أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم




إن الله سبحانه وتعالى خالق الخلق ومالك الملك، بيده وحده النفع والضر، رب العالمين، ومالك يوم الدين، وأرحم الراحمين، خلق الخلائق كلها وجعلها قسمين:

القسم الأول: العوالم كلها – سوى الإنسان والجان - وهذه تسير وفق سنته الكونية، بلا إرادة منها ولا اختيار يتعلق بهما التكليف، وهذا يشمل المخلوقات العلوية والسفلية: السماوات والكواكب والشمس والقمر، والأرض بجبالها وسهولها وأشجارها ونباتاتها، وما ينشأ عن حركة الكواكب من تعاقب الليل والنهار وغير ذلك، ولذلك لم يجر عليها التكليف، لأنه إنما يجري على من له إرادة واختيار يقدر بهما على الخروج عن القانون الذي رسم له وكلف سلوكه اختياراً.

وهذه العوالم لا قدرة لها على الخروج عن القانون الذي رسم لها، بل هي تسير وفقه اضطراراً، وفق أمره الكوني: {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} [يس: 82].

القسم الثاني: الإنسان الذي جمع الله فيه بين أمرين:

الأمر الأول: أنه يسير مثل العوالم الكونية في بعض أفعاله، اضطرارا بلا إرادة منه ولا اختيار، كالصحة والمرض وحركته الدموية وجهازه التنفسي وجهازه الهضمي، وكذلك عطشه وجوعه، وهذه الأفعال الاضطرارية تعلقت بها إرادة الله الكونية، لا الشرعية كبقية المخلوقات، لأن الله لم يكلفه إياها شرعاً، وهي تسير على غير إرادة منه ولا اختيار، ومن سنته سبحانه أنه: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} [البقرة: 286].

الأمر الثاني: أنه سبحانه منح هذا الإنسان إرادةً واختياراً، يتعلق بهما تكليفه إياه وإرادته سبحانه شرعاً من هذا الإنسان، أن يطيعه في أوامره ويجتنب ما نهاه عنه، وبهذه الإرادة وذلك الاختيار يتقدم الإنسان أو يتأخر، يرتفع إلى أعلى عليين أو يهبط إلى أسفل سافلين، ومَنْحُه سبحانه إياه الإرادة والاختيار، تكريم منه لهذا الكائن حيث أعطاه نوعاً من الحرية التي يتصرف بها في أموره.

ولم يتركه الله تعالى بدون تعليم وبيان لما يحبه ويرضاه، أو يسخطه ويأباه، فأرسل إليه الرسل وأنزل الكتب، لبيان الصراط المستقيم الذي يجب عليه أن يسلكه، وكشف سبل الفساد التي يدعو إليها العدو اللعين إبليس ليبتعد عنها، فينجو بذلك من دخول نار جهنم، ويسعد بدخول الجنة التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فقامت عليه بذلك الحجة ووضحت المحجة. كما قال تعالى: {رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، وكان الله عزيزاً حكيما} [النساء: 165].

وما فتئت البشرية تستقبل الرسل، دعاة التوحيد ودعاة الخير والصلاح، وكانت الكثرة الكاثرة من أممهم تجحد وتكذب، فلا تَكِلُّ عزائمهم ولا تفتر هممهم، حتى يحكم الله بينهم -وبين قومهم فتكون العاقبة لهم: {ثم أرسلنا رسلنا تترا كلما جاء أمةً رسولُها كذبوه، فأتبعنا بعضهم بعضاً، وجعلناهم أحاديث فبعداً لقوم لا يؤمنون} [المؤمنون: 44].

يتابع كل نبي ما كان عليه من قبله من النبيين، من طاعة ربه وتبليغ الناس وحي إلهه، حتى كان آخرهم وأفضلَهم وخاتَمَهم نبيُّنا محمدٌ عليه الصلاة والسلام، الذي قال الله له مذكراً بأعلامهم الذين سبقوه في هذا السبيل، وآمراً له باقتفاء أثرهم: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} [الأنعام: 90].وقال له: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته، والله يعصمك من الناس، إن الله لا يهدي القوم الكافرين} [المائدة: 67].

