قول ابن حبان بعد إخراجه لهذا الحديث : تَفَرَّدَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ بِقَوْلِهِ: «خُذُوا عَنْهُ» وَبِقَوْلِهِ: «تعتمر وتغتسل وتتم الوضوء» ليس حكمًا منه برد هذه الزيادة، وعدم قبولها، فإنَّ هذا يتعارض مع ما ذكره في مقدمته، وإنَّ النظر المجرَّد لهذه العبارة من ابن حبان دون الرجوع إلى كتابه والصبر على جرده لمعرفة مراده لمن التهور، وحتى لا أقع في ما وقع فيه غيري جردتُ كتاب ابن حبان من أوله لآخره حتى تيقنت بأنه لا يريد أبدًا بهذه العبارة ردَّ الزيادة المشار إليها، بل إنَّه يريد الإشارة إلى مجرَّد عدم المتابعة من الرواة علي هذه الزيادة الثابتة التي يترتب على ثبوتها حكمٌ شرعي، ويشير كذلك إلى أنّه منتبه إلى تفرد الراوي بهذه الزيادة، وأنه لم يغفل عن ذلك، وأنَّها زيادة مقبولة، وأنَّه لم يخرجِّ هذه الزيادة إلا وهو يعلم أنَّ الراوي المتفرِّد بهذه الزيادة قد تحققت فيه الشروط الثالثة المتقدِّم ذكرها، ومما يدل على صحة هذه النتيجة:
أنَّه كثيراً ما يذكر في كتابه هذه العبارة : «ذكر الخبر المدحض قول من زعم أن هذا الخبر تفرد به فلان»اهـ، ثم يذكر الراوي الذي قد يكون أحياناً صحابي كما في رقم (1551)، (6608) ، أو تابعي كبير لا يتكلم العلماء في تفرد طبقته كما في رقم (1038)، فهو لا يقصد بالمتابعة وإزالة التفرد هنا إزالة النكارة عن الحديث الذي قد يكون متفق عليه كما في رقم (6608)، أو أنه يرويه من لا تحتاج طبقته إلى متابع لقبول روايتهم.
ثمَّ إنني لاحظتُ أيضاً أنَّ ابن حبان كثيراً ما يقول :«تفرد به فلان» ويكون الحديث متفق عليه ، كما في رقم (175) قال:أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمُثَنَّى بِالْمَوْصِلِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَرْعَرَةَ حَدَّثَنَا حَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ حدثنا شعبة عن واقد بن محمد عن أبيه عن بْنَ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ" قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: تَفَرَّدَ بِهِ شُعْبَةُ اهـ فهو لا يعني النكارة بلا شك، بل يعني مجرد الإشارة إلى التفرد وعدم المتابعة، وهو مع ذلك تفرد مقبول، فقد أخرج الحديث [البخاري /25]،و[مسلم/22]، وهو قريب من قول الإمام أحمد في حديث أبي رزين، وقد تقدمت الإشارة لذلك .
ومن الأمثلة كذلك التي توضح المراد [2445]قال: أخْبَرَنَا أَبُو يَعْلَى، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ الْمَقَابِرِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «بَادِرُوا الصُّبْحَ بِالْوِتْرِ» «تَفَرَّدَ بِهِ ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، قَالَهُ الشَّيْخُ».اهـ وهذا الحديث عند مسلم [750] بلفظه .
بل ستجد أيضاً عبارة :«تفرد به سليمان التيمي» في لفظة أخرجها مسلم، كما في رقم [1346]قال: ذِكْرُ الْبَيَانِ بِأَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ «وَمَسَحَ نَاصِيَتَهُ» فِي هَذَا الْخَبَرِ تَفَرَّدَ بِهِ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ.اهـ وهي عند مسلم [247] بلفظ « مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَمُقَدَّمِ رَأْسِهِ وَعَلَى عِمَامَتِهِ».
ثمَّ إنك تجده أحياناً يشير إلى بعض الشروط التي اشترطها في قبول هذه الزيادة من الراوي ، كما في رقم [2500] قال: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ رُشَيْدٍ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَا: «دَخَلَ سُلَيْكٌ الْغَطَفَانِيُّ الْمَسْجِدَ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ» «تَفَرَّدَ بِهِ حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، وَهُوَ قَاضِي الْكُوفَةِ قَالَهُ الشَّيْخُ».اهـ وقاضي الكوفة لابد أن يكون الغالب عليه الفقه، وهي أحد الشروط الثلاثة في قبول زيادة المتن عند ابن حبان .
وتجده أحياناً يفسر بهذا التفرد في اللفظ حكمًا مجملاً ، ولا يكون هذا التقييد بالتفرد إلا لثبوته لا لرده، كما [5623]قال: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِيرَوَيْهِ الْأَزْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ خَمْسِ فَوَاسِقَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ: الْحِدَأَةُ، وَالْغُرَابُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ.اهـ ثم قال : ذِكْرُ الْخَبَرِ الْمُتَقَصِّي لِلَّفْظَةِ الْمُخْتَصَرَةِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا لَهَا بِأَنَّ قَتْلَ الْغُرَابِ إِنَّمَا أُبِيحَ الْأَبْقَعُ مِنَ الْغِرْبَانِ دُونَ غَيْرِهِ [5633]: أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمِنْهَالِ الضَّرِيرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَمْسُ فَوَاسِقَ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ: الْعَقْرَبُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالْغُرَابُ الْأَبْقَعُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ» قَالَ أَبُو حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «الْمُخْتَصَرُ مِنَ الْأَخْبَارِ هُوَ رِوَايَةُ صَحَابِيٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ رِوَايَةِ الْعُدُولِ عَنْهُ بِلَفْظِهِ يَتَهَيَّأُ اسْتِعْمَالُهَا فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ، وَالْمُتَقَصِّي هُوَ رِوَايَةُ ذَلِكَ الْخَبَرِ بِعَيْنِهِ، عَنْ ذَلِكَ الصَّحَابِيِّ نَفْسِهِ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ بِزِيَادَةِ بَيَانٍ، يَجِبُ اسْتِعْمَالُ تِلْكَ الزِّيَادَةِ الَّتِي تَفَرَّدَ بِهَا ثِقَةٌ عَلَى السَّبِيلِ الَّذِي وَصَفْنَا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ .اهـ
والأمثلة على إثبات ما ذهبتُ إليه كثيرة جداً تحتاج إلى فصل خاص ضمن رسالة في منهج ابن حبان أسأل الله سبحانه وتعالى إخراجها بعنوان «توفيق المنان بمعرفة منهج ابن حبان» .
والحاصل: أنَّ ابن حبان يريد بالتفرد في كتابه عدم المتابعة، ويريد بعدم التفرد عدم المتابعة، ويريد بالتنبيه على اللفظة المتفرَّد بها قبولهَا وقبول الأحكام المترتبة عليها، والرد على من لم يقبل هذه الزيادة من أجل التفرد، وأنَّ هذا التفرد المقبول في الإسناد أو المتن لابد أن يتحقق فيه شروط ثلاثة: أن يكون من محدِّث متقن، وأن يحدث من كتاب، وأن يغلب عليه الفقه إن كانت الزيادة متعلقة بالمتن.اهـ

نقلا عن المشاركة في هذا الرابط
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=325226