النتائج 1 إلى 7 من 7

الموضوع: حكم الدين في من تطاول على النبيين والمرسلين

  1. #1

    عضو مؤسس

    الصورة الرمزية عطر طيبه
    تاريخ التسجيل
    Aug 2006
    الدولة
    المدينة المنورة
    المشاركات
    8,667

    حكم الدين في من تطاول على النبيين والمرسلين

    المؤلف :د. صلاح الصاوي

    بسم الله الرحمن الرحيم
    حكم الدين في من تطاول على النبيين والمرسلين

    مقدمة
    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد:
    فما أكثر هذه السهام التي تُصوَّب إلى كبد الإسلام في هذه الأيام! لقد سقطت دولته، وتشرذمت أمته، واستعلن بعداوته من كان مستخفيًا، وسلقه بألسنة حداد من كان متملقًا، وتداعى خصومه عليه من كل حدب، وتقاسموا بأوثانهم ليبيتنه وأهله، وسخرت في هذه المواجهة أجهزة جبارة، وأُنفِقت في سبيلها أموال طائلة، مستبيحين في ذلك كل ما تفتقت عنه قريحة الشيطان من بغي وعربدة!
    لقد أعلنت قوى الكفر العالمية حربها على الإسلام، وقدمته لشعوبها على أنه الخطر المقبل الذي يهلك الحرث والنسل، ويدمر كل منجزات الحضارة، ويغرق البشرية في طوفان من الدماء!
    فانبرى صنائعهم في بلادنا يتجاوبون مع هذه النغمة الموتورة الحانقة، متجردين من كل حريجة دينية أو خلقية، فجاءوا من القوارع والداوهي في حربهم لدينهم وأمتهم بما لم تبلغه أحلام أوليائهم في ديار الكفر، فالله المستعان!
    لقد رأينا من هؤلاء مَنْ يشن الغارة على تاريخ المسلمين وسيرة سادات أولياء الله من الصحابة والتابعين، ويتلقطون شواذ الأخبار ومنكر الآثار ليملؤوا بها الدنيا ضجيجًا وجلبة، وليقدموا من خلالها تاريخ الإسلام باعتباره صحيفة سوابق تشهد عليه وعلى أتباعه بالإدانة وسوء السمعة!
    لقد رأينا من هؤلاء من ينزع القداسة عن القرآن كل القرآن والسنة كل السنة بجملة من الغالطات والمهاترات هي إلى هذيان السكارى أقرب منها إلى منطق العقلاء!
    لقد رأينا من هؤلاء من يستعلن برفض شرائع الإسلام جملة وعلى الغيب ويشنون الغارة على صلاحيتها للتطبيق في صلافة لم يبلغ معشارها المحاربون من أبناء الملل الأخرى.
    وأخيرًا رأينا مِن هؤلاء مَن يهتك حرمة رسل الله، ويطلق لسانه فيهم بالسب والإزراء، ناقلين في ذلك أحاديث الإفك التي يروج لها الموتورون من المستشرقين، ضاربين عرض الحائط ببدهيات الكتاب والسنة وما استقر تقديسه في ضمير الأمة! وكأنما يعضون بالنواجذ على مكان لهم في غمرات جهنم، لا يقبلون أن ينازعهم فيه أحد، أو أن ينتزعه منهم أحد****!
    ونظرًا لشيوع هذا الأمر الأخير، ومظاهرة قوى الكفر لكل من تولى كبره من المسلمين تحت دعاوى حرية الرأي والتعبير والمعتقد، فقد مست الحاجة إلى بيان حكم الدين في تطاول على النبيين والمرسلين، إقامةً للحجة وإبراءً للذمة، وزودًا عن حياض الدين، وانتصارًا لحرمة الأنبياء والمرسلين، وقطعًا لدابر الزنادقة والمنافقين، والله من وراء القصد.
    تكييف واحد وعقوبة واحدة:
    ليس لجريمة سبِّ الرسول إلا تكييف واحد؛ وهو الردة عن الإسلام، وليس لها في أحكام الدنيا إلا عقوبة واحدة؛ وهي القتل، فإن كفر الشاتم لرسول الله × واعتبار ذلك من الردة المغلظة، والكفر المزيد الذي يتحتم معه وجوب قتل الشاتم مما استفاضت به الأدلة من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، وانعقد عليه إجماع المسلمين في مختلف الأعصار والأمصار، وقبل أن نشرع في ذكر الأدلة على ذلك، نوطئ لذلك بمقدمة تتضمن التعريف بالسب، والفرق بينه وبين مجرد الردة، ثم نردف ذلك بطائفة من مقالات أهل العلم الناطقة بهذه الحقيقة.

    حقيقة السب والفرق بينه وبين الردة المحضة:

    لا يخفى أن هذا الحكم؛ وهو كفر ساب الرسول × ووجوب قتله، قد نيط في الكتاب والسنة باسم أذى الله ورسوله، كما نيط في بعض الأحاديث والمأثورات باسم الشتم والسب.
    والاسم إذا لم يكن له حد في اللغة؛ كاسم الأرض والسماء والبحر والشمس والقمر، ولا في الشرع؛ كاسم الصلاة والزكاة والحج والإيمان والكفر، فإنه يرجع في حده إلى العرف؛ كالقبض والحرز والبيع والرهن ونحوها، فيجب أن يرجع في الأذى والسب والشتم إلى العرف.
    فما عدَّه أهلُ العرف سبًّا وانتقاصًا أو عيبًا أو طعنًا ونحو ذلك فهو من السب، وما لم يكن كذلك فهو كفر به، فيكون كفرًا ليس بسب، حُكم صاحبه حكم المرتد إن كان مظهرًا له، وإلا فهو زندقة.
    والمعتبر أن يكون سبًّا وأذى للنبي- عليه الصلاة والسلام- وإن لم يكن سبًّا وأذًى لغيره، وعلى هذا فيتحرر القول بأن كل ما لو قيل لغير النبي- عليه الصلاة والسلام- أَوْجَبَ تعزيزًا أو حدًّا بوجه من الوجوه، فإنه من باب سب النبي × كالقذف واللعن وغيرهما مما اتفق في العرف على اعتباره من قبيل الإزراء والسب.
    وأما ما يختص بالقَدْح في النبوة فإن لم يتضمن إلا مجرد عدم التصديق بنبوته فهو كفر محض، وإن كان فيه استخفاف واستهانة مع عدم التصديق فهو من السب.
    ثم ما ثبت أنه ليس بسب فإن استمر به صاحبه فهو زنديق، حكمه حكم الزنديق، وإلا فهو مرتد محض، واستقصاء الأنواع والفرق بينهما ليس هذا موضعه.
    السبُّ كفر، سواءً كان السابُّ يقصد السبَّ والطعن، أو كان يهزل ويمزح:
    ولا فرق في هذا التكييف بين أن يقصد شتم النبي × أو لا يقصد شتمه، ولكن المقصود شيء آخر حَصلَ الشتم تبعًا له، أو لا يقصد شيئًا من ذلك؛ بل يهزل ويمزح أو يفعل غير ذلك.
    فهذا كله يشترك في هذا الحكم إذا كان القول نفسُه سبًّا، فإن الرجل يتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يهوي بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب، ومن قال ما هو سب وتنقص له، فقد آذى الله ورسوله، وهو مأخوذ بما يؤذي به الناس من القول الذي هو في نفسه أذى، وإن لم يقصد أذاهم، ألم تسمع إلى الذين قالوا: إنما كنا نخوض ونلعب، فقال الله تعالى: +أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ* لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ" [التوبة: 65، 66]، وهذا مثل من يغضب فيذكر له حديث عن النبي- عليه الصلاة والسلام- أو حكم من حكمه أو يُدْعى إلى سنته، فيلعن ويقبح ونحو ذلك، وقد قال تعالى: +فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا" [النساء: 65]، فأقسم سبحانه بنفسه أنهم لا يؤمنون حتى يحكموه، ثم لا يجدوا في نفوسهم حرجًا من حكمه، فمن شاجر غيره في حكم فوجد حرجًا في صدره لذكر رسول الله × حتى أفحش في منطقه فهو كافر بنص التنزيل، ولا يعذر بأن مقصوده ردُّ الخصم، فإن الرجل لا يؤمن حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وحتى يكون الرسولُ أحبَّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين.

    من مقالات أهل العلم في كفر الساب وتحتم قتله:

    * قال الإمام أحمد في رواية عبد الله وأبي طالب: من شتم النبي- عليه الصلاة والسلام- قتل؛ وذلك أنه إذا شتم فقد ارتد عن الإسلام، ولا يشتم مسلم النبي- عليه الصلاة والسلام.
    * وقال القاضي عياض: جميعُ من سب النبي × أو عابه أو ألحق به نقصًا في نفسه أو نسبه أو دينه أو خَصْلَة من خصاله أو عرَّض به أو شبهه بشيء على طريق السب له والإزراء عليه أو البغض منه والعيب له فهو سابٌّ له، والحكم فيه حكم الساب: يقتل، ولا تستثن فصلاً من فصول هذا الباب عن هذا المقصد، ولا تمتر فيه، تصريحًا كان أو تلويحًا، وكذلك من لعنه، أو تمنى مضرة له، أو دعا عليه، أو نسب إليه ما لا يليق بمنصبه على طريق الذم، أو عيبه في جهته العزيزة بسُخْفٍ من الكلام وهُجْر ومنكر من القول وزور، أو عيَّره بشيء مما يجري من البلاء والمحنة عليه، أو غمضه ببعض العوارض البشرية الجائزة والمعهود لديه، قال: وهذا كله إجماع من العلماء وأئمة الفتوى من لدن أصحابه، وهلم جرًّا.
    * وقال ابن القاسم عن مالك: مَنْ سب النبي × قتل، ولم يستتب، قال ابن القاسم: أو شتمه، أو عابه، أو تنقصه، فإنه يقتل كالزنديق، وقد فرض الله توقيره.
    وكذلك قال مالك في رواية المدنيين عنه: من سب رسول الله × أو شتمه أو عابه أو تنقصه قتل، مسلمًا كان أو كافرًا، ولا يستتاب.
    * وروى ابن وهب عن مالك: من قال: إن رداء النبي × وروى بُرْدَه (وسخ) وأراد به عَيْبه قُتل.
    * وروى بعضُ المالكية إجماع العلماء على أن مَنْ دعا على نبي من الأنبياء بالويل أو بشيء من المكروه أنه يقتل بلا استتابة.
    * وقال القاضي عياض: أجمعت الأمة على قتل متنقصه من المسلمين وسابه، وكذلك حكى غير واحد الإجماع على قتله وتكفيره.
    * وذكر القاضي عياض أجْوبَةَ جَماعَةٍ من فقهاء المالكية المشاهير بالقتل بلا استتابة في قضايا

    متعددة أفْتى في كل قضية بعضهم:

    - منها: رجل سمع قومًا يتذاكرون صفة النبي × إذ مَرَّ بهم رجل قبيح الوجه واللحية، فقال: تريدون تعرفون صفته؟ هذا المار في خلقه ولحيته!
    - ومنها: رجل قال النبي أسود!
    - ومنها: رجل قيل له: لا، وحق رسول الله، فقال: فعل الله برسول الله كذا وكذا! ثم قيل له: ما تقول يا عدو الله؟ فقال أشد من كلامه الأول، ثم قال: إنما أردت برسول الله العقرب! قالوا: لأن ادَّعاء التأويل في لفظ صراح لا يقبل؛ لأنه امتهان، وهو غير مُعزِّر لرسول الله × ولا مُوَقِّر له، فوجبت إباحة دمه.
    - ومنها: مُتَفَقَه كان يستخف بالنبي × ويسميه في أثناء مناظرته: اليتيم وختن حيدرة، ويزعم أن زهده لم يكن قصدًا، ولو قَدَرَ على الطيبات لأكلها، وأشباه هذا.
    قال: فهذا الباب كله مما عَدَّه العلماء سبًّا وتنقصًا، يجب قتل قائله، ولم يختلف في ذلك متقدمهم ومتأخرهم، وإن اختلفوا في سبب حكم قتله.
    * وكذلك قال أبو حنيفة وأصحابه فيمن تنقصه أو برئ منه، أو كذبه: إنه مرتد.
    * وكذلك قال أصحاب الشافعي: كل من تعرَّض لرسول الله × بما فيه استهانة فهو كالسب الصريح، فإن الاستهانة بالنبي × كفر.
    - قال الإمام إسحاق بن راهويه أحد الأئمة الأعلام: أجمع المسلمون على أن من سبَّ الله، أو سب النبي ×، أو دفع شيئًا مما أنزل الله- عز وجل- أو قتل نبيًّا من الأنبياء: أنه كافر بذلك، وإن كان مقرًّا بكل ما أنزل الله.
    - قال الخطابي: لا أعلم أحدًا من المسلمين اختلف في وجوب قتله.
    - وقال محمد بن سحنون: أجمع العلماء على أن شاتم النبي × والمتنقص له كافر، والوعيد جاء عليه بعذاب الله له، وحكمه عند الأمة القتل، ومن شك في كفره وعذابه كفر.
    فقد اتفقت نصوص العلماء من جميع الطوائف على أن التنقص له كفر مبيح للدم، وإن كانوا في استتابته على خلاف.

    الأدلة على كفر الساب وتحتم قتله

    أولاً: الأدلة من القرآن الكريم:

