أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم




ويشملها جميعاً اسم الخمر؛ وفي هذا القسم فروع:

الفرع الأول: ذكر بعض النصوص الدالة على تحريمها، وإجماع الأمة على ذلك:
قال ابن قدامة، رحمه الله: "الخمر محرم بالكتاب والسنة والإجماع.

أما الكتاب فقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّمَا الْخَمْر وَالْمَيْسِر وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلَامُ رجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(90)}[المائدة].

وأما السنة فقول النبي عليه الصلاة والسلام: (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام) [المسند (2/16) مسلم (3/1587) أبو داود (4/85) الترمذي (4/290).].

وروى عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهـما: أن النبي عليه الصلاة والسلام، قال: (لعن الله الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه) [أبو داود (4/82)، وراجع الترمذي (3/580).].

وثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام، تحريم الخمر بأخبار تبلغ بمجموعها رتبة التواتر، وأجمعت الأمة على تحريمه" [المغني (9/158).].

ومن تلك الأحاديث ما رواه ابن عباس رضي الله تعالى عنهـما، قال: سمعت رسول الله عليه الصلاة والسلام، يقول: (أتاني جبريل، فقال يا محمد، إن الله لعن الخمر، وعاصِرها، ومعتصرها، وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليه، وبايعها، وساقيها، ومسقيها) [الحاكم في المستدرك على الصحيحين (2/37) وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد، وشاهده حديث عبد الله بن عمر ولم يخرجاه".].

وقال ابن حزم، رحمه الله: "كل شيء أسكر كثيرُه أحداً من الناس، فالنقطة منه فما فوقها إلى أكثر المقادير خمر، حرام ملكه وبيعه وشربه واستعماله على كل أحد" [المحلى (7/488).].

الفرع الثاني: في ضررها:

وذلك من وجهين:

الوجه الأول: إخلالها بالأمن:

وهذا أمر يعلمه كل من شاهد السكارى وتصرفاتهم، ولو كانوا عند عدم سكرهم يظهرون من أرجح الناس عقلاً واتزاناً.

ولعل في قراءة قصة قتل حمزة بن عبد المطلب، عم الرسول ‘، ناقَتَيْ علي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنه، بسبب سُكر حمزة، رضي الله تعالى عنه، قبل تحريم الخمر.

لعل في قراءة هذه القصة عبرة ودلالة على مدى إخلال الخمر بأمن الناس على أنفسهم وأموالهم. وهذا نصها: قال على رضي الله تعالى عنه: "كانت لي شارف من نصيبي من المغنم يوم بدر، وكان رسول الله عليه الصلاة والسلام، أعطاني شارفاً من الخُمس يومئذ.

فلما أردت أن أبتني بفاطمة بنت رسول الله عليه الصلاة والسلام، واعدت رجلاً صواغاً من بني قينقاع، يرتحل معي، فنأتي بإذخر أردت أن أبيعه من الصواغين، فأستعين به في وليمة عرسي.

فبينما أنا أجمع لشارفي متاعاً من الأقتاب والغرائر والحبال، وشارفَيَّ مناخان إلى جنب حجرة رجل من الأنصار، أقبلت حين جمعت ما جمعت، فإذا شارفاي قد جُبَّت أسنمتهما، وبُقِرت خواصرهما، وأخذ من أكبادهما.

فلم أملك عيني حين رأيت ذلك المنظر منهما، فقلت: من فعل هذا؟، قالوا: فعله حمزة، وهو في هذا البيت في شَرب من الأنصار، غَنَّتْه قَيْنَة وأصحابَه، فقالت في غنائها: ألا يا حَمْزُ للشرف النواء.

فوثب حمزة رضي الله تعالى عنه إلى السيف فاجتب أسنمتهما، وبقر خواصرهما، وأخذ من أكبادهما.

قال علي: فانطلقت حتى أدخل على رسول الله عليه الصلاة والسلام ، وعنده زيد بن حارثة، قال: فعرف رسول الله عليه الصلاة والسلام، في وجهي الذي لقيت.

فقال: (مالك؟) قلت: يا رسول الله، ما رأيت كاليوم قط، عدا حمزة على ناقَتَيَّ فاحتز أسنمتهما وبقر خواصرهما، وها هو ذا في بيت معه شرب.

