المصدر : موقع الشيخ محمد ابن عثيمين رحمه الله







17 ـ باب وجوب الانقياد لحكم الله تعالى

وما يقوله من دعي إلى ذلك وأمر بمعروف أو نهى عن منكر

قال تعالى : ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء:65) .

وقال الله تعالى : ( إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (النور:51) .

وفيه من الأحاديث حديث أبي هريرة المذكور في أول الباب قبله وغيره من الأحاديث فيه .

168 ـ عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه قال : لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ) (البقرة: من الآية284) ، أشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بركوا على الركب فقالوا : أي رسول الله ، كلفنا من الإعمال ما نطيق : الصلاة والجهاد والصيام والصدقة ، وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم : سمعنا وعصينا ؟ بل قولوا : سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ) قالوا :سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير . فلما اقترأها القوم ، وذلت بها ألسنتهم؛ أنزل الله تعالى في أثرها : ( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (البقرة:285) ، فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى ؛ فأنزل عز وجل : ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ) قال : نعم ( رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ) قال : نعم ( رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ) قال : نعم ( وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (البقرة:286) ، قال: نعم ) رواه مسلم(234) .
الشرح

قال المؤلف ـ رحمه الله ـ : ( باب وجوب الانقياد لحكم الله تعالى ... ) ثم ذكر آيتين سبق الكلام عليهما ، منهما قوله تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ) ( النساء : 65) .

ثم ذكر حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ لما نزل الله على نبيه هذه الآية ( وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ) (البقرة: 284) ، كبر ذلك عليهم وشق عليهم ذلك ؛ لأن ما في النفس من الحديث أمر لا ساحل له ، فالشيطان يأتي الإنسان ويحدثه في نفسه بأشياء منكرة عظيمة ، منها ما يتعلق بالنفس ، ومنها ما يتعلق بالمال ، أشياء كثيرة يلقيها الشيطان في قلب الإنسان , الله عز وجل يقول : (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ) (البقرة:284) فإذا كان كذلك ؛ هلك الناس .

فجاء الصحابة ، رضي الله عنهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فجثوا على ركبهم ، وقد فعلوا ذلك من شدة الأمر . فالإنسان إذا نزل به أمر شديد يجثو على ركبتيه ، وقالوا : يا رسول الله ؛ إن الله تعالى أمرنا بنا نطيق ؛ الصلاة ، والجهاد ، والصيام ، والصدقة ، فنصلي ، ونجاهد ، ونتصدق ، ونصوم . لكنه أنزل هذه الآية : (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ) (البقرة: 284) وهذه شديدة عليهم لا أحد يطيق أن يمنع نفسه عما تحدثه به من الأمور التي لو حوسب عليها لهلك .

فقال النبي عليه الصلاة والسلام : ( أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم : سمعنا وعصينا ) أهل الكتابين هم اليهود والنصارى . فاليهود كتابهم التوراة ، وهي أشرف الكتب المنزلة بعد القرآن . والنصارى كتابهم الإنجيل وهو متم للتوراة . واليهود والنصارى عصوا أنبياءهم وقالوا :سمعنا وعصينا ، فهل تريدون أن تكونوا مثلهم ؟ ( ولكن قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ) . هكذا يجب على المسلم إذا سمع أمر الله ورسوله أن يقول : ( سمعنا وأطعنا ) ويمتثل بقدر ما يستطيع ، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها ، وكثير من الناس اليوم يأتي إليك يقول : إن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بكذا ، هل هو واجب أو سنة ؟ والواجب أنه إذا أمرك فافعل ؛ إن كان واجباً فقد أبرأت الذمة ، وحصلت خيراً ، وإن كان مستحباً فقد حصلت خيراً أيضاً . أما أن تقول : أهو واجب أو مستحب ؟! وتتوقف عن العمل حتى تعرف ، فهذا لا يمون إلا من إنسان كسول لا يحب الخير ولا الزيادة فيه . أما الإنسان الذي يحب الزيادة في الخير ، فهو إذا علم أمر الله ورسوله قال : سمعنا وأطعنا ثم فعل ، ولا يسال أهو واجب أو مستحب ، إلا إذا خالف ، فحينئذ يسأل ، ويقول : أنا فعلت كذا وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكذا فهل على من إثم ؟ ولهذا لم نعهد ولم نعلم أن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ كانوا إذا أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر قالوا : يا رسول الله ؛ أعلى سبيل الوجوب أم على سبيل الاستحباب ؟ ما سمعنا بهذا ، كانوا يقولون : سمعنا وأطعنا ويمتثلون .

فأنت افعل وليس عليك من كونه مستحباً أو واجباً ، ولا يستطيع الإنسان أن يقول إن هذا الأمر مستحب أو واجب إلا بدليل ، والحجة أن يقول لك المفتي : هكذا أمر الرسول عليه الصلاة والسلام .


يتبع