فبلغ عليه الصلاة والسلام الرسالة، وأدى الأمانة، ولم يفارق هذه الحياة حتى أكمل الله له الدين، وجعله خاتم النبيين، وحفظ الله تعالى دينه بحفظ كتابه الذي تولى حفظه بنفسه ولم يَكِلْه إلى غيره: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر: 9].

وهيأ سبحانه خيار أمته لحفظ سنته والذب، عنها، فبقيت بذلك صافية نقية، لا يروى حديث فيه قادح، إلا كشفه النقاد ووضحوه، فكان أوضح من تنقاد الصياريف، فكانت سنته عليه الصلاة والسلام ، جديرة بالاتباع والالتزام مثل كتاب الله: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} [الحشر:7].

ولقد جاء صلى الله عليه وسلم ب عليه الصلاة والسلام رسالة ربه في وقت انطمست فيه معالم التوحيد، وطمرت فيه آيات الرسالات، وحرفت فيه الكتب السماوية السابقة، وكثر فيه الاختلاف بين أهل الملة الواحدة، فانتشر الفساد، وعمت الفوضى، واستحكم الجهل، واستُحِلَّت الحرمات، وضاق أهل الأرض ذرعا بطغاة متجبرين، وحكام ظالمين، وأنظمة جائرة، ضاع معها الحق وفقد العدل، واستعبد القوي الضيف، وانقلبت القيم والموازين في كل شيء: في العقيدة التي كثرت فيها الأرباب وتعددت الآلهة من دون الله، وفي العبادة والأخلاق والمعاملات، في السلم والحرب.

عندئذ بزغ فجر الإسلام في شعاب مكة، وكلف الله عبده ورسوله وحبيبه وصفيه وخليله، محمداً عليه الصلاة والسلام حمل رسالة هذا الدين إلى العالمين، نبأه أولا دون أن يأمره بالتبليغ، ليعدّه لحمل الرسالة، بعد أن يزوده بزاد الدعوة وزاد الصبر على أعباء التكليف، نبأه سبحانه بقوله له: {اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم} [العلق: 1ـ5].
ثم أمره الله بإنذار قومه فأرسله بقوله: {يا أيها المدثر، قم فأنذر} [المدثر:1-2].
وأمره سبحانه بكثرة التقرب إليه، ليكون له في وظيفته سنداً، فقال: {يا أيها المزمل، قم الليل إلا قليلا، نصفه أو انقص منه قليلا، أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا، إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلا} [المزمل: 1ـ5].

وقام عليه الصلاة والسلام بالدعوة إلى الله سراً، حتى شد الله عضده بالسابقين إلى دين الله، أمثال أبي بكر وخديجة وعلي وبلال، وغيرهم، ثم أمره الله تعالى بالجهر بالدعوة – وكان الجهر بها حينئذ قمة الجهاد والبلاء في سبيل الله – قال تعالى: {فاصدع بما تؤمر، وأعرض عن المشركين} [الحجر: 94].

فامتثل عليه الصلاة والسلام أمر ربه، ونادى في الناس بـ(لا إله إلا الله محمد رسول الله) وأجهد نفسه في التبليغ بادئاً بقومه وعشيرته، إذ صعد على جبل أبي قبيس ونادى قريشاً، فعم بندائه وخص صادعاً بالدعوة إلى الله. كما في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: لما أنزلت هذه الآية: {وأنذر عشيرتك الأقربين} [الشعراء: 214]. دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً، فاجتمعوا، فعم وخص، فقال: (يا بني كعب بن لؤي، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرة بن كعب، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد شمس، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب، أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة، أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لكم من الله شيئاً، غير أن لكم رحماً سأبلها ببلالها) [البخاري رقم 2753، فتح الباري (5/382) ومسلم (1/192)].

