أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم



1 ـ تكثير أنصار المبادئ يقتضي رجالاً يحملونها ويدعون إليها.

2 ـ أضاعوني!

3 ـ حجة قائمة، وحرب ظالمة.

4 ـ ثمرات قيام المسلمين بالدعوة إلى هدي القرآن والعمل به.

5 ـ أنهار حياة دائمة.

6 ـ غدران أمطار غزيرة في وسط رمال سافية.

1 ـ تكثير أنصار المبادئ يقتضي رجالاً يحملونها ويدعون إليها:

إن المبادئ لا تثبت، ولا تبقى إلا إذا حملها رجال يفقهونها، ويحمونها، ويدعون إليها ويظهرون محاسنها، ويقيمون البرهان على أنها صالحة للتطبيق بعملهم بها، وجرت العادة أن أصحاب كل مبدأ يرغبون في نشر مبدئهم، وتكثير سوادهم، يقومون بدعوة غيرهم إلى الإيمان بمبدئهم والعمل به، والانضمام إليهم في دعمه ونصره، ولو التفت يمنة ويسرة اليوم، لوجدت هذه القاعدة مطبقة لدى أهل كل مبدأ من يهود، ونصارى، وملحدين، و هندوس، وبوذيين، وغيرهم.

فاليهود يدعون إلى مبادئهم التي تكثر سوادهم [اليهود ليسوا نشطين في الدعوة إلى الدخول في اليهودية، مثل النصارى، بل هم عنصريون في ديانتهم وسياستهم وأخلاقهم وكل مبادئهم، ولكنهم وضعوا لهم مبادئ وكونوا لها أحزاباً تخدم مصالحهم، و تدمر مصالح الأمم والشعوب الأخرى، ويقتنصون للانضمام إلى تلك الأحزاب، كبار ساسة البلدان وأغنياءها، ويغرونهم بالشهوات: شهوات المناصب وشهوات الفسق، ويوقعونهم في حبائلهم، ويسجلونها بوثائق لا يقدرون على إنكارها، ويرهبونهم بها وبغيرها مما قد يصل إلى الاغتيال والقتل إن هم تقاعسوا عن تنفيذ أوامرهم، وهذا يفسر للمتأمل مسارعة كثير من حكام الشعوب الإسلامية وغيرها إلى موالاتهم، ومناصرتهم بالطرق المباشرة أو غير المباشرة. ومن تلك المبادئ الماسونية، والصهيونية، ومن مؤسساتهم نوادي الروتاري، وغيرها من المؤسسات الاقتصادية، والاجتماعية، والرياضية التي يتخذونها وسائل لتحقيق أهدافهم. ، والنصارى - على اختلاف فرقهم ومذاهبهم - مجدون غاية الجد في الدعوة إلى دينهم المحرف، وبخاصة في البلدان الإسلامية التي يرغبون في تنصير أهلها أكثر من تنصير غير المسلمين، حسداً منهم لهذا الدين ونكاية بأهله.

والشيوعيون الملاحدة يتخذون كل الوسائل الممكنة لنشر إلحادهم - وبخاصة بين المسلمين - ولو اقتضى الأمر منهم الغزو العسكري لإجبار الشعوب وإكراهها على إعلان الإلحاد وتطبيقه في حياة الناس، ومن الأمثلة الواضحة على ذلك احتلال الملحدين الروس الشعب الأفغاني بقوة الحديد والنار وتدمير البلاد والعيث فيها فساداً، وحصد مليون ونصف المليون من المسلمين، غير الجرحى والمعاقين والأرامل واليتامى والشقاق الذي خلفوه، بعد خروجهم، هذا مع مخالفة الإلحاد للفطر والعقول والأديان السماوية والأرضية هذا.

ومع أن دولتهم التي قامت على الإلحاد قد انهارت، وذهب بريق الإلحاد الذي كانوا يزينونه لعمي البصائر، فإنه لا يزال للإلحاد أنصاره في دوله المفككة، و بعض زعماء المسلمين في تلك البلدان لا زالوا يحاربون الإسلام والمسلمين الذين يدعون إلى التمسك به. ولقد حل محلهم بعد هزيمتهم الصليبيون من البيت الأبيض ومن حالفهم على ذلك من المنتسبين إلى الإسلام، وقد مضت لهم عشر سنوات إلى الآن وهم يحصدون المسلمين حصدا، ويدمرون كل ضرورات حياتهم. ألحقت هذا التعليق في15/2/1432هـ - 19/1/2011م، وكان غزوهم لأفغانستان سنة 2001م.].

