أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


إن ما سبق في المبحث الخامس ـ وحده ـ هو المقصود بيان سموه هنا على القوانين البشرية، وقد رأينا أنه يحرم في الإسلام الإجهاض لغير عذر، كما رأينا كراهة العزل والسعي في منع الحمل بدون عذر في الحالات الفردية، وتحريم ذلك إذا اتخذ قانوناً عاماً.

ورأينا كيف يفصل الإسلام أحكام الجنين وهو لا يزال في بطن أمه، وذلك يدل على شدة حرصه على حفظه، وأنه إذا اعْتُدِيَ على أمه فسقط يَضْمنه من تسبب في إسقاطه.

فلنلق نظرة سريعة على جناية الأنظمة البشرية المخالفة لشرع الله، على هذا الإنسان الضعيف الذي كان ينتظر أن يخرج من بطن أمه إلى هذه الأرض الفسيحة، ليشارك في عمارتها ويؤدي حق ربه وحقوق أخيه الإنسان.


ويكفي هنا نقل بعض النصوص من مرجعين حديثين، أحدهما أحدث من الآخر.

أما النموذج الأول فهو ما ذكره الأستاذ المودودي، رحمه الله، حيث قال: "وأما الْحُمول (جمع حمل) التي تستعصي على تلك الحيل ـ أي حيل منع الحمل ـ وتستقر، فيُتَخَلَّص منها بالإسقاط، ويمنع بهذه التدابير أربعمائة ألف نسمة أخرى من البروز [وقد ذكر قبل ذلك أنه يمنع توليد ستمائة ألف نسمة، بتدابير منع الحمل، وهذا في وقت كتابة المودودي رحمه الله.].

ولا تباشر هذا الإسقاط العوانس والأبكار وحدهن، بل تجاريهن في هذه العادة السيئة المتزوجات أيضاً على قدم المساواة، ويعد من يفعل هذا الفعل بريئاً من كل عيب في نواميس الأخلاق، بل يعد حقاً من حقوق المرأة واجباً، والقانون كأنه قد أغمض عينيه عنه، ومع أن الفعل جريمة في سجل القانون، إلا أنه لا يؤاخذ ولا يرفع إلى المحكمة إلا واحد في كل ثلاثمائة من مرتكبيه.

ثم إن الذين يرفع أمرهم إلى المحكمة يبرأ منهم هناك قدر 75%، وقد يَسَّروا من تدابير الإسقاط، ونشروا علمها في العامة نشراً جعل معظم النساء يباشرنه بأنفسهن.

وأما اللاتي لا يقدرن عليه، فيجدن المعونة الطبية منهن على كثب، مما عاد به قتل الولد في الرحم أهون على القوم من قلع الضرس الموجع في الفم.

وقد مسخت هذه العقليةُ عاطفةَ الأمومة مسخاً جعل الأم التي ما زالت الدنيا تعتبر حنانها أسمى مدارج الحب الإنساني، تتضجر من الأولاد، بل تكرههم، بل تعاديهم، فالذين يسلمون من الأولاد من غوائل تدابير المنع والإسقاط ويخرجون إلى حيز الوجود، يعاملون بأشد ما يكون من الغلظة والقسوة.

ويذكر"بول بيور" هذه الحقيقة المؤلمة بما يأتي: "كثيراً ما نطلع في الجرائد على مصائب الأطفال الذين يسومهم آباؤهم سوء العذاب، وهذه الجرائد لا تذكر من تلكم الأحداث إلا ما يكون له خطر.

ولكن الناس يعلمون أي قسوة يعامل بها هؤلاء، الضيوف الثقلاء الذين قد برم آباؤهم لما هم قد نغصوا عليهم لذة الحياة.

هذه الأرواح المسكينة، لا تجد إلى الوجود سبيلاً إلا حينما تنكص بعض النساء عن الإقدام على الإسقاط.

ولكنهم جاؤوا في هذه الدنيا يذوقون وبال مجيئهم فيها حق مذاقه.

وربما تبلغ هذه الكراهية للأولاد من بنات حواء، أن يأتين بالمضحكات المبكيات، فقيل: إنه مات لامرأة ابن ستة أشهر فوضعت نعشه بين يديها ورقصت بالفرح وغنت، ثم طافت بجاراتها تقول: إنا لن نلد ولداً آخر بعده، ويا راحة نفسي ونفس بعلي من موت هذا العليق..!!! أفلا ترين أي مخلوق حقير هو الذي لا ينقطع عن البكاء، ويظل يبث القذر في الفناء، يكاد المرء لا يتخلص منه أبداً" [كتاب الحجاب ص96-99، وهذا النموذج وقع بفرنسا صاحبة ثورة: الحرية والإخاء والمساواة والعدالة.].

وأما النموذج الثاني فهو ما ذكره الدكتور محمد بن علي البار، فقال: "أما حالات الإجهاض الجنائي فقد زادت زيادة مريعة في أوروبا وأمريكا، حيث ابتدأت الحكومات تتساهل كثيراً في إجرائه.

