أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


بسم الله وبعد:
فَهذا مبحث في استحباب صلاة التراويح بعشرين ركعة ، ومطلق العدد في صلاة التهجد والقيام، وقد قسمته إلى ثمانية مطالب:
المطلب الأول: مناقشة شبه الخصوم في تبديعهم لِمطلق القيام والزيادة على إحدى عشرة ركعة: وقد رددت عليهم بعدة أوجه، كلها عبارة عن مسائل.
المطلب الثاني: ذكر الأدلة العامة الدالة على مشروعية مطلق القيام بأي عدد مختار.
المطلب الثالث: ذكر الأدلة الخاصة الدالة على استحباب القيام بأي عدد مختار:
المطلب الرابع: ذكر ما جاءنا عن الصحابة من القيام بأي عدد مختار:
المطلب الخامس: ذكر استحباب صلاة التراويح بعشرين ركعة عن الصحابة: وفيه أربعة مسائل:
المسألة الأولى: ذكر العمومات في مطلق قيام رمضان وأن الأصل في التراويح التوقيف :
المسألة الثانية: ذكر أن الصواب في تراويح عمر: هو العشرون ركعة بإجماع الصحابة والسلف وتواتر الأدلة :
المسألة الثالثة: ذكر ما ورد عن أعيان من الصحابة بعد عمر، في صلاتهم بعشرين ركعة بحضرة جميع المسلمين:
المسألة الرابعة : ذكر ما ورد عن عامة الصحابة في صلاة التراويح بعشرين ركعة بحضرة جميع المسلمين :
المطلب السادس : ذكر استحباب صلاة التراويح بعشرين ركعة عن التابعين:
المطلب السابع : ذكر من صلاها بأكثر من العشرين من غير تبديع:
المطلب الثامن : ذكر البيان أن هذا من اختلاف التنوع, مع البيان أنه لم يقل أحد من السلف باستحباب أقل من عشرين ركعة، وفيه:
مسألة: بيان أنه لا يوجد من السلف من استحب التراويح بأقل من العشرين، من غير تبديع أثيم :
وأخيرا الخاتمة.
المطلب الأول: مناقشة شبه الخصوم في تبديعهم الزيادة على إحدى عشرة ركعة:
ذلك أنهم ذهبوا من غير سلف لهم إلى بدعية الزيادة مستدلين بحديث عائشة رضي الله عنها قالت:" ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة ", مع حديث مالك: " صلوا كما رأيتموني أصلي", وليس في هذا حجة لما قالوه أصلا لأمرين:
أحدها: أن حديث مالك إنما يفيد وجوب التقيد به عليه السلام في الهيئات الواجبة, إذ ليست جميع أفعاله عليه السلام في الصلاة واجبة بإجماع السلف, فمنها الواجب والمسنون والمستحب والجائز اتفاقا ، فمن الواجب مثلا تفسير المجملات، كبيان وقت الصلوات، وعدد الركعات، وهيأة الركوع والسجود ونحو ذلك، ومن المستحبات صفة وضع اليدين ورفعهما في التكبيرات ، ونحو ذلك مما هو معروف ، فبطل تعلقهم بهذا.
والأمر الثاني: أنّ حديث عائشة رضي الله عنها هو حجة عليهم لوجوه :
الوجه الأول: أن عائشة رضي الله عنها لم تُبَدّع الزيادة ولا نهت عنها أصلا كما يفعلون فخالفوها بذلك، لأنها قد حدثت بما رأت من فعله عليه السلام في صلاة الوتر لا قيام الليل ، وقد أطبق العلماء كافة على أن أفعاله عليه السلام للإستحباب لا لوجوب التقيد بها.