    الدليل الأول: إن إيذاء رسول الله × محادة لله ورسوله، والمحادة كفر وموجبة للقتل:
    قال تعالى: +وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ*يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُوا مُؤْمِنِينَ* أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ"[التوبة: 61- 63].
    * أما أن الإيذاء محادة لله ورسوله فيدل عليه:
    - أنه لو لم يكن المؤذون لرسول الله × من المحادين لم يحسن أن يوعدوا بأن للمحاد نار جهنم؛ لأنه يمكن حينئذ أن يقال: قد علموا أن للمحاد نار جهنم، لكنهم لم يحادوا، وإنما آذوا، فلا يكون في الآية وعيد لهم، فعلم أن هذا الفعل لابد أن يندرج في عموم المحادة ليكون وعيد المحاد وعيدًا له ويلتئم الكلام.
    - وما رواه الحاكم في صحيحه بإسناد صحيح عن ابن عباس أن رسول الله × «كان في ظل حجرة من حجره، وعنده نفر من المسلمين، فقال: «إنه سيأتيكم إنسان ينظر بعين شيطان، فإذا أتاكم فلا تكلموه، فجاء رجل أزرق. فدعاه رسول الله × فقال: علام تشتمني أنت وفلان وفلان، فانطلق الرجل فدعاهم فحلفوا بالله واعتذروا له»، فأنزل الله تعالى: +يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهِ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ" [المجادلة: 18]، ثم قال بعد ذلك: +إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ" [المجادلة: 20]، فعلم أن هذا داخل في المحادة».
    - وأما أن المحادة توجب الكفر والقتل فيدل عليه:
    قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الأذَلِّينَ" [المجادلة: 20]، والأذل أبلغ من الذليل، ولا يكون أذل حتى يخاف على نفسه وماله إن أظهر المحادة؛ لأنه إن كان دمه وماله معصومًا لا يستباح فليس بأذل، فإن الأذل هو الذي ليس له قوة يمتنع بها ممن أراده بسوء، فإذا كان له من المسلمين عهد يجب عليهم به نصره ومنعه فليس بأذل، فثبت أن المحاد لله ورسوله ليس له عهد يعصمه، والمؤذي للنبي × محاد، فالمؤذي للنبي × ليس له عهد يعصم دمه.
    وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ" [المجادلة: 5]، والكبت هو الإذلال والخزي والإهلاك، فالمحاد مكبوت مخزي ممتلء غيظًا وحزنًا هالك، وهذا يتم إذا خاف إن أظهر المحادة أن يقتل، وإلا فمن أمكنه إظهار المحادة وهو آمن على دمه وماله فليس بمكبوت بل مسرور جذلان؛ لأنه قال: +كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ" [المجادلة: 5]، والذين من قبلهم ممن حاد الرسل وحاد رسول الله إنما كبته الله بأن أهلكه بعذاب من عنده أو بأيدي المؤمنين.
    فالمحادون مكبوتون بموتهم بغيظهم لخوفهم أنهم إن أظهروا ما في قلوبهم قُتِلوا، فيجب أن يكون كل محاد كذلك، والمؤمن لا يكبت كما كبت مكذبو الرسل قط.
    - أنه أخبر أن للمحاد نار جهنم خالدًا فيها، ولم يقل "هي جزاؤه"، وبين الكلامين فرق، بل المحادة هي المعاداة والمشاقة، وذلك كفر ومحاربة، فهو أغلظ من مجرد الكفر، فيكون المؤذي لله ورسوله كافرًا، عدوًّا لله ورسوله، ومحاربًا لله ورسوله؛ لأن المحاداة اشتقاقها من المباينة بأن يصير كل منها في حد كما قيل المشاقة أن يصير كل منها في شق، فهما جميعًا بمعنى المقاطعة والمفاصلة، وذلك يقتضي انقطاع الحبل الذي بين أهل العهد إذا حاد بعضهم بعضًا، فلا حبل لمحاد الله ورسوله.
    وقد جعل القرآن جزاء المشاقة القتل والتعذيب في الدنيا، قال تعالى: +فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ*َ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ" [الأنفال: 12، 13] فأمر بقتلهم لأجل مشاقتهم ومحادتهم، فكل من حاد وشاق يجب أن يفعل به ذلك لوجود العلة.
    وفي الحديث أن رجلاً كان يسب النبي × فقال: «من يكفيني عدوي»، وهذا ظاهر، وحينئذ فيكون كافرًا حلال الدم لقوله تعالى: +إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الأذَلِّينَ".
    الدليل الثاني: نفى الإيمان عمن يواد من حاد الله ورسوله فكيف بالمحاد نفسه؟
    قال تعالى: +لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ..." الآية [المجادلة: 22].
    وجه الدلالة: أنه إذا كان من يواد المحاد ليس بمؤمن فكيف بالمحاد نفسه؟ وقد قيل إن من سبب نزولها أن أبا قحافة شتم النبي × فأراد الصديق قتله، أو أن عبد الله بن أُبَيّ تنقص النبي × فاستأذن ابنه عبدُ الله النبيَّ × في قتله لذلك، فثبت أن المحاد كافر حلال الدم.
    وأيضًا فقد قطع الله الموالاة بين المؤمنين وبين المحادين لله ورسوله والمعادين لله ورسوله فقال تعالى: +لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ..." الآية [المجادلة: 22]، وقال تعالى: +يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ..." الآية [الممتحنة: 1]، فعلم أنهم ليسوا من المؤمنين.
    الدليل الثالث: ما نصت عليه الآيات من أن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر.
    قال تعالى: +يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ* وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ* لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ" [التوبة: 64- 66].
    وجه الدلالة: أن هذا نص في أن الاستهزاء بالله وآياته وبرسوله كفر، فالسب المقصود بطريق الأولى، وقد دلت هذه الآية أن كل من تنقَّص رسول الله جادًّا أو هازلاً فقد كفر.
    وقد روى عن رجال من أهل العلم منهم- ابن عمر ومحمد بن كعب وزيد بن أسلم وقتادة- دخل حديث بعضهم في بعض، أنه قال رجل من المنافقين في غزوة تبوك: ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونًا، ولا أكذب ألسنًا، ولا أجبن عند اللقاء. يعني رسول الله وأصحابه القراء، فقال له عوف بن مالك: كذبت ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله فذهب عوف إلى رسول الله وقد ارتحل وركب ناقته فقال: يا رسول الله إنما كنا نلعب ونتحدث حديث الركب نقطع به عناء الطريق. قال ابن عمر: كأني أنظر إليه متعلقًا بنسعة ناقة رسول الله وإن الحجارة لتنكب رجليه وهو يقول: إنما كنا نخوض ونلعب، فيقول له رسول الله : أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ" ما يلتفت إليه ولا يزيده عليه.
    وقال مجاهد: قال رجل من المنافقين: يحدثنا محمد أن ناقة فلان بوادي كذا وكذا وما يدريه بالغيب؟ فأنزل الله- عز وجل- هذه الآية.
    وقال معمر بن قتادة: بينما النبي في غزوة تبوك وركب من المنافقين يسيرون بين يديه فقالوا: أيظن هذا أن يفتح قصور الروم وحصونها؟! فأطلع الله نبيه × على ما قالوا، فقال: «عليَّ بهؤلاء النفر»، فدعا بهم فقال: أقلتم كذا وكذا؟ فحلفوا ما كنا إلا نخوض ونلعب.
    وقال معمر: قال الكلبي: كان رجل منهم لم يماثلهم في الحديث يسير عائبًا لهم فنزلت: إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً" [التوبة: 66]، فسُمِّي طائفة وهو واحد.
    فهؤلاء لما تنقصوا النبي × حيث عابوه والعلماء من أصحابه، واستهانوا بخبره أخبر الله بأنهم كفروا بذلك، وإن قالوه استهزاء، فكيف بما هو أغلظ من ذلك؟ وإنما لم يقم الحد عليهم؛ لكون جهاد المنافقين لم يكن قد أمر به إذ ذاك، بل كان مأمورًا بأن يدع أذاهم؛ ولأنه كان له أن يعفو عمن تنقصه وآذاه.
    الدليل الرابع: ما دل عليه القرآن من أن من عابه فهو منافق:
    قال تعالى: +وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ" [التوبة: 158]. وقال تعالى: +وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ"... الآية [التوبة: 61].
    واللمز: العيب والطعن. قال مجاهد: يتهمك ويزريك، وقال عطاء: يغتابك.
    وجه الدلالة: وذلك يدل على أن كل من لمزه أو آذاه كان منهم؛ لأن (الذين) و(من) اسمان موصولان وهما من صيغ العموم، والآية وإن كانت نزلت بسبب لمز قوم وإيذاء آخرين، فحكمهما عام كسائر الآيات اللواتي نزلن على أسباب، وليس بين الناس خلاف نعلمه أنها تعم الشخص الذي نزلت بسببه، ومن كان حاله كحاله.
    وأيضًا فإن كونه منهم حكم متعلق بلفظ مشتق من اللمز والأذى وهو مناسب لكونه منهم، فيكون ما منه الاشتقاق هو علة لذلك الحكم، فيجب اطراده.
    وأيضًا فإن الله- سبحانه- وإن كان قد علم منهم النفاق قبل هذا القول، لكن لم يعلم نبيه بكل من لم يظهر نفاقه، بل قال +وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ" [التوبة: 101]، ثم إنه سبحان وتعالى ابتلى الناس بأمور تميز بين المؤمنين والمنافقين كما قال سبحانه: +وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ" [العنكبوت: 11].
    وقال تعالي: +مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطّيِّبِ" [آل عمران: 179]، وذلك لأن الإيمان والنفاق أصله في القلب، وإنما الذي يظهر من القول والفعل فرع له ودليل عليه.
    فإذا ظهر من الرجل شيء من ذلك ترتب الحكم عليه، فلما أخبر سبحانه أن الذين يلمزون النبي × والذين يؤذونه من المنافقين، ثبت أن ذلك دليل على النفاق وفرع له، ومعلوم أنه إذا حصل فرع الشيء ودليله حصل أصله المدلول عليه، فثبت أنه حينما وجد ذلك كان صاحبه منافقًا؛ سواء كان منافقًا قبل هذا القول، أو حدث له النفاق بهذا القول.
    وقد نطق القرآن بكفر المنافقين في غير موضع، وجعلهم أسوأ حالاً من الكافرين، وأنهم في الدرك الأسفل من النار، وأنهم يوم القيامة يقولون للذين آمنوا: +انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ" [الآية] إلى قوله تعالى: +فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا"، وأمر نبيه في آخر الأمر بأن لا يصلي على أحد منهم، وأخذ أنه لن يغفر لهم، وأمره بجهادهم، وأخبر أنهم إن لم ينتهوا ليغرين الله نبيه بهم حتى يقتلوا في كل موضع.
    الدليل الخامس: ما دلت عليه الآيات من أن الإعراض عن حكم الرسول وإرادة التحاكم إلى غيره كفر ونفاق فكيف بسبه وتنقصه؟!
    الدليل: قال تعالى: +فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا" [النساء: 65].
    وجه الدلالة: أنه أقسم سبحانه بنفسه المقدسة أنهم لا يؤمنون حتى يُحَكِّمُوه في الخصومات التي بينهم، ثم لا يجدون في أنفسهم ضيقًا من حكمه، بل يسلموا لحكمه ظاهرًا وباطنًا. وقال قبل ذلك: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا* وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا" [النساء: 60- 61]. فبين سبحانه أن من دعي إلى التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله فصد عن رسول رسوله كان منافقًا، فكيف بالنقص والسب ونحوه؟
    وقال سبحانه: وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ* وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ* وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ* أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ* إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا" [النور: 47- 51].
    وجه الدلالة: بَيَّن سبحانه أن من تولى عن طاعة الرسول وأعرض عن حكمه فهو من المنافقين، وليس بمؤمن، وأن المؤمن هو الذي يقول: «سمعنا وأطعنا»، فإذا كان النفاق يثبت ويزول الإيمان بمجرد الإعراض عن حكم الرسول وإرادة التحاكم إلى غيره، مع أن هذا ترك محض وقد يكون سببه قوة الشهوة. فكيف بالنقص والسب ونحوه؟
    ويؤيد ذلك ما روي من أن رجلين اختصما إلى النبي فقضى للمُحِق على المبطل، فقال المقضي عليه: لا أرضى، فقال صاحبه: فماذا تريد؟! قال: أن نذهب إلى أبي بكر الصديق، فذهبا إليه، فقال الذي قضي له: قد اختصمنا إلى النبي فقضى لي عليه، فقال أبو بكر: فأنتما على ما قضى به النبي فأبى صاحبه أن يرضى، وقال: نأتي عمر بن الخطاب، فقال المقضي له: قد اختصمنا إلى النبي فقضى لي عليه، فأبى أن يرضى، ثم أتينا أبا بكر الصديق فقال: أنتما على ما قضى به النبي فأبى أن يرضى فسأله عمر فقال كذلك، فدخل عمر منزله فخرج والسيف في يده قد سله، فضرب به رأس الذي أبى أن يرضى، فقتله، فأنزل الله تبارك وتعالى: فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ" [النساء: 65] وهذا المرسل له شاهد من وجه آخر يصلح للاعتبار.
    الدليل السادس: ما دلت عليه الآيات من أن من آذى الرسول × فقد آذى الله تعالى وهو كفر بلا نزاع:
    قال تعالى: +إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا* وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا" [الأحزاب: 57، 58].

    ودلالتها من وجوه:

    * الوجه الأول: أنه قرن أذاه بأذاه، كما قرن طاعته بطاعته، فمن آذاه فقد آذى الله تعالى: وقد جاء ذلك منصوصًا عليه، ومن آذى الله فهو كافر حلال الدم.
    يبين ذلك أن الله تعالى جعل محبة الله ورسوله وإرضاء الله ورسوله وطاعة الله ورسوله شيئًا واحدًا، فقد قال تعالى: +قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ" [التوبة: 24]، وقال تعالى: أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ" [آل عمران: 132] في مواضع متعددة، وقال تعالى: وَاللهَ وَرَسُولُهُ أَحقُّ أَنْ يُرْضوه" [التوبة: 62] فوحَّد الضمير.
    وجعل شقاق الله ورسوله، ومحادة الله ورسوله وأذى الله ورسوله ومعصية الله ورسوله شيئًا واحد، فقال: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ" [الأنفال: 13] وقال: +إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ" [المجادلة: 20]، وقال: +وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ" الآية [النساء: 14].
    وفي هذا وغيره بيان لتلازم الحقين، وأن جهة حرمة الله ورسوله جهة واحدة، فمن آذى الرسول فقد آذى الله، ومن أطاعه فقد أطاع الله؛ لأن الأمة لا يصلون ما بينهم وبين ربهم إلا بواسطة الرسول، وليس لأحد منهم طريق غيره ولا سبب سواه، وقد أقامه الله تعالى مقام نفسه في أمره ونهيه وإخباره وبيانه، فلا يجوز أن يُفَرَّق بين الله ورسوله في شيء من هذه الأمور.
    * الوجه الثاني: أنه فرق بين من آذى الله والرسول وبين من آذى المؤمنين والمؤمنات، فجعل على هذا أنه قد احتمل بهتانًا وإثمًا مبينًا، وجعل على ذلك اللعنة في الدنيا والآخرة، وأعد له العذاب المهين، ومعلوم أن أذى المؤمنين قد يكون من كبائر الإثم، وفيه الجلد، وليس فوق ذلك إلا الكفر والقتل.
    * الوجه الثالث: أنه ذكر أنه لعنهم في الدنيا والآخرة، وأعد لهم عذابًا مهينًا، واللعن: الإبعاد عن الرحمة، ومن طرده عن رحمته في الدنيا والآخرة لا يكون إلا كافرًا، فإن المؤمن يقرب إليها بعض الأوقات, ولا يكون مباح الدم؛ لأن حقن الدم رحمة عظيمة من الله فلا يثبت في حقه.
    ويؤيد ذلك قوله تعالى: +لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً* مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً" [الأحزاب: 60، 61] فإن أخذهم وتقتيلهم- والله أعلم- بيان صفة لعنهم، وذكر لحكمه فلا موضع له من الإعراب، وليس بحال ثانية؛ لأنهم إذا جاوروه ملعونين ولم يظهر أثر لعنهم في الدنيا لم يكن في ذلك وعيد لهم، بل تلك اللعنة ثابتة قبل هذا الوعيد وبعده، فلا بد أن يكون هذا الأخذ والتقتيل من آثار اللعنة التي وُعِدوها، فيثبت في حق من لعنه الله في الدنيا والآخرة، ويؤيد ذلك قوله تعالى: +أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاَءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً* أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَن يَلْعَنِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا"، ولو كان معصوم الدم لوجب على المسلمين نصره ولكان له نصير.
    يوضح ذلك أنه قد نزل في شأن ابن الأشرف، وكان من لعنته أن قُتِل؛ لأنه كان يؤذى الله ورسوله.
    شبهة ورود لعن من لا يجوز تكفيره ولا قتله:
    واعلم أنه لا يرد على هذا أنه قد لعن من لا يجوز قتله، وذلك لوجوه:
    أحدهما: أن هذا قيل فيه: +لعنه الله في الدنيا والآخرة"، فبين أنه سبحانه أقصاه عن رحمته في الدارين، وسائر الملعونين إنما قيل فيهم: لَّعْنَةُ اللهِ"، أو عليه لعنة الله"، وذلك يحصل بإقصائه عن الرحمة في وقت من الأوقات، وفرق بين من لعنه الله أو عليه لعنة مؤبدة عامة، ومن لعنه لعنًا مطلقًا.
    الثاني: أن سائر الذين لعنهم الله في كتابه- مثل الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب، ومثل الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجًا، ومثل من يقتل مؤمنًا متعمدًا- إما كافرًا أو مباح الدم، بخلاف بعض من لعن في السنة.
    الثالث: أن هذه الصيغة خبر عن لعنة الله له؛ ولهذا عطف عليه: +وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا"، وعامة الملعونين الذين لا يقتلون أو لا يكفرون إنما لُعنوا بصيغة الدعاء مثل قوله- صلى الله عليه وسلم: «لعن الله من غير منار الأرض، ولعن الله السارق، ولعن الله آكل الربا ومؤكله»، ونحو ذلك.
    لكن الذي يرد على هذا قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ" [النور: 23] فإن في هذه الآية ذكر لعنتهم في الدنيا والآخرة مع أن مجرد القذف ليس بكفر ولا يبيح الدم.
    والجواب عن هذه الآية من طريقين: مجمل ومفصل:
    أما المجمل: فهو أن قذف المؤمن المجرد هو نوع من أذاه، وإذا كان كذبًا فهو بهتان عظيم.
    كما قال سبحانه: +وَلَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ" [النور: 16]، والقرآن قد نص على الفرق بين أذى الله ورسوله وبين أذى المؤمنين، فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا* وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا" [الأحزاب: 57، 58]، فلا يجوز أن يكون مجرد أذى المؤمنين بغير حق موجبًا للعنة الله في الدنيا والآخرة وللعذاب المهين؛ إذ لو كان كذلك لم يفرق بين أذى الله ورسوله وبين أذى المؤمنين، ولم يخصص مؤذي الله ورسوله باللعنة المذكورة، ويجعل جزاء مؤذي المؤمنين أنه احتمل بهتانًا وإثمًا مبينًا، كما قال في موضع آخر: وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا" [النساء: 112].


