أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم



ذلك هو المفروض في الإنسان ـ أي ِّ إنسان ـ أن يشعر بالرهبة والخشية فيخشع لمن خَلَقَهُ فسوَّاه وعدله، وأكرمه ونعَّمه، ولكن غالب الناس تعمى أبصارهم وتنحرف عقولهم، فلا يرون الصراط المستقيم، ولا يستقر لسان ميزان عقولهم على الحق القويم، فيسلكون مسلك عدوهم "الشيطان" وأتباعه فيؤثرون التقليد المردي على الدليل الهادي والبرهان، فإذا هذا الإنسان الضعيف الذي مرَّ بتلك الأطوار عبر السنين، ينصب من نفسه عدواً لرب العالمين، مشاقَّاً له في صف عدوه المبين: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ(6)}. [فاطر] ناسياً أنه خُلِقَ {مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} كما قال تعالى: {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4)}. [النحل] {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77)}.[يس]

وفي الموت عبرة وتذكير:

الموت، والموت: (أصله: استيفاء الأجل أي: مدة الحياة، وقوله تعالى: {بَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا}، [الأنعام 128] أي: حد الموت، وقيل: حد الهرم، "وهما واحد في التحقيق" كما قال الراغب رحمه الله في مفرداته.

أعرابي يتعجب من حالة جمله بعد موته!

قال القرطبي رحمه الله: "يروى أن أعرابياً كان يسير على جمل له فخر الجمل ميتاً، فنزل الأعرابي عنه وجعل يطوف به ويتفكر فيه ويقول: مالك لا تقوم؟ مالك لا تنبعث؟! هذه أعضاؤك كاملة وجوارحك سالمة. ما شأنك؟! ما الذي كان يحملك؟! ما الذي كان يبعثك؟! ما الذي صرعك؟! ما الذي عن الحركة منعك؟! ثم تركه وانصرف متفكراً في شأنه. متعجباً من أمره". [التذكرة في أحوال الموتى والآخرة.]

هذا التعجب من الأعرابي يدل على أن الموت يدعو الإنسان إلى التفكر فيه، حيث ترى هذا الجسم ـ أيَّ جسم من أجسام المخلوقات ذوات الأرواح ـ يتحرك ويأكل ويشرب، ويؤدي ما هو مؤهل له بحسب قدرته التي وهبه الخالق ـ مهما كبر أو صغر ـ إلا أن الحيوان غير العاقل يسير في حياته على ما فطره الله بدون اختيار.


العقلاء وغيرهم عندما يأتي بعضهم أجله، تراه جثة هامدة بعد أن كان كائناً متحركاً ذاهباً وآئباً في زمن عمره الذي منحه الله إياه، يستوي غير العاقل من الحيوان والعقلاء من بني الإنسان، إلا أن العقلاء يجب عليهم التفكُّر في شأن الموت الذي ينزل بهم ولا يغفلون عن ذكرهم له.

تعجب كم موت الشجعان!

وكما تعجب الأعرابي من موت جمله، فقد صوَّر بعض الشعراء تعجبه من موت بعض الشجعان حتف أنفه فإذا هو وجمل الأعرابي سواء، قال:

جَاءتْه مِنْ قِبَلِ الْمَنُونِ إشارةٌ
فَهَوَى صَرِيعاً لِلْيَدَيْنِ ولِلْفَمِ

وَرَمَى بِمُحْكَمِ دِرْعِهِ وبِرُمْحِهِ
وَامْتَدَّ مُلْقىً كَالْفَتيقِ الأَعْظَمِ

لا يَسْتَجِيبُ لِصَارِخٍ إِنْ يَدْعُهُ
أَبَداً ولا يُرجَى لِخَطْبٍ مُعْظَمِ

ذَهَبَتْ بَسَالَتُهُ ومَرَّ غَرَامُهُ
لَمَّا رَأَى حَبْلَ الْمَنِيَّةِ يَرْتَمِي

يَا وَيْحَهُ مِنْ فَارِسٍ مَا بَالُهُ
ذَهَبتْ مُرُوَّتُهُ ولَمَّا يُكْلَمِ

هَذِي يَدَاهُ وهَذِهِ أَعْضَاؤُهُ
مَا مِنْهُ مِنْ عُضْوٍ غَدَا بِمُثَلَّمِ

هَيْهَاتَ مَا حَبْل الرَّدَى مُحْتَاجَةً
لِلْمَشْرِفِيِّ ولا اللِّسَانِ الَّلهْذَمِ

هِيَ وَيْحَكُمْ أَمْرُ الالِهِ وحُكْمُهُ
وَاللهُ يَقْضِي بِالْقَضَاءِ الْمُحْكَمِ

يَا حَسْرَتَا لَوْ كَانَ يُقْدَرُ قَدْرُهَا
وَمُصِيبَةٌ عُظُمَتْ ولَمَّا تُعْظَمِ

خَبَرٌ عَلِمْنَا كُلُّنَا بِمَكَانِهِ
وَكَأَنَّنَا فيِ حَالِنَا لَمْ نَعْلَمِ


هل للموت من دافع!