الوجه الثاني: أن راوي الحديث أعلم بما روى ، ولم تفهم منه عائشة ما فهموا ، بل قد حملت أمُّنا عائشة هذا الحديث على صلاة الوتر ، لا قيام الليل كما سيتبين في :
الوجه الثالث: أن عائشة وعلماء السلف والشافعية وغيرهم حملوا حديث عائشة على صلاة الوتر، وهي غير صلاة القيام , فكان عليه السلام لا يزيد في وتره على هذا العدد استحبابا, لأنه القائل: " فمن شاء فليوتر بخمس ومن شاء فليوتر بثلاث..", أو أكثر، وبذلك بوب النسائي وأبو بكر وعبد الرزاق وغيرهم, وخرج النسائي1727 عن أم سلمة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بثلاث عشرة ركعة فلما كبر وضعف أوتر بتسع", يؤيد التفريق بين الوتر وصلاة القيام ما خرجه مسلم في الصحيح (139) عن زرارة أن سعد بن هشام... وفيه: فقلت ـ لعائشة ـ أنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالت : ألست تقرأ يا أيها المزمل ؟ قلت: بلى, قالت: فإن الله عز وجل افترض قيام الليل في أول هذه السورة، فقام نبي الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولا وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهرا في السماء حتى أنزل الله في آخر هذه السورة التخفيف فصار قيام الليل تطوعا بعد فريضة, قال: قلت: يا أم المؤمنين أنبئيني عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: كنا نعد له سواكه وطهوره فيبعثه الله ما شاء أن يبعثه من الليل فيتسوك ويتوضأ ويصلي تسع ركعات لا يجلس فيها إلا في الثامنة فيذكر الله ويحمده ويدعوه ثم ينهض ولا يسلم ثم يقوم فيصلي التاسعة ثم يقعد فيذكر الله ويحمده ويدعوه ثم يسلم تسليما يسمعنا ثم يصلي ركعتين بعد ما يسلم وهو قاعد فتلك إحدى عشرة ركعة...", وهو نص صريح في التفريق بين قيام الليل وأنه غير مقيد بعدد, وبين الوتر الذي يُصَلَّى على الأكثر إحدى عشرة ركعة استحبابا, ولا يفسر مراد عائشة إلا بما فسرته هي في هذا الحديث :
يزيد ذلك بيانا ما خرجه مسلم 512 عن عائشة قالت:" كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي صلاته من الليل كلها وأنا معترضة بينه وبين القبلة، فإذا أراد أن يوتر أيقظني فأوترت"، وهو نص صريح في الإستمرارية والتفريق بين الوتر والقيام، وأن أم المؤمنين لم تر هنا عدد صلاة القيام لأنها كانت نائمة، وإنما أيقظها عليه السلام لصلاة الوتر التي رأت كيفيتها وعدد ركعاتها .
يؤكد ذلك ما خرجه ابن نصر كما في مختصر القيام عن عائشة رضي الله عنها عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه كان يوتر قبل أن ينام ، فإذا قام من الليل صلى مثنى مثنى حتى يفرغ مما يريد أن يصلي ".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال :" إِذا صليتُ العشاء صليتُ بعدها خمس ركعات، ثم أنام، فإن قمتُ صلَّيتُ مَثْنى مثنى ، وإن أصْبحتُ أصبحتُ على وتر",
وخرج أَحْمَدُ فِي "مُسْنَدِه(4/4) ثَنَا أَبُو سَلَمَة الْخُزَاعِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الْمَوَالِي ثنِي نَافِعُ بْنُ ثَابِتٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْر قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا صَلَّى الْعِشَاءَ رَكَعَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، وَأَوْتَرَ بِسَجْدَةٍ، ثُمَّ نَامَ، حتى يصلي بَعْدَهَا صَلَاتَهُ باللَّيْلِ"، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِه ثم قال: "وَهَذَا الْحَدِيثُ لاَ نَعْلَمُ أَحَدًا يَرْوِيهِ بِهَذَا اللَّفْظِ إِلاَّ ابْنُ الزُّبَيْرِ، وَلاَ نَعْلَمُ لَهُ طَرِيقًا عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَحْسَنَ مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ "، هذا وقد اختلفت الرواة في صفة وتره عليه السلام عن عائشة اختلافا كثيرا جدا كما سيأتي .