    وأما الجواب المفصَّل فمن ثلاثة أوجه:

    الوجه الأول: أن هذه الآية في أزواج النبي في قول كثير من أهل العلم.
    فقد روي أن ابن عباس فسر سورة النور، فلما أتى على هذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ" إلى آخر الآية [النور: 23] قال: هذه في شأن عائشة وأزواج النبي خاصة، وهي مبهمة ليس فيها توبة، ومن قذف امرأة مؤمنة فقد جعل الله له توبة، ثم قرأ: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ" إلى قوله: إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا" [النور: 4، 5] فجعل لهؤلاء توبة، ولم يجعل لأولئك توبة، قال: فهَمَّ رجل أن يقوم فيقبل رأسه من حسن ما فسر!
    فقد بيَّن ابن عباس أن هذه الآية إنما نزلت فيمن يقذف عائشة وأمهات المؤمنين، لما في قذفهن من الطعن على رسوله × وعيبه، فإن قذف المرأة أذى لزوجها كما هو أذى لابنها.
    وروى أحمد بإسناده عن أبي الجوزاء في هذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ" [النور: 23] قال: هذه لأمهات المؤمنين خاصة.
    ووجه هذا ما تقدم من أن لعنة الله في الدنيا والآخرة لا تستوجب بمجرد القذف، فتكون اللام في قوله: الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ" لتعريف المعهود، والمعهود هنا أزواج النبي لأن الكلام في قصة الإفك ووقوع من وقع في أم المؤمنين عائشة، أو قصر اللفظ العام على سببه للدليل الذي يوجب ذلك.
    ويؤيد هذا القول أن الله- سبحانه- رتب هذا الوعيد على قذف محصنات غافلات مؤمنات، وقال في أول السورة، وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً" [النور: 4] الآية، فرتب الجلد ورد الشهادة والفسق على مجرد قذف المحصنات، فلابد أن تكون المحصنات الغافلات المؤمنات لهن مزية على مجرد المحصنات، وذلك - والله أعلم - لأن أزواج النبي × مشهود لهن بالإيمان لأنهن أمهات المؤمنين، وهن أزواج نبيه في الدنيا والآخرة، وعوام المسلمات إنما يعلم منهن في الغالب ظاهر الإيمان.
    واعلم أنه على هذا القول تكون هذه الآية حجة أيضًا موافقة لتلك الآية؛ لأنه لما كان رمي أمهات المؤمنين أذى للنبي × فلعن صاحبه في الدنيا والآخرة، ولهذا قال ابن عباس: «ليس فيها توبة»؛ لأن مؤذي النبي × لا تقبل توبته إذا تاب من القذف حتى يسلم إسلامًا جديدًا، وعلى هذا فرميهن نفاق مبيح للدم إذا قصد به أذى النبي ×، أو آذاهن بعد العلم بأنهن أزواجه في الآخرة، فإنه ما لعنت امرأة نبي قط.
    ومما يدل على أن قذفهن أذى للنبي × ما خرجاه في الصحيحين في حديث الإفك عن عائشة قالت: فقام رسول الله × فاستعذر من عبد الله بن أبي ابن سلول قالت: فقال رسول الله × وهو على المنبر: «يا معشر المسلمين، من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي؟! فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرًا، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيرًا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي»، فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: «أنا أعذرك منه يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك».
    فقوله: «من يعذرني»؛ أي من ينصفني ويقيم عذري إذا انتصفت منه لما بلغني من أذاه في أهل بيتي"! فثبت أنه × قد تأذى بذلك تأذيًا استعذر منه، وقال المؤمنون الذين لم تأخذهم حمية: «مرنا نضرب أعناقهم، فإنا نعذرك إذا أمرتنا بضرب أعناقهم» ولم ينكر النبي × على سعد استئماره في ضرب أعناقهم، وقوله إنك معذور إذا فعلت ذلك.
    شبهة أن بعض من تخوضوا في حادثة الإفك لم يقتلوا ولم يرموا بنفاق:
    بقي أن يقال: فقد كان من أهل الإفك مسطح وحسان وحمنة، ولم يرموا بنفاق، ولم يقتل النبي × أحد بذلك السبب، بل قد اختلف في جلدهم!
    وجوابه: أن هؤلاء لم يقصدوا أذى النبي ×، ولم يظهر منهم دليل على آذاه، بخلاف ابن أبي الذي إنما كان قصده أذاه، ولم يكن إذ ذاك قد ثبت عندهم أن أزواجه في الدنيا هن أزواج له في الآخرة، وكان وقوع ذلك من أزواجه ممكنًا في العقل، ولذلك توقف النبي × في القصة، حتى استشار عليًّا وزيدًا، وحتى سأل بريرة، فلم يحكم بنفاق من لم يقصد أذى النبي × لإمكان أن يطلق المرأة المقذوفة، فأما بعد أن ثبت أنهن أزواجه في الآخرة وأنهن أمهات المؤمنين فقذفهن أذى له بكل حال، ولا يجوز - مع ذلك - أن تقع منهن فاحشة؛ لأن في ذلك جواز أن يقيم الرسول × مع امرأة بغي، وأن تكون أم المؤمنين موسومة بذلك، وهذا باطل، ولهذا قال سبحانه: +يَعِظُكُمُ اللهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ" [النور: 17].
    الوجه الثاني: أن الآية عامة، قال الضحاك: قوله تعالى: +إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ"، يعني به أزواج النبي × خاصة، ويقول آخرون: يعني أزواج المؤمنين عامة.
    وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن: قذف المحصنات من الموجبات، ثم قرأ: +إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ" - الآية وهذا قول كثير من الناس، ووجهه ظاهر الخطاب فإنه عام، فيجب إجراؤه على عمومه؛ إذ لا موجب لخصوصه وليس هو مختصًّا بنفس السبب بالاتفاق؛ لأن حكم غير عائشة من أزواج النبي × داخل في العموم، وليس هو من السبب، ولأنه لفظ جمع والسبب في واحدة، ولأن قصر عمومات القرآن على أسباب نزولها باطل، فإن عامة الآيات نزلت بأسباب اقتضت ذلك، وعلم أن شيئًا منها لم يقصر على سببه.
    والفرق بين الآيتين أنه في أول السورة ذكر العقوبات المشروعة على أيدي المكلفين من الجلد ورد الشهادة والتنسيق، وهنا ذكر العقوبة الواقعة من الله سبحانه وهي اللعنة في الدارين والعذاب العظيم.
    وروي عن النبي × من غير وجه وعن أصحابه أن قذف المحصنات من الكبائر، وفي لفظ في الصحيح: "قذف المحصنات الغافلات المؤمنات"، وكان بعضهم يتأوَّل على ذلك قوله: +إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ" [النور: 23] ثم اختلف هؤلاء:
    - فقال أبو حمزة الثمالي: بلغنا أنها نزلت في مشركي أهل مكة، فكانت المرأة إذا خرجت إلى رسول الله × إلى المدينة مهاجرة، قذفها المشركون من أهل مكة وقالوا إنما خرجت تفجر.
    فعلى هذا يكون فيمن قذف المؤمنات قذفًا يصدهن به عن الإيمان، ويقصد بذلك ذم المؤمنين لينفر الناس عن الإسلام كما فعل كعب بن الأشرف، وعلى هذا فمن فعل ذلك فهو كافر، وهو بمنزلة من سب النبي ×.
    ومنهم من أجراها على ظاهرها وعمومها؛ لأن سبب نزولها قذف عائشة، وكان فيمن قذفها مؤمن ومنافق وسبب النزول لابد أن يندرج في العموم؛ ولأنه لا موجب لتخصيصها.
    والجواب على هذا التقدير أنه سبحانه قال هنا: +لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ" [النور: 33] على بناء الفعل للمفعول ولم يسم اللاعن، وقال هناك: +لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ" [الأحزاب: 57]، وإذا لم يسم الفاعل جاز أن يلعنهم غير الله من الملائكة والناس، وجاز أن يلعنهم الله في وقت ويلعنهم بعض خلقه في وقت، وجاز أن يتولى الله لعنة بعضهم وهو من كان قذفه طعنًا في الدين، ويتولى خلقه لعنة الآخرين، وإذا كان اللاعن مخلوقًا فلعنته قد تكون بمعنى الدعاء عليهم، وقد تكون بمعنى أنهم يبعدون عن رحمة الله.
    فهذا مما يلعن به القاذف، ومما يلعن به أن يُجلد وأن تُرد شهادته ويُفَسَّق، فإنه عقوبة له وإقصاء له عن مواطن الأمن والقبول وهي من رحمة الله، وهذا بخلاف من أخبر الله أنه لعنه في الدنيا والآخرة، فإن لعنة الله توجب زوال النصر عنه من كل وجه، وبعده عن أسباب الرحمة في الدارين.
    ومما يؤيد الفرق أنه قال هنا: +وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا"، ولم يجئ إعداد العذاب المهين في القرآن إلا في حق الكفار فقط +وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ" [البقرة: 90]، +وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا" [النساء: 37].
    وأما العذاب العظيم فقد جاء وعيدًا للمؤمنين في قوله: + لَوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ" [الأنفال: 68]، وقوله: +وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ"[النور: 14]، وفي القاتل المحارب: +ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ" [المائدة: 23]، وفي القاتل: +وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا" [النساء: 93]، وقوله: +وَلاَ تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ"[النحل: 94]، وقد قال سبحانه: +وَمَن يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ" [الحج: 18]؛ وذلك لأن الإهانة إذلال وتحقير وخزي، وذلك قدر زائد على ألم العذاب؛ فقد يعذب الرجل الكريم ولا يهان.
    فلما قال في هذه الآية: +وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا" علم أنه من جنس العذاب الذي توعد به الكفار والمنافقين، ولما قال هناك: +وَلَهمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ" جاز أن يكون من جنس العذاب في قوله: +لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ".
    من ناحية أخرى فإن العذاب إنما أُعِد للكافرين فإن جهنم لهم خلقت؛ لأنهم لابد أن يدخلوها وما هم منها بمخرجين، بخلاف أهل الوعيد من المسلمين فقد لا يدخلونها إذا غفر لهم، وإذا دخلوها خرجوا منها ولو بعد حين.
    الدليل السابع: رفع الصوت فوق صوت النبي × يُخشى على صاحبه الكفر، فأولى أن يكون الأذى المقصود المتعمد كفرًا:
    قال تعالى: +يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ" [الحجرات: 2].
    وجه الدلالة: أن الله سبحانه نهاهم عن رفع أصواتهم فوق صوته، وعن الجهر له كجهر بعضهم لبعض؛ لأن هذا الرفع والجهر قد يفضي إلى حبوط العمل وصاحبه لا يشعر، فإنه علل نهيهم عن الجهر وتركهم له بطلب سلامة العمل عن الحبوط، والعمل يحبط بالكفر، قال سبحانه: +وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ" [البقرة: 217]، وقال تعالى: ﴿وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ" [المائدة: 5].
    فإذا ثبت أن رفع الصوت فوق صوت النبي والجهر له بالقول يخاف منه أن يكفر صاحبه وهو لا يشعر ويحبط عمله بذلك، وأنه مظنة لذلك وسبب فيه، فمن المعلوم أن ذلك لما ينبغي له من التعزيز والتوقير والتشريف والتعظيم والإكرام والإجلال، ولما أن رفع الصوت قد يشتمل على أذى له، واستخفاف به، وإن لم يقصد الرافع ذلك، فإذا كان الأذى والاستخفاف الذي يحصل في سوء الأدب من غير قصد صاحبه يكون كفرًا؛ فالأذى والاستخفاف المقصود المتعمد كفر بطريق الأولى.
    الدليل الثامن: تحذير المخالف عن أمر الرسول × من الكفر والشرك لما يتضمنه ذلك من الاستخفاف فالشاتم له أولى بذلك:
    قال تعالى: +لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" [النور: 63] أمر من خالف أمره أن يحذر الفتنة، والفتنة: الردة والكفر، قال سبحانه: +وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ" [البقرة: 193]، وقال: +وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ" [البقرة: 217]، وقال: +وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآَتَوْهَا" [الأحزاب: 14].
    وجه الدلالة: أن المخالف عن أمره قد حذر من الكفر والشرك أو من العذاب الأليم، ومعلوم أن إفضاءه إلى العذاب هو مجرد فعل المعصية، فإفضاؤه إلى الكفر إنما هو لما قد يقترن به من استخفاف بحق الآمر كما فعل إبليس، فكيف لما هو أغلظ من ذلك كالسب والانتقاص ونحوه؟!
    قال الإمام أحمد في رواية الفضل بن زياد، نظرت في المصحف فوجدت طاعة الرسول × في ثلاثة وثلاثين موضعًا ثم جعل يتلو: +فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ" [النور: 63]، الآية، وجعل يكررها ويقول: وما الفتنة؟ الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيزيغ قلبه فيهلكه، وجعل يتلو هذه الآية: +فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ" [النساء: 65].
    الدليل التاسع: ما دل عليه القرآن من حرمة التزوج بأمهات المؤمنين لما يتضمنه من إيذاء النبي × وانتهاك حرمته، وقد دلت السنة على أن من فعل ذلك قُتل، فالشاتم أولى:
    قال تعالى: +وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلاَ أَن تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمًا" [الأحزاب: 53].
    وجه الدلالة: أنه قد حرَّم على الأمة أن تنكح أزواجه من بعده؛ لأن ذلك يؤذيه، وجعله عظيمًا عند الله تعظيمًا لحرمته، وقد ذكر أن هذه الآية نزلت لما قال بعض الناس: لو قد توفي رسول الله × تزوجت عائشة، ثم إن من نكح أزواجه أو سراريه فإن عقوبته القتل، جزاء بما انتهك من حرمته، فالشاتم له أولى.
