أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


إنَّ الجزائرَ لتمتلكُ أقلاما موهوبة، لو سنحتْ لها الفرصة لتظهر قدراتها لرأيتها نجوماً تُرصِّع سماء الأدب المحلي؛ بل العربي، ولم لا العالمي. ولو أنَّ هذه المواهب تمَّ تأطيرُها كما ينبغي، والاعتناء بها، لما ذبلت وتساقطت كأوراق الخريف على أرضية النسيان، ولما آثرت البطالة على الكتابة، والكسل على الإبداع.
ويعود السبب الرئيسي في هذه الأزمة الفنية -التي طالت عالمَ الأدب- إلى ضعف التأهيل على مستوى المؤسسات التعليمية التي تهمل إهمالا واضحا تدريسَ اللغاتِ بطريقة بيداغوجية ناجعة، خاصة اللغة العربية منها. حيث لا تولي -هذه المؤسسات- الإنشاء الاهتمام الكافي كالذي توليه للمواد العلمية، وهذا خطأٌ جسيم على مستوى المنظومة التربوية، يقع فيه المدرِّسون بذريعة ترتيب الأولويات. ولا أدري من أين يأتون بهذه اللوائح التي فيها من هذرا ما أنزل الله به من سلطان، فما هي -عندئذ- إلَّا تعليلات ساقطة لا تقوم مقام الحجة البالغة.
فحريٌّ بمن تصدَّر للتعليم أن يعرف أنَّ أولى الأولويات في مشوار الطالب المتمدرِس أن يتعلم القراءة الجيَّدة، والتعبير السليم بلغة راقية، وأن يتعلم الحساب إلى جانب كل هذا، فإذا تخرج فسيتخرج بمستوى علمي وأدبي مقبول يؤهله للاِندماج في المجتمع بسهولة، ويسمح له بالارتقاء في سلم النجاح بتلقائية. ولكن كيف سيتسنى له ذلك، إذا لم يكن قادرا على التعبير البياني عن حالة ما، أو إنشاء تقرير يصف حادثة معينة؟!
نحن نريد نشئاً مؤهلا علميا وأدبيا، يستطيع أن يُعبر عن ذاته بالكلام والكتابة، خاصة إذا دعته الحاجة إلى إلقاء كلمة، أو الرد في حوار، أو حتى كتابة نشرة... ونحن بهذا نعدُّه ليكون مستعدا للمحافل الكبرى والمناسبات العظمى، أين يمثل وطنه وأمته بأكملها ... لا أن نتركه هَمَلا، مذبذبا يهذي بين الفينة والأخرى بهذه الجملة السقيمة «كيما يقولو»، و«راك شايف» (1)، وهو لا يدري في الواقع ما يخرج من رأسه!
فحصولنا على جيلٍ بهذه الهمَّة المُتَّقدة، والشغف الشديد للغة البيان، سيخرج لنا -لا محالة- صفوة من الأدباء، والصحفيين، والسياسيين، منِ يحملون القلم بثقله، ليكونوا للأمة لسانها المعبِّر، ومرآتها العاكسة لأفراحها وأقراحها، والقلم المُخلِّدَ لأيامها ووائعها.
* * *
وللأسف أنَّ البقية الباقية من المواهب الجزائرية = التي برزت، ورأت النور وسط عتمة الظروف القاهرة، وضُعف التأهيل والتأطير= لم تُطبخ في مؤسساتنا، ولم تتكون في معاهدنا، وإنَّما هي نتيجة لمعجزة الإرادة التي تبعث المُعدَم من الصفر ليبني نفسه، بإمكانياته وجهوده الفردية.
يقول الأديب الجزائري (رشيد بوجدرة) في لقاءٍ صحفيٍ له: "...مع ذلك أُقرُّ أنَّه بالجزائر نخبة راقية تكونت في المدارس الجزائرية -رغم ضعف هذه المدارس- ولا نبالغ إذا قلنا إن هذه النخبة تفجرت من العدم" (2).
ولو توقف الأمر عند هذه النقطة لهان الأمر؛ فالمصيبة العظمى تكمن في مرحلة ما بعد التأهيل والنضج الأدبي، فما إن تكتمل لدى الكاتب وسائل التفكير، وعلوم الآلة حتى يجدَ أبواب النجاح قد أوصدت في وجهه، ولم يفتح منها باب! فيصنع له يأسهُ خيالاتٍ مزعجةٍ، تشعره وكأنَّ أكفَّ الزمان تهوي عليه بالصفع على وجهه تارة، وعلى قفاه تارة أخرى، بل وتخرج له أبواقا تتعالى فيها قهقهات السخرية والازدراء، حتى يرى كتاباته المشرقة قد غدت ركاماً من الكلمات البالية!
فالبيئة هي من تضمن للكاتب الاستمرارية والتميز، وما دامت بيئتنا لا تعرف لكاتبنا قيمته، ولشاعرنا مكانته، لأنّها استغنت بالحليب عن الكتاب، وبالشعير عن الشعر، وبالمعكرونة عن البيان، فأين سيجد الكاتب مكانه في أمَّة يفكر أبناؤها ببطونهم وفروجهم، راكنين عقولهم على رصيف الجهالة؟!
