أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن موضوع هذا اللقاء عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وشيخ الإسلام له مؤلفات كثيرة، وكلام كثير على المسائل في الاعتقاد وفي الفقه وفي التأصيل وفي التفسير وفي شتى العلوم الشرعية الأصلية، وكلامه رحمه الله وتعالى على مكانته عميق غزير كثير الفوائد جم العوائد؛ ولكن أكثر كلامه يحتاج إلى تبصر ونظر، يحتاج إلى من يكون عالما بالعلوم الشرعية أو طالب علم فيها حتى يفهم مراده في كلامه.

ووصف شيخ الإسلام رحمه الله بأنه إذا تكلم ظُن أنه لا يحسن إلا ذلك الفن، فإذا تكلم في الفقه فهو حامل رايته، وإذا تكلم في العقيدة فهو حامل رايتها، وإذا تكلم في التفسير فكأنه لا يحسن إلا التفسير، وهكذا في شتى العلوم حتى إنه قد حقق بعض مسائل نحوية ولغوية وكان قوله فيها هو الصواب رحمه الله.

وإذا ناظر أو تكلم مع أحد المتخصصين في فن من الفنون أفاده بأشياء لم تكن عنده، فإذا تكلم مع الفقهاء أفادهم بأشياء، وإذا تحدث مع المتكلمين أو الفلاسفة أو الصوفية أفادهم بأشياء لم تكن عندهم من العلوم، وهذا شيء مشهود له به.

وشيخ الإسلام ابن تيمية إمام أثَّر في العالم أثر في المسلمين وجدد الدين فهو مجدد المائة السابعة، وذلك لأنه نصر عقيدة السلف الصالح بمفهومها العالم ونصر ما قرره أئمة السلف بعد أن اندثر كلامهم إلا عند قليل من الناس.

لهذا نقول إن فهم كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ينبني على أشياء، وأن القارئ لكتب شيخ الإسلام ابن تيمية يحتاج إلى قراءة بعد العلم بهذه الأشياء، أما أن يكون قارئا لها وقارئا لكلامه كأنه يقرأ في صحيفة، أو كأنه يقرأ كلام مثقف، أو كأنه يقرأ كلام طالب علم عادي هذا يحدث من اللبس والخلل ما رأينا بعضه.

فكلام شيخ الإسلام ابن تيمية تميز بمزايا:

أولا:****أنه كان رحمه الله تعالى يوجز الكلام في مسألة في موضع ويبسطها في موضع آخر، فتجده في بعض المواضع يقول: وقد بسطنا هذه المسألة في موضع آخر. ويكثر ذلك منه.

فإذن كلامه فيه اختصار الكلام على المسائل في موضع، وبسطها في موضع آخر، وما اختصر فيه يكون هو زبدة كلامه، وما طوَّل فيه يكون هو تفصيل كلامه والاستدلال له والتنظير له.

ثانيا: تميز كلامه بأنه ألَّف التآليف فيما يريد وخاصة في مسائل الاعتقاد، فجعل منها تواليف مختصرة، وجعل منها تواليف مطولة، والمختصرة كما سيأتي هي ذريعة المطولة والوسيلة إليها، فمن لم يفهم المختصرات التي ألفها شيخ الإسلام فإنه لن يعي معاني المطولات.

فله في المختصرات: الواسطية والحموية والتدمرية، وله في السلوك التحفة العراقية، وله في الكرامات قاعدة في المعجزات والكرامات إلى آخره، هذه مختصرات يؤصل فيها الكلام، ويكون هو خلاصة ما عنده من العلم في ذلك، وأما المطولات فيبسط فيها القول ويذكر أقوال المخالفين ويذكر ما يحتاج إلى ذكره من الرد عليهم.

الأمر الثالث: تميز كلامه رحمه الله بأنه يؤصل ويستطرد؛ يعني تميز كلامه بتأصيل واستطراد، فالتأصيل ما يذكر فيه أصل المسألة ويذكر فيه صورتها، ويذكر فيه الحكم عليها، ثم يستطرد إما ناقلا للأقوال التي تؤيد كلامه، وإما ينقل النظائر التي تدل على أن قوله الذي ذكره صواب وأنه هو الراجح وأنه هو الذي لا يسوغ القول بغيره في بعض المسائل، وإما يكون استطر ببيان أقوال المخالفين في هذه المسألة والرد عليها.

فإذا أتى طالب العلم ونظر إلى تأصيله يقف عنده، ثم إذا نظر نظرة أخرى ووجد بداية الاستطراد يضع هنا بداية الاستطراد حتى يفرق بين كلامه في التأصيل وكلامه في الاستطراد.

وكلامه رحمه الله في الاستطراد إنما هو -كما ذكرتُ- لأسباب قد يكون يذكر النظائر والكلام المستطرد لا يراد منه تأصيل المسألة وإنما يراد منه التدليل على صحة الأصل؛ إما بتقعيد أو تنظير أو استدلال أو نُقُول أو برد على مخالف أو بيان ضعف حجة من خالف ذلك التأصيل.

لهذا ينتبه طالب العلم بأنه لا يأخذ كلامه دائما من المستطردات؛ بل يأخذها من التأصيلات؛ لأن الاستطراد قد يكون -كما ذكرتُ- حنى به شيئا عرض فيه لبعض ما يريد من هذه المسألة التي استطرد إليها، كنظيره لمسألة بمسألة.

مثلا خُذْ كتابه اقتضاء الصراط المستقيم تجد أنه يمكن أن يُلَخَّص في صفحات يعني في أربعين خمسين صفحة؛ لكنه يذكر المسألة ثم يستطرد كثيرا.

كذلك في أول درء التعارض تجد أنه رد بردود مختصرة، ثم بعد ذلك استطرد بأخذ الأوجه على إبطال قانون الرازي وأتباعه باستطرادات مختلفة تبين بطلانه إما من جهة التنظير أو النقول والرد عليها كما ذكرت.