قال: فدعا رسول الله عليه الصلاة والسلام، بردائه، فارتدى ثم انطلق يمشي واتبعته أنا وزيد بن حارثة، حتى جاء البيت الذي فيه حمزة، فاستأذن فأذن له، فإذا هم شرب.

فطفق رسول الله صلى يلوم حمزة فيما فعل، فإذا حمزة ثَمِل محمرة عيناه، فنظر إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، فصعّد النظر إلى ركبتيه، ثم صعد النظر إلى سرته، ثم صعد النظر فنظر إلى وجهه.

ثم قال حمزة: "وهل أنتم إلا عبيدٌ لأبى" فعرف رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه ثمل.
فنكص رسول الله عليه الصلاة والسلام على عقبيه القهقرى وخرج وخرجنا معه.
وفي رواية: "وذلك قبل تحريم الخمر" [البخاري (3/80) ومسلم (3/1568).].
والشَّرب بفتح الشين وإسكان الراء، وهم الجماعة الشاربون والقينة: المغنية. والشُّرف: جمع شارف، وهي الناقة. والنِّواء الناقة السمينة، وكأن حمزة رضي الله تعالى عنه، عندما سكر وحرضته تلك المغنية على الناقتين استجاب لإغرائها، ففعل ما فعل [يراجع شرح النووي على صحيح مسلم (13/147) وفتح الباري (6/200).].

انظر ماذا فعلت الخمر بحمزة، رضي الله تعالى عنه، وهو أسد الله، وعم رسول الله عليه الصلاة والسلام ؟

كيف اعتدى على مال ابن أخيه، الذي كان في أمس الحاجة إليه؟ وكيف خاطب رسول الله عليه الصلاة والسلام، ومن معه بقوله: وهل أنتم إلا عبيد لأبى؟

كان من المحتمل أن يعتدي، وهو في تلك الحال على رسول الله عليه الصلاة والسلام وأصحابه، كما اعتدى على الشارفين، لو أن رسول الله عليه الصلاة والسلام، تمادى في عتابه، ولكنه عندما رآه على تلك الحال تركه وكر راجعاً.

ولقد سمى عثمان بن عفان، رضي الله تعلى عنه الخمر: "أم الخبائث". وذكر قصة تدل على خطرها وكونها تقود شاربها إلى معاصي الله من كبائر الذنوب، وإن كان قبل شربه من الصالحين المتقربين إلى الله بطاعته.

قال، رضي الله تعالى عنه: "اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث، إنه كان رجل ممن خلا قبلكم يتعبد، فعلقته امرأة، أغوته، فأرسلت إليه جاريتها فقالت له: إنها تدعوك للشهادة، فانطلق مع جاريتها.

فطفق كلما دخل باباً أغلقته دونه، حتى أفضى إلى امرأة وضيئة، وعندها غلام وباطية خمر.
فقالت: والله ما دعوتك للشهادة، ولكن دعوتك لتقع علَيَّ، أو تشرب من هذه الخمر كأساً، أو تقتل هذا الغلام.

قال: فاسقيني من هذه الخمر كأساً، فسقته كأساً، فقال: زيدوني، فلم يرم [أي لم يبرح.] حتى وقع عليها وقتل الغلام. فاجتنبوا الخمر، فإنها والله لا يجتمع الإيمان وإدمان الخمر، إلا ويوشك أن يخرج أحدهما صاحبه" [النسائي (8/282) وقال المحشي على جامع الأصول (5/103) وإسناده صحيح.].

وإن ما يشاهده المرء من السكارى وتصرفاتهم، أمر لا خفاء به وبخاصة في البلدان التي لا ينتهي بعض سكانها من شرب كأس إلا ليتناول أخرى.

