أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


بسم الله الرحمن الرحيم

هذه أيها الأحبة الكرام مقالة جديدة لشيخنا أبي عبد الله حمزة النايلي (وفقه الله)،نفعنا الله وإياكم بها.

رسالة إلى كل من أدرك شهر رمضان!!!

الحمد لله رب العالمين و الصلاة والسلام على أشرف المرسلين،نبينا محمد و على آله،وصحبه أجمعين.
أما بعد:
إن مما ينبغي علينا جميعا أيها الإخوة والأخوات أن نحرص أشد الحرص على اغتنام الأوقات وصرف الساعات وبذل اللحظات فيما يُرضي رب البريات!يقول ابن الجوزي -رحمه الله-:"ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه، وقدر وقته، فلا يضيع منه لحظة في غير قربة، ويقدم الأفضل فالأفضل من القول والعمل". صيد الخاطر (ص2)
ومن ذلك أيها الأفاضل الكرام أن نستغل شهر الصيام والقيام الذي هو من أفضل شهور العام وأحبها للعزيز العلام، في التزود بالطاعات والإكثار من الخيرات.
يقول ابن الجوزي –رحمه الله-:" هذا شهر ليس مثله في سائر الشهور، ولا فضلت به أمة غير هذه الأمة في سائر الدهور، الذنب فيه مغفور، والسعي فيه مشكور، والمؤمن فيه محبور، والشيطان مبعد مثبور والوزر والإثم فيه مهجور، وقلب المؤمن بذكر الله معمور.
وقد أناخ بفنائكم وهو عن قليل راحل عنكم، شاهد لكم أوعليكم، مؤذن بشقاوة أو سعادة أو نقصان أو زيادة، وهو ضعيف مسئول من عند رب لا يحول ولا يزول يخبر عن المحروم منكم والمقبول.
فالله الله أكرموا نهاره بتحقيق الصيام، واقطعوا ليله بطول البكاء والقيام، فلعلكم أن تفوزوا بدار الخلد والسلام ".بستان الواعظين ورياض السامعين (ص 215)
شهر كريم وموسم عظيم كان خير الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام يفرح بقربه ويُبشر بقدومه وحلوله أصحابه الكرام، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول:" أَتَاكُمْ رَمَضَانُ شَهْرٌ مُبَارَكٌ، فَرَضَ الله عز وجل عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ،تُفْتَحُ فيه أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَتُغْلَقُ فيه أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فيه مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، لِلَّهِ فيه لَيْلَةٌ خَيْرٌ من أَلْفِ شَهْرٍ، من حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ" رواه النسائي (2106)، وصححه الشيخ الألباني –رحمه الله-.
يقول الإمام ابن رجب –رحمه الله-:" كيف لا يُبشَّر المؤمن بفتح أبواب الجنان؟! كيف لا يُبشَّر المذنب بغلق أبواب النيران ؟! كيف لا يُبشَّر العاقل بوقت يُغلُّ فيه الشياطين؟! من أين يُشبِه هذا الزمان زمانٌ". لطائف المعارف (ص158).
وكان عليه الصلاة والسلام يجتهد فيه بالعبادات ويُكثر فيه من القربات للعزيز الغفور أكثر من بقية الشهور،يقول الإمام ابن القيم – رحمه الله- :" وكان من هديه صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان: الإكثار من أنواع العبادات، فكان جبريل -عليه الصلاة والسلام- يدارسه القرآن في رمضان، وكان إذا لقيه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة، وكان أجـود الناس، وأجود ما يكون في رمضان، يكثر فيه من الصدقة،والإحسان، وتلاوة القرآن والصلاة والذكر، والاعتكاف.،وكان يخص رمضان من العبادة ما لا يخص غيره به من الشهور، حتى إنه كان ليواصل فيه أحياناً ليوفر ساعات ليله ونهاره على العبادة". زاد المعاد (2/30)
إن مما ينبغي على كل مسلم يسر له رب البريات إدراك شهر الخيرات وموسم البركات وميدان الطاعات أيها الأفاضل أن يشكره سبحانه على هذا الفضل الكبير والخير الكثير.
لأن بالشكر والإيمان أيها الأحبة والإخوان تدوم وتكثر النعم،وبالجحود والعصيان تَحل وتزداد النقم، قال تعالى: (وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد)[إبراهيم :7].
يقول الشيخ الشنقيطي-رحمه الله-:"وبهذه المناسبة إن على كل مسلم أفراداً وجماعات،أن يقابلوا نعم الله بالشكر،وأن يشكروها بالطاعة والعبادة للَّه،وأن يحذروا كفران النعم". أضواء البيان (9/112)