    ومن الأدلة على قتل من انتهك حرمته × بنكاح إحدى أزواجه أو سراريه ما رواه مسلم في صحيحه عن أنس أن رجلاً كان يتهم بأم ولد النبي ×، فقال رسول الله × لعلي: «اذهب فاضرب عنقه» فأتاه علي، فإذا هو في ركن يتبرد، فقال له علي: اخرج، فناوله يده، فأخرجه، فإذا هو مجبوب ليس له ذكر، فكف علي، ثم أتى النبي × فقال: يا رسول الله، إنه لمجبوب، ما له ذكر.
    فهذا الرجل أمر النبي × بضرب عنقه لما قد استحل من حرمته، ولم يأمر بإقامة حد الزنا؛ لأن إقامة حد الزنا ليس هو ضرب الرقبة، بل إن كان محصنًا رُجم، وإن كان غير محصن جُلِد، ولا يقام عليه الحد إلا بأربعة شهداء أو بالإقرار المعتبر، فلما أمر النبي × بضرب عنقه من غير تفصيل بَيْنَ أن يكون محصنًا أو غير محصن عُلِم أن قتله لما انتهكه من حرمته، ولعله قد شهد عنده شاهدان أنهما رأياه يباشر هذه المرأة، أو شهدا بنحو ذلك، فأمر بقتله، فلما تبين أنه كان مجبوبًا علم أن المفسدة مأمونة منه، أو أنه بعث عليًّا ليرى القصة، فإن كان ما بلغه عنه حقًّا قتله.
    وما روي من أن النبي × تزوج قَيْلَة بنت قَيْس بن معدي كرب أخت الأشعث، ومات قبل أن يدخل بها، وقبل أن تقدم عليه، وقيل: إنه خيَّرَها بين أن يضرب عليها الحجاب وتحرم على المؤمنين، وبين أن يطلقها فتنكح من شاءت، فاختارت النكاح، قالوا: فلما مات النبي × تزوجها عكرمة بن أبي جهل بحضرموت، فبلغ أبا بكر، فقال: لقد هممت أن أحرق عليهما بيتهما، فقال عمر: ما هي من أمهات المؤمنين، ولا دخل بها، ولا ضرب عليها الحجاب، وقيل: إنها ارتدت، فاحتج عمر على أبي بكر أنها ليست من أزواج النبي × بارتدادها.
    فوجه الدلالة: أن الصدِّيق -رضي الله عنه- عزم على تحريقها وتحريق من تزوجها، لما رأى أنها من أزواج النبي ×، حتى ناظره عمر أنها ليست من أزواجه فكف عنها( ) لذلك، فعلم أنهم كانوا يرون قتل من استحل حرمة رسول الله ×.
    ثانيًا: أدلة السنة على كفر المسلم بالسب وتحتم قتله:
    الدليل الأول: قصة ابن أبي سرح، وهي مما اتفق عليه أهل العلم واستفاضت عندهم استفاضة تستغني عن رواية الآحاد كذلك، وذلك أثبت وأقوى مما رواه الواحد العدل، فنذكرها مشروحة ليتبين وجه الدلالة منها:
    عن مصعب بن سعد عن سعد بن أبي وقاص قال: لما كان يوم فتح مكة، اختبأ عبد الله بن سعد بن أبي سرح عند عثمان بن عفان، فجاء به حتى أوقفه على النبي ×، فقال: يا رسول الله، بايع عبد الله، فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثًا، كل ذلك يأبى، فبايعه بعد ثلاث، ثم أقبل على أصحابه فقال: «أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله»، فقالوا: ما ندري يا رسول الله ما في نفسك، ألا أومأت إلينا بعينك، قال: «إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين» (رواه أبو داود بإسناد صحيح).
    وقال ابن إسحاق في رواية إبراهيم بن سعد عنه: حدثني بعض علمائنا أن ابن أبي سرح رجع إلى قريش فقال: والله لو أشاء لقلت كما يقول محمد، وجئت بمثل ما يأتي به، وإنه ليقول الشيء وأصرفه إلى شيء فيقول: أصبت، ففيه أنزل الله تعالى: +وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ" [الأنعام: 93]، فلذلك أمر رسول الله × بقتله.
    وجه الدلالة من قصة ابن أبي سرح: أن عبد الله بن سعد بن أبي سرح افترى على النبي × أنه كان يتمم له الوحي ويكتب له ما يريد فيوافقه عليه، وأنه يصرفه حيث شاء ويغيِّر ما أمره به من الوحي، فيُقِرُّه على ذلك، وزعم أنه سيُنزل مثل ما أنزل الله إذ كان قد أوحي إليه في زعمه كما أوحي إلى رسول الله × وهذا الطعن قدر زائد على مجرد الكفر به، والردة في الدين، وهو من أنواع السب.
    فلما تمكن النبي × من ابن أبي سرح أهدر دمه، لما طعن في النبوة وافترى عليه الكذب مع أنه قد آمن جميع أهل مكة الذين قاتلوه وحاربوه أشد المحاربة، ومع أن السنة في المرتد أنه لا يُقتل حتى يُستتاب إما وجوبًا أو استحبابًا.
    وفي ذلك دليل على أن جرم الطاعن على الرسول × الساب له أعظم جرمًا من المرتد.
    ثم إن إباحة النبي × دمه بعد مجيئه تائبًا مسلمًا وقوله: «هلا قتلتموه»، ثم عفوه عنه بعد ذلك دليل على أن النبي × كان له أن يقتله وأن يعفو عنه ويعصم دمه، وهو دليل على أن له × أن يقتل من سَبَّه وإن تاب وعاد إلى الإسلام.
    سنة الله في الانتصار لنبيه × ممن افترى عليه إذا لم يقم عليه الحد:
    وكذلك ما افترى عليه كاتب آخر مثل هذه الفرية إلا وفضحه الله وعاقبه عقوبة خارجة عن العادة لكل أحد افترى، إذ كان مثل هذا يوجب في القلوب المريضة ريبًا بأن يقول القائل: كاتبه أعلم الناس بباطنه وبحقيقة أمره، وقد أخبر عنه بما أخبر، فمن نصر الله لرسوله أن أظهر فيه آية تبين بها أنه مُفْتَرٍ.
    روى البخاري في صحيحه عن أنس قال: كان رجل نصراني فأسلم، وقرأ البقرة وآل عمران، وكان يكتب للنبي ×، فعاد نصرانيًّا، فكان يقول: لا يدري محمد إلا ما كتبت له، فأماته الله فدفنوه فأصبح وقد لفظته الأرض، فقالوا: هذا فعل محمد وأصحابه: نبشوا عن صاحبنا فألقوه، فحفروا في الأرض ما استطاعوا، فأصبح قد لفظته، فعلموا أنه ليس من الناس فألقوه.
    ورواه مسلم من حديث سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس قال: كان منا رجل من بني النجار قد قرأ البقرة وآل عمران، وكان يكتب للنبي ×، فانطلق هاربًا حتى لحق بأهل الكتاب، قال: فرفعوه، قالوا: هذا كان يكتب لمحمد، فأعجبوا به، فما لبث أن قصم الله عنقه، فحفروا له فواروه، فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها فتركوه منبوذًا.
    فهذا الملعون الذي افترى على النبي × أنه ما كان يدري إلا ما كتب له، قصمه الله وفضحه بأن أخرجه من القبر بعد أن دفن مرارًا، وهذا أمر خارج عن العادة، يدل كل أحد على أن هذا كان عقوبة لما قاله وأنه كان كاذبًا؛ إذ كان عامة الموتى لا يصيبهم مثل هذا، وأن هذا الجرم أعظم من مجرد الارتداد، إذ كان عامة المرتدين يموتون ولا يصيبهم مثل هذا، وإن الله منتقم لرسوله × ممن طعن عليه وسبه، ومظهر لدينه ولكذب الكاذب، إذ لم يمكن الناس أن يقيموا عليه الحد.
    ونظير هذا ما رواه أعداد من المسلمين العدول أهل الفقه والخبرة عما جربوه مرات متعددة في حصر الحصون والمدائن التي بالسواحل الشامية، لما حاصر المسلمون فيها بني الأصفر، قالوا: كنا نحن نحصر الحصن أو المدينة الشهر أو أكثر من الشهر وهو ممتنع علينا حتى نيأس إذ تعرض أهله لسب رسول الله × والوقيعة في عرضه، فسرعان ما يتيسر لنا فتحه، ولا يتأخر إلا يومًا أو يومين أو نحو ذلك، ثم يفتح المكان عنوة، ويكون فيهم ملحمة عظيمة، قالوا: حتى إن كنا لنتباشر بتعجيل الفتح؛ إذا سمعناهم يقعون فيه مع امتلاء القلوب غيظًا عليهم بما قالوه فيه.
    الدليل الثاني: قصة ابن خطل:
    ففي الصحيحين من حديث الزهري عن أنس أن النبي × دخل مكة عام الفتح، وعلى رأسه المغفر، فلما نزعه جاء رجل فقال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة، فقال: «اقتلوه»، وهذا مما استفاض نقله بين أهل العلم واتفقوا عليه أن رسول الله × أهدر دم ابن خطل يوم الفتح فيمن أهدره، وأنه قتل.
    وقد ذكر الواقدي أن ابن خطل أقبل من أعلى مكة مدججًا في الحديد، ثم خرج حتى انتهى إلى الخندمة، فرأى خيل المسلمين ورأى القتال، ودخله رعب حتى ما يستمسك من الرعدة حتى انتهى إلى الكعبة فنزل عن فرسه وطرح سلاحه فأتى البيت فدخل بين أستاره.
    وقد كان جرمه أن رسول الله × استعمله على الصدقة وأصحبه رجل يخدمه، فغضب على رفيقه لكونه لم يصنع له طعامًا أمره بصنعه، فقتله، ثم خاف أن يقتل فارتد واستاق إبل الصدقة، وإنه كان يقول الشعر يهجو به رسول الله × ويأمر جاريتيه أن تغنيا به، فهذا له ثلاث جرائم مبيحة للدم: قتل النفس، والردة، والهجاء.
    وذكر ابن المسيب أن أبا برزة أتاه وهو متعلق بأستار الكعبة فبقر بطنه، وكذلك روى الواقدي عن أبي برزة قال: في نزلت هذه الآية: +لاَ أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ* وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ" [البلد: 1، 2]، أخرجت عبد الله بن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة فضربت عنقه بين الركن والمقام.
    وجه الدلالة من قصة ابن خطل:
    أنه لم يقتل لقتل النفس؛ لأن أكثر ما يجب على من قتل ثم ارتد أن يقتل قودًا، والمقتول من خزاعة له أولياء، فكان حكمه لو قتل قودًا أن يسلم إلى أولياء المقتول، فإما أن يقتلوا أو يعفوا أو يأخذوا الدية.
    ولم يقتل لمجرد الردة؛ لأن المرتد يستتاب، وإذا استنظر أنظر، وهذا ابن خطل قد فر إلى البيت، عائذًا به، طالبًا الأمان، تاركًا للقتال، ملقيًا للسلاح، حتى نظر في أمره، وقد أمر النبي × بعد علمه بذلك كله أن يقتل، وليس هذا سنة من يقتل من مجرد الردة.
    فثبت أن هذا التغليظ في قتله إنما كان لأجل السب والهجاء، وأن الساب وإن ارتد فليس بمنزلة المرتد المحض بقتل قبل الاستتابة ولا يؤخر قتله، وذلك دليل على جواز قتله بعد التوبة، وقد استدل بقصة ابن خطل طائفة من الفقهاء على أن من سب النبي من المسلمين يقتل وإن أسلم حدًّا.
    واعترض عليهم بأن ابن خطل كان حربيًّا فقتل لذلك، وصوابه أنه كان مرتدًّا بلا خلاف بين أهل العلم بالسير، فعلم أن من ارتد وسب يقتل بلا استتابة بخلاف من ارتد فقط، يؤيده أن النبي × آمن عام الفتح جميع المحاربين إلا ذوي جرائم مخصوصة، وكان ممن أهدر دمه دون غيره، فعلم أنه لم يقتل لمجرد الكفر والحراب.
    الدليل الثالث: ما صح من أمره × بقتل من كذب عليه كذبًا يشينه:
    - فقد روى البغوي عن أبي بريدة عن أبيه أن النبي × بلغه أن رجلاً قال لقوم: إن النبي × أمرني أن أحكم فيكم برأيي وفي أموالكم بكذا وكذا، وكان قد خطب امرأة منهم في الجاهلية فأبوا أن يزوجوه، ثم ذهب حتى نزل على المرأة فبعث القوم إلى رسول الله × فقال: «كذب عدو الله!»، ثم أرسل رجلاً فقال: «إن وجدته حيًّا فاقتله، وإن أنت وجدته ميتًا فحرقه بالنار»، فانطلق فوجده قد لدغ فمات، فحرقه بالنار، فعند ذلك قال رسول الله ×: «من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار».
    - وقد رواه أبو أحمد بن عدي في كتابه الكامل بإسناده من حديث ابن بريدة عن أبيه قال: كان حي من بني ليث من المدينة على ميلين، وكان رجل قد خطب منهم من الجاهلية فلم يزوجوه، فأتاهم وعليه حلة فقال: إن رسول الله × كساني هذه الحلة، وأمرني أن أحكم في أموالكم ودمائكم، ثم انطلق فنزل على تلك المرأة التي كان يحبها، فأرسل القوم إلى رسول الله ×، فقال: «كذب عدو الله»، ثم أرسل رجلاً فقال: «إن وجدته حيًّا، وما أراك تجده حيًّا، فاضرب عنقه، وإن وجدته ميتًا فاحرقه بالنار»، قال: فذلك قول رسول الله ×: «من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار»، وهذا إسناد صحيح على شرط الصحيح لا نعلم له علة.
    - وقد روى أبو بكر بن مردويه من حديث الوازع عن أبي سلمة عن أسامة قال: قال رسول الله ×: «من يقول علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار»، وذلك أنه بعث رجلاً فكذب عليه فوجد ميتًا وانشق بطنه ولم تقبله الأرض!
    وروى أن رجلاً كذب عليه، فبعث عليًّا والزبير إليه ليقتلاه.
    وجه الدلالة:
    للناس في هذا الحديث قولان:
    القول الأول: الأخذ بالظاهر في قتل من تعمد الكذب على رسول الله ×.
    ومن هؤلاء من قال: يكفر بذلك، قاله جماعة منهم أبو أحمد الجوثي، حتى قال ابن عقيل عن شيخه أبي العقيل الهمداني: مبتدعة الإسلام والكاذبون والواضعون للحديث أشد من الملحدين، قصدوا إفساد الدين من خارج، وهؤلاء قصدوا إفساده من داخل، فهم كأهل بلد سعوا في فساد أحواله، والملحدون كالمحاضرين من خارج، فالدخلاء يفتحون الحصن فهم شر على الإسلام من غير الملابسين له.
    ووجه هذا القول:
    - أن الكذب عليه كذب على الله، ومن تعمد الكذب على الله فهو كافر حلال الدم، فكذلك من تعمد الكذب على رسوله.
    - أن الكذب عليه بمنزلة التكذيب له، وتكذيبه كفر بلا نزاع.
    - أن تعمد الكذب على رسول الله استهزاء به واستخفاف، فإن من كذب على من يجب تعظيمه فإنه مستخف به مستهين بحقه، وذلك كفر.
    - أن الكاذب عليه لابد أن يشينه بالكذب عليه وينقصه بذلك، ومن انتقص الرسول فقد كفر.
    واعلم أن هذا القول في غاية القوة كما تراه، لكن يتوجه أن يفرق بين الذي يكذب عليه مشافهة وبين الذي يكذب عليه بواسطة مثل أن يقول: حدثني فلان بن فلان عنه بكذا، فهذا إنما كذب على ذلك الرجل، ونسب إليه ذلك الحديث عليه بواسطة مثل أن يقول: حدثني فلان بن فلان عنه بكذا، فهذا إنما كذب على ذلك الرجل، ونسب إليه ذلك الحديث، فأما إن قال: «هذا الحديث صحيح» أو ثبت عنه أنه قال ذلك عالمًا بأنه كذب فهذا قد كذب عليه، أما إذا افتراه ورواه رواية ساذجة ففيه نظر، لاسيما والصحابة عدول بتعديل الله لهم.