فإن بعض الأحياء في بعض مدن الغرب الكبرى، لا يجرؤ الإنسان على دخولها وحده في النهار، أما في الليل فهي مأوى لهلاك من دخل شوارعها واختلط بسكانها من غير أهلها [كما هو الحال في حي "هارلم" في مدينة نيويورك، وغيره من الأحياء في المدن الأمريكية، وغيرها من مدن الغرب، بل لا تخلو بعض البلدان الإسلامية من انتشار هذا الوباء!.].
الوجه الثاني من أضرار الخمر: ما ثبت في علم الطب من أضرار الخمر، على النفوس، وليس على العقل وحده:

قال ابن القيم، رحمه الله ـ وهو يتكلم عن تحريم التداوي بالمحرمات وضرره ـ: "ولنفرض الكلام في أم الخبائث التي ما جعل الله لنا فيها شفاء قط، فإنها شديدة المضرة بالدماغ الذي هو مركز العقل عند الأطباء، وكثير من الفقهاء والمتكلمين. قال أبقراط في أثناء كلامه في الأمراض الحادة: ضرر الخمر بالرأس شديد؛ لأنه يسرع الارتفاع إليه، ويرتفع بارتفاعه الأخلاط التي تعلو في البدن، وهو كذلك يضر بالذهن. وقال صاحب الكامل: إن خاصة الشراب الإضرار بالدماغ والعصب" [زاد المعاد (4/157) بتحقيق الأرناؤوط ـ الطبعة الثانية ـ 1402ﻫ.].

وإذا استعرض القارئ أضرار الخمر في فهارس بعض الكتب الطبية الحديثة، وجد قائمة تحتوى على أضرار الخمر على جميع أجهزة الجسم تقريباً.

اقرأ مثلا في كتاب: الخمر بين الطب والفقه، العناوين الآتية: الخمر والجهاز العصبي: وما يندرج تحته من أمراض:

ضمور خلايا قشرة المخ. النوبات الدماغية. الهذيان، الارتعاش، الهلوسة. التهاب الأعصاب المتعدد. التهاب عصب العين المؤدي إلى العمى. تقرحات الفم، التهاب البلعوم المنتن، إصابات المريء. التهاب المريء المزمن، قرحة المريء المزمنة. سرطان المريء، القيء، فقدان الشهية.

الخمور والمعدة: وما يندرج تحته من أمراض: التهابات المعدة الحادة. التهابات المعدة المزمنة.
سرطان المعدة، قرحة المعدة والاثني عشر.

الخمور والتهابات الأمعاء الدقيقة والغليظة.

الخمر والكبد: تأثير الخمر على الكبد.

تضخم الطحال.

النزف المتكرر.

الخمر وأمراض القلب والدورة الدموية. أمراض الدم الناتجة عن شرب الخمور.

الخمر وأمراض الجهاز التنفسي.
الخمر وأمراض الغدد والاستقلاب. [راجع الكتاب المذكور لمؤلفه الدكتور محمد بن علي البار].

فالخمر التي أكثر ما عرف عنها أنها تغطي العقل وبعض الأمراض الخفيفة في السابق، أصبحت خطراً على نفس الشارب وفقدان حياته واعتلاله بأمراض خطيرة. دع عنك الجرائم التي يرتكبها الشارب في حق نفسه والمجتمع، فإنها تحتاج إلى مجلدات إحصائية أمينة.

الفرع الثالث: عجز الأنظمة البشرية عن صيانة العقل وقدرة الإسلام وحده على ذلك:

إن من المسلم به أن فاقد الشيء لا يعطيه، وأن كل الأديان سواء السماوية المحرفة، أو الوثنية، وكل الأنظمة البشرية ليست قادرة على صيانة العقل وحفظه من المُفسدات.

مفسدات العقائد والأفكار والبدع والخرافات، والنظريات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
لا بل إن تلك الأديان والأنظمة، لتفسد العقل بكثير من عقائدها وأفكارها ونظرياتها، فكيف تكون قادرة على حفظه، وهى نفسها تعتدي عليه؟!

وكذلك هي ليست قادرة على حفظ العقل من المفسدات المادية، وهى الخمر ومشتقاتها، من مخدرات وغيرها، ولو وضعت لمنع الخمر وتحريمها القوانين وجندت لعقاب شاربيها المحاكم والسجون وعاقبت بالسجن والمال وغير ذلك.

لأن القانون البشرى الذي لا يخضع له الناس، ولا يخافونه إلا إذا وقعوا في المعصية تحت سمع وبصر منفذيه، غير كاف للإقلاع عن المعصية.