فينتبه طالب العلم أنه إذا نظر في كلام شيخ الإسلام يفرق ما بين التأصيل والتنظير، ما بين التأصيل والاستطراد، ولا يأخذ المسألة دائما من الاستطراد.

أيضا من مميزات كلامه رحمه الله: أن كلامه يكثر فيه المحكم والمتشابه عنده فيما يقرر محكم، وتارة في كلامه إما في الاستطراد أو أحيانا في بعض التأصيل يكون من المتشابه.

ونعني بالمحكم ما يتضح معناه وبالمتشابه ما يحتمل المعنى أو لا يتضح أو يكون مشكلا على أصول السلف؛ لأن شيخ الإسلام رحمه الله كان متابعا للسلف الصالح لا يخرج عن أقوالهم، وخاصة أقوال أئمة أهل الحديث كأحمد وباقي الأئمة، فهو قد يورد كلاما ينظر إليه العالم أو طالب العلم ويجده مشكلا وهذا يسمى المتشابه؛ لأن المتشابه موجود في كلام أهل العلم، ويُحل هذا المتشابه بالنظر في المواضع الأخر التي تكلَّم فيها عن هذه المسألة فيكون في الموضع الآخر إيضاح لهذا الموضع الذي اشتبه على الناظر.

فإذن هذه ينبغي التنبه لها وهي أنه في كلامه رحمه الله محكما ومتشابها، وهذا إنما يعرفه أهل العلم، يعرف الكلام المؤصل الذي يوافق كلام السلف وويوافق كلامه هو في المختصرات كما سيأتي في التطبيق، وكلامه الذي يشتبه يحتمل أنه يريد به كذا ويحتمل أنه يريد به كذا، فنحمل كلامه على ما نعلمه من طريقته ومن تقريره ومن عقيدته رحمه الله.

النقطة الخامسة: من مميزات كلامه أنه يكثر النقول، ويسهب في النقل على أهل العلم، وهذا الإسهاب في النقل للتدليل على أن ما ذهب إليه ليس متفردا به أو ليس غريبا، كما أكثر من النقول في الحموية، وكما أكثر من النقول في مواضع في درء التعارض، وفي رده على الرازي إلى آخر كتبه رحمه الله.

السادس: أنه يكثر الاستدلال، وهذا من مزايا شيخ الإسلام رحمه الله أنَّ أدلته التي يوردها كثيرة ومتنوعة، فتجد أنه يستدل بآيات القرآن استدلالا مستفيضا، ويستدل بالسنن ويميز رحمه الله بين المقبول منها وغير المقبول، وما أدرجه أئمة السنة قبله في تواليفهم وما لم يوردوه، كذلك يستدل بالإجماع إذا وجد، كذلك يستدل بالقياس، يستدل بالتقعيد الفقهي، يستدل بأقوال الصحابة فيما يريد تقريره يستدل بالتنظير.

وهذه أنواع من الأدلة معلومة في أصول الفقه.

السابع: كثرة استعماله لعلوم الآلة، فيكثر من استعمال أصول الفقه، يكثر من استخدام النحو في الموارد التي يحتاجها، يكثر من استخدام ما يحتاجه من كلام المناطقة وكلام المتكلمين فيما يريد تقريره أو ما يريد الرد فيه على المخالفين.

الأخيرة: أنه رحمه الله يستعمل مصطلحات أهل الفنون، ولكل فن مصطلح، وهذه التي يسميها العلماء اللغة العرفية، فشيخ الإسلام إذا تكلم في مسألة فقهية استخدم كلام أهل الفقه؛ لغة الفقهاء، وإذا تكلم في مسائل عقدية استخدم لغة ذلك العلم، وإذا تكلم في مسائل أصولية استخدم لغة الأصوليين، وإذا تكلم في مسائل لغوية أو نحوية استخدم لغة أهل ذلك الفن، وإذا تكلم مع أهل السلوك والصوفية استخدم لغة أولئك.

فالناظر في كلامه إذا لم يكن له علم بعلوم الآلة وبمصطلحات أهل الفنون ربما خلَّط في الاصطلاحات، وربما جعل كلمة بمعنى كلمة أخرى، وكلّ كلمة لها معنى لا تشركها فيه الكلمة الأخرى، فهناك فرق في الأوضاع العرفية اللغوية للكمات على حسب استعمال أصحاب كل فن وبين الاستخدام اللغوي؛ لأن العرف تخصيص والاصطلاح لا مشاحة فيه.

فإذا نظر الناظر في كلام شيخ الإسلام وقرأ كلامه على غير معرفة بمراده بتلك الكلمات والاصطلاحات انتقل إلى ذهنه أنه يريد من تلك المسألة أو من تلك الكلمات ما في ذهنه من معنى تلك الكلمة، فيقع الخلط كما يقع في كلام عدد ممن ينقلون عن شيخ الإسلام ولا يفهمون مرامي كلامه.

فيستخدم كلمات ينبغي بل يجب أن تُفهم على مصطلحات أهل الفنون لا تفهم على حسب ما يتبادر إلى الذهن؛ لأن لغة العلم محكمة، ويتميز أهل العلم فيما بينهم ويتفاضلون بمقدار استعمالهم للغة العلم، فكلما كان العالم أكثر استعمالا للغة العلم كلما كان قدرْه وتأصيله أرفع؛ لأن لغة العلم محكَّمة ولأنها تنفي التداخل، وشيخ الإسلام رحمه الله تعالى طبق ذلك كثيرا فتجده يستخدم المصطلحات التي يستخدمها أهل العلوم، فإذا كان ثم كلمة تحتمل أكثر من وجه أو ليس فيها ثَم اصطلاح متفق عليه بين الفئات تجد أنه يذكر أن هذه الكلمة مجملة، فهي إن فسرت بكذا فتحتمل كذا وإن فسرت بكذا فتحتمل كذا، وينبغي حملها على المعنى الصحيح، وخاصة في الكلمات التي يستخدمها المتكلمون ويستخدمها أتباع السلف الصالح، فيكون ثَم فرق بين استعمام هؤلاء واستعمال هؤلاء، أو بين الكلمات التي ربما أنها في مصطلح الحنفية مثلا من الفقهاء لها عرف خاص عندهم وعند غيرهم لها معنى آخر، وكذلك في الكلمات التي يكون المصطلح الحادث فيها عند أهل الفن مخالف لما كان في العرف الشرعي، لما كان قد جاء في الكتاب والسنة.