    فالكذب لو وقع من أحد ممن يدخل فيهم لعظم ضرره في الدين، فأراد النبي × قتل من كذب عليه وعجل عقوبته؛ ليكون ذلك عاصمًا من أن يدخل في العدول من ليس منهم من المنافقين ونحوهم.
    وأما من روى حديثًا يعلم أنه كذب، فهذا حرام كما صح عنه أنه قال: من روى عني حديثًا يعلم أنه كذب فهو أحد الكاذبين، لكن لا يكفر إلا أن ينضم إلى روايته ما يوجب الكفر؛ لأنه صادق في أن شيخه حدث به، لكن لعلمه بأن شيخه كذب فيه لم تكن تحل له الرواية، فصار بمنزلة أن يشهد على إقراره أو شهادة أو عقد، وهو يعلم أن ذلك باطل، فإن هذه الشهادة حرام، لكنه ليس بشاهد زور.
    وعلى هذا القول فمن سبه فهو أولى بالقتل ممن كذب عليه، فإن الكاذب عليه قد زاد في الدين ما ليس منه، وهذا قد طعن في الدين بالكلية، وحينئذ فالنبي × قد أمر بقتل الذي كذب عليه من غير استتابة، فكذلك الساب له أولى.
    القول الثاني: أن الكاذب عليه تغلظ عقوبته، لكن لا يكفر ولا يجوز قتله؛ لأن موجبات الكفر والقتل معلومة، وليس هذا فيها، فلا يجوز أن يثبت ما لا أصل له، ومن قال هذا فلابد أن يقيد قوله بأنه لم يكن الكذب عليه متضمنًا لعيب ظاهر، فأما إن أخبر أنه سمعه يقول كلامًا يدل على نقصه وعيبه دلالة ظاهرة مثل عرق الخيل ونحوه من الترهات، فهذا مستهزئ استهزاءً ظاهرًا، ولا ريب أنه كافر حلال الدم.
    وقد أجاب من ذهب إلى هذا القول عن الحديث بأن النبي × علم أنه كان منافقًا فقتله لذلك، لا للكذب، وهو ليس بشيء:
    - لأن النبي × لم يكن من سنته أن يقتل أحدًا من المنافقين الذين أخبر الثقة عنهم بالنفاق أو الذين نزل القرآن بنفاقهم، فكيف يقتل رجلاً بمجرد علمه بنفاقه؟ ومن ناحية أخرى فإنه سمَّى خَلقًا من المنافقين لحذيفة وغيره، ولم يقتل منهم أحدًا، وأيضًا فالسب المذكور في الحديث إنما هو كذبه على النبي × كذبًا له فيه غرض وعليه رتب القتل، فإن الرجل إنما قصد بالكذب نيل شهوته، ومثل هذا قد يصدر من الفساق كما يصدر من الكفار.
    - وأيضًا فإما أن يكون نفاقه لهذه الكذبة أو لسبب ماض: فإن كان لهذه فقد ثبت أن الكذب عليه نفاق والمنافق كافر.
    وإذا كان النفاق متقدمًا وهو المقتضي للقتل لا غيره، فعلام يؤخر الأمر بقتله إلى هذا الحين؟! وعلام لم يؤاخذه تعالى بذلك النفاق حتى فعل ما فعل؟!
    - وأيضًا فإن القوم أخبروا رسول الله × بقوله، فقال: «كذب عدو الله»، ثم أمر بقتله إن وجده حيًّا، ثم قال: «أراك تجده حيًّا» لعلمه × بأن ذنبه يوجب تعجيل العقوبة.
    - والنبي × إذا أمر بالقتل أو غيره من العقوبات والكفارات عقب فعل وصف له صالح لترتب ذلك الجزاء عليه كان ذلك الفعل هو المقتضي لذلك الجزاء لا غيره، كما أن الأعرابي لما وصف له الجماع في رمضان أمره بالكفارة، ولما أقر عنده ماعز والغامدية وغيرهما بالزنا أمر بالرجم، وهذا مما لا خلاف فيه بين الناس نعلمه، نعم قد يختلفون في نفس الوجب هل هو مجموع تلك الأوصاف أو بعضها، وهو نوع من تنقيح المناط، فأما أن يجعل ذلك الفعل عديم التأثير والموجب لتلك العقوبة غيره الذي لم يذكر فهذا فاسد بالضرورة.
    لكن يمكن أن يقال فيه ما هو أقرب من هذا؛ وهو أن هذا الرجل كذب على النبي × كذبًا يتضمن انتقاصه وعيبه؛ لأنه زعم أن النبي × حكَّمه في دمائهم وأموالهم، وأذن له أن يبيت حيث شاء من بيوتهم، ومقصوده بذلك أن يبيت عند تلك المرأة ليفجر بها، ولا يمكنهم الإنكار عليه إذا كان محكِّمًا في الدماء والأموال.
    ومعلوم أن النبي × لا يحلل الحرام، ومن زعم أنه أحل المحرمات من الدماء والأموال والفواحش فقد انتقصه وعابه، ونسب النبي × إلى أنه يأذن له أن يبيت عند امرأة أجنبية خاليًا بها، وأنه يحكم بما شاء في قوم مسلمين، وهذا طعن على النبي × وعيب له، وعلى هذا التقدير فقد أمر بقتل من عابه وطعن عليه من غير استتابة، وهو المقصود في هذا الم كان، فثبت أن الحديث نص في قتل الطاعن عليه من غير استتابة على كلا القولين.
    ومما يؤيد القول الثاني أن القوم لو ظهر لهم أن هذا الكلام سب وطعن لبادروا إلى الإنكار عليه، ويمكن أن يقال: رابهم أمره، فتوقفوا حتى استبينوا ذلك من النبي × لما تعارض وجوب طاعة الرسول وعظم ما أتاهم به هذا اللعين، ومن نصر القول الأول قال: كل كذب عليه فإنه متضمن للطعن عليه كما تقدم.
    ثم إن هذا الرجل لم يذكر في الحديث أنه قصد الطعن والإزراء؛ وإنما قصد تحصيل شهوته بالكذب عليه، وهذا شأن كل من تعمَّد الكذب عليه، فإنه إنما يقصد تحصيل غرض له إن لم يقصد الاستهزاء به، والأغراض في الغالب إما مال أو شرف، كما أن المسيء إنما يقصد إذا لم يقصد مجرد الإضلال إما الرياسة بنفاذ الأمر وحصول التعظيم، أو تحصيل الشهوات الظاهرة، وبالجملة فمن قال أو فعل ما هو كفر، كفر بذلك، وإن لم يقصد أن يكون كافرًا إذا لا يقصد الكفر أحد إلا ما شاء الله.
    الدليل الرابع: ما دلت عليه الأحاديث من كفر من آذى رسول الله × ومشروعية قتله:
    ومن هذه الأحاديث:
    * حديث الأعرابي الذي قال للنبي × لما أعطاه: ما أحسنت وما أجملت، فأراد المسلمون قتله، ثم قال النبي ×: (لو تركتكم حين قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار).
    ووجه الدلالة: أن هذا الحديث يدل على أن من آذاه إذا قتل دخل النار وذلك دليل على كفره وجواز قتله، وإلا كان يكون شهيدًا، وكان قاتله من أهل النار، وإنما عفا عنه النبي × ثم استرضاه بعد ذلك حتى رضي، لأنه كان له أن يعفو عمن آذاه.
    * ومن هذا الباب أن الرجل الذي قال له لما قسم الغنائم: إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله. فقال عمر: دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق، فقال: (معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي) .
    ثم أخبر أنه يخرج من ضئضئه أقوام يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، وذكر حديث الخوارج. رواه مسلم.
    ووجه الدلالة: أن النبي × لم يمنع عمر من قتله إلا لئلا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه، ولم يمنعه كونه في نفسه معصومًا، كما قال في حديث حاطب بن أبي بلتعة، فإنه لما قال: ما فعلت ذلك كفرًا ولا رغبة عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الإسلام، فقال النبي ×: «إنه قد صدقكم»، فقال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال: «إنه شهد بدرًا، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم». فبين × أنه باق على إيمانه، وأنه صدر منه ما يغفر له به الذنوب، فعلم أن دمه معصوم، وهنا علل بمفسدة زالت.
    فعلم أن قتل مثل هذا القائل إذا أمنت هذه المفسدة جائز، وكذلك لما أمنت هذه المفسدة أنزل الله تعالى قوله: +جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ" [التوبة: 73]، بعد أن كان قال له: +وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ" [الأحزاب: 48]، قال زيد بن أسلم قوله: +جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ" نسخت ما كان قبلها.
    * ومما يشبه هذا أن عبد الله بن أبي لما قال: +لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ" [المنافقون: 80]، وقال: +لاَ تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا" [المنافقون: 7]، استأمر عمر في قتله، فقال: «إذن ترعد له أنوف كثيرة بالمدينة»، وقال: «لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه»، والقصة مشهورة وهي في الصحيحين.
    ووجه الدلالة: أن من آذى النبي × بمثل هذا الكلام جاز قتله كذلك مع القدرة، إنما ترك النبي × قتله؛ لما خيف في قتله من نفور الناس عن الإسلام لما كان ضعيفًا.
    * ومن هذا الباب: أن النبي × لما قال: «من يعذرني في رجل بلغني أذاه في أهلي؟»، قال له سعد بن معاذ: أنا أعذرك، إن كان من الأوس ضربت عنقه. والقصة مشهورة.
    وجه الدلالة: فلما لم ينكر ذلك عليه، دل على أن من آذي النبي × وتنقصه يجوز ضرب عنقه، والفرق بين ابن أبي وغيره ممن تكلم في شأن عائشة أنه كان يقصد بالكلام فيها عيب رسول الله × والطعن عليه، وإلحاق العار به ويتكلم بكلام ينتقصه به، فلذلك قالوا نقتله، بخلاف حسان ومسطح وحمنة فإنهم لم يقصدوا ذلك، ولم يتكلموا بما يدل على ذلك؛ ولهذا إنما استعذر النبي × من ابن أبي دون غيره، ولأجله خطب الناس حتى كاد الحيان يقتتلون.
    الدليل الخامس: ما دلت عليه السنة من كفر من طعن على رسول الله × ومشروعية قتله:
    ومن الأحاديث الواردة في ذلك:
    * ما روي عن الشعبي قال: لما فتح رسول الله × مكة دعا بمال العزى فنثره بين يديه، ثم دعا رجلاً قد سماه فأعطاه منها، ثم دعا أبا سفيان بن حرب فأعطاه منها، ثم دعا سعد بن حريث فأعطاه منها، ثم دعا رهطًا من قريش فأعطاهم، وجعل يعطي الرجل القطعة من الذهب فيها خمسون مثقالاً وسبعون مثقالاً ونحو ذلك، فقام رجل فقال: إنك لبصير حيث تضع التبر! ثم قام الثانية فقال مثل ذلك، فأعرض عنه النبي × ثم قام الثالثة فقال: إنك لتحكم وما نرى عدلاً! قال: «ويحك، إذًا لا يعدل أحد بعدي». ثم دعا نبي الله × أبا بكر فقال: «اذهب فاقتله»، فذهب فلم يجده، فقال: «لو قتلته لرجوت أن يكون أولهم وآخرهم».
    وجه الدلالة: فهذا الحديث نص في قتل هذا الطاعن على رسول الله × من غير استتابة، وليست هي قصة قسم غنائم حنين، ولا قسم التبر الذي بعث به علي من اليمن، بل هذه القصة قبل ذلك في قسم مال العزى، وكان هدم العزى قبل الفتح في أواخر شهر رمضان سنة ثمان، وغنائم حنين قسمت بعد ذلك بالجعرانة في ذي القعدة، وحديث علي في سنة عشر.
    وهذا الحديث مرسل، ومخرجه عن مجالد، وفيه لين، لكن له ما يؤيد معناه، فإنه قد تقدم أن عمر قتل الرجل الذي لم يرض بحكم النبي × ونزل القرآن بإقراره على ذلك، وجرمه أسهل من جرم هذا.
    * وأيضًا فإن في الصحيحين عن أبي سعيد عن النبي × في حديث الذي لمزه في قسمة الذهيبة التي أرسل بها علي من اليمن وقال: «يا رسول الله، اتق الله» أنه قال: «إِنََّه يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمٌ يَتْلُُونَ كِتابَ اللهِ رَطبًا لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كمَا يمرقُ السَّهْمِ مِنْ الرَّمِيَّةِ يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلاَمِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ».
    وجه الدلالة: أن هذا الحديث وأمثاله دليل على أن النبي × أمر بقتل طائفة هذا الرجل العائب عليه، وأخبر أن في قتلهم أجرًا لمن قتلهم، وقال: «لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ»، وذكر أنهم شر الخلق والخليقة.
    وفيما رواه الترمذي وغيره عن أبي أمامة أنه قال: «هم شر قتلى تحت أديم السماء، خير قتلى من قتلوه».
    وعلى كل حال فمن كان يعتقد أن النبي × جائر في قسمه، وهو يقول إنه يفعلها بأمر الله فهو مكذب له.
    ومن زعم أنه يجور في حكم أو قسمة فقد زعم أنه جائر، وأن اتباعه لا يجب، وهو مناقض لما تضمنته الرسالة من أمانته ووجوب طاعته، وزوال الحرج عن الجنس من قضائه بقوله وفعله، فإنه قد بلغ عن الله أنه أوجب طاعته والانقياد لحكمه، وأنه لا يحيف على أحد، فمن طعن في هذا فقد طعن في تبليغه، وذلك طعن في الرسالة، وبهذا تبين صحة رواية من روى الحديث: «ومن يعدل إذا لم أعدل؟ لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل»؛ لأن هذا الطاعن يقول: إنه رسول الله، وإنه يجب عليه تصديقه وطاعته، فإذا قال: إنه لم يعدل، فلقد لزم أنه صدق غير عدل ولا أمين، ومن اتبع مثل ذلك فهو خائب خاسر، كما وصفهم الله بأنهم من الأخسرين أعمالاً وإن حسبوا أنهم يحسنون صنعًا، ولأنه من لم يؤتمن على المال لم يؤتمن على ما هو أعظم منه، ولهذا قال ×: «ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء! يأتيني خبر السماء صباحًا ومساء».
    وقوله ×: «شر الخلق والخليقة»، وقوله: «شر قتلى تحت أديم السماء» نص في أنهم من المنافقين؛ لأن المنافقين أسوأ حالاً من الكفار، كما ذكر أن قوله تعالى: +وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ" [التوبة: 58] نزلت فيهم.
    وكذلك في حديث أبي أمامة أن قوله تعالى: +أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ" [آل عمران: 106] نزلت فيهم، هذا مما لا خلاف فيه إذا صرحوا بالطعن في الرسول والعيب له كفعل أولئك اللامزين له.
    فإذا ثبت بهذه الأحاديث الصحيحة أنه × أمر بقتل من كان من جنس هذا الرجل الذي لمزه أينما لقوا، أخبر أنهم شر الخليقة، وثبت أنهم من المنافقين، كان ذلك دليلاً على صحة معنى حديث الشعبي في استحقاق أصلهم للقتل.
