أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم



رابعا:تحقيق توحيد الله تعالى في الأرض وعدم الإشراك به.

وإذا كان رضا الله تعالى هو غاية الغايات، فإن توحيد الله هو قائد جميع الغايات والوسائل إلى رضا الله، ومهما عمل الإنسان من أعمال ظاهرها الخير والصلاح والنفع العام أو الخاص للبشر، فإن ذلك كله لا يوصل إلى رضا الله بدون التوحيد، وهو ما تضمنته قاعدة القواعد الإسلامية:"لا إله إلا الله" التي يطلق عليها كلمة التوحيد، وكلمة الإخلاص.

وهذه الغاية هي التي أوجد الله من أجلها الكون الذي خلقه بالحق، وهي الحق، ومن أجلها خلق الملائكة والجن والإنس، ومن أجلها أنزل الكتب وأوحى الوحي وأرسل الرسل الذين قاعدة دعوتهم هي التوحيد، وما من رسول بعثه الله تعالى إلى الخلق، إلا كانت كلمة التوحيد هي أول ما يدعو إليه قومه.

قال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت}. [النحل: 36] وقال تعالى: {فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم أن لا تعبدوا إلا الله}. [فصلت: 13،14]

فسباق أهل الحق-وعلى رأسهم رسل الله-إلى عقول الناس، أهم غاياته أن يصوغوا بسباقهم عقولا موحِّدة لا تشرك بالله شيئا، وتلك هي عبادة الله التي لم يخلق الله الجن والإنس والملائكة-كذلك-إلا من أجلها. كما قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}. [الذاريات: 56]

وبتحقيق هذه الغاية تسعد البشرية كلها في الدنيا والآخرة، ويكون الناس كلهم عبيد الله، لا يستعبد بعضهم بعضا، فلا يكون هناك سادة يظلمون ويتكبرون ويستبدون بالأمر كمايريدون، ولا عبيد يُظلَمون ويُذَلّون لمخلوقين أمثالهم، وإنما يستوي الناس كلهم في أنهم مخلوقون مربوبون عبيد لله، لا فضل لأحد منهم على أحد إلا بالتقوى، كما قال تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم}. [الحجرات: ]13

ومن تتحقق التوحيد تتحقق الحرية للإنسانه.

وبتوحيد الله تعالى يتحرر الناس من عبودية الشيطان والنفس والهوى، ومن كل العبوديات (الْمُذِلَّة) لغير الله تعالى، سواء كانت تلك العبوديات لمال أو جاه أو منصب أو امرأة، أو لأشخاص-أحياءً كانوا أو أمواتا-وتتمحض عبوديتهم لله تعالى وحده، وتلك هي الحرية الحقة التي يبحث عنها الأفراد والأسر والأمم في كل الأزمان، وبخاصة في هذا الزمن الذي أصبح غالب الناس فيه يدعون أنهم أحرار، وهم مستعبدون استعبادا مذلا لغير الله تعالى.

وهل يكون حرا من تستعبده شهوات نفسه فتجعله أسيرا لها، سابحا في مستنقع ملذاتها المادية العاجلة، التي تحطم السدود الحامية لحفظ الدين والعقل والنفس والنسل والعرض والمال؟!

هل يكون حرا من يفقد دينه بالإلحاد والكفر الصريح والردة عن الإسلام؟ وهل يكون حرا من ينسى الله عند الشدائد ويلجأ إلى الموتى في قبورهم يدعوهم ويستغيث بهم؟ وهل يكون حرا من يُذهب عقلَه بتناول المسكرات والمخدرات؟

وهل يكون حرا من يعتدي على الأنفس والدماء، ولا يأمن هو من أن يَعتدِي على نفسه ودمه غيُره دون قصاص أو رَدْع؟ وهل يكون حرا من ينفق ماله فيما يعود عليه وعلى أمته بالضرر ومن لا يأمن من الاعتداء على ماله؟ وهل يكون حرا من يُهلَك نسلُه ويُعتدى على عرضه؟ وهل يكون حرا من يضع له غيُره من البشر مناهجَ متناقضة لحياته، في الاعتقاد والتشريع والحكم و الُخُلق و الاقتصاد والسياسة والإعلام والحرب والسلم ونظام الأسرة والأدب وألفن والرياضة... فيخضع لذلك كله، دون أن يكون له اختيار أو انتقاد أو تظلم؟؟!!

إن الحرية الحقيقية هي أن يكون قلب الإنسان عبدا لله وحده، لا يتلقى أمره ونهيه إلا من الله فيتجه بنشاطه وجهة واحدة، من غير تناقض ولا قلق أو اضطراب، متحررا من عبودية كل من سواه، فلا يكون عبدا للشيطان ولا للنفس ولا للهوى، ولا تتنازعه آلهة الشهوات المتشاكسة تنازعا يجعله في حيرة وريب.

ومع أن العبودية لله هي الحرية الحقة، وعبودية ما سواه عبودية مذلة، فإن الكافر بالله المتصف بالعبودية المذلة لا يُكرَه على الدخول في الإسلام ليتحرر من تلك العبودية المذلة، وإنما يبين له الحق وتقام عليه الحجة، ثم يترك له الخيار بين المنهجين ليكون حرا في اختيار أحدهما عن الآخر، لأن إكراهه على الدخول في الإسلام-بل في أي دين من الأديان-غير ممكن في الواقع لأن أصل الإيمان في القلب.