فالإنسان إذا علم أن منفذي القانون في غفلة عنه، وأنه ناج من عقابهم، لا يمنعه أي مانع من الإقدام على المعصية، مادام قادراً على الاحتيال على القانون ولا رادع له سواه.

أما الإسلام، فانه وحده الدين القادر على حفظ العقل سواء من المفسدات المعنوية أو المفسدات المادية.

ذلك أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي بقي في الأرض دين حق، محفوظة أصوله في كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وعنده ما يمد به العقل من التصور عن الله والكون والإنسان والحياة، أي كل الجوانب الإيمانية.

وعنده ما يمده به من الفكر والعبادة والنظام في كل شأن من شؤون الحياة: الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها.

وعنده الموازين الثابتة التي يحكم بها على أفكار البشر وأنظمتهم ليصحح الصحيح منها ويخطئ غيره.

لذلك نجد المؤمن بهذا الدين سليم العقل قوي العاطفة، يشعر برقابة داخلية في قلبه لا تفارقه، هي خوفه من الله وطمعه في رحمته وثوابه.

فإذا حرَّم الله عليه شيئاً اجتنبه، سواء عرف أنه سيقع تحت طائلة العقاب الدنيوي أم عرف أنه لا يعلم عنه أحد إلا الله؛ لأن علم الله وحده هو الذي يملأ قلبه بالخوف من فوات ثوابه، وإنزال عقابه، وهو أكبر معين للإنسان والمجتمع على الابتعاد عن المعصية، ومنها معاصي الاعتداء على العقول.

ويكفي هنا أن نأتي بخلاصة عما يتعلق بالخمر لنعلم عجز غير الإسلام عن صيانة العقل منها:

لقد حرم الله تعالى الخمر منذ ما يزيد عن أربعة عشر قرناً من الزمان، وتركها المسلمون طاعة لله تعالى ولرسوله عليه الصلاة والسلام.
ولكن أعداء الإسلام والفسقة من المسلمين ظلوا يحتسونها، إلا أن فساق المسلمين يدينون بحرمتها، واحتمال توبتهم مما يعتقدون تحريمه قائم، وكثير منهم يقلع عن ذلك عندما يقوى إيمانه رغبة في ثواب الله وخشية من عقاب الله.

وقد يتركونها لما يشعرون به من ضرر غير معروفة تفاصيله عندهم، وهكذا الكفار قد يتركها بعض أفرادهم بسبب ما يصاب به من ضرر.

أما حكمها في دينهم، فإن كانوا أهل كتاب، فإنهم يزعمون أن الخمر ليست محرمة في دينهم، ولكن دينهم قد حرف، فلا يوثق بما ينسبون إليه من أحكام.

ونحن لا نشك أن حكمة الله تعالى تأبى أن لا يبيح ما يفسد العقول والأجسام والأموال.
ولعل ما ذكر عن عثمان رضي الله تعالى عنه، يدل أن الذي أغوته تلك المرأة، وكان متعبداً، إنما أغوته بما كان محرماً على من قبلنا [سبق قريباً.].

ولا بد أن يكون من أهل الكتاب؛ لأن عبارة: "من خلا قبلكم" يراد بها اليهود أو النصارى في الغالب [وراجع المنار لمحمد رشيد رضا (7/86).].

ومع اعتقاد غير المسلمين إباحة الخمر، فإن أضرارها جعلتهم يقفون ضد تلك الإباحة، فأخذت بعض الحكومات ترفع شعار الحظر وتسن القوانين، كما أخذ بعض المفكرين يدعون الناس إلى الإقلاع عن شرب الخمر، ويوضحون أضرارها، وأكد ذلك علم الطب، كما تقدم قريباً.

وعلى الرغم من سن القوانين وتنفيذ العقوبات على من خالفها والقيام بكل ما أوتيت تلك الدولة القوية من وسائل لمنع شرب الخمر، وعلى رغم تحذير المفكرين والأطباء. فإن ذلك كله لم يُجْدِ فتيلاً في الإقلاع عن الخمر، بل ازداد متعاطوها.
قال الأستاذ عبدا لقادر عودة، رحمه الله: "حرمت الشريعة الإسلامية الخمر تحريماً قاطعاً؛ لأنها تعتبر الخمر أم الخبائث، وتراها مضيعة للنفس والعقل والصحة والمال، ولقد حرمت الشريعة الإسلامية الخمر من ثلاثة عشر قرناً ـ قلت: أما الآن فمن أكثر من أربعة عشر قرناً وربع القرن ـ ووضع التحريم موضع التنفيذ من يوم نزول النصوص المحرمة.