    لماذا نهى النبي × عن قتل ذلك اللامز؟
    بقي أن يقال: لماذا نهى رسول الله × عن قتل ذلك اللامز رغم أمره بقتل طائفته، وإخباره أنهم شر الخليقة، وأنهم شر قتلى تحت أديم السماء؟ فنقول:
    حديث الشعبي هو أول ظهور هؤلاء كما تقدم، فالأشبه- والله أعلم- أن يكون قد أمر بقتله أولاً طمعًا في انقطاع أمرهم، وإن كان قد كان يعفو عن أكثر المنافقين؛ لأنه خاف من هذا انتشار الفساد من بعده على الأمة، ولهذا قال: «لو قتلته لرجوت أن يكون أولهم وآخرهم»، وكان ما يحصل من المصلحة أعظم مما يخاف من نفور الناس لقتله، فلما لم يوجد وتعذر قتله ومع النبي × بما أوحاه الله إليه من العلم ما فضله الله به فكأنه علم أنه لابد من خروجهم، وأنه لا مطمع في استئصالهم، وكما أنه علم الدجال خارج لا محالة نهى عمر عن قتل ابن صياد. وقال: «إن يكنه فلن تسلط عليه، وإن لا يكنه فلا خير لك في قتله»، فكان هذا مما أوجب نهيه بعد ذلك عن قتل ذي الخويصرة لما لمزه في غنائم حنين، وكذلك لما قال عمر: «ائذن لي فأضرب عنقه»، قال: «دعه، فإن له أصحابًا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» إلى قوله: «يخرجون على حين فرقة من الناس»، فأمر بتركه لأجل أن له أصحابًا خارجين بعد ذلك، فظهر أن علمه بأنهم لابد أن يخرجوا منعه من أن يقتل أحدًا فيتحدث الناس بأن محمدًا يقتل أصحابه الذين يصلون معه، وتنفر بذلك عن الإسلام قلوب كثيرة من غير مصلحة تغمر هذه المفسدة، هذا مع أنه كان له أن يعفو عمن آذاه مطلقًا بأبي هو وأمي ×.
    وبهذا تبين سبب كونه في بعض الحديث يعلل بأنه يصلي، وفي بعضه بأن لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه وفي بعضه بأن له أصحابًا سيخرجون، وسيأتي- إن شاء الله تعالي- ذكر بعض هذه الأحاديث وإن كان هذا الموضع خليقًا بها أيضًا.
    فثبت أن كل من لمز النبي × في حكمه أو قسمه فإنه يجب قتله، كما أمر به × في حياته وعند موته، وأنه إنما عفا عن ذلك اللامز في حياته كما قد كان يعفو عمن يؤذيه من المنافقين، لما علم أنهم خارجون في الأمة لا محالة، وأن ليس في قتل ذلك الرجل كثير فائدة، بل فيه من المفسدة ما في قتل سائر المنافقين أو أشد.
    الفرق بين اللمز الدال على النفاق والكفر وبين مراجعة بعض الصحابة للرسول ×:
    قد يرد في هذا المقام أن يقال: ما الفرق بين قول هؤلاء اللامزين في كونه نفاقًا موجبًا للكفر، وحِلِّ الدَّمِ حتى صار جنس هذا القاتل شر الخلق، وبين ما ذكر من مَوْجِدة قريش والأنصار؟
    ففي حديث أبي سعيد الصحيح أن النبي × لما قسم الذهيبة بين أربعة غضبت قريش والأنصار، وقالوا: تعطيه صناديد أهل نجد وتدعنا؟ فقال: «إنما أتألفهم»، فأقبل رجل غائر العينين، وذكر حديث اللامز.
    وروي مسلم موجدة الأنصار في غنائم حنين، فعن أنس بن مالك أن ناسًا من الأنصار قالوا يوم حنين- حين أفاء الله على رسوله من أموال هوازن ما أفاء، فطفق رسول الله × يعطي رجالاً من قريش المائة من الإبل- قالوا: يغفر الله لرسوله × يعطي رجالاً من قريش ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم؟!
    وفي رواية: لما فتحت مكة قسم الغنائم في قريش، فقالت الأنصار: إن هذا لهو العجب! إن سيوفنا تقطر من دمائهم، وإن غنائمنا ترد عليهم!
    وفي رواية: فقال الأنصار: إذا كانت الشدة فنحن ندعى ويُعطَى الغنائمَ غيرُنا!، قال أنس: فحدثت رسول الله × ذلك من قولهم، فأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبة من أدم، ولم يدع معهم غيرهم، فلما اجتمعوا جاءهم رسول × فقال: «ما حديث بلغني عنكم؟» فقال له فقهاء الأنصار: أما ذوو رأينا يا رسول الله فلم يقولوا شيئًا، وأما أناس منا حديثة أسنانهم فقالوا: يغفر الله لرسول الله × يعطي قريشًا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم؟ فقال رسول الله ×: «فإني أعطي رجالاً حديثي عهد بكفر أتألفهم، أفلا ترضون أن يذهب الناس بالأموال وترجعون إلى رجالكم برسول الله؟ ما تنقبلون به خيرًا مما ينقبلون به»، قالوا: بلى يا رسول الله، قد رضينا، قال: «فإنكم ستجدون بعدي أثَرة، فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله»، قالوا: سنصبر.
    فلم يكن في كلام أحد من المؤمنين من قريش والأنصار وغيرهم تجوير لرسول الله × ولا تجويز ذلك عليه، ولا اتهام له أنه حابى في القسمة لهوى النفس وطلب الملك، ولا نسبة له إلى أنه لم يرد بالقسمة وجه الله تعالى، ونحو ذلك مما جاء مثله في كلام المنافقين.
    وذوو الرأي من القبيلتين- وهم الجمهور- لم يتكلموا بشيء أصلاً، بل قد رضوا ما آتاهم الله ورسوله، وقالوا: حسبنا الله، سيؤتينا الله من فضله ورسوله، كما قالت فقهاء الأنصار: «أما ذوو رأينا فلم يقولوا شيئًا».
    وأما الذين تكلموا من أحداث الأسنان ونحوهم فرأوا أن النبي × إنما يقسم المال لمصالح الإسلام، ولا يضعه في محل إلا لأن وضعه فيه أولى من وضعه في غيره، هذا مما لا يشكون فيه، وكان العلم بجهة المصلحة قد ينال بالوحي وقد ينال بالاجتهاد، ولم يكونوا علموا أن ذلك مما فعله النبي × وقال: «إنه بوحي من الله»، فإن من كره ذلك أو اعترض عليه بعد أن يقول ذلك فهو كافر مكذب، وجوزوا أن يكون قسمه اجتهادًا، وكانوا يراجعونه في الاجتهاد في الأمور الدنيوية المتعلقة بمصالح الدين، وهو باب يجوز له العمل فيه باجتهاده باتفاق الأمة.
    وربما سألوه عن الأمر، لا لمراجعته فيه؛ لكن ليتثبتوا وجهه، ويتفقهوا في سننه، ويعلموا علته، وكانت المراجعة المشهورة منهم لا تعدو هذين الوجهين:
    - إما لتكميل نظره × في ذلك إن كان من الأمور السياسية التي للاجتهاد فيها مساغ.
    - أو ليتبين لهم وجه ذلك إذا ذكر، ويزدادوا علمًا وإيمانًا، وينفتح لهم طريق التفقه فيه.
    فمن ذلك مراجعة الحباب بن المنذر لما نزل ببدر منزلاً، قال: رسول الله، أهذا المنزل الذي نزلته، أهو منزل أنزلكه الله، فليس لنا أن نتعداه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال: «بل هو الرأي والحرب والمكيدة»، فقال: ليس هذا بمنزل قتال، فقبل رسول الله × رأيه وتحول إلى غيره.
    وكذلك أيضًا لما عزم على أن يصالح غطفان عام الخندق على نصف تمر المدينة، ثم جاء سعد بن معاذ في طائفة من الأنصار فقال: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي! هذا الذي تعطيهم أشيء من الله أمرك فسمع وطاعة لله ورسوله، أم شيء من قبل رأيك؟ قال: «لا بل من قبل رأيي، إني رأيت القوم أعطوا الأموال فجمعوا لكم ما رأيتم من القبائل، وإنما أنتم قبيل واحد، فأردت أن أدفع بعضهم ونعطيهم شيئًا وننصب لبعض، اشترى بذلك ما قد نزل معشر الأنصار»، فقال سعد: والله يا رسول الله لقد كنا في الشرك وما يطمعون منا في أخذ النصف، أو كما قال، وفي رواية: ما يأكلون من تمرة إلا بشرى أو قرى، فكيف اليوم والله معنا وأنت بين أظهرنا؟! لا نعطيهم، ولا كرامة لهم! ثم تناول الصحيفة فتفل فيها ثم رمى بها.
    وما كان من قبل الرأي والظن في الدنيا فقد قال × لما سئل عن التلقيح: «ما أظن يغني ذلك شيئًا، إنما ظننت: فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله بشيء فخذوا به، فإني لن أكذب على الله» (رواه مسلم)، وفي حديث آخر: «أنتم أعلم بشئون دنياكم، فما كان من أمر دينكم فإليَّ».
    ومن هذا الباب حديث سعيد بن أبي وقاص قال: أعطى رسول الله رهطًا وأنا جالس، فترك رجلاً منهم هو أعجبهم إلي فقمت فقلت له: يا رسول الله أعطيت فلانًا وفلانًا، وتركت فلانًا وفلانًا وهو مؤمن، فقال: «أو مسلم» ذكر ذلك سعد له ثلاثًا، وأجابه بمثل ذلك، ثم قال: «إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه خشية أن يكب في النار على وجهه» (متفق عليه).
    فإنما سأله رضي الله عنه ليذكر النبي × بذلك الرجل لعله يرى أنه ممن ينبغي إعطاؤه، أو ليتبين لسعد وجه تركه مع إعطائه من هو دونه، فأجابه النبي × عن المقدمتين، فقال: إن العطاء ليس لمجرد الإيمان، بل أعطي وأمنع والذي أترك أحب إلي من الذي أعطيه؛ لأن الذي أعطيه لو لم أعطه لكفر، فأعطيه لأحفظ عليه إيمانه، ولا أدخله في زمرة من يعبد الله على حرف، والذي أمنعه معه من اليقين والإيمان ما يغنيه عن الدنيا، وهو أحب إلي وعندي أفضل، وهو يعتصم بحبل الله تعالى ورسوله، ويعتاض بنصيبه من الدين عن نصيبه من الدنيا، كما اعتاض أبو بكر وغيره، وكما اعتاض الأنصار حين ذهب الطلقاء وأهل نجد بالشاة والبعير وانطلقوا هم برسول الله ×.
    ثم لو كان العطاء لمجرد الإيمان فمن أين لك أن هذا مؤمن؟ بل يجوز أن يكون مسلمًا، وإن لم يدخل الإيمان في قلبه! فإن النبي × أعلم من سعد بتمييز المؤمن من غيره حيث أمكن التمييز.
    - ومن ذلك أيضًا ما ذكره ابن إسحاق عن محمد بن إبراهيم بن الحارث أن قائلاً قال: يا رسول الله، أعطيت عيينة بن حصن والأقرع بن حابس مائة، وتركت جعيل بن سراقة الضمري، فقال رسول الله ×: «أما والذي نفسي بيده لجعيل بن سراقة خير من طلاع الأرض كلها مثل عيينة والأقرع، ولكني تألفتهما على إسلامهما، ووكلت جعيل بن سراقة إلى إسلامه».
    وقد ذكر بعض أهل المغازي في حديث الأنصار: وددنا أن نعلم من أين هذا، وإن كان من قبل الله صبرنا، وإن كان من رأي رسول الله × استعتبناه.
    فبهذا تبين أن من وجد منهم جوز أن يكون القسم وقع باجتهاده في المصلحة، فأحب أن يعلم الوجه الذي أُعطِيَ به غيره ومُنِع هو مع فضله على غيره في الإيمان والجهاد وغير ذلك.
    وهذا في بادئ الرأي هو الموجب للعطاء، وأن النبي × يعطيه كما أعطى غيره، وهذا معنى قولهم: «استعتبناه»؛ أي طلبنا منه أن يعتبنا، أي يزيل عتبنا: إما ببيان الوجه الذي أعطى غيرنا أو بإعطائنا، وقد قال ×: «ما أحد أحب إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك بعث الرسل مبشرين ومنذرين»، فأحب النبي × أن يعذروه فيما فعل فبيَّن لهم ذلك، فلما تبين لهم الأمر بكوا حتى أخضلوا لحاهم، ورضوا حق الرضاء، والكلام المحكي عنهم يدل على أنهم رأوا القسمة وقعت اجتهادًا، وأنهم أحق بالمال من غيرهم، فتعجبوا من إعطاء غيرهم، وأرادوا أن يعلموا هل هو وحي؟ أو اجتهاد يتعين اتباعه لأنه المصلحة؟ أو اجتهاد يمكن النبي × أن يأخذه بغيره إذا رأى أنه أصلح؟
    وأما قول بعض قريش والأنصار في الذهبية التي بعث بها علي من اليمن: أيعطي صناديد أهل نجد ويدعنا؟ فمن هذا الباب أيضًا، إنما سألوه على هذا الوجه.
    وهاهنا جوابان آخران:
    الجواب الأول: أن بعض القائلين قد كان منافقًا يجوز قتله، مثل الذي سمعه ابن مسعود يقول في غنائم حنين: إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله، وكان في ضمن قريش والأنصار منافقون كثيرون، فما ذكر من كلمة لا مخرج لها، فإنما صدرت من منافق.
    الجواب الثاني: أن الاعتراض قد يكون ذنبًا ومعصية يخاف على صاحبه النفاق، وإن لم يكن منافقًا، مثل قوله تعالى: +يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ" [الأنفال: 6]، ومثل مراجعتهم له في فسخ الحج إلى عمرة، وإبطائهم عن الحل، وكذلك كراهتهم للحل عام للحديبية، وكراهتهم للصلح، ومراجعة من راجع منهم، فإن من فعل ذلك فقد أذنب ذنبًا كان عليه أن يستغفر الله منه، كما أن الذين رفعوا أصواتهم فوق صوته أذنبوا ذنبًا تابوا منه، وقد قال تعالى: +وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأمْرِ لَعَنِتُّمْ" [الحجرات: 7].
    قال سهل بن حنيف: اتهموا الرأي على الدين، فلقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله × لفعلت.
    فهذه أمور صدرت عن شهوة وعجلة، لا عن شك في الدين، كما صدر عن حاطب التجسس لقريش، مع أنها ذنوبٌ ومعاصٍ يجب على صاحبها أن يتوب، وهي بمنزلة عصيان أمر النبي ×.
    ومما يدخل في هذا حديث أبي هريرة في فتح مكة قال: فقال رسول الله ×: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن»، فقالت الأنصار: أما الرجل فقد أدركته رغبة في قرابته ورأفة بعشيرته.
    قال أبو هريرة: وجاء الوحي، وكان إذا جاء لا يخفى علينا، فإذا جاء ليس أحد منا يرفع طرفه إلى رسول الله × حتى ينقضي الوحي.
    قال رسول الله ×: «يا معشر الأنصار»، قالوا: لبيك يا رسول الله، قال: «قلتم: أما الرجل فأدركته رغبة في قرابته ورأفة بعشيرته؟» قالوا: قد كان ذلك، قال: «كلا، إني عبد الله ورسوله، هاجرت إلى الله وإليكم، المحيا محياكم، والممات مماتكم»، فأقبلوا إليه يبكون ويقولون: والله ما قلنا إلا لضن بالله ورسوله، فقال رسول الله ×: «إن الله ورسوله يصدقناكم ويعذرانكم» (رواه مسلم).