ويقول مرجع "مرك" العلمي: إنه يتم أكثر من مليون حالة إجهاض جنائي في الولايات المتحدة سنوياً.
وذكرت مجلة الشرق الأوسط الصادرة في لندن في 18/12/1979م أن خمسة آلاف فتاة بريطانية دون السادسة عشرة قد أجرين عملية إجهاض عام 1976م، منهن ألف فتاة دون الخامسة عشرة.
وذكرت مجلة (Medici digest) الطبية الصادرة في مارس 1981م أن التقديرات الطبية تدل عن أن 13.700.000 حالة إجهاض جنائي قد تمت في عام 1976م في البلاد النامية فقط.

وفي أسبانيا والبرتغال مليون حالة سنويا، وفي أوروبا مليون، وفي اليابان مليوني حالة، وفي الاتحاد السوفيتي وأوربا الشرقية بضعة ملايين، وفي الصين كذلك.

ولولا انتشار حبوب منع الحمل ووسائل منع الحمل الأخرى، لكانت حالات الإجهاض الجنائي أكثر من ذلك بكثير" [خلق الإنسان بين الطب والقرآن ص432-433، وراجع له أيضاً: عمل المرأة في الميزان ص131.].

إن هذا الاعتداء الأثيم يقع على الإنسان من دعاة الحرية والتحضر وحقوق الإنسان، إنهم يجاهدون في منع الإنسان من أن يصل أصله ومادته إلى القرار المكين.

فإن غلب واستقر، أخرجوه من قراره بالقوة وحرموه من العيش في هذه الأرض التي خلقها الله من أجله.
فإذا بقي وخرج إلى الدنيا قتلته أمه قبل غيرها أو عذبته.

فإذا كبر وأصبح يشارك في عمارة الأرض صنعوا له السلاح ليقتل بعضه بعضاً. فإذا لم يتمكنوا من ذلك اعتدوا عليه هم في بلده.
وهذا هو الذي يتوقع من بشر لا يدين بدين الإسلام ولا يخاف الله، فما أهون الإنسان عنده وما أحقره.! وما أكرم الإنسان عند الله وعند من يدين بدينه..!

وهذه أمريكا تعتدي اليوم على الشعوب الإسلامية، وتقتل الآلاف من أهلها رجالاً ونساءً، شيوخاً وأطفالاً، وتنشر جيوشها الجرارة، باسم الحرية والديمقراطية، لتبيد الشعوب وتذلهم، وتحتل بلدانهم وتنهب خيراتهم، وما عدوانها على أفغانستان والعراق وعدوان وكلائها اليهود في هذا العام ـ 1427ﻫ ـ 2006م ـ على لبنان إلا نماذج لما يريدون تحقيقه من الظلم الذي يبيدون به النسل بسبب ما يملكونه من قوة اقتصادية وعسكرية.


المبحث السابع: المصالح العائدة إلى الآباء من حفظ النسل

لقد أمر الله سبحانه بالإحسان إلى الوالدين والبر بهما وهكذا أمر به رسول الله ‘.
كما قال تعالى: {وَقَضَى ربُّكَ ألا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَر أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ ولا تَنْهَرهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَريمًا(23)} [الإسراء].

وقد سأل ابن مسعود، t، رسول الله ‘: "أي العمل أحب إلى الله؟".

فقال: (الصلاة على وقتها) قلت: ثم أي؟ قال: (بر الوالدين) قلت: ثم أي؟ قال: (الجهاد في سبيل الله) [البخاري (7/68-69) ومسلم (1/89-90).].

فقد قرن الله I حق الوالدين بحقه في الآية السابقة، وكذا مثيلاتها، وكذا في الحديث. وهذه مصلحة يشاهدها الوالدان من ولدهما في الدنيا، حيث يقدم الولد رغبات والديه على رغباته، بل يقدم طاعتهما على نوافل الطاعات التي يتقرب بها إلى الله تعالى [راجع قصة جريج الراهب مع أمه في صحيح مسلم (4/1976).]. ويقدم حقهما على الخروج في سبيل الله ـ إلا إذا تعين عليه [راجع صحيح مسلم (4/1975).]ـ.


ومن مصالح الوالدين من أولادهما في الآخرة، فمن ذلك أن الأبوين ينتقلان إلى جوار ربهما، وقد خلفا أولاداً صالحين فيكون لهما مثل أجور أولادهما من غير أن ينقص من أجور الأولاد شيء. لأن الوالدين هما السبب المادي المباشر في وجود الأولاد؛ ولأنهما يقومان بتعليمهم وتربيتهم، فهما ميتان والأعمال الصالحة تدون في ميزان حسناتهما، بسبب أولادهما الصالحين، وبخاصة الدعاء الذي يصدر منهم لأبويهم.كما في حديث أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله عليه الصلاة والسلام، قال: (إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) [مسلم (3/1255).].

قال النووي، رحمه الله: "قال العلماء: معنى الحديث أن عمل الميت ينقطع بموته، وينقطع تجدد الثواب له،
إلا هذه الأشياء الثلاثة، لكونه كان سببها، فإن الولد من كسبه. وفيه فضيلة الزواج لرجاء ولد صالح" [شرح النووي على صحيح مسلم (11/85).].

