أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فالأرجح أن يحيى عليه السلام لا يزال حيا. والدليل الأول على ذلك هو قوله تعالى عن يحيى:
"وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا". (مريم: 15)

فالله تعالى ذكر ثلاثة أيام في شأن يحيى: يوم ولادته، يوم موته، ويوم بعثه حيا. وذكر يوم ولادته فقال "يَوْمَ وُلِدَ" بصيغة الماضي. ومع ذلك، فلم يذكر يوم موته بصيغة الماضي. بل قال "وَيَوْمَ يَمُوتُ"، فلماذا؟ وهذه الصيغة في يوم موته هي نفس الصيغة التي استُعملت في يوم بعثه حيا، والذي نعلم أنه يوم في المستقبل.

إن كان يحيى قد مات، فلماذا لم يُذكر يوم موته بصيغة الماضي كما حصل مع يوم ولادته؟ ولماذا يذكر الله يوم موته بنفس الصيغة التي في يوم بعثه حيا؟ وهذه الأيام الثلاثة ذُكرت في نفس الآية، بل وفي نفس الجملة. ولو قال الله "يوم يولد ويوم يموت"، لكان شأناً آخر. ولكنه قال "يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ". وهذا ثابت في القراءات العشر جميعا. فالأرجح أن يوم موته لم يأت بعد عند نزول هذه الآية.

وقد يقول البعض أن زمن الآية المذكورة هو زمن يحيى عليه السلام، كما قال تعالى "يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ" (مريم: 12). وبذلك يكون قوله تعالى "وَيَوْمَ يَمُوتُ" ليس دليلاً على بقاء يحيى حيا. وهذا القول ضعيف، لأن الله في قوله "يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ" يخاطب يحيى. والمعنى أن الله قال ذلك ليحيى في زمنه. ولكن الله في الآية الأخرى لا يخاطب أحداً كان في زمن يحيى. وليس في الآية ما يدل على أن زمن الآية هو زمن يحيى. فهذا القول ضعيف. والآية لا تزال دليلاً على كون يحيى لا يزال حيا.

وقد ذُكرت كلمة "يوم" (بما في ذلك كلمة "ويوم" بالواو) متبوعة مباشرة بفعل مضارع 95 مرة في القرآن. ومنها قوله تعالى عن يحيى "وَيَوْمَ يَمُوتُ". ففي كل المواضع الأخرى في القرآن، والبالغ عددها 94، المراد هو يوم في المستقبل من وقت نزول الآية. وهذا يثبت أيًّا كان الوقت الأصلي للمقولة. فإن الله قال عن إبليس:
"قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ". (ص: 79)

فإن إبليس قال ذلك قبل نزول القرآن. ولكن يوم يبعثون هو يوم في المستقبل من وقت نزول الآية. وقال عيسى:
"وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا". (مريم: 33)

فعيسى قال ذلك في زمنه. ولكن يوم موته ويوم بعثه حيا هما يومان في المستقبل من وقت نزول الآية أيضا. بل وقد يكون هناك إشارة إلى أن الله لا يريد أن يذكر كلمة "يوم" متبوعة مباشرة بفعل مضارع إن لم تكن ليوم في المستقبل. قال تعالى في سورة الأعراف:
"وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163)".

فالله قال "يَوْمَ سَبْتِهِمْ" ولم يقل "يوم يسبتون". وقال "وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ". فهنا جائت كلمة "لا" قبل الفعل المضارع. فعندما تكون كلمة "يوم" متبوعة مباشرة بفعل مضارع، المراد هو يوم في المستقبل من وقت نزول الآية. وهذا في كل المواضع البالغ عددها 94. إذاً والنتيجة هذه، فماذا يعني قوله تعالى عن يحيى "وَيَوْمَ يَمُوتُ"؟ أضف إلى ذلك أنه قال "يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ" في نفس الجملة، ويكون لدينا دليل جيد على أن يحيى عليه السلام لا يزال حيا.

الدليل الثاني هو أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى يحيى ليلة المعراج وهو مع عيسى- عيسى الذي رُفع حيا. وهذا قد ذُكر في الحديث الذي رواه البخاري. يقول النبي صلى الله عليه وسلم في جزء من ذلك الحديث:

"ثم صعد بي حتى أتى السماء الثانية، فاستفتح. قيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبا به، فنعم المجيء جاء. ففتح، فلما خلصت إذا يحيى وعيسى وهما ابنا الخالة. قال: هذا يحيى وعيسى فسلم عليهما. فسلمت، فردا ثم قالا: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح." (صحيح البخاري: 3674)

فكون النبي صلى الله عليه وسلم رآهما معاً قد يكون إشارة إلى أن يحيى وعيسى يعيشان معاً في السماء الثانية. إن كانا فعلاً يقيمان معاً، فكيف يكون ذلك وأحدهما حي والآخر قد مات؟ فالأنسب أن يكون كلاهما في نفس الحالة- إما حيا وإما قد مات. وبما أننا نعلم أن عيسى حي، فيكون يحيى حيا أيضا. هذا إن كانا يقيمان معاً.