وكان أولَ من وقف في وجهه وبدأ بإيذائه عمُّه أبو لهب، حيث قال له: "تبا لك ما جمعتنا إلا لهذا !!" فنزلت فيه سورة المسد: {تبت يدا أبي لهب وتب، ما أغنى عنه ماله وما كسب، سيصلى ناراً ذات لهب، وامرأته حمالة الحطب، في جيدها حبل من مسد} [البخاري رقم 4971، فتح الباري (8/737)].

ودأب رسول الله عليه الصلاة والسلام في الدعوة إلى الله، ودأب قومه في الجحود والعناد والتعنت، وهو يقيم لهم الحجة تلو الحجة، على صدق ما جاءهم به ويفاصلهم في العبادة والولاء: {قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله، قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين، قل إني على بينة من ربي وكذبتم به، ما عندي ما تستعجلون به، إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين} [الأنعام: 56 ـ 57].

وكان عليه الصلاة والسلام يضيق صدراً بما يرى من قومه، يدعوهم إلى الهدى، فيأبون إلا الضلال، ويحدوهم إلى الحق، فلا يتبعون إلا الهوى والباطل. فينزل عليه ربه في كتابه، ما يسليما يبين له أنه يعلم بما يصيبه من الضيق والأسف بسبب موقف قومه من دعوته التي يريد لهم بها إنقاذهم من غضب الله وعقابه، ويأمره بفعل ما يثبته ويفرغ عليه الصبر، كما قال تعالى: {فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا} [الكهف: 6]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)} [الحجر]

وأمره الله بأداء واجبه، وهو التذكير، وأن حساب القوم إلى الله {فذكر إنما أنت مذكر، لست عليهم بمسيطر إلا من تولى وكفر، فيعذبه الله العذاب الأكبر، إن إلينا إيابهم، ثم إن علينا حسابهم} [الغاشية: 21 ـ 26].

وسلاه ربه سبحانه عما كان يناله من الأذى والصدود، فقال: {فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} [الأنعام: 33].

واستمر عليه الصلاة والسلام، في الدعوة إلى الله، والجد في التبليغ، والصبر على الأذى يصيبه ويصيب أصحابه الذين آمنوا به، فمنهم من قتل –كسمية - ومنهم من عذب - كبلال وآل ياسر- ومنهم من أخرج من بلده - كمهاجري الحبشة، ثم الرسول عليه الصلاة والسلام، وجل من آمن به إلى المدينة - فاراً بدينه، وهيأ الله له جنده الأنصار الذين التقى بهم في موسم الحج وهو يطوف بالناس يدعوهم إلى كلمة التوحيد، فآمنوا به ووعدوه أن ينصروه ويمنعوه مما يمنعون منه أموالهم وأولادهم، فهاجر أصحابه وقويت شوكتهم ولحق هو بهم عليه الصلاة والسلام.

وفي المدينة النبوية بدأ عليه الصلاة والسلام يؤسس دولة الإسلام، فبنى مسجده الذي كان يقيم فيه بأصحابه الصلاة ويتلو عليهم فيه القرآن، ويعلمهم أمور دينهم ويجهزهم للجهاد في سبيل الله، ويستقبل فيه الوفود المسلمة وغيرها.

وكذلك ربط بين أصحابه رضي الله تعالى عنهم المهاجرين والأنصار، فآخى بينهم إخاء خاصاً، قوى رابطتهم الإسلامية التي ما كانت تدانيها روابط القرابة والنسب والدم، فقويت بذلك الجبهة الداخلية للدولة الإسلامية الناشئة.

وعقد مع اليهود والمشركين معاهدة سجلت في تلك الوثيقة السياسية المشهورة، فكانت سداً يقف في وجه القريب من أن يتواطأ على دولة الإسلام مع العدو البعيد، فأمنت الدولة بذلك من الخطر الخارجي.