والوثنيون لا يألون جهداً في نشر وثنيتهم ومحاربة دين الإسلام، كما هو شأن الهندوس والبرماويين.

وهكذا يصنع أرباب السياسة والاقتصاد، يكرسون جهودهم لنشر مذاهبهم السياسية والاقتصادية، وتزيينها وحشد الدول والشعوب لتأييدها، يظهر ذلك في الدول الغربية ـ الولايات المتحدة الأمريكية وأوربا التي نادت بالحرية المطلقة أولاً، ثم اضطرت لإدخال مئات القيود عليها، فهم يتخذون كافة الوسائل لنشر مبادئهم، حتى لو اقتضى الأمر التدخل في حرية الشعوب، وإجبارها على التخلي عن رغباتها وعن تطبيق دينها، واختيار حكامها، الذي هو حق لها في مبادئ أولئك المتسلطين المنادين بالديمقراطية وحقوق الإنسان، وإذا لم ينجحوا في التدخل غير المباشر ولم يجد إلا استعمال القوة لم يتورعوا عن استعمالها باختلاق الحيل والذرائع الكاذبة، والأمثلة على ذلك معروفة لا تخفى على أحد [كما هو الحال في الجزائر، وأفغانستان والعراق، والموقف الأخير من منظمة حماس التي اختارها شعبها، و غيرها].

هذا، مع أن كل تلك المبادئ والأديان لا يوجد منها دين أو مبدأ صالح ليكون منهجاً لحياة البشر، يحقق لهم السعادة في الأرض، بدليل ما تعانيه البشرية اليوم، من محن وكوارث وقلق واضطراب وحروب وظلم وعدوان، مع كثرة المؤسسات العالمية: السياسية، والثقافية والاجتماعية والعسكرية ـ كما هو الشأن في ما يسمى بهيئة الأمم المتحدة ومجلس أمن الدول التي لها حق النقض "الفيتو" وغيرها من المؤسسات المنتشرة في الأرض.

2 ـ أضاعوني!

فأين أهل الدين الحق الذي أنزل الله به هذا القرآن ليكون دين العالمين كلهم: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً(1)} [الفرقان]. {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ(107)}[الأنبياء ].

إنه المنهج الحق المحفوظ الصالح لأن يكون منهجاً للبشر مهما اختلفت ثقافاتهم وارتقت معارفهم، وهو وحده الذي يحقق السعادة للناس في الأرض، إن هم آمنوا به واتبعوه، ولقد قضى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عمره كله، بعد بعثته، داعياً إلى الإيمان بهذا القرآن، والعمل به، ممتثلاً في ذلك أمر ربه الذي قال له: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ(67)} [المائدة].

وقال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ(125)}[النحل].

فبلغ صلى الله تعالى عليه وسلم، بنفسه مباشرة من استطاع الوصول إليه، وبعث بالرسائل إلى ملوك العالم يدعوهم فيها إلى الله، كما بعث الدعاة إلى الأقطار يبلغون عنه رسالة الله، وتبعه على ذلك أصحابه من بعده وتابعوهم بإحسان، واقتدى به الخلفاء الراشدون في تبليغ الملوك والزعماء دين الله وجاهدوا في الله حق جهاده حتى بلغ الإسلام مشارق الأرض ومغاربها في برهة قصيرة من الزمن، ممتثلين في ذلك قول الحق جل تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي(108)}[يوسف].

وكان من أثر ذلك أن انتشر هذا الدين وكثر أنصاره وقادت الأمة الإسلامية أمم الأرض إلى رحاب الله، وأسعدتها بدينه، وما فيه من عدل وسماحة وطهارة، ولكن الأمة الإسلامية أخذت تبتعد عن هذا القرآن قليلاً قليلاً، فضعف إيمان كثير من أبنائها وقل عملهم به، وفترت دعوتهم إليه، فخف وزن الأمة، وقاد قافلتها من ليس أهلاً لقيادتها إلى غير قبلتها، وحارب دعاةُ الباطل من أبنائها دعاةَ الحق منهم، فسلط الله بعضهم على بعض، وأغرى بينهم العداوة والبغضاء، كما فعل بمن سبقهم ممن انحرفوا عن منهج الله.