وقد يقول قائل أن هناك احتمال أن كلّا منهما كان لوحده، ثم اجتمعا لكي يقابلا النبي صلى الله عليه وسلم، كما اجتمع بعض الأنبياء وصلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم. وقد كان عيسى فيهم. وهذا بعيد. والأرجح أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى من رأى من الأنبياء الذين سلم عليهم في السماوات في تلك الليلة وهم في أحوالهم الطبيعية. ومما يشير إلى ذلك أنه رأى إبراهيم وهو مستند إلى البيت المعمور، كما في الحديث الذي رواه الإمام أحمد ومسلم (صحيح مسلم: 162). فيبدو أن إبراهيم لم يتجهز للقاء النبي صلى الله عليه وسلم. وأيضاً، فالنبي صلى الله عليه وسلم رأى آدم في السماء الدنيا وهو قاعد وعلى يمينه أسودة وهم أهل الجنة، وعلى يساره أسودة وهم أهل النار. فإذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى، كما في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم (صحيح مسلم: 163). وهذا يشير إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على آدم وهو في حالته الطبيعية.

فالأظهر أنه صلى الله عليه وسلم مر على الأنبياء وهم في حالاتهم الطبيعية في السماوات، وأنهم لم يتجهزوا للقائه كما فعلوا عند اجتماعهم للصلاة. فيحيى وعيسى كانا معاً في حالة طبيعية، فهما يقيمان معا. وكل واحد من الأنبياء الذين مر بهم النبي صلى الله عليه وسلم في السماوات هو في تلك السماء وفي حالة دائمة مستمرة. يقول ابن كثير بعد أن ذكر أحاديث الإسراء في أول تفسير سورة الإسراء:

"فتلقاه من كل سماء مقربوها، وسلم على الأنبياء الذين في السماوات بحسب منازلهم ودرجاتهم."

ولنتذكر أيضاً أن اجتماع الأنبياء للصلاة لم يكن حالة دائمة مستمرة. أما يحيى وعيسى، فكلاهما في السماء الثانية، وفي حالة دائمة مستمرة. ولا أعني بذلك أنها حالة أبدية. وهما يقيمان معاً كما تقدم. فلا ينبغي أن يقيما معاً وأحدهما حي والآخر قد مات.

وقد يقول قائل أنه يمكن أن يقيما معاً مع أن أحدهما حي والآخر قد مات، وأن هذا من أمور الله التي لا نستطيع أن نفهمها. وقد يستشهد ببعض المعجزات، كالإسراء والمعراج. فكما أن ذلك ممكن، فكذلك الأمر في كون يحيى وعيسى يقيمان معاً مع أن أحدهما حي والآخر قد مات.

فأقول إن الإسراء والمعراج قد ثبتا بالنص. أما كون يحيى قد مات، فليس هناك دليل يثبت ذلك، لا من القرآن ولا مما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم. والأصل هو عدم إقامة من هو حي مع من قد مات في حالة دائمة مستمرة. فالتساؤل الذي طُرح- عن كيفية إقامتهما معاً وأحدهما حي والآخر قد مات- كان تساؤلاً في محله. وبما أنه لا دليل يثبت موت يحيى، فبالتالي ليس هناك دليل على أنه يمكن أن يقيم من هو حي مع من قد مات في حالة دائمة مستمرة. فلا يكون صحيحاً أن يقال أن هذا من أمور الله التي لا نستطيع أن نفهمها، إذ ليس هناك نص ليثبت ذلك.

وقد يستدل بعضهم على موت يحيى بالحديث الذي أورده ابن كثير. يقول ابن كثير في كتابه "البداية والنهاية" عند ذكر قصة زكريا ويحيى:

"وقال ابن وهب: حدثني ابن لهيعة، عن عقيل، عن ابن شهاب، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه يوماً وهم يتذاكرون فضل الأنبياء. فقال قائل: موسى كليم الله. وقال قائل: عيسى روح الله وكلمته. وقائل يقول: إبراهيم خليل الله. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهم يذكرون ذلك، فقال: أين الشهيد؟ أين الشهيد يلبس الوبر ويأكل الشجر مخافة الذنب؟ قال ابن وهب: يريد يحيى بن زكريا."