وهذا متنوع ويحتاج في بسطه والتمثيل عليه إلى وقت أطول من هذا.

المقصود أن هذا الذي ذكرتُ من النُّقاط هذه من مميزات كلامه، فإذا نظر الناظر في كلامه ينبغي له أن يستحضر هذه المسائل، وأن يفرق بين الواحدة والأخرى، وأن يتنبه إلى ما أورده من ذلك فيفهم كلامه على نحو ما أراده، لا يفهم كلامه على ما في عقله وتصوره من التصورات؛ لأنه إذا فهمتَ كلامه على ما في ذهنك كنت محكما لنفسك على شيخ الإسلام، وإنما يقبل الحكم منه رحمه الله على نفسه؛ لأنه هو الذي استعمل الكلام، وكلامه يُفهم هم طريقه لا عن طريق غيره.

وإذا أشكل شيء من ذلك من كلام شيخ الإسلام وأشكل بعض ما تميز كلامه مما ذكرت في مسألة أو في اصطلاح أو في استعمال أو في استدلال أو في مذهب نقضه أو في مذهب أيَّده، وأشكل ذلك فإذا أردت أن تعلم طريقته أو مذهبه فترجع إلى كلام ابن القيم رحمه الله؛ لأن ابن القيم في كتبه يفصل كلام شيخ الإسلام، ويبيِّن ما فيه ويكثر الاستدلال له، ويوضحه إيضاحا مفصلا.

ومن الكلمات المأثورة عن الشيخ عبد الرزاق عفيفي رحمه الله رحمة واسعة أنه كان يقول: شيخ الإسلام ابن تيمية يأتي إلى جدار الباطل فيلطمه حتى يتعدد، وأما ابن القيم فيأخذ هذا الجدار حجرا حجرا فيكسره غلى أشلاء.

وهذا صحيح فإن شيخ الإسلام يرد بالأصول ويرد بالفروع وبالتنظير مرة واحدة، حتى ترى وصف من وصفه بأنه كالموج المتلاطم، أما ابن القيم فهو مرتب، يأتي: الوجه الأول الوجه الثاني الوجه الثالث، فيأخذ كل مسألة على حدا ويورد الكلام عليها مفصلة واضحة، أما شيخ الإسلام فهو [...] ولهذا يقع الالتباس في فهم كلام ابن القيم رحمه الله تعالى، ولكل درجات.

كيف تستفيد أو تقرأ كتب شيخ الإسلام في العقيدة؟

شيخ الإسلام رحمه الله -كما ذكرتُ لكم- جعل كلامه في الاعتقاد متنوعا، فمنها كتب مختصرة وهي أيضا على درجات في الاختصار، ومنها كتب مطولة، ومنها فتاوى مختصرة، ومنها فتاوى مطولة.

فطريق فهم كلامه أن تضبط المختصرات.

فمن المختصرات الواسطية والحموية والتدمرية، وهذه المؤلفات الثلاث مهمة في فهم كلام شيخ الإسلام وفهم مذهبه وطريقته وتقريره للمسائل.

فلابد لطالب العلم حتى يفهم كلام شيخ الإسلام في المطولات وفي الفتاوى في الأجوبة المطولة أن يستوعب هذه الثلاث استيعابا تاما، ولهذا كان أهل العلم يقرئون الطلاب يقرئونهم هذه الثلاث المختصرات قبل أن يُقرأ عليهم في المطولات؛ لأن هذه المختصرات فيها تأصيل العلم العقدي الذي نصره شيخ الإسلام رحمه الله، فيها تأصيل أقواله التي نصر فيها مذهب السلف الصالح وعقيدة السلف الصالح ومنهج السلف الصالح رحمهم الله تعالى، فلا بد من استيعاب الواسطية وفهمها لفظة لفظة، لابد من استيعاب الحموية، لابد من استيعاب التدمرية، فإذا استوعبت هذه على قد ما أتاك الله جل وعلا من الفهم ويسره لك فإنك إذا قرأت بعد ذلك المطولات كرده على الرازي أو درء التعارض أو الأجوبة المطولة في الفتاوى كشرح حديث النزول وغير ذلك فإنك تفهم الكلام؛ لأنه مبني على تأصيل سابق، أما أن تقرأ المطول من كلامه قبل المختصر هذا يحدث في النفس التباسا؛ لأنه لا يمكن أن تقيم أعلى البناء إلا بإقامة أسفله، فإذا أقمت الأعلى دون الأسفل كان إما على وشك تهدم أو لم يكن بناء مستقيما.

لهذا شيخ الإسلام رتّب لكَ: فأعطاك الواسطية، ولما سئل عن الاعتقاد في الصفات كتب الحموية أطول منها، وكتب التدمرية، وهي مراتب: الواسطية هي الأولى، الحموية، التدمرية.

فإذا ضبطت الواسطية وهي تشمل معتقد السلف الصالح عامة؛ لكن ليس فيها ردود وليس فيها أقوال للمخالفين، وإنما فيها الآيات والأحاديث في مسائل الصفات، وكذلك في مسائل الإيمان وفي مسائل القدر، ثم الكلام على منهج أهل السنة والجماعة بإنكار المنكر، وفي مسائل الإمامة والصحابة، وزوجات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والكلام على بقية مسائل الاعتقاد العام.

الحموية فيها تفصيل أكثر، وذكر فيها نقول كثيرة عن أهل العلم من السلف في تأييد طريقة السلف، وما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية، كذلك فيها تأصيل لمذاهب المخالفين، كتأصيل لمذهب الفلاسفة من قولهم بالتجهيل وأهل الوهم والتخييل، إلى آخره من مما فيه تأصيل لكلامه في مصنفات أخر.