وبدأت في المدينة مرحلة جديدة، هي مرحلة الكفاح المسلح الذي بدأ بالإذن للمسلمين في الدفاع عن أنفسهم، وانتهى بقتال المشركين كافة، والانطلاق في الأرض كلها إلى العالم كله، لإخراجه من الظلمات إلى النور، وتحريره من عبودية بعضه لبعض حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله.

بذل رسول الله في عليه الصلاة والسلام نفسه، وبذل - معه وبعده - أصحابه رضي الله تعالى عنهم وأتباعهم أنفسهم، إلى أن ارتفعت راية الإسلام، وردد العالم تحتها: (لا إله إلا الله محمد رسول الله) في أغلب المعمورة، فسعد الناس مسلمهم وكافرهم بهذا الدين مدة طويلة، عم فيها الرخاء، وثبت العدل، واطمأن الناس في ظل هذا الدين على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم.

ثم كان المسلمون في مد وجزر وإقدام وإحجام، حسب عوامل القوة والضعف الناشئة من قوة الإيمان وضعفه. ولكن ريح المسلمين لم تذهب كلها حتى سقط آخر رمز(مجرد رمز) للخلافة الإسلامية، كان يربط بينهم ويشعرون معه أنهم أمة واحدة في كل أنحاء الأرض مع ما أصابهم من ضعف، سقط في أول هذا العصر [القرن الثالث عشر الهجري] الذي اقترب غروب شمسه، فكانت الطامة التي انتثر فيها عقد المسلمين، فأصبحوا شذر مذر، وتفرقوا أيدي سبأ.

وهنا اقتحم العدو عليهم الباب بجيوشه فأخذ يصول ويجول، وأتى على الأخضر واليابس، ولكنه أحس بأن لا طاقة له على الصمود أمام المسلمين، على رغم تشتتهم وتمزق بلدانهم وضعفهم المادي والمعنوي، فتحول إلى ثعلب خبيث ماكر يهدم بناء العقيدة الإسلامية في نفوس أبناء المسلمين، بما وضعه من مناهج للتعليم مسممة، وما ابتكره من وسائل إعلام مضللة، وما نشره من مغريات مادية وشهوات هابطة، باسم الرقي والتقدم، وبذلك نجح في إعداد جيل من أبناء المسلمين، ينفذون له كل ما يريد في داخل بلدانهم بقسوة ووحشية فاق فيهما أساتذته الغربببن، فتحقق لهم ما أرادوا بهذا الاستعمار الجديد، احتلال الأدمغة والعقول.

وها هي بلدان المسلمين اليوم ترزح تحت وطأة فوضى مجانين السلطة وعشاق الظلم، يتلقون مناهج حكمهم من أعدائهم، وينفذونها بسرعة تسبق تخطيط أولئك الأسياد، فعاد بذلك الإسلام غريباً كما بدأ، ووُضع للمسلمين أصنامٌ جديدة تحول ولاؤهم لها، بعد أن كان ولاء المسلم لله ولرسوله والمؤمنين.

فمن قومية، إلى وطنية، إلى جنس أو لون، إلى مذاهب أخرى، كالرأسمالية، والاشتراكية العلمية... وكلها من سبل الشيطان التي يصد بها عباد الله عن الصراط المستقيم.

ولكن أضواء شمس الصحوة الإسلامية بدأت تخترق الدجى، وتكشف الآفاق المظلمة، لتنير الطريق الذي يجب أن يسلكه المسلمون، وستشرق بإذن الله علي الكون كله مرة أخرى عندما يقوى إيمان المسلمين، فينطلقون مجتمعين بهذا الدين مبشرين ومنذرين، يرفعون راية الحق، يفتحون القلوب بالعلم والإيمان، ويقتحمون القلاع والحصون المحاربة للإسلام بالحديد والنار.

معنى الإسلام:

للإسلام ثلاثة معان: معنى عام، ومعنى خاص، ومعنى أخص.