جعل الله لخلقه آجالاً يعيشون بها في الدنيا، وهيأ لهم ما لا يحصى من الأسباب التي شرع لهم تعاطيها، للإبقاء على حياتهم، من أكل وشرب ولباس ومسكن ومركب وطب ودواء، وصناعة وزراعة وآلات دفاع عن النفس وغير ذلك، كما وَكَل بعض ملائكته بحفظهم له، فإذا جاء الأجل لم يبق شيء يدفع عنهم الموت الذي حدد أجله تعالى لكل حي، كما قال تعالى: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (87)}.[الواقعة]

أي إن الروح التي لا حياة لمخلوق بدونها، إذا قضى الله تعالى بإخراجها من جسد صاحبها وقت نزعها، فوصلت إلى حلقومه وهو مجرى طعامه، وأهله وورثته وكل من له به صلة ينظرون إليه، وهو يعاني من نزع روحه، يتمنون لو يجدون أي وسيلة تبقيه حياً بينهم، فلا يقدرون على شيء يحقق ما تمنوه.

وقال تعالى: {كَلاَّ إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِي (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتْ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30)}.[القيامة]

جرت عادة الناس، إذا أعيتهم حيل شفاء مريضهم عن طريق التطبيب، أن يبحثوا عمن يرقيه برقى شرعية أو غير شرعية، وهنا عندما يظن مريضهم ـ والظن هنا بمعنى اليقين ويظنون أنه مفارق لدنياه ـ يسألون: هل من راقٍ يرقيه، فلا يجدون إلى ذلك سبيلاً؛ لأنه قد حان وقت التفاف ساقيه اللتين كان يذرع بهما الأرض في حياته بالكفن الذي يربط إحداهما بالأخرى، أو التف عليه شدّة آخر الدنيا بشدة أوّل الآخرة، وقال ابن زيد: "اجتمع عليه أمران شديدان: الناس يجهزون جسده، والملائكة يجهزون روحه، والعرب لا تذكر الساق إلا في المحن والشدائد العظام". [تفسير جامع الأحكام للقرطبي (19/ 111 دار الكتب العلمية).] فما بقي إلا سَوقه إلى ربه ليدفن في قبره ليبدأ في نيل جزائه، {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} أي المرجع والمآب.

وعن عائشةرضي الله تعالى عنها، قالت: سمعت النبي عليه الصلاة والسلام، يقول: (إن هذه الحبة السوداء شفاء من كل داء، إلا من السام) قلت: وما السام؟ قال: (الموت). [صحيح البخاري (5/2153) دار ابن كثير، اليمامة/بيروت، ورواه مسلم (4/1735) دار إحياء التراث العربي/بيروت، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.] {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ (27)}.[الرحمن]

فلا مفر لأي مخلوق من الموت، والأهم منه - مع كونه مصيبة - ما بعده في القبر والبرزخ، وما يعقب ذلك من بعث ونشور، وجزاء على الأعمال يوصل إلى الجنة أو النار، كما قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)}. [آل عمران]

كم في الدقيقة الواحدة ينقل الموت من البشر في الحياة الدنيا إلى البرزخ؟ وكم من الأمم والقرون انتهت آجالها فخلفها غيرها؟ كما قال تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ(133)} [الأنعام] وقال تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (98)}.[مريم]

إن هذه الآية - آية الموت - جديرة بالتفكر فيها وذكرها وعدم الغفلة عنها؛ لأن التفكير فيها وتذكرها يدفعان صاحبهما إلى الخوف والخشية الدائمين من موافاة الأجل على حال تسخط الله تعالى، وذلك من أعظم ما يجلب الخشوع الدائم أيضاً لله تعالى.

ولهذا أمر رسول الله عليه الصلاة والسلام، بالإكثار من ذكر الموت، كما روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: (أكثروا ذكر هاذم اللذات، يعني الموت). [رواه الترمذي (4/553) وقال: "وفي الباب عن أبي سعيد، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب، دار إحياء التراث العربي بيروت".]