التدمرية فيها تقعيد للردود، وبيان لمسألة الشرع والقدر ومسائل الصفات، وتأصيل القواعد التي بها يرد على المخالفين، ونقض شبه أولئك من أصولها ومن جذورها.

فإذا أردت أن تفهم المطولات فلا يمكن ذلك مطلقا إلا بفهم المختصرات، يمكن أن تفهم بعض كلامه؛ لكن يشكل البعض الآخر، ويشكل البعض الآخر، حتى تكثر المشكلات، والعلم إنما ينبني على تصور سليم من أول لحظة.

واحرص -كما أوصى بذلك عدد من المشايخ- أن لا تُدخل ذهنك إلا الصورة الصحيحة للمسائل، سواء كان في العقيدة أو في الفقه، لا تدخل في ذهنك صورة مشوهة، لا تدخل في ذهنك صورة غير واضحة للمسألة، فإذا أدخلت صورة فهمتها من بعض الأوجه ولم تفهمها من بعض ربما أتت الحاجة إليها فلم تستفد منها، وربما أتت الحاجة إليها فقررتها على غير طريقة أهل العلم وعلى غير طريقة شيخ الإسلام فيما ذكر.

إذن فلابد أن تتصور المسائل تصورا أول ما ترد عليك، تحرص على أن لا تدخلها ذهنك إلا بوضوح، هذا بعد ذلك ننتقل منها إلى غيرها، أما إذا جمعت شتات من المعلومات وشتات من المقروءات دون تأصيل لهذه المسائل، فإنها تلتبس عليك هذه المسائل، ويحصل كما نرى ونسمع يحصل التباس، فبعضهم يجعل مسألة من مذهب السلف الصالح وليست من مذهبهم، نعم هو قرأها لكن ما قرأها بتأصيل، يذكر أن مسألة أن شيخ الإسلام يرى فيها كذا ولكنه يفهمها على غير وجهها، يأخذها من المستطردات ما يأخذها من التأصيلات، يأخذها من الكلام المحتمل دون الكلام الواضح.

كلامه في الاعتقاد -شيخ الإسلام ابن تيمية- تارة يكون محتملا لا تأخذ منه تقرير المسألة كما يكون في الاستطرادات كثيرا، وتارة يكون واضحا جليا وهذا الواضح والمحتمل إنما تفهمه إذا كنت قد أحكمت المختصرات التي ذكرت لك وهي الواسطية والحموية والتدمرية تتضح لك مراداته بكلامه، بعد فهم مصطلحات العلوم ولغة أهل العلم كما ذكرته لك سالفا، هذا بالنسبة للاعتقاد.

وثَم قسم آخر للفقه والمسائل الفقهية أعرض له عرضا موجزا في الدقيقتين التي بقيت.

فكلام شيخ الإسلام في الفقهيات ليس سهلا، وتقريره في مسائل الفروع والفقه ليس سهلا؛ وذلك لأنه جمع في ذهنه أقوال أهل العلم المختلفة، جمع في ذهنه أقوال السلف وأقوال الأئمة المتبوعين رحم الله الجميع، وجمع في ذهنه الأدلة لهؤلاء وهؤلاء.

ولهذا نقول: تميز كلام شيخ الإسلام في الفقهيات بالذات بتصوير المسائل، وبكثرة الاستدلال عليها، وبتنظيرها فقهيا، وبكثرة التعليل بالقواعد الفقهية، وبذكر الجمع والفرق وهو فن من الفنون القواعد الفقهية وبالتعليل بمقاصد الشريعة وبالرجوع إلى الأصول من جهة المقاصد التي كانت في زمن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومقصد الشارع من الأحكام كما هو قاعدته في المعاملات ونظريته في البيع إلى آخر ذلك، كذلك يكثر من الترجيح فيما يذكر.

وهو في كل ذلك متبع لمذهب الإمام أحمد رحمه تعالى، فإن شيخ الإسلام في أصوله وفي تصويره للمسائل حنبلي المذهب رحمه الله، فتفهم كلامه بعد فهم كلام أهل المذهب، ولهذا إذا أردت أن تتصور مسألة فقهية تحدث عنها شيخ الإسلام في العبادات أو في المعاملات أو في الأمور الاجتماعية أو في الحدود والجنايات أو في السياسة الشرعية إلى آخره، تقرأ قبل ذلك كلام الحنابلة في مختصراتهم، أو اقرأ كلام أبي محمد الموفق رحمه الله في المغني، فإنك ترى في كلامه ما يؤصل لك المسألة ويصورها لك، ثم بعد ذلك إذا قرأت كلام شيخ الإسلام يكون التصور قد سبق كلامه؛ لأنه هو يعرض للخلاف مباشرة، ويعرض للأقوال مباشرة، ويذكر الأدلة وهذه لابد من مقدمة لها، والمقدمة أن ترعى كتب الحنابلة من جهة التصوير ومن جهة التقعيد والأقوال المختلفة والردود عليها من كتبهم، بعد ذلك ترى كلام شيخ الإسلام.

لهذا ترى أنه يذكر الروايات ويذكر الأقوال عن الإمام أحمد وهذه مستفادة من كتب الحنابلة.

هذه كلمات مختصرة في مزايا أو ميزات كلام شيخالإسلام ورعايتها ينبني عليها إن شاء الله الفهم الصائب لكلام شيخ الإسلام، والوقت قصير والموضوع يحتاج إلى جلسات طويلة.

لكن أسأل الله جل وعلا أن ينفع بهذا القليل وأن يبارك لي ولكم في العلم والعمل.

كيف تقرأ مباحث شيخ الإسلام ابن تيمية الفقهية؟

وكلام شيخ الإسلام في الفقه ليس موجودا في مصنف معروف له؛ يعني أنه لم يؤلف مؤلفا في الفقه استوعب فيه مسائل الفقه حتى يكون هذا الكلام دراسة لما كتبه في ذلك المصنَّف، وإنما كان كلامه في الفقهيات مبعثرا إما على شكل بحوث في بعض مؤلفاته، وإما على صورة فتاوى أجاب بها المستفتين، وإما على شكل قواعد أوردها أو نقول نقلت عنه عن طريق تلامذته ونحو ذلك.