فالمعنى العام هو الإذعان والانقياد طوعا أو كرها، بحيث لا يملك المخلوق أن يتأخر عن هذا الإذعان وهذا الانقياد، أي لا اختيار له في ذلك، وهذا المعنى يتصف به جميع المخلوقات، فهي منقادة لله مذعنة له يتصرف فيها كما يشاء: {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} [يس:82].

فالسماوات والأرض وما فيهن وما بينهن مسلمة لله، أي مستسلمة، ويدخل في ذلك الإنسان مطلقاً - مؤمناً كان أم غير مؤمن - فهو منقاد لربه مستسلم له، يمرضه ويشفيه، ويفقره ويغنيه، يخلقه ذكراً أو أنثى، أسود أو أبيض، طويلا أو قصيرا، عربي اللسان أو أعجميه، يُجري دمه في جسمه أو يَقِفه، يتنفس بدون إرادته، ويعطش كذلك...

والمعنى الخاص، هو الانقياد لله والطاعة له سبحانه وتعالى اختياراً، أي عبادة الله وحده لا شريك له، وعلى هذا المعنى جميع الأنبياء والرسل، وإليه دعوا الناس كلهم.

قال ابن تيمية رحمه الله: "ولفظ الإسلام يتضمن الاستسلام والسلامة التي هي الإخلاص، وقد علم أن الرسل جميعهم بعثوا بالإسلام العام المتضمن لذلك. كما قال تعالى: {يحكم بها النبيون الذين أسلموا} [المائدة: 44]. وقال تعالى: {وقال موسى: يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين} [يونس: 84]. وقال تعالى: {بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه} [البقرة: 112]. وقال الخليل لما قال له ربه أسلم: {أسلمت لرب العالمين، ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب: يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون} [البقرة: 131، 132].وقال يوسف: {توفني مسلما} [يوسف: 101، وانظر مجموع الفتاوى (7/263)].

والمعنى الأخص هو دين محمد عليه الصلاة والسلام الذي بعثه الله به إلى كافة الناس، بجميع تفاصيله التي تضمنها كتاب الله وسنه رسوله عليه الصلاة والسلام ، في العقيدة والعبادة والحكم والسلوك وغير ذلك.

والإسلام بصيغته الأخيرة التي ضمها القرآن وسنة الرسول، هو أكمل دين منحه الله عباده على وجه الأرض، وجميع الأديان قبله أصبحت في حكم العدم، لأنها كانت موقوتة بزمن، مربوطة بنبي معين وبقوم معينين، ثم حرفت ولم يبق منها أي دين سلمت كتبه من التحريف والتغيير والضياع أو الكتمان، ولأنها لم تكن - حتى في زمن أنبيائها- مثل هذا الدين في الكمال.

لذلك أوجب الله على البشر كلهم أن يؤمنوا بهذا الدين، وطاعة الله ورسوله بامتثال الأمر واجتناب النهي الواردين في الكتاب والسنة، قال تعالى: {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة، ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم، لتؤمنن به ولتنصرنه، قال: ءأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري؟ قالوا: أقررنا، قال: فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين} [آل عمران: 81].

قال ابن كثير رحمه الله: "قال علي بن أبي طالب وابن عمه - ابن عباس - رضي الله تعالى عنه: ما بعث الله نبياً من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق: لئن بعث الله محمداً وهو حي ليؤمنَنَّ به ولينصرنَّه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته: لئن بعث محمدٌ وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه" [تفسير القرآن العظيم (1/378)].

وقال تعالى: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه، فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق، لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا} [المائدة: 48].

فكل الأديان السابقة أصبح هذا الدين مهيمناً عليها، يجب أن يكون هو الحاكم عليها وعلى من كان من أتباعها، وما سوى ذلك إلا الهوى الذي نهى الله عن اتباعه.

