أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


باب قول الله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}
الخوف من عبادات القلب ، قال تعالى فى وصف سادات المقربين من الملائكة والأولياء والصالحين " يخافون ربهم من فوقهم " النحل 51
وقال تعالى " الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله " الاحزاب 40 ، وقال تعالى " وإياى فارهبون " البقرة 41
وقال تعالى "فلا تخشوا الناس واخشون " المائدة 48
فالخوف سوط الله تعالى يسوق به عباده الى المواظبة على العلم والعمل ، لينالوا بهما رتبة القرب من الله تعالى ،
ويّعرف الخوف بأنه : عبارة عن تألم القلب ، واحتراقه بسبب توقع مكروه فى الإستقبال
وأخوف الناس أعرفهم بنفسه وبربه ، وكان النبى صلى الله عليه وسلم يقول : أنا أعرفكم بالله وأشدكم له خشية " البخارى وقال تعالى " إنما يخشى الله من عباده العلماء " فإذا كملت المعرفة أثمرت الخوف ، ففاض الأثر من القلب الى الجوارح ، وظهرت آثار الخوف من البكاء ، والغشى أحياناً ، على العبد ، كما قد يبدو عليه الإصفرار والنحول ، وقد يتعاظم الخوف حتى يفضى الى الموت
أما ظهور أثره على الجوارح فبكفها عن المعاصى ، وإلزامها الطاعات ، تلافياً لما فرط فيه العبد ، واستعداداً للمستقبل ، وقال بعضهم : من خاف أدلج ، وقال آخر : ليس الخائف من بكى ، وإنما الخائف من ترك ما يقدر عليه
ومن ثمرات الخوف أنه يقمع الشهوات ، ويكدر اللذات ، فتصير المعاصى المحبوبة عنده مكروهة ، فتحترق الشهوات بالخوف ، وبه تتأدب الجوارح ، ويذل القلب ويستكين ، ويفارقه الكبر ، والحقد والحسد ، فينشغل بنفسه ولا يكون له شغل إلا المراقبة والمحاسبة ، والمجاهدة ، والضنة بالأنفاس ، واللحظات أن تذهب هباءً ، ومؤاخذة النفس فى الخطرات والخطوات والكلمات ، ويكون حاله كمن وقع فى مخالب سبع ضار فهل يستطيع أن يفكر فى شئ آخر غير نجاته "
والخوف أربعة أنواع
الأول : خوف السر :وهو أن يخاف من غير الله أن يصيبه بما يشاء من مرض أو فقر أو قتل ونحو ذلك بقدرته ومشيئته، سواء ادعى أن ذلك كرامة للمخوف بالشفاعة، أو على سبيل الاستقلال، فهذا الخوف لا يجوز تعلقه بغير الله أصلاً، لأن هذا من لوازم الإلهية، فمن اتخذ مع الله ندًّا يخافه هذا الخوف فهو مشرك. وهذا الخوف ينتج فى العادة من اعتقاد العبد أن من يخافه له سيطرة على أمور الطبيعة والكون ، بحيث يرى أن له القدرة على أن يأمر المرض بأن يصيب من يشاء ، والقتل أن يلحق من يشاء ، فكأنه يرى أن له سلطة مطلقة على عالم الطبيعة ، تتعدى الأسباب المادية الى أشياء لا يقدر عليها إلا الله ، واعتقاد أن أحد غير الله له السلطة على الطبيعة وتتعدى الأسباب المادية فهذا شرك فى الربوبية ، ووقوع الخوف فى القلب منه شرك فى الألوهية ، فصرف هذا الجنس من الخوف يكون لله وحده
الثانى :
خوف :خوف وعيد الله الذي توعد به العصاة وهو الذي قال الله فيه: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ}وقال تعالى: {وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} وهذا الخوف من أعلى مراتب الإيمان ، والنوع الأول من الخوف هو الأصل ، وهذا النوع هو الكمال الواجب ، ويدخل فيه المستحب بحسبه ،
الثالث
الخوف من الناس حتى يؤدى خوفه منهم الى ترك الجهاد ، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، بدون عذر ، وهو من المحرمات ، بل قد يصل الى الشرك ، إذا ترك بسببه التوحيد ، وهذا النوع هو الذى تحدثت عنه الآيه عنوان الباب
وفى الحديث: "إن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: ما منعك إذا رأيت المنكر أن لا تغيره فيقول: يا رب خشيت الناس، فيقول إياي كنت أحق أن تخشى" رواه أحمد.