ولهذا نقول: إن الناظر في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ينبغي له أن يكون مستحضرا مزايا كلام شيخ الإسلام التي سلفت، وأن يتنبه أيضا لما سيأتي من كلامه رحمه الله تعالى من خصائص لكلامه في الفقهيات رحمه الله تعالى.

شيخ الإسلام كما هو معلوم أحد المجتهدين الكبار، وأُطلق عليه أنه مجتهد مطلق، وهو في الحقيقة جمع بين أنواع الاجتهاد فهو:

مجتهد مطلق يعني غير مقيد بمذهب من المذاهب.

وكذلك هو مجتهد في المذهب يعني في المذهب الحنبلي الذي درسه وتتلمذ له أو لحياته.

وهو مجتهد أيضا في التخريج في المذهب.

وهو مجتهد أيضا في الفتوى.

وهذه أنواع من طبقات المجتهدين، فالمجتهد تارة يكون مجتهدا مطلقا وهو أعلاها، وتارة يكون مجتهدا في المذهب، وتارة يكون مجتهدا في التخريج، وتارة يكون مجتهدا في الفتوى.

وفوق ذلك كله أن يكون مجتهدا مستقلا كالأئمة الأربعة رحمهم الله ونحوهم كابن حزم الذين اجتهدوا في الأصول وفي الفروع، ونعني بالأصول نعني أصول الفقه والكلام على الرجال يعني لا يقلدون غيرهم في الحكم على أي وسيلة من وسائل إثبات الحكم الشرعي.

لهذا شيخ الإسلام كان مجتهدا في هذه جميعا، وهذه لها أثر إذا استحضرتها في رعاية كلامه ومواقع حججه وبيناته.

مزايا كلامه رحمه الله تعالى في الفقه:

أولا: إذا صوَّر المسائل فإنه يصورها في الغالب على مبنى تصوير الحنابلة رحمهم الله لتلك المسائل، فإنه درس المذهب الحنبلي وتتلمذ له وقرأه وحفظ منه ما حفظ، وتصويره للمسائل إذا عَرَضَها مبني على تصوير الحنابلة رحمهم الله، وهذا يعني أن فهم كلامه في الفقهيات لابد أن يُقَدِّم الناظر فيه لنفسه بالنظر كتب الحنابلة حتى يكون تصوير المسألة واضحا، حتى تكون صورة المسألة في ذهنه مطابقة لما سيصفه شيخ الإسلام ابن تيمية.

ومن الأخطاء في ذلك أن من الناس من يأخذ صورة المسألة وطريقة عرضها من بعض كتب الحديث مثلا أعني شروح الأحاديث أو من بعض كتب الشافعية كالمجموع أو من بعض كتب المذاهب الأخر كالمحلى أو نحو ذلك، ثم ينظر في كلام عالم كشيخ الإسلام ابن تيمية فيحصل له خلل يقل أو يكثر في صورة المسألة في الذهن، وإذا خلَّت صورة المسألة في الذهن لاشك أنه ما يكون بعد ذلك من الاستدلال والتعليل سيكون في التصور ناقصا.

المزية الثانية: من مزايا كلامه رحمه الله انه تميز في كلامه الفقهي بسعة إطلاعه على مذاهب الناس، فهو واسع الإطلاع في المذهب الحنبلي، فهو يورد الروايات عن الإمام أحمد روايتين وثلاثة وربما أكثر في بعض المسائل، ويورد الأقوال في المذهب أيضا بأسماء أصحابها، ويورد أحيانا أقوال الأئمة الآخرين بقية الأئمة الأربعة واختلاف الأقوال عنهم، وكذلك يستحضر أو هو واسع الإطلاع في معرفة مذاهب السلف في المسائل.

ولهذا تميز رحمه الله تعالى باستحضار الأقوال في المسألة حتى إنه يستوعب ما قيل فيها، فلا يتكلم في المسألة إلا بعد أن يعرف المذاهب فيها، وهذا يورده بكثرة.

فطالب العلم إذا انتبه لهذه الخصلة عند شيخ الإسلام رحمه الله تعالى لا يشكك ذهنه؛ لأن كثرة إيراد المسائل كثرة إيراد أصحاب الأقوال لتلك المسائل هذه قد تشتت الذهن، وطالب العلم يهتم قبل قراءة كلام شيخ الإسلام ابن تيمية بصورة المسألة قبل معرفة الخلاف، ثم معرفة الخلاف العالي فيها في المذهب؛ لأنه هو الذي درستموه وتصوره أقرب، ثم بعد ذلك ينتقل إلى الخلاف بين الإمام أحمد والأئمة الآخرين، ثم إلى خلاف السلف في ذلك أو خلاف الأئمة الذين اندثرت مذاهبهم كالليث والأوزاعي إلى آخر ذلك.

إذن شيخ الإسلام لسعة علمه يخلط هذه جميعا، وخلطها لاشك أنها من أسباب كونه مجتهدا مطلقا اطلع على كلام الناس وتوسع فيه؛ لكن كثرة نقل الخلاف والأقوال ينبغي لطالب العلم أن يلحظها حتى لا يتشتت ذهنه حين قراءة كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في الفقه.

المزية الثالثة: من مزايا كلامه في الفقهيات كثرة استدلال شيخ الإسلام رحمه الله بالنصوص؛ أعني بالقرآن والسنة، والقرآن يعني بالقراءات، والسنة يعني بمختلِف الروايات، وهذا ظاهر بين وهو يورد الحجج من الكتاب والسنة، وإذا عرض من الأدلة من السنة فإنه يدخل فيها بالكلام على صحة الأحاديث وعلى الرجال، وهذا في تارات ينفرد به؛ يعني يكون نظره فيه نظر مجتهد استقل بالحكم على الحديث واستقل بالاجتهاد في الرجل في بعض الأحيان، وإذا نقل كلام الأئمة في التصحيح والتضعيف اختار منه، وإذا نقل كلام علماء الجرح والتعديل أيضا رجَّح ما يظهر له.