قال تعالى: {وَمِنْ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمْ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ(14)}[المائدة].

فخسرت بذلك الأمة الإسلامية حريتها ومجدها، وخسرت بخسارتها أمم الأرض كلها [وقد ألف في هذا المعنى الأستاذ أبو الحسن علي الندوي كتاباً، سماه: (ما ذا خسر العالم بانحطاط المسلمين).].

وشكوى رسول الله إلى ربه، تلاحق هذه الأمة في كل وقت تهجر فيه هذا القرآن والعمل به والدعوة إليه: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً(30)}[الفرقان]. ولكأن القرآن يردد على مسامع هذه الأمة قول الشاعر:

أضاعوني وأي فتى أضاعوا
ليوم كريهة وسداد ثغر


3 ـ حجة قائمة:

ومع هذا الضعف وهذا الفتور في هذه الأمة، فقد أبقى الله فيها من يقيم عليها وعلى غيرها حجته، من علماء الإسلام ودعاته ومفكريه، فلم يخلُ جيل من الأجيال من قائم لله بأمر الله، علماً وعملاً ودعوة، تحقيقاً لقول الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، كما في حديث المغيرة بن شعبة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، قال: (لا يزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون) [البخاري: (8 ـ 149).].

وكما في حديث جابر رضي الله تعالى عنه يقول: سمعت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، يقول: (لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة. قال: فينزل عيسى بن مريم صلى الله تعالى عليه وسلم ، فيقول أميرهم: تعال صل لنا، فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء، تكرمة الله هذه الأمة) [مسلم: (1 ـ 137).].

4 ـ حرب ظالمة:

ولكن الطغاة الذين يحاربون حكم الله وشريعته، والدعوة إليه كانوا للدعاة إلى الله بالمرصاد، منعاً لهم من قول كلمة الحق، وطرداً وسجناً وتعذيباً وقتلاً لمن صبر واحتسب وأصر على القيام بواجب الدعوة إلى الله تعالى، وهذا أمر معروف في غالب الشعوب الإسلامية [هنا قد يشكل على بعض الناس ما يلاقيه هؤلاء الدعاة من أذى، مع الوعد الذي جاء على لسان الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم للطائفة التي قال صلى الله تعالى عليه وسلم فيها: (إنهم لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم) إلخ.. والجواب: أن بقاء هذه الطائفة صابرة على أذى الطغاة الذين بيدهم القوة والسلطة، وهم يجندون كل شيء ضدهم، وهم لا يملكون شيئاً يدفعون به عن أنفسهم إلا الصبر والمصابرة، ولا يجدون نصيراً من البشر، ولا يستطيع أن يثنيهم الجبارون عن دعوتهم التي لولا توفيق الله لهم بالقيام بها لخلت الأرض من مبلغ للحق، إن ذلك الصبر الذي يفرغه الله عليهم، وبقاء البلاغ بالحق مستمراً إلى يوم القيامة، هو في الحقيقة نصر كبير، والضرر الذي يلحقهم بجانب ذلك النصر ليس بشيء. فالمبدأ هنا هو المنتصر ونصره نصر لأهله ولو أوذوا.. يضاف إلى ذلك أن هؤلاء الدعاة تثمر دعوتهم ثمرات هائلة بسب إيذائهم أو قتلهم، وذلك نصر لهم، ونحن نشاهد انتشار أفكار هؤلاء الدعاة ودعوتهم واتباع الناس لهم بعد تعذيبهم أو قتلهم ما لم يكن ذلك متوقعاً قبل ما حصل لهم.].

