أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


إِنَّ قٰرونَ كانَ مِن قَومِ موسىٰ فَبَغىٰ عَلَيهِم ۖ

لم يمنع انتماء قارون النسبي لبني اسرائيل من ولائه الحقيقي للفراعنة. ويبدو أنه كان صاحب منزلة كبيرة عندهم، وأحسب أنه لم ينل تلك المنزلة حتى ثبت لهم أنه لا ولاء له لقومه، بل حتى علموا أنه كان يعتدي عليهم، فزادوا من صلاحياته ليس محبة له ولكن محبة فيما كان يفعل.

كان يفترض به وهو يجد قومه يعانون سوء العذاب، وهو صاحب منزلة، أن يتدخل في تخفيف مصابهم أو على الأقل أن يكف شره عنهم، ولكنه بدل ذلك زاد من معاناتهم وبغى عليهم، وتعاون مع الفراعنة ضد قومه.

ومن كيد الله به أنه آتاه "مِنَ الكُنوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنوأُ بِالعُصبَةِ أُولِى القُوَّةِ" فهذه الخزائن كانت ملأى بالمال الحرام. وكان من حوله من قومه يعانون ألوان العذاب ليس أقلها الحاجة والفقر.

وقد أسدى له العلماء المخلصون من قومه نصائح ثمينة تدل على علمهم وفضلهم وديانتهم ورحمتهم به إِذ قالوا لَهُ" لا تَفرَح ۖ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الفَرِحينَ" . وليست نصيحتهم هنا دعوة للحزن لأن الحزن جاء النهي عنه في آيات. ولكنه نهي عن الفرح بما اكتسب من الحرام أو الفرح وقومه يلفهم الحزن أو الفرح بالحياة الدنيا وزينتها وما يستلزم ذلك من نسيان الآخرة.

ثم ارشدوه إلى أن يستعين بما آتاه الله على الوصول إلى نعيم الجنة حتى يجمع بين الخيرين، فقالوا له: "وَابتَغِ فيما ءاتىٰكَ اللَّهُ الدّارَ الءاخِرَةَ". ولم يأمروه بالخروج عن ماله كله، ولا التقشف بل نبهوه الى عدم نسيان الدنيا فقالوا" وَلا تَنسَ نَصيبَكَ مِنَ الدُّنيا"، وهذا يدل على علمهم وحكمتهم واعتدالهم فلم يريدوا له أن يكون من أهل الدين بلا دنيا، ولا من أهل الدنيا بلا دين، ولكنهم قدموا الدين وجعلوا الدنيا خادمة وتابعة له. وهذا هو غاية النصح.

ثم ذكروه بالإحسان الى الناس، وقالوا له" وَأَحسِن كَما أَحسَنَ اللَّهُ إِلَيكَ". لأن من أحسن الله عليه وجعل له فضلا على غيره فعليه أن يؤدي الحق المترتب عليه. فكما أحسن الله إليك فكن محسنا إلى عباده.

ونبهوه إلى ما يقترن بالمال والسلطان عادة من محبة الفساد. وهكذا رأينا أكثر أصحاب الأموال والنفوذ يقترن ذلك منهم ذلك بالفساد غالبا، فنصحوه تلك النصيحة البديعة قائلين له: "وَلا تَبغِ الفَسادَ فِى الأَرضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ المُفسِدينَ". ومن لا يحبه الله فمحبة من سوف تنفعه؟ قطعاً لن تنفعه محبة أهل الدنيا ولا أهل المصالح بل ولا جميع الخلق.

لكنه لم يستمع إلى تلك النصائح العظيمة، وبدلا من ذلك "قالَ إِنَّما أوتيتُهُ عَلىٰ عِلمٍ عِندى". وكأن لسان حاله يقول، ليس لأحد فضل علي ولا لأحد شيء عندي، وإنما وصلت إلى ما وصلت إليه بعملي وجهدي واستحقاقي. وأن الله لو لم يجدني أهلا لذلك ما رزقني وترككم، وأحسب أن هذا العمى بلاء يصيب هذا الصنف من الناس فلايرون لأحد حقاً ولا لغيرهم فضلا.