وظل العالم الإسلامي يحرم الخمر حتى أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن العشرين، حيث بدأت البلاد الإسلامية تطبق القوانين الوضعية وتعطل الشريعة الإسلامية.

فأصبحت الخمر مباحة لشاربيها، كما هو الحال في مصر. وفي الوقت الذي يستبيح فيه المسلمون الخمر بالرغم من تحريم الإسلام لها، تنتشر الدعوة إلى تحريم الخمر في البلاد غير الإسلامية، فلا نجد بلداً ليس فيه جماعة أو جماعات تدعو إلى تحريم الخمر، وتبين بكل الوسائل أضرارها العظيمة التي تعود إلى شاربها بصفة خاصة، وعلى الشعوب بصفة عامة.
وقد ترتب على الدعوة القوية لتحريم الخمر، أن ابتدأت الدول غير الإسلامية تضع فكرة تحريم الخمر موضع التنفيذ، من القرن الحالي، فالولايات المتحدة الأمريكية أصدرت من عدة سنين قانوناً يحرم الخمر تحريماً تاماً، وقد أصدرت الهند من سنتين قانونا مماثلاً" [التشريع الجنائي الإسلامي (2/496-497).].

ولكن أمريكا وهى أقوى دولة مادية، فشلت في تنفيذ قانونها الذي أصدرته. ونقل شيخنا العلامة الأستاذ أبو الحسن الندوي -رحمه الله- في كتابه القيم. "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين" [صفحة:80 حاشية:1 الطبعة الرابعة، نقلاً عن كتاب: تنقيحات للأستاذ المودودي رحمه الله، ونقله عنه سيد قطب في كتابه "في ظلال القرآن" (5/663)، وذكر ذلك الشيخ يوسف القرضاوي في كتابه "الإيمان والحياة" صفحة225-226.]:

"منعت حكومة أمريكا الخمر وطاردتها في بلادها، واستعملت جميع وسائل المدنية الحاضرة، كالمجلات والجرائد والمحاضرات والصور والسينما لتهجين شربها وبيان مضارها ومفاسدها. ويقدرون ما أنفقته الدولة في الدعاية ضد الخمر بما يزيد على ستين مليون دولار، وأن ما نشرته من الكتب والنشرات يشتمل على عشرة بلايين صفحة.

وما تحملته في سبيل تنفيذ قانون التحريم في مدة أربعة عشر عاماً، لا يقل عن مائتين وخمسين مليون جنيه، وقد أعدم فيها ثلاثمائة نفس، وسجن (532335) نفس.

وبلغت الغرامات 16 مليون جنيه، وصادرت من الأملاك ما يبلغ أربعمائة مليون وأربعة ملايين جنيه.

ولكن كل ذلك لم يَزُد الأمة الأمريكية إلا غراماً بالخمر وعناداً في تعاطيها، حتى اضطرت الحكومة سنة 1933م إلى سحب هذا القانون وإباحة الخمر في مملكتها إباحة مطلقه".

والذي يؤخذ من هذه المحاولات الفاشلة في تحريم الخمر، ثم التراجع عن هذا التحريم، تحت إباء جماهير الشعب الأمريكي وإصرارهم على الشرب، ثلاثة أمور:

الأمر الأول: إظهار الحق الذي جاء به هذا الدين، وأنه من عند الله؛ لأن الكفار الذين لم يعترفوا به اضطروا إلى تحريم ما نادى بتحريمه منذ أكثر من أربعمائة عشر قرناً، لما رأوا في ذلك من الأضرار التي كابروا في السكوت عليها مدة طويلة.
الأمر الثاني: فشلهم في التطبيق، وذلك يعود إلى سببين:
السبب الأول - وهو الأهم -: أن التحريم صادر من بشر وليس من الخالق، والذين حرمت عليهم يستسلموا لذلك التحريم طواعية، ولذلك أصروا على الاستمرار في تعاطي الخمور، حتى أجبروا الدولة على التراجع عن التحريم عجزاً عن تطبيقه.