الإسلام دين هداية:

الهداية ضرورة للإنسان أعظم من ضرورات الطعام والشراب والهواء، بل لا نسبة بين الهداية وغيرها من الضرورات المادية التي لا يعيش الإنسان بدونها، لأن كل الضرورات المادية لا يؤثر فقدها إلا في الجسم، وغاية ما يبلغه هذا التأثير هو الموت، والموت أمر حتم، إن لم يكن اليوم فغداً.

أما الهداية ففقدها يؤدي إلى التعاسة والشقاء، والفوضى والظلم والعبودية والذل لأنواع شتى من الطواغيت في الحياة الدنيا، ثم إلى الخسران العظيم والحرمان من الجنة ورضا الله في الآخرة، والخلود في نار جهنم، ولا ينفع آنذاك مال ولا ولد ولا جاه ولا سلطان، مما كان يتمتع به فاقد الهداية في الدنيا، وهو بعيد عن الله.

لذلك فرض الله على عباده المؤمنين قراءة سورة الفاتحة في ركعات صلواتهم؟ إعانة لهم على تحقيق هذه الهداية التي لا يزالون يسألونه سبحانه بقاءها ودوامها والمزيد منها، لاتباع صراطه المستقيم – صراط الأنبياء والمرسلين والشهداء والصالحين – أهل العلم النافع والعمل الصالح، المهتدين بهدي الله، والبعيدين عن سبل الهالكين الزائغين الذين يعبدونه على جهل منهم به وبدينه، مع تمسكهم بما هم عليه من الباطل، ورفضهم للحق الذي جاء من عند الله على يد خاتم رسله، والذين يحرفون كتبه وآياته وتعليمات رسله، ويعصونه تعالى على علم، ويقفون في وجه الحق وأهله وهم به عالمون.

قال تعالى: {الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين، اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا ا لضالين} [سورة الفاتحة].

والهداية ملازمة للتقوى، بل هي من خصائص أهلها، وعليها يترتب الفوز في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: {ألم، ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين، الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون، أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون} [البقرة: 1ـ5].

وهذه الهداية ترافق المؤمن في حياته كلها، فهو مهتد في عقيدته {هدىً للمتقين الذين يؤمنون بالغيب}

مهتد في عبادته: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، فمن شهد منكم الشهر فليصمه} [البقرة: 185].

مهتد إلى الحق عندما يختلف فيه الناس: {كان الناس أمة واحدة، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ماجاءتهم البينات بغياً بينهم، فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} [البقرة: 213].

مهتد في اعتصامه بحبل الله وموالاة أولياء الله موالاة تحقق الأخوة الحقة، وتحول بينهم وبين التفرق المؤدي إلى الذلة في الدنيا ونار جهنم في الآخرة: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً، وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون} [آل عمران: 103].

مهتد فيما يصاب به من مصائب، مطمئن القلب متعرض لصلوات ربه ورحمته: {ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون} [البقرة: 155ـ157].

آثره الله بهذه الهداية من بين سائر الناس فلا ينالها كافر: {والله لا يهدي القوم الكافرين} [البقرة: 264].ولا فاسق {والله لا يهدي القوم الفاسقين} [التوبة:24]. ولا ظالم {والله لا يهدي القوم الظالمين} [البقرة: 258]. ولا منافق {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى، فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين} [البقرة: 16].

يحسده على اختصاصه بهذه الهداية من فَقَدَها من أهل الكتب السابقة: {ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون} إلى قوله سبحانه: {وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون، ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، قل إن الهدى هدى الله، أن يؤتي أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم، قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم، يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم} [آل عمران: 72ـ74]. {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى} [البقرة: 120].

وحذره الله سبحانه وتعالى من أعدائه الذين يحسدونه على هذه الهداية التي خسروها وفاز بها المؤمن، كما قال سبحانه: {من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون} [الأعراف: 178]

وحذره الله منهم بقوله: {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون، إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين} [الأنعام: 116ـ117].