    وذلك أن الأنصار لما رأوا النبي × قد آمن أهل مكة وأقرهم على دمائهم وأموالهم مع دخوله عليهم عنوة وقهرًا، وتمكنه من قتلهم وأخذ أموالهم لو شاء، خافوا أن النبي × يريد أن يستوطن مكة ويستبطن قريشًا؛ لأن البلد بلده والعشيرة عشيرته، وأن يكون نزاع النفس إلى الوطن والأهل يوجب انصرافه عنهم، فقال من قال منهم ذلك، ولم يقله الفقهاء وأولو الألباب الذين يعلمون أنه لم يكن له سبيل إلى استيطان مكة، فقالوا ذلك، لا طعنًا ولا عيبًا، ولكن ضنًّا بالله ورسوله، والله ورسوله قد صدقاهم، إنما حملهم على ذلك الضن بالله ورسوله، وعَذَرَاهم فيما قالوا لما رأوا وسمعوا، ولأن مفارقة الرسول شديد على مثل أولئك المؤمنين الذين هم شعار، وغيرهم دثار، والكلمة التي تخرج عن محبة وتعظيم وتشريف وتكريم تغفر لصاحبها، بل يحمد عليها، وإن كان مثلها لو صدر بدون ذلك استحق صاحبها النكال.
    وكذلك الفعل، ألا ترى أن النبي × لما قال لأبي بكر حين أراد أن يتأخر عن موقفه في الصلاة لما أحس بالنبي ×: «مكانك»، فتأخر أبوبكر، فقال له النبي ×: «ما منعك أن تثبت مكانك وقد أمرتك»، فقال: ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي النبي ×.
    وكذلك أبو أيوب الأنصاري، لما استأذن النبي × في أن ينتقل إلى السفل وأن يصعد رسول الله × إلى العلو, وشق عليه أن يسكن فوق رسول الله × بالمكث في مكانه، وذكر له أن سكناه أسفل أرفق به من أجل دخول الناس عليه، فامتنع أبو أيوب من ذلك أدبًا مع النبي × وتوقيرًا له، فكلمه الأنصار -رضي الله عنهم- من هذا الباب.
    خلاصة هذه المسألة:
    وبالجملة فالكلمات في هذا الباب ثلاثة أقسام:
    * أحدها: ما هو كفر، مثل قوله: إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله.
    * الثاني: ما هو ذنب ومعصية يخاف على صاحبه أن يحبط عمله، مثل رفع الصوت فوق صوته، ومثل مراجعة من راجعه عام الحديبية بعد ثباته على الصلح، ومجادلة من جادله يوم بدر بعد ما تبين له الحق، وهذا كله يدخل في المخالفة عن أمره.
    * الثالث: ما ليس من ذلك، بل يحمد عليه صاحبه أو لا يحمد، كقول عمر: ما بالنا نقصر الصلاة وقد أمنا؟ وكقول عائشة: ألم يقل الله: +فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ" [الحاقة: 19]، وكقول حفصة: ألم يقل الله: + وَإنْ مِنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا " [مريم: 71]، وكمراجعة سعد في صلح غطفان على نصف تمر المدينة، ومثل مراجعتهم له لما أمرهم بكسر الآنية التي فيها لحوم الحمر، فقالوا: أولا نغسلها، فقال: اغسلوها، وكذلك رد عمر لأبي هريرة لما خرج مبشرًا ومراجعة النبي × في ذلك، وكذلك مراجعته له لما أذن لهم في نحر الظهر في بعض المغازي، وطلبه منه أن يجمع الأزواد ويدعو الله، ففعل ما أشار به عمر، ونحو ذلك مما فيه سؤال عن إشكال ليبين لهم أو عرض لمصلحة قد يفعلها الرسول ×.
    مشروعية قتل المرأة بالسب ذمية كانت أو معاهدة أو حربية أو مسلمة دليل على تحتم قتل الساب في جميع الأحوال:
    لا يخفى أن تعمد قتل المرأة لمجرد الكفر الأصلي لا يجوز بالإجماع، وقد استفاضت بذلك السنة عن رسول الله × ففي الصحيحين عن ابن عمر قال: وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله × فنهى رسول الله × عن قتل النساء والصبيان.
    إلا أن المرأة إذا سبت النبي × وطعنت عليه، فقد دلت السنة الصحيحة على مشروعية قتلها؛ سواء كانت من أهل الملة أو من أهل الذمة أو من أهل الحرب، فإن من هجا الرسول × أو سبه جاز قتله بكل حال.
    ومن الأدلة على مشروعية قتل المرأة السابة ما يلي:
    الدليل الأول: قصة الأعمى الذي قتل اليهودية التي كانت تقع في النبي × فأطل النبي × دمها:
    ما رواه الشعبي عن علي أن يهودية كانت تشتم النبي × وتقع فيه، فخنقها رجل حتى ماتت، فأطل رسول الله × دمها، وهكذا رواه أبو داود في سننه وابن بطة في سننه، وهو من جملة ما استدل به الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله وقال: ثنا جرير عن مغيرة عن الشعبي قال: كان رجل من المسلمين -أعني أعمى- يأوي إلى امرأة يهودية، فكانت تطعمه وتحسن إليه، فكانت لا تزال تشتم النبي × وتؤذيه، فلما كان ليلة من الليالي خنقها فماتت، فلما أصبح ذكر ذلك للنبي × فنشد الناس في أمرها، فقام الأعمى فذكر أمرها، فأطل( ) النبي × دمها.
    درجة الحديث: هذا الحديث جيد، فإن الشعبي رأى عليًّا، وروى عنه حديث شراحة الهمداني، وكان على عهد علي قد ناهز العشرين سنة، وهو كوفي، فقد ثبت لقاؤه، فيكون الحديث متصلاً، ثم إن كان فيه إرسال لأن الشعبي يبعد سماعه من علي فهو حجة وفاقًا؛ لأن الشعبي عندهم صحيح المراسيل، لا يعرفون له مرسلاً إلا صحيحًا، ثم هو من أعلم الناس بحديث علي وأعلمهم بثقات أصحابه، وله شاهد حديث ابن عباس الذي يأتي؛ فإن القصة إما أن تكون واحدة أو يكون المعنى واحد، وقد عمل به عوام أهل العلم، وجاء ما يوافقه عن أصحاب النبي × ومثل هذا المرسل لم يتردد الفقهاء في الاحتجاج به.
    وجه الدلالة: وهذا الحديث نص في جواز قتلها؛ لأجل شتم النبي ×، ودليل على قتل الرجل الذمي، وقتل المسلم والمسلمة إذا سبَّا بطريق الأولى؛ لأن هذه المرأة كانت موادعة مهادنة، لأن النبي × لما قدم المدينة وادع جميع اليهود الذين كانوا بها موادعة مطلقة، ولم يضرب عليهم جزية، وهذا مشروع عند أهل العلم بمنزلة المتواتر بينهم، حتى قال الشافعي: لم أعلم مخالفًا من أهل العلم بالسير أن رسول الله × لما نزل المدينة وادع اليهود كافة على غير جزية، وهو كما قال الشافعي.
    وفي هذا الحديث ما يبين أنها كانت ذمية من وجهين:
    * أحدهما: أنه قال إن يهودية كانت تشتم النبي × فخنقها رجل، فأطل النبي دمها، فرتب علي -رضي الله عنه- إبطال الدم على الشتم بحرف الفاء، فعلم أنه الموجب لإبطال دمها؛ لأن تعليق الحكم بالوصف المناسب بحرف الفاء يدل على العلية، وإن كان هذا في لفظ الصحابي.
    ومما يوضح ذلك أن النبي × لما ذكر له أنها قتلت نشد الناس في أمرها، فلما ذكر له ذنبها أبطل دمها، وهو × إذا حكم بأمر عقب حكاية حكيت له دل ذلك على أن ذلك المحكى هو الموجب لذلك الحكم؛ لأنه حكم حادث، فلابد له من سبب حادث، ولا سبب إلا ما حكي له، وهو مناسب فتجب الإضافة إليه.
    * الوجه الثاني: أن نشد النبي × الناس في أمرها ثم إبطال دمها دليل على أنها كانت معصومة، وأن دمها كان قد انعقد سبب ضمانه، وكان مضمونًا لو لم يبطله النبي × لأنها لو كانت حربية لم ينشد الناس فيها، ولم يحتج إلى أن يبطل دمها ويهدره؛ لأن الإبطال والإهدار لا يكون إلا لدم قد انعقد له سبب الضمان.
    فإذا كان النبي × قد عاهد المعاهدين اليهود عهدًا بغير ضرب جزية عليهم، ثم إنه أهدر دم يهودية منهم لأجل سب النبي × فأن يهدر دم يهودية من اليهود الذين ضربت عليهم الجزية والتزموا أحكام الملة لأجل ذلك أولى وأحرى، ولو لم يكن قتلها جائزًا لبَيَّن للرجل قبح ما فعل، فإنه قد قال ×: «من قتل نفسًا معاهدة بغير حق لم يرح رائحة الجنة»، ولأوجب ضمانها أو الكفارة -كفارة قتل المعصوم- فلما أهدر دمها علم أنه كان مباحًا.
    الدليل الثاني: قصة الأعمى الذي قتل أم ولده التي كانت تقع في رسول الله × فأهدر رسول الله × دمها:
    ما روى إسماعيل بن جعفر عن إسرائيل عن عثمان الشحام عن عكرمة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي × وتقع فيه، فينهاها فلا تنتهي، ويزجرها فلا تنزجر: فلما كان ذات ليلة جعلت تقع في النبي × وتشتمه، فأخذ المغول( ) فوضعه في بطنها واتكأ عليها فقتلها، فلما أصبح ذكر ذلك للنبي × فجمع الناس فقال: «أنشد رجلاً فعل ما فعل لي عليه حق إلا قام»، قال: فقال الأعمى يتخطى الناس وهو يتدلدل، حتى قعد بين يدي النبي × فقال: يا رسول الله، أنا صاحبها، كانت تشتمك وتقع فيك، فأنهاها فلا تنتهي، وأزجرها فلا تنزجر، ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين، وكانت بي رفيقة، فلما كان البارحة جعلت تشتمك وتقع فيك، فأخذت المغول فوضعته في بطنها واتكأت عليه حتى قتلتها، فقال النبي ×: «ألا اشهدوا أن دمها هدر» (رواه النسائي وأبو داود).
    وهذه القصة يحتمل أن تكون هي الأولى، ويدل عليه كلام الإمام أحمد؛ لأنه قيل له في رواية عبد الله: في قتل الذمي إذا سب أحاديث؟ قال: نعم، منها حديث الأعمى الذي قتل المرأة، قال: سمعها تشتم النبي × ثم روى عنه عبد الله كلا الحديثين، ويكون قد خنقها وبعج بطنها بالمغول، أو يكون كيفية القتل غير محفوظ في إحدى الروايتين.
    ويؤيد ذلك أن وقوع قصتين مثل هذه لأعميين كل منهما كانت المرأة تحسن إليه وتكرر الشتم، وكلاهما قتلها وحده، وكلاهما نشد الرسول × فيها الناس، بعيد في العادة، ويمكن أن تكون هذه القصة غير تامة.
    وجه الدلالة: وهذه المرأة إما أن تكون زوجة لهذا الرجل أو مملوكة، وعلى التقديرين فلو لم يكن قتلها جائزًا لبين النبي × له أن قتلها كان محرمًا، وأن دمها كان معصومًا، ولأوجب عليه الكفارة بقتل المعصوم، والدية إن لم تكن مملوكة له، فلما قال: «اشهدوا أن دمها هدر» والهدر الذي لا يضمن بقود ولا دية ولا كفارة، علم أنه كان مباحًا مع كونها ذمية، فعلم أن السب أباح دمها، لاسيما والنبي × إنما أهدر دمها عقب إخباره بأنها قتلت لأجل السب، فعلم أنه الموجب لذلك، والقصة ظاهرة الدلالة في ذلك.
    الدليل الثالث: قصة العصماء بنت مروان التي ندب النبي × إلى قتلها بسبب هجائها له:
    ما روي عن ابن عباس من قصة العصماء بنت مروان قال: هجت امرأة من خطمة النبي × فقال: «من لي بها؟»، فقال رجل من قومها: أنا يا رسول الله، فنهض فقتلها، فأخبر النبي × فقال: «لا ينتطح فيها عنزان»، وقد ذكر بعض أصحاب المغازي وغيرهم قصتها مبسوطة.
    قال الواقدي: حدثني عبد الله بن الحارث بن الفضل عن أبيه أن عصماء بنت مروان من بني أمية بن زيد كانت تحت يزيد بن زيد بن حصن الخطمي، وكانت تؤذي النبي × وتعيب الإسلام، وتحرض على النبي × وقال عمير بن عدي الخطمي حين بلغه قولها وتحريضها: اللهم إن لك عليَّ نذرًا لئن رددت رسول الله × إلى المدينة لأقتلنها، ورسول الله × ببدر، فلما رجع رسول الله × من بدر جاء عمير في جوف الليل حتى دخل عليها في بيتها وحولها نفر من ولدها نيام منهم من ترضعه في صدرها، فحسها بيده فوجد الصبي ترضعه، فنحاه عنها، ثم وضع سيفه على صدرها، حتى أنفذه من ظهرها، ثم خرج حتى صلى الصبح مع النبي × فلما انصرف × نظر إلى عمير فقال: أقتلت بنت مروان؟ قال: نعم، بأبي أنت يا رسول الله، وخشي أن يكون عمير افتات على رسول الله × بقتلها، فقال: هل علي شيء يا رسول الله؟ قال: «لا ينتطح فيها عنزان»، فإن أول ما سمعت هذه الكلمة من رسول الله × قال عمير: فالتفت النبي × إلى من حوله فقال: «إذا أحببتم أن تنظروا إلى رجل نصر الله ورسوله بالغيب فانظروا إلى عمير بن عدي»، فقال عمر بن الخطاب: انظروا إلى هذا الأعمى الذي تسرى في طاعة الله، فقال: «لا تقل الأعمى، ولكنه البصير!».
    فلما رجع عمير من عند رسول الله × وجد بنيها في جماعة يدفنونها، فأقبلوا إليه حين رأوه مقبلاً من المدينة، فقالوا: يا عمير، أنت قتلتها؟ فقال: نعم، فكيدوني جميعًا ثم لا تنظرون! والذي نفسي بيده لو قلتم بأجمعكم ما قالت لضربتكم بسيفي هذا حتى أموت أو أقتلكم، فيومئذ ظهر الإسلام في بني خطمة، وكان منهم رجال يستخفون بالإسلام خوفًا من قومهم.
    وجه الدلالة: ووجه الدلالة أن هذه المرأة لم تقتل إلا لمجرد أذى النبي × وهجوه، وهذا بَيِّن في قول ابن عباس: «هجت امرأة من بني خطمة النبي × فقال: «من لي بها؟»، فعلم أنما ندب إليها لأجل هجوها، وكذلك في الحديث الآخر: «فقال عمير حين بلغه قولها وتحريضها: اللهم إن لك عليَّ نذرًا لئن رددت رسول الله × إلى المدينة لأقتلنها» ، وفي الحديث لما قال له قومه: «أنت قتلتها؟»، قال: «نعم، فكيدوني جميعًا ثم لا تنظرون! فوالذي نفسي بيده لو قلتم جميعًا ما قالت لضربتكم بسيفي هذا حتى أموت أو أقتلكم» فهذه مقدمة.
    لم تقتل لتحريضها على القتال بل لمجرد السب:
    ومقدمة أخرى أن شعرها ليس فيه تحريض على قتال النبي × حتى يقال: التحريض على القتال قتال، وإنما فيه تحريض على ترك دينه وذم له ولمن اتبعه، وأقصى غاية ذلك أن لا يدخل في الإسلام من لم يكن دخل، أو أن يخرج عنه من دخل فيه، وهذا شأن كل ساب.
    يبين ذلك أنها هجته بالمدينة، وقد أسلم أكثر قبائلها، وصار المسلم بها أعز من الكافر، ومعلوم أن الساب في مثل هذه الحال لا يقصد أن يقاتل الرسول وأصحابه وإنما يقصد إغاظتهم وأن لا يتابعوا.
    وأيضًا، فإنها لم تكن تطمع في التحريض على القتال، فإنه لا خلاف بين أهل العلم بالسير أن جميع قبائل الأوس والخزرج لم يكن فيهم من يقاتل النبي × بيد ولا لسان، ولا كان أحد بالمدينة يتمكن من إظهار ذلك، وإنما غاية الكافر أو المنافق منهم أن يثبط الناس عن اتباعه، أو أن يعين على رجوعه من المدينة إلى مكة، ونحو ذلك مما فيه تخذيل عنه وحض على الكفر به، لا على قتاله، على أن الهجاء إن كان من نوع القتال فيجب انتقاض العهد به، ويقتل به الذمي، فإنه إذا قاتل انتقض عهده لأن العهد اقتضى الكف عن القتال، فإذا قاتل بيد أو لسان فقد فعل ما يناقض العهد وليس بعد القتال غاية في نكث العهد.