ولقد حقق قادة الشعوب الإسلامية الذين حاربوا الدعوة الإسلامية الصافية التي تمنح الناس العبودية لله وحده، وتحررهم من عبودية الطواغيت، ما كان يتمنى أعداء الإسلام من اليهود والنصارى وغيرهم وقوعه في العالم الإسلامي، ولم يكونوا يجرؤن عندما استعمروا البلدان الإسلامية - برغم كل ما فعلوا من فساد فيها - على التفكير فيما نفذه تلاميذهم المنتسبون إلى المسلمين، لم تفكر الدول الأوربية في كل البلدان الإسلامية التي استعمرتها في إلغاء الأذان من المساجد باللغة العربية واستبدال لغة أخرى بها، ولكن هذا ما فعله كمال أتاتورك في مآذن مساجد تركيا عندما تولى الحكم فيها[لا حاجة لضرب الأمثلة ويمكن مراجعة بعض الكتب التي تعرضت لهذه الموضوعات، وهي كثيرة جداً. مثل كتاب الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، للدكتور محمد محمد حسين.].

فكان من أثر ذلك قلة المسلمين كيفاً وإن كثروا كماً، كثرة نسبية. وقلة عدد المسلمين -كماً وكيفاً [وهذا ما يفسر لنا سعيهم المتواصل إلى تحديد النسل في البلدان الإسلامية، وكذلك تحريشهم بين الشعوب الإسلامية بوسائل شتى وإيقاد نار العداوة وإشعال الحروب بينهم حتى يقتل بعضهم بعضاً، كما حصل بين العراق وإيران، وقد يفتعلون هم ما يتذرعون به لغزو بلاد المسلمين ليحصدوهم بأسلحة الدمار، كما حصل في أفغانستان، وكما حصل في البوسنة والهرسك والشيشان، وكما يحصل في الهند بين آونة وأخرى.] - من مقاصد أعداء الإسلام، حتى تسهل لهم السيطرة عليهم وعلى مواردهم، فإن لم يتمكنوا من تقليلهم كماً وكيفاً، سعوا إلى تقليلهم كيفاً، وذلك عن طريق إضعاف إيمانهم وصلتهم بربهم، وتمسكهم بدينهم، وعدم وعيهم بما يحيكون ضدهم من مؤامرات، وهذا ما حققه لهم طغاة المسلمين مما لم يكونوا يقدرون هم على تحقيقه بأنفسهم.

5 ـ ثمرا ت قيام المسلمين بالدعوة إلى هدي القرآن والعمل به:

ولو أن قادة الشعوب الإسلامية كانوا هداة مهتدين، وسخروا الإمكانات الهائلة التي يسيطرون عليها للعمل بتوجيهات القرآن الكريم، واتخذوا الوسائل المتاحة للدعوة إلى منهج القرآن لكان المسلمون اليوم هم أكثر سكان الأرض وأقواهم، أي إنهم أكثرهم كماً وكيفاً، وكلما كثروا في الأمرين قويت شوكتهم، وزادت هيبتهم في نفوس أعدائهم، وقَلَّ - إن لم يُفقد - طمع عدوهم فيهم، بل سيكثر الداخلون في دينهم من كل الأصناف في العالم فتتوسع بذلك دائرة الإسلام وسعادة الناس به، وتتحقق به رغبة الرسول الكريم صلى الله تعالى عليه وسلم في كثرة أتباعه، لينال أجره بدعوته التي باشرها وأجر كل من دعا بدعوته، أو عمل بها إلى يوم الدين فقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم: (تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم) [جامع الأصول 0(11/28) قال المحشي: وإسناده حسن.]. ويترتب على ذلك انتشار الصلاح في الأرض، وتثبيت المسلمين على دينهم.

6 ـ أنهار حياة دائمة:

إن قيام المسلمين بدعوة الناس إلى الإيمان بكتاب ربهم وتفهم معانيه والعمل به يمدهم دائماً بالأنصار الذين ينضمون إلى صفوفهم، ويقلل من أنصار أعدائهم، وكلما دخل الناس في دين الله أفواجاً، انتشرت في الأرض أخبار محاسن هذا الدين وتناقلتها الألسن ووسائل الإعلام المتنوعة التي هيأها الله في هذا العصر بصفة لم يسبق لها في العصور الماضية نظير، ورأى الناس آثار هذا الدين في الحياة بأم أعينهم.