الوجه الرابع: أن الترمذي قد قال :" وأكثر ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الليل ثلاث عشرة ركعة مع الوتر، وأقل ما وصف من صلاته بالليل تسع ركعات", ألا فليمنعوا من الإنقاص عن تسع أو سبع ويقولوا أنها بدعة، كما فعلوا في الزيادة, فإنهما سواء ، وكذلك فليفعلوا فيما صححه الألباني من طريق عاصم عن علي رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالنهار ست عشرة ركعة ", ألا فليمنعوا من الزيادة عليها في النهار ويُبَدّعوها, وأخشى أن يفعلوا فكل تبديع عندهم ممكن ، فإن قالوا: قد جاءت أخبار قولية عامة تدل على جواز الإنقاص من ذلك , قلنا لهم أن هذه الأخبار نفسها لأدل على جواز الزيادة من دلالتها على جواز الإنقاص كما سيتبين :
الوجه الخامس: وحتى لو حُمل حديث عائشة على على صلاة القيام لما كان لهم فيه أدنى حجة, ذلك أن هذا الحديث مجرد فعل رأته أمنا رضي الله عنها, لا يصح أصوليا أن يطلق عنه أنه تقييد, وقد رآه غيرها يصلي أكثر من ذلك ثلاث عشرة ركعة ورآه بعضهم يصلي بتسع أو سبع .
الوجه السادس : أنه من المعلوم عند الأصوليين وعامة العلماء أن مجرد الفعل لا يدل على وجوب ولا تحريم، ولا تقييد به أصلا, لأن من صيغ التحريمِ : النهيُ الجازم, فأنى لهم النهي عن الزيادة من هذا الحديث, إذ النبي صلى الله عليه وسلم صلى أحد عشرة ركعة لكنه لم ينه أمته من الزيادة على ذلك أصلا, بل أرشدها إلى مطلق القيام ولم يضيق عليهم في هذا الباب أصلا،
الوجه السابع: أنه ثبت عنه عليه السلام:" أنه كان يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم فيه بعزيمة "، وأنه كان يختار الأمر اليسير القليل حتى لا يحرج أمته، لذلك أجمع العلماء على جواز القيام من غير عزيمة ولا تحديد لعدد, نقل ذلك كثير من أهل العلم, وقال الشافعي:" وليس في شئ من هذا ضيق، ولا حد ينتهى إليه لأنه نافلة"، وقال ابن تيمية كما في الفتاوى (2/114):" كما أن نفس قيام رمضان لم يوقت النبي صلى الله عليه وسلم فيه عددا معينا، بل كان هو صلى الله عليه وسلم لا يزيد في رمضان ولا غيره على ثلاث عشرة ركعة لكن كان يطيل الركعات فلما جمعهم عمر على أبي بن كعب كان يصلي بهم عشرين ركعة ثم يوتر بثلاث...",
الوجه الثامن: أنه من المعلوم أن رمضان له خصوصية زائدة على غيره في الإكثار من العبادات، ونوافل الصلوات، فقد ثبت عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل العشر يجتهد فيها مالا يجتهد في غيرها "، وفي الصحيح عنها:" كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله", وعن علي مثله, وفيهما دليل واضح على أنه كان يزيد في العشر الأواخر على عادته، يؤكد ذلك ما خرجه الترمذي (794) عن عيينة بن عبد الرحمن حدثني أبي قال: ذكرت ليلة القدر عند أبي بكرة فقال: ما أنا ملتمسها لشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في العشر الأواخر فإني سمعته يقول:" التمسوها في تسع يبقين أو في سبع يبقين أو في خمس يبقين أو في ثلاث أواخر ليلة", قال: وكان أبو بكرة رضي الله عنه يصلى في العشرين من رمضان كصلاته في سائر السنة فإذا دخل العشر اجتهد",
الوجه التاسع: دعواهم أن حديث عائشة مقيد لغيره ، وسيأتي إبطال هذه الدعوى الباردة، كما ستأتي أوجه أخرى في الرد عليهم.
العاشر: أن المقرر في الأصول أن القول مقدم على الفعل، لأن الفعل محتمل للخصوصية، ورؤية خلافه، أو جزء منه، وغير ذلك، بخلاف القول فإنه تشريع بَيِّن لعموم الأمة، ألا ترون أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حج قارنا وهذا من فعله , بينما حث أمته قوليا على التمتع وهو الأفضل, وكلك أوتر بإحدى عشرة ركعة وحث أمته على مطلق القيام، بل قد تواترت السنن القولية العامة والخاصة على أن صلاة القيام من النوافل المطلقة التي لا عد فيها ولا عزمة، كما في المطالب التالية :
المطلب الثاني: ذكر الأدلة العامة الدالة على مشروعية مطلق القيام بأي عدد مختار :