وهذا يعني أن كلامه في ذلك قد يكون موافَقا عليه عند غيره من الأئمة وقد لا يكون موافقا عليه، فطالب العلم إذا نظر في دليل مسألة أوردها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ينبغي له أن ينظر إلى كلام الأئمة الآخرين في هذه حتى يظهر له كيف اجتهد شيخ الإسلام رحمه الله في هذا الحديث حتى وصفه بهذا الوصف من الحسن أو الصحة أو الضعف إلى غير ذلك.

وشيخ الإسلام يضعف كثيرا بالنظر إلى المتن، فهو ينظر إلى المتون بقوة ما أدركه من العلم نظر مجتهد، فيضعف ويصحح بالنظر إلى المتن، ولو كان الإسناد ضعيفا، ولو كان الإسناد صحيحا، فربما كان من الأسانيد ما هو ضعيف وحسَّن الحديث لمتنه، وربما كان من الأسانيد ما هو صحيح وضعف الحديث أيضا لمتنه، والعكس كذلك ربما كان من الأسانيد ما هو ضعيف وصحح الحديث لمتنه، وهذه قوة نظر مجتهد مطلق.

وهكذا كان الأئمة أحمد والشافعي ومالك وأبو حنيفة وغيرهم يفعلون من قوة إدراكهم لقواعد الشرع ومعرفتهم بمقاصد الشارع.

المزية الرابعة: في كلامه في الفقهيات أنه رحمه الله تعالى ظهر في كلامه تطبيق أصول الفقه، فهو حين يتكلم على ويورد أدلتها يستنبط، وهذا الاستنباط يوافق القواعد المعروفة في علم أصول الفقه.

ومن المعلوم أن علم أصول الفقه مبني على أربعة أركان:

¨****الحكم.

¨****والدليل.

¨****والاستدلال.

¨****والمستدل.

وشيخ الإسلام يخلط هذه جميعا ويستحضرها استحضارا واحدا، فتارة تجد أنه في المسألة الواحدة يأتيها من جهة النظر في الحكم ومن جهة النظر في الاستدلال ومن جهة النظر في الركن الأخير وما فيه من قواعد الترجيح، إلى غير ذلك.

فمن لم يدرك أصول الفقه فإنه يكون نظره في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ضعيفا، وهذا ظاهر في أن من الناس من لم يتصور أدلة شيخ الإسلام ابن تيمية، وربما استدل بدليل أورده شيخ الإسلام ابن تيمية ولم يدرك موقع الاستدلال، أورد الدليل لكن ما وجه الاستدلال؟ لم يدرك ذلك، وذلك لأن معرفة الاستدلال مبني على وسيلة هي علم أصول الفقه إذْ الاستدلال هو الركن الثالث من أركان أصول الفقه، وهذا يحتاج إلى دقة نظر في المطالع لكلام شيخ الإسلام ابن تيمية في أصول الفقه.

وهو في أصول الفقه ليس مقلدا تماما وإنما له اجتهادات في مسائل من أصول الفقه، لم يجتهد في كل المسائل كاجتهاد الأئمة المستقلين أحمد والشافعي ومالك إلى آخر أولئك؛ ولكنه له اجتهاد في بعض المسائل مدون اجتهاده في المسودة في أصول الفقه، فمن المسائل ما يوافق فيها مذهب الحنفية، ومن المسائل ما يوافق فيها مذهب الشافعية؛ يعني في أصول الفقه، وإن أكثر اتباعه في مسائل أصول الفقه لكلام أئمة الحنابلة رحمهم الله تعالى.

المزية الخامسة: كثرة إيراده للنظائر وهذا علم مهم أعني به علم النظائر في الفقه؛ لأن المسائل الفقهية إذا تواردت وصارت نظائرها كثيرة قويت المسألة وقوي تأصيلها، وشيخ الإسلام رحمه الله تعالى يورد النظائر ويكثر منها فيما أسميناه في المحاضرة السالفة بالاستطراد، فإنه إذا أصل مسألة يبدأ بذكر النظائر لهذه المسألة التي يريد منها أن يبين أن هذه المسألة موافقة لنظائر كثيرة جاء الشرع بالتوافق في الحكم فيها مع المسألة الأصلية التي عرض لها.

وهذا لاشك أنه من علوم المجتهدين؛ لكن ليس كل يدرك معنى هذه النظائر التي يوردها شيخ الإسلام ابن تيمية في كلامه.

المزية السادسة: من وزايا كلامه رحمه الله التعليل بمقاصد الشريعة، وهذا مما انفرد به شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتوى فإنه أكثر جدا من التعليل بمقاصد الشريعة، نعم كان العز بن عبد السلام الصوفي الأشعري كان كثير الإيراد لذلك؛ أعني لإيراد الفتاوى بناء على المقاصد، وله فيها مؤلفات من القواعد الكبرى والقواعد الصغرى وغير ذلك؛ لكن شيخ الإسلام رحمه الله تميَّز بعرض مقاصد الشريعة على أصول السلف، وهذه لم يسبق إليها على نحو ما أورد في فتاويه وفي بحوثه.

واعتنى في مقاصد الشريعة بتصنيف الفروع على المقاصد، مقاصد الشريعة لها أقسام منها مقاصد راجعة إلى المكلف، ومنها مقاصد راجعة إلى أحكام العبادات، منها مقاصد راجعة إلى أحكام المعاملات، ومنها مقاصد راجعة إلى الأحكام العامة السياسة والسياسة الشرعية وغير ذلك.

شيخ الإسلام صنف الفروع بناء على المقاصد، وهذه لاشك تحتاج إلى نظر من هضم أدلة الشرع والمسائل والتحقيق فيها حتى يستطيع أن يلحق كل مسألة بمقاصدها في الشرع.