كم ضيَّعت الجزائر من أبنائها بسبب هذا الإهمال واللامبالاة، لترمي بهم -بقصد أو دون قصد- في أحضان غريبةٍ غربيةٍ، تستغل حاجتهم إلى الظهور والشهرة، لتمتص ثمرات كدهم وجِدِهم، كأنَّها هي من صنعتْ ذلك الأدب بأيديها لا بأيديهم، فتنال بهم الشرف والسؤدد من وراء إبداعاتهم الفكرية والأدبية!
* * *
كنتُ أظنُّ في زمن مضى، أنَّ هذا الفتور في ميدان الأدب هو وليد الظروف الراهنة =بعد الفتنة التي تأججت نارها في بلادنا والتهمت ألسنتها الأخضر واليابس، ولم تعقِّب سوى رمادَ الأحقاد في حقِّ القتلة، والآهات في حق ذوي المقتولين=، حتى وقعتُ على مقال للعلامة الموسوعي مولود قاسم نايت بلقاسم كتبه قبيل عشرات السنين، ينعي حال الصحافة والأدب، يقول: "إنَّنا لنخجل حقا أن يرى النَّاس جرائدنا ونشراتنا هذه وأنهم كلهم يلاحظون نفس هذه الملاحظات، إنَّهم يريدون أن يعرفوا الجزائر على صفحات نشرات الجزائر فلا يجدون الجزائر وإنَّا يجدون أخبار وموضوعات يعرفونها قبلهم وبتفصيل لأنَّهم يحبونها ويبعثونها ولا ينتظرون منكم أيُّها الجزائريون أن تكتبوا لهم فيها ولا أن تطلعوهم عليها" (3).
أمّا ظاهرة الإهمال واللامبالاة فهي كما ترى، داء ضاربٌ في جذور عقلية شعبنا، مدةً تربو عن قرن من الزمان، لتتفرَّعَ أفنانُهُ وتلقي بثمارها على كل مقروءٍ ومسموع، فلم تغادر منهم أحدا!
يقول (مولود قاسم) في نفس المقال السابق: "وحتى لو كنَّا نستطيع أن نكتبَ عن كل شيء فأول واجب علينا أن نكتب عن أنفسنا كما يقول الشاعر الفيلسوف الإنساني الكبير أو العلاء:
إذا كان إكرامي صديقي واجبا  فإكرام نفسي لا محالة أوجب
فاكتبوا يا قوم عن الجزائر فهي نشرات دعائية تعبيرية وليست لدينا صحافة بعدُ، اكتبوا عن الجزائر ولا تدعوا الجزائر غريبة حتى في الجزائر" (4).
وما زاد الحمأة بلةً، كساد الأدب في بلد ينتمي لأمَّة «اقرأ» تقترب فيه نسبة المقروئية إلى الأصفار الأربعة، ولا أبالغ. والعوام والخواص عندنا سيان، فمنهم من يعيش دهراً لا يفتح كتابا قط، ومنهم من يحضرُه ملك الموت وليس في رصيده سوى صفحات بعدد الأصابع كان قرأها قراءة خاطفة في الزمن الغابر؛ في حين أن نسبة المقروئية في بلدان أوربية تصل إلى أربعين ضعفِ ما عندنا، إن لم يكن أكثر بكثير...
لطالما كنتُ أقول: "بأسنا بيننا نحن معاشر الكتَّاب، فلن نرى النور ما دمنا نزري بأدبنا المحلي، فيما عدا فلان وعلان اللذان اشتهرا في الخارج!". فإذا كان الكاتبُ منَّا يكتبُ ما يكتبُ، ثم ينشر ما كتبَ، لتبقى في الأخير تلك المنشورات حبيسة الأدراج والرفوف، فإذا لم يقرأ الكاتب للكاتب مثله، فمن؟؟
فأول ما نصنعه حيال هذه الأزمة الداخلية، أن نتحلل من قيود الأنانية، ونتحلى ببعض السخاء الأدبي، بأن نطالع لكتابنا الصغار والكبار، تشجيعا منَّا لأدبنا المحلي، ليسمو بقراءتنا له ومن ثمَّ بنقدنا إلى علياء الأدب العربي، والأدب الإنساني. كما نطمع أن نرى الجزائر كدولة(5) وشعب، تشجع القراءة وتحث عليها، وتهتم بالكاتب الأديب وترفع من شأنه، ببناء المكتبات، ونشر الكتاب ليكون في متناول الجميع، فنكسب بذلك قراءً جددا، وننقذ كتَّابا من أوحال البطالة والخمول.
------------------------------------------------
1) يكفي أن ترى لاعبا جزائريا يتكلم أمام الكاميرا لتدرك حقيقة ما أقول!
2) زهرة ديك. أدباء جزائريون/ رشيد بوجدرة [ص27].
3) جريدة المنار، العدد الأول، السنة الثانية ص02.
4) المرجع السابق.
5) نشكر من هذا المنبر وزارة الثقافة الجزائرية التي قامت بمبادرة الأولى من نوعها في نشر التراث الوطني، وتشجيع الكتَّاب من خلال طبع إبداعاتهم على نفقتها.

بقلم
رؤوف بن الجودي