فابن كثير لم يعلق على هذا الحديث. فقد يكون صحيحاً عنده، إلا قول ابن وهب "يريد يحيى بن زكريا". فلا أظن ذلك يصح من ناحية علوم الحديث. ولكنه محتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصد يحيى. وقد يبدو أن ابن كثير علق على هذا الحديث. ولكن ذلك كان تعليقاً على الحديث الذي بعده. يقول ابن كثير مباشرة بعد ذكر الحديث المذكور أعلاه:

"وقد رواه محمد بن إسحاق، وهو مدلس، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن سعيد بن المسيب، حدثني ابن العاص: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كل ابن آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب، إلا ما كان من يحيى بن زكريا. فهذا من رواية ابن إسحاق، وهو من المدلسين. وقد عنعن هاهنا."

فالحديث الأول ليس عليه تعليق من ابن كثير. فما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه- ولو صح، ولو كان يقصد به يحيى- لا يثبت موت يحيى. ولكنه يخبر أن موت يحيى شهادة. فالنبي صلى الله عليه وسلم قد سمى اثنين من أصحابه شهيدين قبل أن يموتا. وقد ماتا شهيدين بعد ذلك. يقول البخاري في صحيحه:

"حدثني محمد بن بشار، حدثنا يحيى، عن سعيد، عن قتادة، أن أنس بن مالك رضي الله عنه حدثهم أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد أُحُداً وأبو بكر وعمر وعثمان. فرجف بهم. فقال: اثبت أُحُد، فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان." (صحيح البخاري: 3472)

فالنبي صلى الله عليه وسلم سمى عمر وعثمان شهيدين قبل أن يموتا. فإن قال عن يحيى أنه شهيد، فذلك لا يثبت أنه مات. ولكنه يخبرنا أن موت يحيى شهادة. وبما أنه ليس هناك دليل يثبت موت يحيى، فكونه يقيم مع عيسى هو دليل على بقاءه حيا.

والآن لدينا دليل من الكتاب العزيز، ودليل من السنة النبوية. وكلاهما يشير إلى أن يحيى عليه السلام لا يزال حيا.

فإن كان يحيى لم يمت، فما كان من أمره؟ الأرجح أنه رُفع حيا كما رُفع عيسى. وإلا فما معنى كونه حيا وفي السماء الثانية؟ وأيضاً، فعيسى قد رُفع إلى السماء بروحه وجسده. فإن كان يحيى قد مات، فهذا يعني أنه في السماء بروحه وبدون جسده. فيكون بذلك يحيى وعيسى يقيمان معاً مع أن أحدهما موجود بروحه وجسده والآخر موجود بروحه فقط. وهذا فيه نظر. فالأرجح أن كلّا منهما رُفع حيا بروحه وجسده. وأرى أيضاً أن يحيى سينزل في آخر الزمان كما ينزل عيسى.

وقد يقول أحدهم أن يحيى قد يكون مات بعد أن رُفع حيا. وهذا ضعيف، والرد عليه من وجهين.

الأول: أن يحيى قد يموت شهيدا، للحديث الذي أورده ابن كثير. فما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الحديث قد يكون صحيحا. ومن الممكن أنه أراد بذلك يحيى. فإن كان الأمر كذلك، فإنه ينبغي ليحيى أن ينزل إلى الأرض حتى يموت شهيدا.

الثاني: أن يحيى كان حيا لمئات السنين بعد رفعه. فهو كان حيا عند نزول الآية المذكورة في سورة مريم. فالأرجح بقاؤه حيا إلى الآن كما هو الحال مع عيسى.

وقد يكون الله سمى يحيى بهذا الاسم لأنه يحيى لزمن طويل. قال تعالى في سورة مريم:
"يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7)".

يقول ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية:
"وقوله: { لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا } قال قتادة، وابن جريج، وابن زيد: أي لم يسم أحد قبله بهذا الاسم. واختاره ابن جرير رحمه الله."

فقد يكون الله خصه بذلك لما يكون من أمره الذي هو بخلاف العادة في البشر.

إذاً في النهاية، أقول أن يحيى عليه السلام لا يزال حيا، وأنه رُفع حيا كما رُفع عيسى، وأنه ينزل في آخر الزمان كما ينزل عيسى.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.