أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


العبادة في زمن الفتن

روى مسلم والترمذي من حديث معقل بن يسار، رضي الله عنه، أن النبي، عليه الصلاة والسلام، قال: "العبادة في الهرج كهجرة إليَّ".

والهَرْجُ: شدَّة القتل وكثرته؛ كما جاء مفسرا في أحاديث منها، قوله عليه السلام: "يتقَاربُ الزَّمانُ، وينقُصُ العمَلُ، ويُلقى الشُّحُّ، ويَكثر الهرج" قالوا: وما الهرْجُ؟ قالَ: "القتلُ القتلُ"، متفق عليه. وفي صحيح البخاري، قال، صلى الله عليه وسلم: "يُقبَضُ العلمُ، ويَظهَرُ الجهلُ والفتنُ، ويَكثُرُ الهرْجُ. قيل : يا رسولَ اللهِ، وما الهَرجُ ؟ فقال: هكذا بيدِه فحرَّفَها، كأنه يريدُ القتلَ".

والعبادة هي كل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال، فمن ذلك الصلاة والصوم والصدقة وقراءة القرآن والذكر وتعلم العلم ونشره وإعانة المحتاجين ودفع الضر عنهم وغير ذلك من انواع التقوى والإحسان.

والهجرة إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، من أجل الاعمال، والمهاجرون إليه خير الناس بعد الأنبياء. وقد جاء في فضل المهاجرين من الآيات والأحاديث الشي الكثير منها قوله تعالى: " وَالَّذينَ هاجَروا فِى اللَّهِ مِن بَعدِ ما ظُلِموا لَنُبَوِّئَنَّهُم فِى الدُّنيا حَسَنَةً ۖ وَلَأَجرُ الءاخِرَةِ أَكبَرُ ۚ لَو كانوا يَعلَمونَ". فقد وعدهم الله تعالى بخيري الدنيا والآخرة وحسب ذلك فضلا.

وأحسب أن وجه الشبه بين الهجرة والعبادة في الهرج، أن المهاجر ترك أهله ودياره وأصدقاءه ومصالحه واختار الله ورسوله. والمتعبد في الفتنة ترك ما يتقاتل عليه الناس من المصالح والنفوذ والدنيا واختار التقرب إلى مولاه والهجرة المعنوية إليه. فأهل الفتن في واد وهو في واد آخر، فهو وإن ساكنهم في ديارهم إلا أنه هجر أعمالهم وانتقل بروحه وقلبه إلى مولاه. فلم ينشغل بما ينشغل به الخلق ولم يدخل فيما دخلوا فيه من الفتن والنزاعات.

وهناك معنى جليل آخر وهو أن العبادة في أوقات الغفلة لها فضيلة خاصة. ولهذا كان النبي، صلى الله عليه وسلم، يصوم شعبان الا قليلا وكان يقول "ذاك شهر تغفل الناس فيه عنه، بين رجب ورمضان"، فجعل غفلة الناس من أسباب صيامه. لأن العبادة تصعب إذا قل من يقوم بها، ولهذا جاء الحث على الصلاة بين المغرب والعشاء وفي وقت النوم وغير ذلك.

وهناك معنى جليل آخر وهو أن المتعبد في أوقات الفتن قد توجه إلى الله واستعان به ولم يتوجه إلى حزبه وفرقته وطائفته. وهذا يدل على إيمانه ويقينه فهو يعلم أن الله هو الذي يهديه وهو الذي ينصره وهو الذي يحميه. ولهذا كان أهل الإيمان أعظم الناس ثباتا وتمييزا في الفتن، كما جاء في الحديث الصحيح أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قال، يومَ حذَّر الناسَ من الدجالِ، قال: "مكتوبٌ بين عينيْه كافرٌ يقرؤه كلُّ مؤمنٍ كاتبٌ وغيرُ كاتبٍ"، رواه مسلم. فجعل الإيمان سببا لتمييز الدجال الأكبر وقراءة الكفر المكتوب على جبينه ولو كان المؤمن أميا لا يقرأ ولا يكتب. وهكذا سائر الفتن يكون المؤمن القريب من الله أكثر تمييزا لها من غيره. فتراه ينجو على قلة علمه وترى غيره يهلك وإن كثرت معلوماته.

ومن تلك النصيحة النبوية يتبين لنا ما نحن فيه من الانشغال عن العبادة والتقرب الى الله بالفضائيات والإذاعات والمواقع التي تبث الفتن، وتوغر الصدور، وتقلب الحقائق، وتصرف العبد المؤمن عما خلق له. فمن وفقه الله جعل عبادة ربه غايته وزاد تعبده كلما كثرت الفتن وكلما انشغل الناس بدنياهم وفتنتهم زاد انشغاله بربه ومولاه.

والله أعلم