وهذه ينبغي لطلاب العلم أن يهتموا بها؛ لأن المسائل الفقهية أعني حكم المسائل الفقهية هذا ينبني على مقاصد الشريعة، شيخ الإسلام كثيرا ما يذكر أن الشريعة جاءت بتحصيل المفاسد وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها، وهذا ينبني عليه كل الأحكام الفقهية، فإذا نظر في مسألة لم ينظر إليها من جهة الدليل فقط إذا تنازع المسألة عدة أدلة، وإنما ينظر إليها مع ذلك بهذه الأمور التي ذكرنا من أصول الفقه والنظائر والمقاصد والقواعد الفقهية وما سيأتي.

إذن فمقاصد الشريعة من العلوم المهمة ومن أخطاء الناظر في كلام شيخ الإسلام الفقهي أنه يهتم حين النظر للدليل من النص، وهذا لاشك أنه ضعف فقهي راجع إلى عدم معرفة العلم على حقه، وإنما الناظر في كلام شيخ الإسلام ينبغي له أن يدرك ما تنبني عليه الأحكام، والأحكام لا تنبني فقط على الدليل من الكتاب والسنة، وإنما تنبني على أشياء كثيرة معروفة عند المحققين من أهل العلم، فمن لم يهتمَّ بكل مسألة يوردها شيخ الإسلام ابن تيمية -أعني من هذه المسائل التي أوردها الثَّمان- فإنه ربما نظر إلى المسألة بغير النظر الذي تستحقه.

المزية السابعة****في كلامه: التعليل بالقواعد الفقهية، شيخ الإسلام رحمه الله كثير التعليل فيما يورده في المسائل الفقهية بالقواعد، وسواء كانت القواعد العامة المتفق عليها بين المذاهب أم القاعد الخاصة في المذهب الحنبلي، أو في غيره من المذاهب، فهو يكثر التعليل، والقواعد الفقهية بها يتم فهم المسائل الفقهية على نسق واحد؛ لأن القواعد تجمع المسائل بحيث لا يكون ثمة تناقض بين هذه المسألة وتلك المسألة.

ومن عجائب من يقرؤون كلام شيخ الإسلام الفقهي أن منهم من يرجح تارة كلام شيخ الإسلام في مسألة ويرجح كلام غيره في مسألة أخرى، وهذا عند الناظر في الفقه نظر مجتهد متعمق لا يُقبل البتة؛ لأنه يجد أن الترجيح كان بناء على نظر في المسألة بانفرادها، وهذا ليس نظر مجتهد وليس نظر عالم؛ بل العالم إذا نظر في مسألة بالنظر في الأدلة وباعتبار ما جاء فيها فإنه إذا نظر في مسألة أخرى لا يخلي نظره من كل المسائل تلحق بالقاعدة التي تندرج تحتها هذه المسألة التي يريد أن يجتهد فيها.

ولهذا شيخ الإسلام لا تجد في فتاويه ولا في اختياراته تناقض بين المسائل.

كذلك المذاهب تجد مثلا المذهب الحنبلي في اختياراته لا تجد يعني فيما عليه المتأخرون لا تجد تناقض كذلك المذهب الشافعي كذلك المذهب الحنفي؛ لأنهم يبنون علمهم على القواعد، تارة يكون في المسألة دليل ضعيف لكن يقوي هذا القول أنه مندرج تحت قاعدة لو قلنا بهذا الدليل فيها لانخرمت القاعدة في نظائر أخرى، وهذا يسبب التناقض، ومن المعلوم أن الشريعة لا تكون متناقضة في الأحكام المتماثلة كما قررها شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع عدة وابن القيم، فإنهم قرروا أن الشريعة لا تفرق بين متماثلين ولا تساوي بين مفترقين.

وهذا مما ينبغي أن يهتم به طالب العلم كثيرا في الاستفادة من كلام شيخ الإسلام رحمه الله في الفقه، فإن من طلبة العلم من ينظر في المسألة بمجردها، ينظر الأدلة ويقول هذا الدليل صحيح هذا الحديث إسناده صحيح ومعنى ذلك يأخذ بالحكم في المسألة، وإذا نظر في مسألة أخرى نظر إليها من جهة الأدلة فقط دون بقية ما يستدل به في المسألة.

وإذا تأملت كلامه وجدت أن أخذه بتلك المسألة بذلك القول يناقض أخذه في المسألة الأخرى بالقول الآخر؛ لأن هذا مبني على قاعدة وهذا مبني على قاعدة فيتصادم المأخذان، وهذا عيب لاشك عند للناظر في الفقه؛ لكن لأجل ضعف العلم بالفقه والضعف في علوم الشريعة جميعا في هذا الزمان لا يحس الناس -أعني الخاصة؛ طلبة العلم- لا يحسون بهذا التناقض وهذا من الضعف الذي ينبغي تداركه بالتأمل في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وكيف أنه في مسألة يختار قولا وفي مسألة أخرى يختار القول الموافق لذلك القول، وهذا له كلاه آخر يطول.

المزية الثامنة: من مزايا كلامه رحمه الله أنه يطبِّق في كلاه الفقهي ما يسمى عند المجتهدين بعلم الجمع والفرق؛ لأن المسائل مجتمعة ومتفرقة فالمسائل المجتمعة يلحق بالمسألة المنظور فيها الحكم الذي أُعْطِيَتْهُ المسألة الأخرى التي تقرر الحكم فيها الدليل، فإذا أتى المجتهد فينظر في المسألة بما يجمعها مع المسائل الأخرى التي اتضح دليليها أو التي اتفق العلماء عليها ونحو ذلك.

كذلك في الفرق وهو المسائل المشتبهة صورة ولكنها تختلف حكما هذا مما اعتنى به شيخ الإسلام، فلا تجد شيخ الإسلام رحمه الله يفرق بين المجتمعات ولا يجمع بين المفارقات في المسائل الفقهية.