قال تعالى { أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 2، 3]
ويقول تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ } [البقرة: 214]
إن هذه الآيات كشفت لنا طبيعة دين الإسلام ، فهو ليس دعوى تقال باللسان ، وإنما هو مسلك وسبيل وعبادة وتضحية ، وجهاد ومشقة وابتلاء ، إنه الطريق المتكامل للحق ، وقد يقع الخوف فى قلب العبد ..لكن السؤال : هل يصرفه عن السبيل ، فإذا صرف الخوف العبد عن السبيل ، ومنعه من معرفة ربه ، ودراسة دينه ، ودعوة الخلق اليه ، والجهاد فى سبيل الله ، ومنعه من الإنتماء للطائفة المنصورة ، .. العامله على إعلاء كلمة الله فى الأرض ، فهذا هو الخوف الذى يرسله الشيطان الى قلب العبد ( إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه ) أى يخوفكم من أوليائه ، وأولياء الشيطان هم الكفار والطغاة والظلمة ، وأهل الفجور ..فإن أستجاب العبد لهذا الخوف ، فقد صار هو نفسه من أولياء الشيطان بقدر ما أكتسب ، فإن منعه الخوف من تحقيق التوحيد قولاً وعملاً ، فقد أفضى به الخوف الى الشرك ، وإن منعه الخوف من القيام بعبادة من العبادات الواجبة ، كان فيه من ولاية الشيطان بحسب المعصية التى أرتكبها ، وكان خوفه مذموما محرماً
ولو تدبرت الآيتين ، آية العنكبوت ، وآية البقرة ، لوقفت على حقيقة عظيمة يجب أن تعلمها ، شرح هذه الحقيقة صاحب الظلال فى تفسيره لقوله تعالى " حتى إذا أستيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجى من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين " يوسف 110
فقال " إنها صورة رهيبة ، ترسم مبلغ الشدة والكرب والضيق في حياة الرسل ، وهم يواجهون الكفر والعمى والإصرار والجحود . وتمر الأيام وهم يدعون فلا يستجيب لهم إلا قليل ، وتكر الأعوام والباطل في قوته ، وكثرة أهله ، والمؤمنون في عدتهم القليلة وقوتهم الضئيلة .
إنها ساعات حرجة ، والباطل ينتفش ويطغى ويبطش ويغدر . والرسل ينتظرون الوعد فلا يتحقق لهم في هذه الأرض . فتهجس في خواطرهم الهواجس . . تراهم كُذِبوا؟ ترى نفوسهم كذبتهم في رجاء النصر في هذه الحياة الدنيا؟
وما يقف الرسول هذا الموقف إلا وقد بلغ الكرب والحرج والضيق فوق ما يطيقه بشر . وما قرأت هذه الآية والآية الأخرى : { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه : متى نصر الله . . . ؟ } ما قرأت هذه الآية أو تلك إلا وشعرت بقشعريرة من تصور الهول الذي يبلغ بالرسول هذا المبلغ ، ومن تصور الهول الكامن في هذه الهواجس ، والكرب المزلزل الذي يرج نفس الرسول هذه الرجة ، وحالته النفسية في مثل هذه اللحظات ، وما يحس به من ألم لا يطاق .
في هذه اللحظة التي يستحكم فيها الكرب ، ويأخذ فيها الضيق بمخانق الرسل ، ولا تبقى ذرة من الطاقة المدخرة . . في هذه اللحظة يجيء النصر كاملاً حاسماً فاصلاً :
{ جاءهم نصرنا ، فنجي من نشاء ، ولا يردُّ بأسنا عن القوم المجرمين } . .
تلك سنة الله في الدعوات . لا بد من الشدائد ، ولا بد من الكروب ، حتى لا تبقى بقية من جهد ولا بقية من طاقة . ثم يجيء النصر بعد اليأس من كل أسبابه الظاهرة التي يتعلق بها الناس . يجيء النصر من عند الله ، فينجو الذين يستحقون النجاة ، ينجون من الهلاك الذي يأخذ المكذبين ، وينجون من البطش والعسف الذي يسلطه عليهم المتجبرون . ويحل بأس الله بالمجرمين ، مدمراً ماحقاً لا يقفون له ، ولا يصده عنهم ولي ولا نصير .