ثم جاء رد الله تعالى بأبلغ عبارة "أَوَلَم يَعلَم أَنَّ اللَّهَ قَد أَهلَكَ مِن قَبلِهِ مِنَ القُرونِ مَن هُوَ أَشَدُّ مِنهُ قُوَّةً وَأَكثَرُ جَمعًا ۚ وَلا يُسـَٔلُ عَن ذُنوبِهِمُ المُجرِمونَ". أي إذا كان المال والسطة مقياس الفضل فقد أهلك الله من هو أكثر منك مالا وأوسع سلطانا بسبب جرائمهم. فلا تلازم إذن بين المال والفضل. ثم بين الله تعالى أن هذا الصنف من المجرمين لايسألون عن جرائمهم لوضوحها وكثرتها.

ولم يكترث قارون لتلك النصائح الثمينة "فخرج عَلىٰ قَومِهِ فى زينَتِهِ ۖ قالَ الَّذينَ يُريدونَ الحَيوٰةَ الدُّنيا يٰلَيتَ لَنا مِثلَ ما أوتِىَ قٰرونُ إِنَّهُ لَذو حَظٍّ عَظيمٍ". تمنى البسطاء من قومه أن يكون لهم مثل ما لقارون، ووصفوه بأنه صاحب حظ عظيم.

وهنا تدخل العلماء الناصحون مرة أخرى وقاموا بواجبهم تجاه العوام كما قاموا بواجبهم تجاه المتنفذين "وَقالَ الَّذينَ أوتُوا العِلمَ وَيلَكُم ثَوابُ اللَّهِ خَيرٌ لِمَن ءامَنَ وَعَمِلَ صٰلِحًا وَلا يُلَقّىٰها إِلَّا الصّٰبِرونَ". خذروهم وبينوا لهم خطأ تصورهم. وأن ثواب الله والجنة خير لكم. بشرط أن يكون الشخص مؤمنا يعمل الصالحات. وبينوا لهم أن تلك نعمة لا ينالها إلا الصابرون.

فماذا كانت النتيجة؟ "فَخَسَفنا بِهِ وَبِدارِهِ الأَرضَ فَما كانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرونَهُ مِن دونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنتَصِرينَ" فلم يتمكن أحد من خدمه ولاحرسه أن يدافع عنه ولم يتمكن من الدفاع عن نفسه. وعوقب بنقيض قصده أراد أن يشمخ بناؤه فخسف به وأراد أن يعلو على الناس فلم يزدد الا سفولا.

"وَأَصبَحَ الَّذينَ تَمَنَّوا مَكانَهُ بِالأَمسِ يَقولونَ وَيكَأَنَّ اللَّهَ يَبسُطُ الرِّزقَ لِمَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ وَيَقدِرُ ۖ لَولا أَن مَنَّ اللَّهُ عَلَينا لَخَسَفَ بِنا ۖ وَيكَأَنَّهُ لا يُفلِحُ الكٰفِرونَ" هنا أيقن العوام صواب ما كان يقوله العلماء. وعلموا أن الكافر المتكبر لا يفلح ولو كان من قوم موسى. فلا نسب ينفع ولا مال يدفع ولا منصب يمنع، وهنا تبين الفرق بين العلماء الذين علموا وحذروا ونصحوا الجميع وبين العوام الذين لم يدركوا الأمر حتى حلت الكارثة.

وكان من رحمة الله بأولئك العوام أنه لم يعاقبهم وأراهم من دلائل قدرته ما ردهم به إلى الحق دون أن يصيبهم بقولهم الفاسد ولا بأمانيهم الباطلة.

ثم ختم المولى الكريم تلك القصة المعبرة بقوله: "تِلكَ الدّارُ الءاخِرَةُ نَجعَلُها لِلَّذينَ لا يُريدونَ عُلُوًّا فِى الأَرضِ وَلا فَسادًا ۚ وَالعٰقِبَةُ لِلمُتَّقينَ."

فهنا أربعة أصناف، ثلاثة محرومون وهم الصنف الذي يريد المناصب والعلو والثاني الصنف الذي يريد الفساد المالي أو الجنسي أو الاداري وغيره والثالث الصنف الذي يريد المناصب والفساد معا. وأما الصنف الموفق فهو من لا يريد المناصب ولا الفساد ولو وقعت المناصب والأموال في يديه فإنه يتقي الله فيها ويستخدمها في طاعة الله، وأحسب أن هذا لا يوفق له إلا القليل. وهم الذين تظهر بركة أقوالهم وأفعالهم، وهم اتباع النبي، صلى الله عليه وسلم، على الحقيقة. لأنهم جمعوا بين التقوى والإحسان.

والله أعلم