هذه خصائص عامة لكلام شيخ الإسلام لابد من رعايتها والنظر فيها حتى تتنمَّى عند طالب العلم ملكة النظر في المسائل الفقهية، وحتى يتدرج في تربية نفسه علميا في إدراك لكلام أهل العلم الفقهي، والناس في هذا الزمن أعني في الفقه أخذوا فيه بثوب واسع ولكن التحقيق فيه على طريقة المتقدمين قليل قليل.

الفقرة الثانية من كلامنا:

****إذا قرأت كلام شيخ الإسلام رحمه الله في مسألة من المسائل:

فأولا ينبغي إذا أردت المسألة أن تقرأ لشيخ الإسلام فيها أن تراجع كتب المذهب الحنبلي حتى يتم تصور المسألة على الصواب، فأولا تراجع كتب المذهب تتصور المسألة تصورا فإذا تصورت المسألة ومأخذ المسألة وضابطها في الباب الذي ورد.

وبعد ذلك ترجع غلى كرم شيخ الإسلام وتقرأ فإذا قرأت كلام شيخ الإسلام بطوله، ميزت بحسب تطبيق الدرس السابق أو المحاضرة السابقة في كلامه في الاستطراد وفي التأصيل وفي التفريع إلى آخره، تذكر خلاصة لرأي شيخ الإسلام بعد قراءة المبحث كاملا، هذه الخلاصة التي تستنتجها؛ لأن من كلام شيخ الإسلام ما تجد أنك لا تخلص معه لرأي واضح؛ لكن إذا نظرت وتأملت ربما خلصت في مسائل كثيرة برأي.

إذا خلصت إلى هذا الرأي تراجع في المرحلة الثالثة كلام تلامذة شيخ الإسلام ابن تيمية وما ذكروه من اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وأعني بهم ابن القيم رحمه الله وابن مفلح رحمه الله، فإن ابن القيم كتبه مشهورة كزاد المعاد وإعلام الموقعين إلى آخرها، وأما ابن مفلح فإنه يذكر كثيرا في كتابه الفروع وفي كتابه الآداب الشرعية يذكر رأي شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: قال شيخنا، أو قاله شيخنا، وهذا يعني أن هذه المسألة التي أوردها صاحب الفروع أنها هي قول شيخ الإسلام ابن تيمية الذي خلص إليه وعرفه تلامذته عنه رحمهم الله تعالى، كذلك هناك كتب خاصة ذكرت اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية كالاختيارات وكمختصر الفتاوى وفي الإنصاف أيضا للمرداوي يذكر فيه كثير من المسائل اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

وفي لفظ الاختيار ما يشعر بـأنه يختار من أقوال غيره، وهذا يكفي في أنه لا يتفرد بقول من الأقوال فيما اختار، إذا قلنا اختار شيخ الإسلام يقتضي قول القائل اختار أن هناك أقوالا اختار منها، وهذا واقع وصحيح فإن هذه الاختيارات مبنية على معرفته وعلمه بأقوال من سبقه من أهل العلم في تلك المسائل، فإنه ليس لشيخ الإسلام مسألة خرق فيها الإجماع البتة؛ بل ما من مسألة إلا وقد سُبق إلى القول فيها إما سبقه الجمهور أو سبقه كثير أو سبقه قلة، المهم أنه لا يخترع المسائل اختراعا وإنما يتابع من قبله ولا يتدرج في مسألة بقول لم يسبق إليه.

لعد ذلك تأتي إلى مراجعة الكلام مرة أخرى حتى يتَّفق مع خلاصة الرأي الذي ذكره ابن القيم وابن مفلح وصاحب الاختيارات، يتفق لك كلام شيخ الإسلام، فتبدأ من البداية -هذه آخر مرحلة- وأنت تتصور الحكم الذي خلص إليه شيخ الإسلام ابن تيمية، بعد ذلك إذا بدأت تعرف كيف يذهب ويجيء ويتنوع في إيراد الأدلة وإيراد التعليلات والقواعد والمقاصد حتى يكون عند طالب العلم:

أولا: فهم لكلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

ثانيا: معرفة ودُربة لكيف تعالج المسائل الفقهية.

المسألة الأخيرة إذا اختلفت الفتاوى والنقول عن شيخ الإسلام، فمثلا تجد في الفتاوى مجموع الفتاوى التي جمعها الشيخ عبد الرحمن بن قاسم رحمه الله تعالى وأجزل له المثوبة، تجد أنه ربما وجدت فتويين متناقضتين، يعني إحداهما على قول وإحداهما على قول آخر، هذا إذا عرفت المتقدم من المتأخر فإن كلام شيخ الإسلام المعتمد هو المتأخر من الفتويين المتأخر زمانا لا موضعا في الفتاوى؛ المتأخر زمانا، وإذا لم تدرك وهو الأكثر فإنك ترجع إلى الكتب التي أسلفتُ لك فيما ذكره ابن القيم وابن مفلح وصاحب الاختيارات يكون هو قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.

وهذا خلاصة لهذا المبحث المهم وهو الذي عنون له بـ:

****كيف تقرأ كتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وأجزل له المثوبة.

ولاشك أن هذا يعطيك لفتة في أن العلم ينبغي أن يؤخذ بحقه، وأن يؤخذ بجد، ولا يؤخذ بالأماني، فإن العلم صارعه الشباب والصغار ولكن العلم في السابق لا يصارعه إلا الرجال الفحول، وهذا من نكد الزمان وأهله، وينبغي لطلبة العلم الحريصين أن يكونوا على بينة مما ذكرنا وأن يسعوا في أخذ العلم كما أخذه العلماء السالفون، فإنه بذلك تقوى الملكة وتبرأ ذمة المرء في النظر بنصوص الشريعة، فإن التجرؤ على النظر في نصوص الشريعة دون استعداد ودون أخذ للمسألة بحقها هذا لاشك أنه يجر المرء إلى الإثم لأنه يقول على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم ما لا يعلم؛ لأنه ليس عنده وسائل العلم.

أعدّ هذه المادة: سالم الجزائري
غفر الله له وأحسن لنا وله الختام