ذلك كي لا يكون النصر رخيصاً فتكون الدعوات هزلاً . فلو كان النصر رخيصاً لقام في كل يوم دعيٌّ بدعوة لا تكلفه شيئاً . أو تكلفه القليل . ودعوات الحق لا يجوز أن تكون عبثاً ولا لعباً . فإنما هي قواعد للحياة البشرية ومناهج ، ينبغي صيانتها وحراستها من الأدعياء ، والأدعياء لا يحتملون تكاليف الدعوة ، لذلك يشفقون أن يدَّعوها ، فإذا ادَّعوها عجزوا عن حملها وطرحوها ، وتبين الحق من الباطل على محك الشدائد التي لا يصمد لها إلا الواثقون الصادقون؛ الذين لا يتخلون عن دعوة الله ، ولو ظنوا أن النصر لا يجيئهم في هذه الحياة!
إن الدعوة إلى الله ليست تجارة قصيرة الأجل؛ إما أن تربح ربحاً معيناً محدداً في هذه الأرض ، وإما أن يتخلى عنها أصحابها إلى تجارة أخرى أقرب ربحاً وأيسر حصيلة! والذي ينهض بالدعوة إلى الله في المجتمعات الجاهلية والمجتمعات الجاهلية هي التي تدين لغير الله بالطاعة والاتباع في أي زمان أو مكان يجب أن يوطن نفسه على أنه لا يقوم برحلة مريحة ، ولا يقوم بتجارة مادية قريبة الأجل! إنما ينبغي له أن يستيقن أنه يواجه طواغيت يملكون القوة والمال ويملكون استخفاف الجماهير حتى ترى الأسود أبيض والأبيض أسود! ويملكون تأليب هذه الجماهير ذاتها على أصحاب الدعوة إلى الله ، باستثارة شهواتها وتهديدها بأن أصحاب الدعوة إلى الله يريدون حرمانها من هذه الشهوات! . . ويجب أن يستيقنوا أن الدعوة إلى الله كثيرة التكاليف ، وأن الانضمام إليها في وجه المقاومة الجاهلية كثيرة التكاليف أيضاً . وأنه من ثم لا تنضم إليها في أول الأمر الجماهير المستضعفة ، إنما تنضم إليها الصفوة المختارة في الجيل كله ، التي تؤثر حقيقة هذا الدين على الراحة والسلامة ، وعلى كل متاع هذه الحياة الدنيا . وأن عدد هذه الصفوة يكون دائماً قليلاً جداً . ولكن الله يفتح بينهم وبين قومهم بالحق ، بعد جهاد يطول أو يقصر . وعندئذ فقط تدخل الجماهير في دين الله أفواجاً . "
النوع الرابع من الخوف
الخوف الطبيعى أى الخوف من عدو وسبع أو هدم أو غرق ونحو ذلك ، فهذا لا يذم ، قال الله تعالى عن موسى " فخرج منها خائفاً يترقب " القصص ، وهذا النوع يوجد فى قلب العبد ، ولكن يدفعه التوكل على الله ، واللجوء اليه ، وكلما قوى الإيمان فى القلب والتوكل ، أرتفع هذا الخوف وما يشابهه ، والفرق بين هذا الخوف والذى قبله أن هذا خوف له ما يبرره ، وهو رغم ذلك لايجب أن يصد عن طاعة الله ، ولا يدفع لمعصية "
قال :وقوله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ}. التوبة 18
قال تعالى قبل الآية السابقة " {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} [التوبة: 17] ويكتمل المعنى بإلقاء النظر على ظلال الآيتين معا
({ ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر } . .
فهو أمر مستنكر منذ الابتداء ، ليس له مبرر لأنه مخالف لطبائع الأشياء . إن بيوت الله خالصة لله ، لا يذكر فيها إلا اسمه ، ولا يدعى معه فيها أحد غيره ، فكيف يعمرها من لا يعمر التوحيد قلوبهم ، ومن يدعون مع الله شركاء ، ومن يشهدون على أنفسهم بالكفر شهادة الواقع الذي لا يملكون إنكاره ، ولا يسعهم إلا إقراره؟ إقراره؟
{ أولئك حبطت أعمالهم } . .
فهي باطلة أصلاً ، ومنها عمارة بيت الله التي لا تقوم إلا على قاعدة من توحيد الله .
{ وفي النار هم خالدون } . .
بما قدموا من الكفر الواضح الصريح .
إن العبادة تعبير عن العقيدة؛ فإذا لم تصح العقيدة لم تصح العبادة؛ وأداء الشعائر وعمارة المساجد ليست بشيء ما لم تعمر القلوب بالاعتقاد الإيماني الصحيح ، وبالعمل الواقع الصريح ، وبالتجرد لله في العمل والعبادة على السواء :
{ إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله } . .
والنص على خشية الله وحده دون سواه بعد شرطي الإيمان الباطن والعمل الظاهر ، لا يجيء نافلة . فلا بد من التجرد لله؛ ولا بد من التخلص من كل ظل للشرك في الشعور أو السلوك؛ وخشية أحد غير الله لون من الشرك الخفي ينبه إليه النص قصداً في هذا الموضع ليتمحض الاعتقاد والعمل كله لله . وعندئذ يستحق المؤمنون أن يعمروا مساجد الله ، ويستحقون أن يرجوا الهداية من الله :
{ فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين } . .) الظلال 2/1614
قال ابن أبى طلحة عن ابن عباس يقول : إن أولئك المهتدون " كقوله " عسى أن يبعثك ربك مقاماً محمودا " الإسراء 8 ، وكل عسى فى القران فهى واجبة
قال :وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ}سورة العنكبوت آية: 10.
قال ابن القيم:"الناس إذا أرسل إليهم الرسل بين أمرين: إما أن يقول أحدهم: آمنا، وإما أن لا يقول ذلك، بل يستمر على السيئات والكفر، فمن قال: آمنا امتحنه ربه وابتلاه وفتنه، والفتنة: الابتلاء والاختبار، ليتبين الصادق من الكاذب، ومن لم يقل: آمنا فلا يحسب أنه يعجز الله ويفوته ويسبقه فمن آمن بالرسل وأطاعهم، عاداه أعداؤهم وآذوه، فابتلي بما يؤلمه، ومن لم يؤمن بهم، ولم يطعهم، عوقب في الدنيا والآخرة، وحصل له ما يؤلمه، وكان هذا الألم أعظم وأدوم من ألم اتباعهم، فلا بد من حصول الألم لكل نفس آمنت، أو رغبت عن الإيمان، لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا ابتداء، ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة،والمعرض عن الإيمان تحصل له اللذة ابتداء، ثم يصير له الألم الدائم.
قال الشيخ سليمان رحمه الله : وإنما حمل ضعيف البصيرة على أن {جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِكَعَذَابِ اللَّهِ} ، هو الخوف منهم أن ينالوه بما يكره بسبب الإيمان بالله، وذلك من جملة الخوف من غير الله، وهذا وجه مطابقة الآية للترجمة، وفي الآية رد على المرجئة والكرامية، وفيها الخوف على نفسك، والاستعداد للبلاء إذ لا بد منه مع سؤال الله العافية.
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب : وفي الآية رد على المرجئة والكرامية. ووجهه: أنه لم ينفع هؤلاء قولهم: آمنا بالله. مع عدم صبرهم على أذى من عاداهم في الله، فلا ينفع القول والتصديق بدون العمل. فلا يصدق الإيمان الشرعي على الإنسان إلا باجتماع الثلاثة: التصديق بالقلب وعمله، والقول باللسان، والعمل بالأركان. وهذا قول أهل السنة والجماعة سلفا وخلفا، والله سبحانه وتعالى أعلم. " فتح المجيد 224
قلت هذا النقل عن الشيخ عبد الرحمن يرد على أدعياء السلفية من المرجئة المعاصرة ، والتى تزعم صحة ايمان تارك العمل الظاهر جميعه ، وأن العمل الظاهر كمال فى الإيمان

قال :عن أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعا: "إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله. إن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره".
قال الشيخ سليمان الحديث إسناده ضعيف ، ومعناه صحيح ، رواه أبو نعيم فى الحلية والبيهقى وأعله ، قوله: (أن ترضي الناس بسخط الله) . أي: تؤثر رضاهم على رضي الله، فتوافقهم على ترك المأمور، أو فعل المحظور استجلابًا لرضاهم فلولا ضعف اليقين لما فعلت ذلك، لأن من قوي يقينه علم أن الله وحده هو النافع الضار، وأنه لا مُعَوَّل إلا على رضاه،(وأن تحمدهم على رزق الله) ، أي: تحمدهم وتشكرهم على ما وصل إليك على أيديهم من رزق، بأن تضيفه إليهم وتنسى المنعم المتفضل على الحقيقة وهو الله ، (وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله) ، أي: إذا طلبتهم شيئًا فمنعوك ذممتهم على ذلك،
قال :وعن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"من التمس رضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس؛ ومن التمس رضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس" رواه ابن حبان في صحيحه.