ومن ذلك أن الأولاد إذا ماتوا قبل الآباء فصبروا واحتسبوا أثابهم الله على ذلك. كما في حديث أبى هريرة t، قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فتمسه النار إلا تحلة القسم) [البخاري (2/72) ومسلم (4/2028).].

ومعنى هذين الحديثين أن الوالدين ينالان خيراً من أولادهما في الدنيا والآخرة، وأنهما ينالان مصالح عظيمة من أولادهما سواء ماتا هما قبل أولادهما، أو مات أولادهما قبلهما.

ومن ذلك ما ورد من شفاعة الأولاد لآبائهم، كما في حديث أبى هريرة، رضي الله تعالى عنه، عندما سأله أبو حسان، قلت لأبي هريرة: إنه قد مات لي ابنان، فما أنت محدثي عن رسول الله عليه الصلاة والسلام بحديث تطيب به أنفسنا عن موتانا؟ قال: نعم، (صغارهم دعاميص الجنة، يتلقى أحدهم أباه ـ أو قال: أبويه ـ فيأخذ بثوبه ـ أو قال: بيده - كما آخذ أنا بصنفة ثوبك هذا، فلا يتناهى - أو قال: فلا ينتهي ـ حتى يدخله الله وأباه الجنة [مسلم (4/2029). والدعاميص: جمع دعموص، قال ابن الأثير في النهاية: "والدعموص أيضاً الدَّخَّال في الأمور، أي إنهم سياحون في الجنة، دَخَّالون في منازلها، لا يمنعون من موضع، كما أن الصبيان في الدنيا لا يمنعون من الدخول على الحُرم، ولا يحتجب منهم أحد" (2/120) طبع دار إحياء الكتب العربية ـ عيسى البابي الحلبي وشركاه.].

وقد أشار إلى الحديث باختصار الغزالي في الإحياء، وذكر أحاديث غيره ضعيفة، عدا واحداً منها، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (إن المولود يقال: ادخل الجنة، فيقف على باب الجنة، فيظل محبنطئاً [أي ممتلئاً غيظاً وغضباً.]. ويقول: "لا أدخل الجنة إلا وأبواي معي، فيقال: أدخلوا أبويه معه الجنة" [الأحياء: (2/26) وقد ضعف الحافظ العراقي الأحاديث التي ذكرها الغزالي ـ عدا حديث مسلم ـ ولكنه قال في الحديث المذكور: أخرجه ابن حبان في الضعفاء. من رواية بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، ولا يصح، والنسائي من حديث أبي هريرة >يقال لهم: ادخلوا الجنة، فيقولون: حتى يدخل آباءنا، فيقال: ادخلوا الجنة أنتم وآباركم). وإسناده جيد. أ.ﻫ.].

أي ترغيب تراه يبلغ مبلغ ترغيب الإسلام في التسبب في النسل وطلبه وحفظه؟! يفرغ الوالد شهوته وينال لذته بالنكاح، فيكون له صدقة. كما قال ‘ في حديث أبى ذر: (وفي بضع أحدكم صدقة) قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: (أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر) [مسلم (2/697-698).].

وإذا رزق الوالد ولداً وجب على الولد بره والإحسان إليه، فإذا مات الوالد قبل الولد كان له مثل عمل ولده من الخير؛ لأنه من كسبه، وإذا مات ابنه قبله نال ذلك الفضل العظيم. (لا تمسه النار إلا تحلة القسم). وتلقاه ابنه يوم الجزاء فأخذ بثوبه فلا يدخل الجنة إلا به.

فالمسلم يحافظ على النسل ويسعى في أسباب استمراره عبادةً لربه وطاعةً له، ورغبةً في ثوابه، ولذلك لا يتردد في طلب النكاح والإكثار من الولد طمعاً في أن ينال ذلك الفضل العظيم في الدنيا والآخرة. لا يخاف من انقطاع رزق؛ لأن الرزق قد تكفل به الخالق، ولا يثنيه تعب الكد على أولاده؛ لأنه مثاب على كده وتعبه. روى أبو مسعود الأنصاري، عن النبي ‘ قال: (إذا أنفق المسلم نفقة على أهله، وهو يحتسبها، كانت له صدقة) [الحديث في الصحيحين.].

وروى ثوبان عن الرسول عليه الصلاة والسلام: (أفضل دينار ينفقه الرجل؛ دينار ينفقه على عياله، ودينار ينفقه الرجل على دابته في سبيل الله، ودينار ينفقه على أصحابه في سبيل الله). قال أبو قلابة: "وبدأ بالعيال، ثم قال أبو قلابة: وأي رجل أعظم أجراً من رجل ينفق على عيال صغار يعفهم، أو ينفعهم الله به، و يغنيهم؟".

وفي حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: 0دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجراً للذي أنفقته على أهلك) [والحديثان في صحيح مسلم.].