وليحذر أشد الحذر أن يفرط فيه ويُضيعه في غير ما يرضي خالقه وباريه، فإن ذلك من مقابلة ما أنعم به عليه الرحمن بالجحود والكفران،يقول الشيخ السعدي–رحمه الله- :"فليستح المجرم من ربه أن تكون نعم الله عليه نازلة في جميع اللحظات،ومعاصيه صاعدة إلى ربه في كل الأوقات، وليعلم أن الله يمهل ولا يهمل،وأنه إذا أخذ العاصي،أخذه أخذ عزيز مقتدر،فليتب إليه،وليرجع في جميع أموره إليه،فإنه رؤوف رحيم.
فالبدار البدار إلى رحمته الواسعة،وبره العميم،وسلوك الطرق الموصلة إلى فضل الرب الرحيم،ألا وهي تقواه،والعمل بما يحبه ويرضاه". تفسير السعدي(ص441)
ومن صور الإفراط التي يقع فيها الكثير من المسلمين! أن لا يستحضر العبد عند صومه الغاية الحميدة التي من أجلها شرع أرحم الراحمين صيام هذا الشهر الكريم وهي تقوى رب العالمين، قال تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) [ البقرة : 183]
يقول الشيخ السعدي –رحمه الله- :" الصيام من أكبر أسباب التقوى لأن فيه امتثال أمر الله واجتناب نهيه فمما اشتمل عليه من التقوى : أن الصائم يترك ما حرم الله عليه من الأكل والشرب والجماع ونحوها التي تميل إليها نفسه متقربا بذلك إلى الله راجيا بتركها ثوابه فهذا من التقوى ومنها : أن الصائم يدرب نفسه على مراقبة الله تعالى فيترك ما تهوى نفسه مع قدرته عليه لعلمه باطلاع الله عليه ومنها : أن الصيام يضيق مجاري الشيطان فإنه يجري من ابن آدم مجرى الدم فبالصيام يضعف نفوذه وتقل منه المعاصي ومنها : أن الصائم في الغالب تكثر طاعته والطاعات من خصال التقوى ومنها : أن الغني إذا ذاق ألم الجوع أوجب له ذلك مواساة الفقراء المعدمين وهذا من خصال التقوى ".تفسير السعدي ( ص 86)
فنجد من المسلمين من تصوم جوارحه فقط! عن المفطِّرات دون المعاصي والمنكرات!،فعن أبي هريرة – رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" رُبَّ صَائِمٍ ليس له من صِيَامِهِ إلا الْجُوعُ وَرُبَّ قَائِمٍ ليس له من قِيَامِهِ إلا السَّهَرُ ". رواه ابن ماجة (1690)، وصححه الشيخ الألباني –رحمه الله-.
يقول الإمام ابن القيم –رحمه الله- :" فالصوم هو صوم الجوارح عن الآثام وصوم البطن عن الشراب والطعام فكما أن الطعام والشراب يقطعه ويفسده فهكذا الآثام تقطع ثوابه وتفسد ثمرته فتصيره بمنزلة من لم يصم ".الوابل الصيب(ص 43)
فنجده يقع في الكذب والغيبة وغير ذلك من المحرمات مع أنه قد حذره من خطورة ذلك رسول رب البريات، فعن أبي هريرة – رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" من لم يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ في أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ ". رواه البخاري ( 1804)
قال ابن بطال –رحمه الله- :"قال المهلب : فيه دليل أن حكم الصيام الإمساك عن الرفث وقول الزور ، كما يمسك عن الطعام والشراب ، وإن لم يمسك عن ذلك فقد تنقص صيامه وتعرض لسخط ربه وترك قبوله منه ". شرح صحيح البخاري لابن بطال ( 4/23)
ونجد أن منهم! من يُحدث في هذا الشهر الكريم بدعا ومحدثات ليست بمشروعة في دين رب البريات، كالاحتفال بالنصف أو تخصيص ليلة من لياليه بشيء معين! كقيام! أو صيام! ودعاء! وقراءة القرآن، فهذه كلها من البدع والمحدثات التي هي من زخرفة الشيطان! والله المستعان.
ومنهم! من يضيع فيه الساعات إما في النوم! أو السهر أمام شاشات القنوات! أو في حضور الحفلات وشهود المهرجانات مع ما في ذلك من منكرات!
يقول الشيخ ابن عثيمين –رحمه الله- :" فالوقت هو أغلى شيء ، لكن هو أرخص شيء عندنا الآن، نمضي أوقاتنا كثيرة بغير فائدة، بل نمضي أوقاتنا كثرية فيما يضر، ولست أتحدث عن رجل واحد، بل عن عموم المسلمين. اليوم- مع الأسف الشديد- أنهم في سهو ولهو وغفلة، ليسوا جادين في أمور دينهم، أكثرهم في غفلة وفي ترف، ينظرون ما يترف به أبدانهم وإن أتلفوا أديانهم ". شرح رياض الصالحين ( 6/20)