وإنما يحمل الإنسان على إرضاء الخلق بسخط الخالق ، الخوف منهم ، فلو كان خوفه خالصا لله ، وكان الله أرهب من فى قلبه ، وأحب من فى قلبه ، ما أرضاهم بسخط الله ، فإن العبيد فقراء عاجزون ، لا قدرة لهم على نفع ولا ضر ، وما بهم من نعمة فمن الله ، فكيف يترك الإنسان صاحب القدرة ، وصاحب النعمة ، وصاحب الأمر فى السموات والأرض ويقبل على العاجز الفقير ، المتقلب الهوى والمزاج ، العابد لأهوائه وشهواته ، وهذا حقا غاية العجب ، وفى الحديث عقوبة من خاف الناس وآثر رضاهم على رضاء الله ،
وقال ابن رجب : فمن تحقق أن كل مخلوق فوق التراب، فهو تراب، فكيف يقدم طاعة من هو تراب على طاعة رب الأرباب؟! أم كيف يرضي التراب بسخط الملك الوهاب؟! {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}

الدواء الذى يُستجلب به الخوف
وذلك يحصل بطريقين :
أحدهما أعلى من الآخر . مثاله أن الصبي إذا كان في بيت، فدخل عليه سبع، أو حية، ربما لم يخف منه، وربما مد يده إلى الحية ليأخذها يلعب بها، ولكن إذا كان معه أبوه فهرب منها وخافها، هرب الصبي، وخاف موافقة لأبيه، فخوف الأب عن معرفة، وخوف الولد من غير معرفة، بل هو تقليد لأبيه .
فإذا عرفت هذا، فاعلم أن الخوف من الله تعالى على مقامين :
أحدهما : الخوف من عذابه، وهذا خوف عامة الخلق، وهو حاصل بالإيمان بالجنة والنار، وكونها جزاءين على الطاعة والمعصية، ويضعف هذا الخوف بسبب ضعف الإيمان، أو قوة الغفلة .
وزوال الغفلة يحصل بالتذكر، والتفكر في عذاب الآخرة، ويزيد بالنظر إلى الخائفين ومجالستهم، أو سماع أخبارهم .
المقام الثاني : الخوف من الله تعالى، وهو خوف العلماء العارفين . قال الله تعالى :
{ ويحذركم الله نفسه } [ آل عمران : 3 ] .
وصفاته سبحانه تقتضي الهيبة والخوف، فهم يخافون البعد والحجاب .
قال ذو النون : خوف النار عند خوف الفراق، كقطرة في بحر، ولعامة الناس حظ من هذا الخوف، ولكن بمجرد التقليد، فهو يضاهى خوف الصبي من الحية، تقليداً لأبيه، فلذلك يضعف، فإن العقائد التقليدية ضعيفة في الغالب، إلا إذا قويت بمشاهدة أسبابها المولدة لها على الدوام، وبالمواظبة على مقتضاها في تكثير الطاعات، واجتناب المعاصي، فإذا ارتقى العبد إلى معرفة اله تعالى، خافه بالضرورة، ولا يحتاج إلى علاج يجلب الخوف إلى قلبه، بل يخاف بالضرورة
....
من قصر، فسبيله أن يعالج نفسه بسماع الأخبار والآثار، فيطالع أحوال الخائفين وأقوالهم، ويسبب عقولهم ومناصبهم إلى مناصب الراجين المغرورين، فلا يتمارى في أن الاقتداء لهم أولى، لأنهم الأنبياء والعلماء والأولياء . " مختصر منهاج القاصدين
ومن المخوفات قوله تعالى : { والعصر* إن الإنسان لفى خسر } [ العصر : 1-2 ]إنه أمر مُهول حقاً
أن نرى الخسر يحيق بالبشرية في كل مكان على ظهر الأرض بلا استثناء . يهولنا هذا الضياع الذي تعانيه البشرية في الدنيا قبل الآخرة يهولنا أن نرى إعراض البشرية ذلك الإعراض البائس عن الخير الذي أفاضه الله عليها؛ مع فقدان السلطة الخيرة المؤمنة القائمة على الحق في هذه الأرض . ." فما الذى يجعل العبد يأمن على نفسه فى ظل هذا الخسران الهائل الذى يحيق بالأرض من حوله ، وجميع أهل الأرض يظن أنه فى مأمن ، تُرى أين الحقيقة فى هذا الكم الهائل من الضياع ، أين الحقيقة ، من الذين أنتسبوا يوماً الى الدعوة الإسلامية ، والسلفية ، ثم فارقوها ببدع هائلة وانحرافات بُّغية تسويغ الواقع ، وللهروب من عناء المواجهة معه ، والعاصم هو طلب الهداية ، مع الإستمساك بالتوحيد وقواعد الإيمان ، والدفاع عنها والموت فى سبيلها ، مع العمل الصالح ، واجتناب المعاصى ، والإستغفار لما سلف منها ،
وتأمل قوله تعالى : {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [السجدة: 13]
ألا تشعر أن هذه المحرقة العظمى التى أعدت للبشرية ، قريبة منك ، ألا ترى نفسك فى كل يوم فى غفلة جديدة ، فما الذى يدعو العبد الى الأمن وهو يعرف نفسه ويعرف تقصيره ، ويعرف سوء فعله وظنه ، ألا يخشى سوء الخاتمة ،
قال أبو الدراء رضى الله عنه : ما أحد أمن على إيمانه أن يسلبه عند الموت إلا سلبه .
