أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم






منزلة العقل عند الله وأثره في الحياة.


وظاهر من الآيات القرآنية-كما هو الواقع- أن الإنسان لو لم يمنحه الله العقل، لكان أضل من الحيوان، ولما كان خليفة وسيدا في الأرض، ولو أن أهل العقول أعملوها وفكروا بها في المجالات التي وجدت من أجل إعمالها والتفكير بعقولهم فيها، وعملوا بمقتضى النتائج التي تتوصل إليها على أساس سليم، لسعد الناس بذلك في الدنيا والآخرة.

ومن تلك الميادين: الكون الذي أبدعه الله في السماوات والأرض وما بينهما، مما يمكن للعاقل أن يتناوله بالتفكير فيه بعقله، وهو كتاب الله المفتوح الذي فيه من الدقة والإحكام والإتقان، ما يذهل العقول ويجعلها تستسلم للخالق وتستفيد من مخلوقاته في تسخيرها لصالح الأمم، بقوانينها ونواميسها التي أودعها الله تعالى فيها.

ومن أمثلة ذلك في القرآن الكريم قول الله تعالى: {هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون، ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون [ولا تفكر بدون عقل سليم.] وسخّر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون، وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذّكرون [ولا يتذكرون إلا بالعقول] وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حليةً تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون.. [وهل يشكر إلا العاقل] وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون.. وعلامات وبالنجم هم يهتدون... أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون.. وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم}. [النحل]

فترى القرآن الكريم يجول بالعقل في السماء-شمسها وقمرها ونجومها وكواكبها ومائها-وفي الأرض-بخيراتها، من زروعها و أشجارها وبحارها وأنهارها وجبالها وسهولها، ويجعل ذلك كله مجالا للعقل ليتفكر فيه ويتذكر ويهتدي ويشكر، ومن شُكْر ذلك استغلالُ هذا الكون في مصالح العباد على أساس هدي الله تعالى.

ومن تلك الميادين: فقه نصوص القرآن والسنة، والتعمق في فهمها واستنباط ما تحتاج إليه البشرية منهما، لتتقي ربها وتسير في تصرفاتها على منهجه، مع فهم أسراره وحكمه إن أمكن ذلك، وإلا فالتسليم المطلق لشرع الله تعالى، فإن التسليم لشرع الله هو عين الفقه والعقل، وعدم التسليم لذلك هو عين الجهل والخطل.

قال تعالى: {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلك وصاكم به لعلكم تعقلون، ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذّكرون.. وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله، ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون}. [والتقوى تكليف ولا تكليف إلا لعاقل.]

فهذه الوصايا العشر الجامعة، لو تأملها الناس وفكروا في مصالحها التي لا سعادة لهم بدونها وفهموا معانيها والآثار المترتبة على تطبيقها والعمل بها، لعاشوا عيشة هنيئة في ظلال شرع الله العظيم.

وقد ختم الله الخمس الأولى منها بقوله تعالى: {لعلكم تعقلون..} إشارة إلى أن هذه الأمور لا بد أن يسلم العقل بضرورة مراعاتها، و أن من لم يفقه الحكمة من هذه التكاليف ولا يستسلم لشرع الله ويطبقه، ليس من العقلاء الأسوياء بل هو أضل من الحيوان.

وختم الأربع الوصايا الأخرى بقوله تعالى: {لعلكم تذكرون..} والتذكر لا يكون إلا من عاقل يفهم خطاب الله ويعلم أنه لا يأمر إلا بخير ولا ينهى إلا عن شر.

وختم الوصية العاشرة-وهي أشمل الوصايا وأعظمها-بقوله تعالى: {لعلكم تتقون..} والتقوى تكليف، وهي المقصودة، لأن صاحبها يتورع عن ترك الأمر وفعل النهي، تعظيما لله ورغبةً فيما عنده وخشية من عذابه، فالعقل الذي منحه الله الإنسان إذا سلم من أسباب الانحراف، وغذي بالفقه في الدين، واستقام على الصراط المستقيم، عمر صاحبه دنياه وآخرته، كانت علاقته مع الأفراد والأسر والأمة وولاة أمرها من العلماء والحكام والخبراء والمتخصصين، علاقة انسجام ووئام وبناء وتعاون على البر والتقوى والخير.

وقال تعالى: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون}. [التوبة: 122]

وقال تعالى: {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولى الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم..}. والاستنباط: الاستخراج والبحث. [النساء]

والبحث والاستنباط هنا يعنيان الاجتهاد من أهله للوصول إلى الحكم الواجب تطبيقه العائد بالخير على الأمة، المرضي لله تعالى، وهذا لا يكون إلا من ذوي العقول النيرة التي صاغها شرع الله.

ولولا أن الله تعالى هيأ للأمة الإسلامية أمثال هؤلاء العقلاء المستنبطين للأمة أحكام الله من شريعته، لكان الشيطان قائد هم إلى كل سوء، ولعل ذلك من حكمة هذا التعقيب الرباني في هذه الآية: {ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا}.


فالعقل السليم له أثره العظيم في حياة الناس، لأن أهل العقول السليمة يفكرون في مصالح الأمة ويدعونها إليها، كما يفكرون في المفاسد التي يجب اجتنابها وينهونهم عنها.

ويجب التنبيه هنا على عبارة شائعة متداولة بين عامة الناس، وأصبحت لكثرة تردادها وتكرارها كأنها قضية مسلمة، وأكثر من يرددها الرياضيون ومشجعوهم، وهي: (العقل السليم في الجسم السليم). ولا شك أن في اجتماع سلامة الجسم وسلامة العقل نعمة عظيمة على صاحبهما، وإذا أريد بسلامة العقل السلامة من الآفات المعنوية والمادية فالنعمة بذلك أعظم.

و لكن معنى هذه العبارة غير مطرد، لوجود كثير من ذوي الآفات الجسمية-كالعمى، والصمم، والعرج، والشلل-ممن منحهم الله عقولا سليمة قوية مخترعة مبدعة في العلوم الإسلامية وما يخدمها كاللغة والأدب والبلاغة والتاريخ وغيرها من العلوم المسماة بالعلوم (الإنسانية)، والعلوم الكونية المتعددة التي نفع الله بها العالم قديما وحديثا.

ولوجود كثير من ذوي الأجسام السليمة القوية-كمصارعي الثيران والأقران من أبناء جنسهم، وبعض أفراد الفرق الرياضية الذين لم تتجاوز عقولهم التفكير في تقوية عضلاتهم وإشباع غرائزهم بما حل وحرم.