وبعضهم! يكون هذا الشهر الكريم عندهم فرصة! للتنعم والمبالغة في أكل ما لذ وطاب من المأكولات! والمشروبات! دون النظر في ما يلحق ذلك من تبعات! ومن أشدها خطرا وأكثرها ضررا فساد القلب وقسوته،يقول الإمام سفيان الثوري –رحمه الله-:"إياكم والبِطْنَةُ–امتلاء البطن من الطعام- فإنها تُقسي القلب".حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني(7/78)
أيها المسلم أتريد أن تكون ممن دخل عليه رمضان ثم مضى وقد ضيعه في معصية الرحمن فباء بالحرمان والخسران، فعن أبي هريرة – رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :"رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دخل عليه رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قبل أَنْ يُغْفَرَ له ". رواه الترمذي ( 3545)، وصححه الشيخ الألباني –رحمه الله-
يقول المناوي –رحمه الله- :" أي رغم أنف من علم أنه لو كفَّ نفسه عن الشهوات شهرا في كل سنة، وأتى بما وظف له فيه من صيام وقيام، غفر له ما سلف من الذنوب، فقصَّر ولم يفعل حتى انسلخ الشهر ومضى، فمن وجد فرصة عظيمة بأن قام فيه إيمانا واحتسابا عظمه الله ومن لم يعظمه حقره الله وأهانه ".فيض القدير ( 4/34)
أو تكون ممن أدرك رمضان فاستثمر أوقاته واغتنم ساعاته فيما يرضي خالقه،فترفع درجته وتغفر ذنوبه بإذن الله سبحانه، فيفوز بالفلاح ويكون من أهل النجاح،فعن أبي هريرة –رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" من صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ من ذَنْبِهِ ". رواه البخاري ( 38)، ومسلم ( 760) واللفظ له.
يقول المناوي –رحمه الله- :" فيه فضل رمضان وصيامه، وأن تنال به المغفرة، وأن الإيمان وهو التصديق والاحتساب وهو الطواعية شرط لنيل الثواب والمغفرة في صوم رمضان، فينبغي الإتيان به بنية خالصة وطوية صافية امتثالا لأمره تعالى ، واتكالا على وعده من غير كراهية وملالة لما يصيبه من أذى الجوع والعطش وكُلفة الكف عن قضاء الوطر، بل يحتسب النصب والتعب في طول أيامه، ولا يتمنى سرعة انصرامه ويستلذ مضاضته".فيض القدير ( 6 /160)
فإياك ثم إياك! أن تغتر بلذة الذنوب و المنكرات، فإنها والله تفنى ويأتي بعدها الندم و الحسرات، بخلاف لذة الطاعات فهي باقية ومستمرة في كل الأوقات، يقول الإمام ابن القيم –رحمه الله- :"وقد جعل الله سبحانه للحسنات والطاعات آثارا محبوبة لذيذة طيبة لذتها فوق لذة المعصية بأضعاف مضاعفة لا نسبة لها إليها، وجعل للسيئات والمعاصي آلاما وآثارا مكروهة وحزازات-وجع في القلب- تربي على لذة تناولها بأضعاف مضاعفة".مدارج السالكين (1/423)
فعلينا جميعا أيها الأحبة أن نشكر أرحم الراحمين على نعمه التي لا تعد ولا تحصى، ونغتنم كل الأوقات في التزود من الخيرات وفي كل ما يرضي رب العالمين حتى لا نكون من المحرومين، وبالأخص هذا الشهر الكريم الذي هو من أفضل الشهور عند العزيز الحكيم، فلنحرص - وفقكم الله- على صيامه وقيامه ونجتهد في فعل الخيرات ونجتنب كل المنكرات!، يقول الشيخ السعدي –رحمه الله-:" إن الحياة التي ينبغي السعي في كمالها وتحصيلها وكمالها ، وفي تتميم لذاتها ، هي الحياة في دار القرار ، فإنها دار الخلد والبقاء ".تفسير السعدي (ص 924)
قبل أن نودع هذه الدنيا التي هي ممر إلى دار الجزاء والمستقر، ونقف أمام العزيز المقتدر فيسألنا عن كل ما تقدم منا وتأخر.
يقول الإمام ابن القيم –رحمه الله- :" اشتر نفسك اليوم فإن السوق قائمة، والثمن موجود والبضائع رخيصة، وسيأتي على تلك السوق والبضائع يوم لاتصل فيها إلى قليل ولا كثير ( ذلك يوم التغابن) [ التغابن:9] ( يوم يعض الظالم على يديه) [ الفرقان:27]". الفوائد (49)
فالله أسأل بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه ومن ذلك صيام وقيام شهر رمضان، وأن يبعدنا عن الآثام والعصيان وكل ما يغضب الرحمن، فهو سبحانه ولي ذلك والعزيز المنان.

وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أبو عبد الله حمزة النايلي