ولما حضرت سفيان الثوري الوفاة، جعل يبكى، فقال له رجل : يا أبا عبد الله : أراك كثير الذنوب، فرفع شيئاً من الأرض وقال : والله لذنوبي أهون عندي من هذا، ولكن أخاف أن أسلب الإيمان قبل الموت .
وكان سهل رحمه الله تعالى يقول : المريد يخاف أن يبتلى بالمعاصي، والعارف يخاف أن يبتلى بالكفر . ويروى أن نبياً من الأنبياء، شكا إلى الله تعالى الجوع والعرى، فأوحى الله عز وجل إليه : عبدى، أما رضيت أن عصمت قلبك أن يكفرني حتى تسألني الدنيا ؟ !
وقد ورد في الصحيحين" من حديث سهل بن سعد، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : " إن الرجل ليعمل بعمل أهل النار، وإنه لمن أهل الجنة ، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنه وإنه من أهل النار" .
وأعلم أن الملائكة نفسها فى خوف من الله وهم أهل الطاعة الخالصة ، وأنهم عباد مقربون : { يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون } [ النحل : 50 ]
وعن عائشة رضى الله عنها قالت : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قط مستجمعاً ضاحكاً، حتى أرى لهواته "نما كان يبتسم، وكان إذا رأى غيماَ وريحاً عرف ذلك فى جهه، فقلت : يارسول الله : الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرفت الكراهه فى وجهك ! فقال : " يا عائشة : مايؤمننى أن يكون فيه عذاب ؟ قد عذب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا : هذا عارض ممطرنا" أخرجاه في " الصحيحين" .
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يصلى ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء .عن أبى بكر الصديق رضى الله عنه أنه كان يمسك لسانه ويقول : هذا الذي أوردني الموارد . وقال : ياليتنى كنت شجرة تعضد ثم تؤكل . وكذلك قال طلحة وأبو الدرداء وأبو ذر رضى الله عنهم .
وكان عمر بن الخطاب رضى الله عنه يسمع آية فيمرض فيعاد أياماً . وأخذ يوما تبنة من الأرض فقال : ياليتني كنت هذه التبنة، ياليتنى لم أك شيئاً مذكوراً، ياليت أمي لم تلدني . وكان في وجهه خطان أسودان من البكاء .
وقال عثمان رضى الله عنه : وددت أني إذا مت لا أبعث .
وقال أبو عبيدة بن الجراح رضى الله عنه : وددت أنى كنت كبشاً فذبحني أهلي، فأكلوا لحمى، وحسوا مرقى .
وقال عمران بن حصين : ياليتنى كنت رماداً تذروه الرياح . وقال حذيفة رضى الله عنه : وددت أن لى إنساناً يكون في مالي، ثم أغلق علىَّ بابى، فلا يدخل على أحد حتى ألحق بالله عزَّ وجل .
وكان مجرى الدمع في خد ابن عباس رضى الله عنه كالشراك البالي .
وقالت عائشة رضى الله عنها : ياليتنى كنت نسياً منسياً .
ونحن أجدر بالخوف من هؤلاء ، فما هذا الأمن الذى نحن فيه إلا من قساوة القلب ، وقلة العلم ، وخديعة النفس ، وتسويل الشيطان ، ووسوسته التى هى جزء من بلاء ابن آدم ، وعصر المعاصى الذى نعيش فيه ، من أعظم البلاء ، إن لم نحوله نحن الى نعمة علينا ، بمخالفته باطنا وظاهرا ، ودعوة أهله الى الإيمان والتوحيد ، والصبر على مكارهه ، والله المستعان