والسبب الثاني: أن العقاب الذي اتخذ على تعاطي شرب الخمر، ليس هو العقاب الذي جاءت به الشريعة الإسلامية وهو الجلد، والجلد عقاب رادع، لأن ألمه يتغلب على لذة الخمر غالباً.

أما الأمر الثالث: الذي هو محل العبرة، فهو أن الإسلام وحده هو القادر على هداية العقول وحفظها من المفسدات؛ لأن المسلمين يؤمنون بأن الخير فيما اختاره الله، ولذلك ينفذون أمر الله تعالى بمجرد سماعه.

فقد كان أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، مجتمعين على شرب الخمر عندما نزلت آيات تحريمه، كانت دنان الخمر ـ أوعيته ـ بجانبهم، والكؤوس في أيديهم يحتسون الخمر.

فلما سمعوا منادي رسول الله عليه الصلاة والسلام، يعلن تحريم الخمر، وقفت يد كل واحد في مكانها، فلم تصل إلى أفواههم، والذي قد احتسى شيئاً في فمه مجه، والذي قد شرب تقيأ ما شرب.

وأمروا بالخمر أن تكفأ في الشوارع حتى سالت في سكك المدينة، طاعة مطلقة فورية لا تردد فيها، بدون شرط ولا سجون، ولا حراس ولا مطاردات، وإنما سمعوا النداء فكانت التلبية.

قال أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: "كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة، وكان خمرهم يومئذ من الفضيخ، فأمر رسول الله عليه الصلاة والسلام، منادياً ينادى: (ألا إن الخمر قد حرمت). قال: فقال لي أبو طلحة: اخرج فاهرقها، فخرجت فهرقتها، فجرت في سكك المدينة. وفي رواية: يا أنس أهرق هذه القلال [جمع قُلة وهي الجرة الكبيرة.].

قال: فما راجعوها ولا سألوا عنها بعد خبر الرجل" [البخاري (3/102) ومسلم (3/1570-1571).]. والفضيخ: خليط من البسر والرطب أو التمر.

ووضعت الشريعة بجانب ذلك عقاباً رادعاً، لمن ضعف إيمانه فتعاطي شرب الخمر: وهو أربعون جلدة أو ثمانون.

وإنه لمن المؤسف كل الأسف أن يحاول أعداء الإسلام تحريم ما حرمه الإسلام ويفشلوا في ذلك، لعدم قدرتهم على تطبيق التحريم.

لأنهم يفقدون العوامل التي تقنع الشعب بالتحريم، ثم نرى أكثر حكام الشعوب الإسلامية التي عندها ما يعينها على تنفيذ أمر الله، لا يخجلون من إباحة شرب الخمر، والإذن ببيعها في الأسواق والفنادق وشربها علناً، وعدم مؤاخذة السكارى في الشوارع بتطبيق شرع الله عليهم.

ومما يدل على قدرة الإسلام على حفظ العقول، ما هو مشاهد في هذا العصر الذي قلما تجد شعباً من الشعوب سالماً من إباحة حكامه الخمر، ومع ذلك نجد غالب المسلمين يمتنعون عن شرب الخمر خوفاً من الله تعالى.

فإذا ما وجد حاكم من حكام المسلمين ينفذ أمر الله بتحريم الخمر والعقاب على شربها، اختفت هذه الجريمة من المجتمع، ولم يجرؤ أحد أن يتعاطاها إلا نادراً في غاية من التخفي، فإذا ظهرت المعصية أقيم على فاعلها حكم الله.

وبهذا يظهر أن حفظ العقل من المفسدات المعنوية والمادية، ضرورة لا حياة مطمئنة بدونها، وأن حفظه في الإسلام يشمل صيانته عن العقائد الفاسدة والأفكار الضارة والبدع والخرافات.

وقد حمى الله تعالى العقل، حيث جعل الإيمان ومبادئ الإسلام وكل علم مفيد منهجاً له.
كما يشمل كذلك وقايته من المفسدات المادية، كالخمر والمخدرات ونحوها.