وما من سبيل يسلكه المؤمن في حياته، إلا أضاءته له هداية الله، فلا يلتبس عليه أمر، ولا تنطمس أمامه معالم: {قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام، ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه، ويهديهم إلى صراط مستقيم} [المائدة: 15ـ16].

وإذا كان هذا شأن هذا الدين لمن اتبعه، فهل يجوز التفريط فيه ممن أكرمه الله فنال منه الخير العظيم، والفضل العميم، وذاق حلاوة الإيمان به، ونال شيئا من هدايته؟

{هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين، وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم} [الجمعة: 2ـ4].

غاية واحدة واضحة:

لابد للإنسان من غاية يسعى لتحقيقها، فإن كانت هذه الغاية عمياء غير واضحة، تاه في سراديب حياته دون أن يصل إليها، وإن تعددت غاياته تمزق وتشتت دون أن يحققها كلها أو بعضاً منها، ففي انبهام الغاية أو تعددها الشقاء في الدنيا والآخرة، وفي وضوحها ووحدتها السعادة في الدنيا والآخرة، لأن وضوح الغاية يجعل الإنسان يسعى لتحقيق غايته وهو مطمئن على عدم ضياع أي خطوة يخطوها إليها، أو أي جهد يبذله في سبيلها، ووحدة هذه الغاية تجعل الإنسان يتجه إليها بكل طاقاته وألوان نشاطه، دون أن تتبدد جهوده أو تتمزق هنا وهناك.

ولأعداء الله غايات بددت جهودهم وطاقاتهم ومزقتهم، وأورثتهم القلق والاضطراب، دون أن يصلوا إلى نهاية يستقرون فيها وترتاح نفوسهم، بل كلما جدوا في الوصول إليها تشعبت بهم سبلها فضاعوا في متاهاتها.

وقد حدد الله غايات أعدائه تلك في قوله تعالى: {والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم} [محمد: 12]. فغاية الكافر التمتع في هذه الحياة ـ وخص الأكل لأهميته على سواه ـ والتمتع اسم شامل لكل ما يرغب الإنسان في الانتفاع به، والتلذذ به كالأكل، والشرب، واللباس، والمسكن، والمركب، والمال، والجماع، والنظر، والجاه، والمنصب، وغيرها مما ترغب النفس في التمتع والانتفاع به.

وانظر إلى الكافر -ويدخل فيه منافق الاعتقاد-في تمتعه بهذه الأمور وغيرها أتراه يشبع منها أو من بعضها؟ أو تراه يرضى بما يصل إليه من أنواع متاعها؟ كلا: إنه يتناول جميع أنواع الأطعمة المتاحة له دون أن يشبع منها، ويشرب من كل أنواع الأشربة ولا يروى، ويركب ويسكن ويلبس، ولكنه يرغب في أن يحصل على جديد كل يوم وكل وقت، كل ذلك ليتمتع بالمزيد، ويجمع المال من أي جهة، ثم ينفقه في كل سبيل يريد، ولكن نفسه لا تزال تطلب المزيد من الجمع والمزيد من الإنفاق.

وإنه لعبدٌ لكل هذه المتع، مشتت القلب، متعب الجسد، مكدود الفكر، وهكذا إذا تمكن من اعتلاء منصب، تاقت نفسه للتربع على منصب أعلى، وكلما نال جاهاً وحظوة في جهة، أحب أن ينال جاهاً وحظوة عند جهات أخرى، كل ذلك من أجل التمتع الحاضر الذي هو غايته.

وقد يكون تمتعه في الابتكار والاختراع، فيبتكر ويخترع، ثم يظهر له أن مبتكراً آخر قد فاقه، فيجهد نفسه ليكون إمام المبتكرين، ليتمتع بما يرى من ابتكاره أو ليثني عليه الناس، وقد تكون متعته في الشجاعة وثناء الناس عليه بها، وقد تكون متعته في الحيل والمكر والخداع، وهكذا دواليك.. هذه هي غاية الكافر: "إنها التمتع فحسب".