و لا سلطان لغير الخالق على قلوب العباد، والذي يظهر دخوله في أي دين تحت الإكراه لا يكون مؤمنا في الحقيقة بذلك الدين، وإنما يدخله مسلوبا من حرية الاختيار، ولهذا قال تعالى: {لا إكراه في الدين} و (لا) هنا نافية للجنس أي لا إكراه مشروع ولا إكراه واقع، بمعنى أن الإكراه على اعتقاد الدين غير مشروع، ولو حصل إظهار الْمُكرَه دخوله في الدين المكره على الدخول فيه فدخوله غير واقع في حقيقة الأمر، لأن الاعتقاد يكون بالقلب، ومن ذا الذي يقدر على إدخال أي دين إلى قلب أي إنسان لا يريده؟.

ولهذا يطلق بعض الكتاب عبارة: (إن حرية الاعتقاد هي أول , حقوق الإنسان..). ومرادهم بالحرية هنا أن الإنسان يدخل في الدين باختياره، ولا يمكن إكراهه على ذلك وليس مرادهم أنه حر القلب والعقيدة بالمعنى الذي شرحناه، ولهذا عذر تعالى من أظهر الكفر مكرها وقلبه مطمئن بالإيمان، كما قال تعالى: {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم}.

ولقد ضرب الله مثلا لمن هو حر حقيقة بعبوديته لله تعالى وحده، ومن استعبده غيره من الآلهة المتعددة، فقال تعالى: {ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا بل أكثرهم لا يعلمون}. [الزمر: 29.]

إن الآية تصور لنا رجلين: أحدهما عبد مشترك لمالكين متعددين بينهم خلاف ونزاع شديد، كل شريك منهم يأمر ذلك العبد بأمر يخالف أوامر شركائه الآخرين ويصر على أن يطيعه في أمره، وطاعته لأحدهم معصية لأمر كل واحد من شركائه الآخرين، فلا يستطيع أن يرضي كل واحد من هؤلاء الشركاء، بل سيكونون كلهم ساخطين عليه، وسيعيش في حيرة وضنك وشقاء.

وثانيهما: عبد لرجل واحد لا يأمره ولا ينهاه إلا هو، فأي العبدين أقرب إلى الحرية: الأول الذي فيه شركاء متشاكون، أم الثاني الذي هو عبد لرجل واحد؟! المثل الأول لمن استعبده غير الله-أيا كان هذا الغير-والمثل الثاني لمن تمحضت عبوديته لله وحده، ولله المثل الأعلى.

وإنك لترى الرجل الضعيف المغلوب على أمره، الذي اعْتُدِيَ على نفسه وماله وعرضه وحرم من التمتع بحقه في الحياة فسجن أو أسر، وقد تمحضت عبوديته لله وحده، ولكنه حر قلبه مطمئن باله، وهو واقف مثل الجبل الراسي أمام الطغاة المعتدين الأقوياء غير مبال، وعنده إرادة قوية على تحرير جسمه من الأسر كما تحرر قلبه، لأنه يأوي إلى ركن شديد، وهو الله الذي تمحضت عبوديته له، وترى الرجل الغني ذا السلطة والجند والجبروت، قد خضعت له الرقاب، ودانت له الأمراء ووقف بأبوابه الحجَّاب، فإذا سبرت أمره واختبرت سره، وجدته عبدا ذليلا لنفسه وشهوته وهواه، بل وجدته مستعبدا لبعض من هم في الظاهر عبيده، وهم أعوانه الذين يستند في طغيانه على عونهم، ويستنجد في ملماته بهم، فهو في ظاهره سيد، وفي حقيقته عبد كالعبيد.

وفي معنى الحرية الحقة والعبودية المذلة قال ابن تيمية رحمه الله: ".. فإن أسر القلب أعظم من أسر البدن، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن، فإن من استُعبِد بدنه واستُرِق، لا يبالي إذا كان قلبه مستريحا من ذلك مطمئنا، بل يمكنه الاحتيال في الخلاص، وأما إذا كان القلب-الذي هو الملك-رقيقا مستعبدا لغير الله، فهذا هو الذل والأسر المحض.. فالحرية حرية القلب، والعبودية عبودية القلب...-إلى أن قال-: وكذلك طالب الرئاسة والعلو في الأرض، قلبه رقيق لمن يعينه عليها، ولو كان في الظاهر مقدمهم والمطاع فيهم... فهو في الظاهر رئيس مطاع، وفي الحقيقة عبد مطيع لهم.." [مجموع الفتاوى: (10 / 186-189).]

وبهذا يعلم أن الحرية التي يزعم ساسة الغرب ومفكروه-ومن انخدع بهم من ذراري المسلمين-أنهم أهلها وحماتها والداعون إلى تطبيقها، ليست هي الحرية الصحيحة التي ينشدها العالم اليوم، بل هي في حقيقتها عبودية مذلة لآلهة شتى يصعب حصرها. فهي من إطلاق الأسماء على غير مسمياتها، كإطلاق "المشروبات الروحية" على "الخمر" التي تذهب العقول وتسلب الأرواح والقلوب حياتها، وكإطلاق (النجوم) التي يُشَبَّه بها دعاةُ الخير وهداةُ العالمَ [كقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم)] على من مسخوا الفطر ونشروا المنكر والخنا من المغنين والمغنيات والراقصين والراقصات.. وكإطلاق لفظ "الملهمين" و "الرواد" على رجال السياسة الخرقاء الذين باعوا العباد والبلاد لأعداء الأمة الإسلامية....

وإن للحرية الحقة مساحة واسعة في القرآن والسنة، والسير الإسلامية، لعل الله يسهل لي إيضاح ذلك.