وإن مثل إمداد المسلمين بالأنصار عن طريق الدعوة إلى هذا القرآن كمثل بحيرات واسعة بها مياه عذبة صافية، تحيط بها جبال شاهقة يغطيها في الشتاء جليد كثيف، فإذا جاء الصيف أخذ الجليد يذوب شيئاً فشيئاً، وأخذت مياهه تتدفق منسابة في الشعاب، تصب في تلك البحيرات، بدون انقطاع، فلا تزال البحيرات تتلقى من الجبال أنهارها، ولا زالت الجبال تستقبل من السماء جليدها، فإذا خف الجليد أو قلت المياه، حامت السحب السوداء المثقلة بالغيث المدرار وأنزلت بإذن ربها شآبيبها على الجبال والأودية والشعاب والبحيرات.

وبذلك تستمر أنهار الحياة تروي الظمآن، وتنبت الزرع، وتسقي الغابات، هكذا يكون المسلمون عندما يقومون بالدعوة إلى هدي الله الذي تضمنه هذا القرآن، يجدون إمداداً مستمراً بالأنصار الداخلين في دينهم، فيكثر سوادهم ولا يقل، ويشتد ساعدهم ولا يضعف، ويكونون كما قال الله تعالى: {وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً(29)}[الفتح].

7 ـ غدران أمطار غزيرة في وسط رمال سافية:


وإن عدم قيام المسلمين بدعوة الناس إلى الإيمان بهذا القرآن والاهتداء بهديه والتمسك به والعمل بما فيه، يكون سبباً في قلة المسلمين، وندرة الداخلين في دينهم، وقلة أنصارهم، وشدة ضعفهم، وكثرة أعدائهم الذين قد ينضم إلى صفوفهم بعض ضعاف الإيمان من المسلمين، إما بترك الإسلام والدخول في غيره من الأديان، كما يتنصر بعض المسلمين في بعض البلدان الإسلامية وغيرها، وإما بالتعاون معهم ضد الإسلام والمسلمين، كما حصل من قبل من المنافقين، وكما يحصل اليوم من بعض أبناء المسلمين من مثقفين وأدباء وإعلاميين وحكام وغيرهم، من الذين يوالون اليهود والنصارى ويتعاونون معهم في إضعاف الإيمان في نفوس أبنائه بشتى الوسائل، وفي إقصاء حياة المسلمين عن العمل بحقائق الإسلام، وفي تشويه معاني الإسلام بوسائل الإعلام وغيرها، لينفروا الناس من الدخول فيه.

وإن مثل ترك المسلمين دعوة الناس إلى الإيمان بهذا القرآن واتباع هديه، وما يترتب على ذلك من قلتهم وضعفهم، كمثل بحيرة واسعة في صحراء ذات كثبان عظيمة من الرمال، نشأت على إثر أمطار غزيرة هطلت خلال زمن طويل، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وأحاطت بها الغابات الكثيفة المتشابكة، وتناسلت بها الحيوانات المتنوعة وسقى الناس منها وزرعوا، وأصبحت الأرض بها كما قال الله تعالى: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ(5)}[الحج].

ثم انقطع عنها المطر ونزل بها القحط، وأخذت الرياح تسفي عليها الرمال من كل جانب، ومياهها تتلاشى شيئاً فشيئاً، حتى لم يبق بها ما يسقي الحرث ولا يروي الظمآن، كيف سيكون حال الأشجار والغابات، والكلأ والعشب، والناس والماشية والحيوان؟!

هكذا تكون حال المسلمين عندما يقعدون عن الدعوة إلى هدي هذا القرآن العظيم؛ يضعف إيمانهم وتمسكهم بدينهم، وتقل فيهم الطاعات، وتحل في قلوبهم العقائد الفاسدة والشكوك، وتنتشر الأخلاق السيئة، وتكثر الفواحش والمعاصي، ويزهد الناس في دينهم الذي لم يجد من يحمله بحق، فيندر الداخل في هذا الدين، بل قد يخرج منه بعض أهله إما خروجاً صريحاً وإما التواءً ونفاقاً، و تقوى شوكة أعداء الإسلام ويتكالبون على أهله ويتداعون عليهم كما تداعى الأكلة على قصعتها، حتى يصبحوا عبيداً لعبيد الشيطان..!

فهل يعي عقلاء الأمة الإسلامية ما حققه لهم سلفهم من عز وسؤدد، بسبب قيامهم بأمر الله الذي جاءهم به هذا القرآن، وما حل بأمتهم من ذل وهوان، بسبب إهمالهم وتقصيرهم في القيام بحق هذا الكتاب العظيم: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ(43)}[العنكبوت].