    إذا تبين ذلك فمن المعلوم من سيرة النبي × الظاهر علمه عند كل من له علم بالسيرة أنه × لما قدم المدينة لم يحارب أحدًا من أهل المدينة، بل وادعهم، حتى اليهود، خصوصًا بطون الأوس والخزرج، فإنه كان يسالمهم ويتألفهم بكل وجه، وكان الناس إذ قدمها على طبقات: منهم المؤمن وهم الأكثرون، ومنهم الباقي على دينه، وهو متروك لا يُحارِب ولا يُحارَب، وهو والمؤمنون من قبيلته وحلفائهم أهل سلم، لا أهل حرب، حتى حلفاء الأنصار أقرهم النبي × على حلفهم، فإذا كان النبي × قد أقرهم كانت هذه المرأة من المعاهدين، ثم إنه مع هذا ندب الناس إلى قتل المرأة التي هجته، وقال فيمن قتلها: «إذا أحببتم أن تنظروا إلى رجل نصر الله ورسوله بالغيب فانظروا إلى هذا»، فثبت بذلك أن هجاءه وذمه موجب للقتل غير الكفر، وثبت أن الساب يجب قتله، وإن كان من الحلفاء والمعاهدين.
    فإذا كان قد أمر بقتل هذه المرأة فإما أن يقال: «هجاؤها قتال»، فهذا يفيدنا أن هجاء الذمي قتال، فينقض العهد، ويبيح الدم، أو يقال: «ليس بقتال»، وهو الأظهر، لما قدمناه من أنه لم يكن فيه تحريض على القتال، ولا كان لها رأي في الحرب، فيكون السب جناية مضرة بالمسلمين غير القتال موجبة للقتل بمنزلة قطع الطريق عليهم، ونحو ذلك يفيد أن السب موجب للقتل لوجوه:
    الوجه الأول: أنه لو لم يكن موجبًا للقتل لما جاز قتل المرأة، وإن كانت حربية؛ لأن الحربية إذا لم تقاتل بيد ولا لسان لم يجز قتلها إلا بجناية موجبة للقتل، وهذا ما أحسب فيه مخالفًا، لاسيما عند من يرى قتالها بمنزلة قتال الصائل.
    الوجه الثاني: أن هذه السابة كانت من المعاهدين ممن هو أحسن حالاً من المعاهدين في ذلك الوقت، فلو لم يكن السب موجبًا لدمها لما قتلت، ولما جاز قتلها؛ ولهذا خاف الذي قتلها أن تتولد فتنة حتى قال النبي ×: «لا ينتطح فيها عنزان» مع أن انتطاحهما إنما هو كالتشام، فبين × أنه لا يتحرك لذلك قليل من الفتن ولا كثير؛ رحمة من الله بالمؤمنين، ونصرًا لرسوله ودينه، فلو لم يكن هناك ما يحذر معه قتل هذه لولا الهجاء لما خيف هذا.
    الوجه الثالث: أن الحديث مصرح بأنها إنما قتلت لأجل ما ذكرته من الهجاء، وأن سائر قومها تركوا إذ لم يهجوا، وأنهم لو هجوا لفعل بهم كما فعل بها، فظهر بذلك أن الهجاء موجب بنفسه للقتل، سواء كان الهاجي حربيًّا أو مسلمًا أو معاهدًا، حتى يجوز أن يقتل لأجله من لا يقتله بدونه.
    الوجه الرابع: أن المسلمين كانوا ممنوعين قبل الهجرة وفي أوائل الهجرة من الابتداء بالقتال، وكان قتل الكفار حينئذ محرمًا، وهو من قتل النفس بغير حق كما قال تعالى: +أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ" إلى قوله: +فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ" [النساء: 77]، ولهذا أول ما أنزل من القرآن فيه نزل بالإباحة لقوله: +أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ" [الحج: 39]، ثم إنه لم يقاتل أحدًا من أهل المدينة، ولم يأمر بقتل أحد من رءوسهم الذين كانوا يجمعونهم على الكفر ولا من غيرهم، والآيات التي نزلت إذ ذاك إنما تأمر بقتال الذين أخرجوهم وقاتلوهم، ونحو ذلك، وظاهر هذا أنه لم يؤذن لهم إذ ذاك في ابتداء قتل الكافرين من أهل المدينة، وإذ أمر بقتل هذه المرأة التي هجت، ولم يؤذن له في قتل قبيلتها الكافرين، علم أن السب موجب للقتل، وإن كان هناك ما يمنع لولا السبب كالعهد والأنوثة ومنع قتل الكافر الممسك أو عدم إباحته، وهذا وجه حسن دقيق.
    فإذا قتل المرأة التي هجت من هؤلاء وليسوا عنده محاربين بحيث يجوز قتالهم مطلقًا كان قتل المرأة التي تهجوه من أهل الذمة بهذه المثابة أولى؛ لأن هذه قد عاهدناها على أن لا تسب، وعلى أن تكون صاغرة، وتلك لم نعاهدها على شيء.
    الدليل الرابع: قصة القينتين اللتين كانت تغنيان بهجاء النبي × فأهدر دمها لذلك:
    قال موسى بن عقبة في مغازيه عن الزهري: وأمرهم رسول الله × أن يكفوا أيديهم فلا يقاتلوا أحدًا إلا من قاتلهم، وأمر بقتل أربعة نفر، قال: وأمر بقتل قينتين لابن خطل تغنيان بهجاء رسول الله × ثم قال: وقتلت إحدى القينتين وكمنت الأخرى حتى استؤمن لها، وكذلك ذكر محمد بن عائذ القرشي في مغازيه.
    وحديث القينتين مما اتفق عليه علماء السير واستفاض نقله استفاضة يستغنى بها عن رواية الواحد.
    وجه الدلالة: أن تعمد قتل المرأة لمجرد الكفر الأصلي لا يجوز بالإجماع، وقد استفاضت بذلك السنة عن رسول الله × كما سبق، وهؤلاء النسوة كن معصومات بأنوثة، ثم إن النبي × أمر بقتلهن لمجرد كونهن كن يهجينه، وهن في دار حرب، فعلم أن من هجاه وسبه جاز قتله بكل حال.
    ومما يؤكد ذلك وجوه:
    الوجه الأول: أن هؤلاء النسوة كن من أهل الحرب، وقد آذين النبي × في دار الحرب، ثم قتلهن بمجرد السب كما نطقت به الأحاديث، فقتل المرأة الذمية بذلك أولى وأحرى كالمسلمة؛ لأن الذمية بيننا وبينها من العهد ما يكفيها عن إظهار السب، ويوجب عليها التزام الصغار، ولهذا تؤخذ بما تصيب به المسلم من دم أو مال أو عرض، والحربية لا تؤخذ بشيء من ذلك.
    فإذا جاز قتل المرأة لأنها سبت الرسول وهي حربية تستبيح ذلك من غير مانع، فقتل الذمية الممنوعة من ذلك بالعهد أولى.
    ولا يقال: عصمة الذمي أوكد لأنه مضمون والحربي غير مضمون؛ لأنا نقول: الذمي أيضًا ضامن لدم المسلم والحربي غير ضامن، فهو ضامن مضمون؛ لأن العهد الذي بيننا اقتضى ذلك، وأما الحربية فلا عهد بيننا وبينها يقتضي ذلك، فليس كون الذمي مضمونًا يجب علينا حفظه بالذي يهون عليه ما ينتهكه من عرض الرسول × بل ذلك أغلظ لجرمه، وأولى بأن يؤاخذ بما يؤذينا به، ولا نعلم شيئًا تقتل به المرأة الحربية قصدًا إلا وقتل الذمية به أولى.
    الوجه الثاني: أن هؤلاء النسوة لم يقاتلن عام الفتح، بل كن متذللات مستسلمات، والهجاء إن كان من جنس القتال فقد كان موجودًا قبل ذلك، والمرأة لا يجوز قتلها في غزوة هي فيها مستسلمة لكونها قد قاتلت قبل ذلك، فعلم أن السب بنفسه هو المبيح لدمائهن، لا كونهن قاتلن.
    الوجه الثالث: أن النبي آمن جميع أهل مكة إلا أن يقاتلوا، مع كونهم قد حاربوه وقتلوا أصحابه ونقضوا العهد الذي بينهم وبينه، ثم إنه أهدر دماء هؤلاء النسوة فيمن استثناه وإن لم يقاتلن لكونهن كن يؤذينه، فثبت أن جرم المؤذي لرسول الله × بالسب ونحوه أغلظ من جرم القتال وغيره، وأنه يقتل في الحال التي نهى فيها عن قتال من قتل وقاتل.
    الوجه الرابع: أن القينتين كانتا أمتين مأمورتين بالهجاء، وقتل الأمة أبعد من قتل الحرة، فإن النبي × نهى عن قتل العسيف وكونها مأمورة بالهجاء أخف لجرمها حيث لم تقصده ابتداء، ثم مع هذا أمر بقتلهما، فعلم أن السب أغلظ الموجبات للقتل.
    الوجه الخامس: أن هؤلاء النسوة إما أن يكن قتلن بالهجاء؛ لأنهن فعلنه مع العهد الذي كان بين النبي × وبين أهل مكة، فيكون من جنس هجاء الذمي، أو قتلن لمجرد الهجاء مع عدم العهد، فإذا كان الأول فهو المطلوب، وإن كان الثاني فإذا جاز أن تقتل السابة التي لا عهد بيننا وبينها يمنعها، فقتل الممنوعة بالعهد أولى؛ لأن مجرد كفر المرأة وكونها من أهل الحرب لا يبيح دمها بالاتفاق على ما تقدم، لاسيما والسب لم يكن بمنزلة القتال على ما تقدم.
    خطأ من قيد تكفير الساب بالاستحلال:
    ذهب بعض المنتسبين إلى العلم أن ساب الرسول × لا يكفر إلا بالاستحلال، قال القاضي أبو يعلي في «المعتمد»: من سب الله أو سب رسوله فإنه يكفر، سواء استحل سبه أو لم يستحله، فإن قال: «لم أستحل ذلك» لم يقبل منه في ظاهر الحكم رواية واحدة، وكان مرتدًا؛ لأن الظاهر خلاف ما أخبر، لأنه لا غرض له في سب الله وسب رسوله إلا أنه غير معتقد لعبادته غير مصدق بما جاء به النبي -عليه الصلاة والسلام- ويفارق الشارب والقاتل والسارق إذا قال: «أنا غير مستحل لذلك» أنه يصدق في الحكم؛ لأن له غرضًا في فعل هذه الأشياء مع اعتقاد تحريمها وهو ما يتعجل من اللذة، قال: وإذا حكمنا بكفره فإنما نحكم به في ظاهر من الحكم، فأما في الباطن فإن كان صادقًا فيما قال فهو مسلم، قلنا في الزنديق لا تقبل توبته في ظاهر الحكم.
    وذكر القاضي عن الفقهاء أن ساب النبي -عليه الصلاة والسلام- إن كان مستحلاً كفر، وإن لم يكن مستحلاً فسق، ولم يكفر كساب الصحابة، وهذا نظير ما يحكى أن بعض الفقهاء من أهل العراق أفتى هارون أمير المؤمنين فيمن سب النبي -عليه الصلاة والسلام- أن يجلده، حتى أنكر ذلك مالك ورد هذه الفتيا مالك، وهو نظير ما حكاه أبو محمد بن حزم أن بعض الناس لم يكفر المستخف به.
    وقد ذكر القاضي عياض بعد أن رد هذه الحكاية عن بعض فقهاء العراق والخلاف الذي ذكره ابن حزم بما نقله من الإجماع عن غير واحد، وحمل الحكاية على أن أولئك لم يكونوا ممن يوثق بفتواه لميل الهوى به، أو أن الفتوى كانت في كلمة اختلف في كونها سبًّا، أو كانت فيمن تاب، وذكر أن الساب إذا أقر بالسب ولم يتب منه قتل كفرًا؛ لأن قوله إما صريح كفر كالتكذيب ونحوه، أو هو من كلمات الاستهزاء والذم، فاعترافه بها وترك توبته منها دليل على استحلاله لذلك، وهو كفر أيضًا، قال: فهذا كافر بلا خلاف.
    وقال في موضع آخر: إن من قتله بلا استتابة فهو لم يره ردة، وإنما يوجب القتل فيه حدًّا، وإنما نقول ذلك مع إنكاره ما شهد عليه به أو إظهاره الإقلاع عنه والتوبة، ونقتله حدًّا كالزنديق إذا تاب، قال: ونحن وإن أثبتنا له حكم الكافر في القتل فلا نقطع عليه بذلك لإقراره بالتوحيد وإنكاره ما شهد به عليه، أو زعمه أن ذلك كان منه ذهولاً ومعصية، وأنه مقلع عن ذلك نادم عليه، قال: وأما من علم أنه سبه معتقدًا لاستحلاله فلا شك في كفره بذلك، وكذلك إن كان سبه في نفسه كفرًا كتكذيبه أو تكفيره ونحوه، فهذا ما لا إشكال فيه، وكذلك من لم يظهر التوبة واعترف بما شهد به وصمم عليه فهو كافر بقوله واستحلاله هتك حرمة الله أو حرمة نبيه، وهذا أيضًا تثبيت منه بأن السب يكفر به لأجل استحلاله له إذا لم يكن في نفسه تكذيبًا صريحًا.
    وهذا موضع لابد من تحريمه، ويجب أن يعلم أن القول بأن كفر الساب في نفس الأمر إنما هو لاستحلاله السب زلة منكرة وهفوة عظيمة.
    ويرحم الله القاضي أبا يعلي! قد ذكر في غير موضع ما يناقض ما قاله هنا، وإنما وقع من وقع في هذه المهواة بما تلقوه من كلام طائفة من متأخري المتكلمين وهم الجهمية الإناث في أن الإيمان هو مجرد التصديق الذي في القلب وإن لم يقترب به قول اللسان، ولم يقتض عملاً في القلب ولا في الجوارح.
    وصرح القاضي هنا، قال عقب أن ذكر ما حكيناه عنه: وعلى هذا لو قال الكافر: «أنا معتقد بقلبي معرفة الله وتوحيده، لكني لا آتي بالشهادتين كما لا آتي غيرها من العبادات كسلاً» لم يُحكَم بإسلامه في الظاهر، ويحكم به باطنًا!
    قال: وقول الإمام أحمد «من قال إن المعرفة تنفع في القلب من غير أن يتلفظ بها فهو جهمي» محمول على أحد وجهين: أحدهما أنه جهمي في ظاهر الحكم، والثاني: على أنه يمتنع من الشهادتين عنادًا؛ لأنه احتج أحمد في ذلك بأن إبليس عرف ربه بقلبه ولم يكن مؤمنًا، ومعلوم أن إبليس اعتقد أنه لا يلزم امتثال أمره تعالى بالسجود لآدم.
    وقد ذكر القاضي في غير موضع أنه لا يكون مؤمنًا حتى يصدق بلسانه مع القدرة وبقلبه، وأن الإيمان قول وعمل، كما هو مذهب الأئمة كلهم: مالك، وسفيان، والأوزاعي، والليث، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، ومن قبلهم وبعدهم من أعيان الأمة.
    وليس الغرض في هذا المقام استيفاء الكلام في الأصل، إنما الغرض أن نذكر منه ما يخص هذه المسألة، وذلك من وجوه:
    الوجه الأول: أن الحكاية المذكورة عن الفقهاء أنه إن كان مستحلاً كفر، وإلا فلا ليس لها أصل، وإنما نقلها القاضي من كتب بعض المتكلمين الذين نقلوها عن الفقهاء، وهؤلاء نقلوا قول الفقهاء بما ظنوه جاريًا على أصولهم ، أو قد سمعوه من بعض المنتسبين إلى الفقه ممن لا يعد قوله قولاً، وقد حكينا نصوص أئمة الفقهاء وحكاية إجماعهم عمن هو أعلم الناس بمذاهبهم، فلا يظن ظان أن في المسألة خلافًا يجعل المسألة من مسائل الخلاف والاجتهاد، وإنما ذلك غلط لا يستطيع أحد أن يحكي عن واحد من الفقهاء أئمة الفتوى هذا التفضيل البتة.
    الوجه الثاني: أن الكفر إذا كان هو الاستحلال فإنما معناه اعتقاد أن السب حلال، فإنه لما اعتقد أن ما حرمه الله تعالى حلال كفر، ولا ريب أن من اعتقد في المحرمات المعلوم تحريمها أنها حلال كفر، لكن لا فرق في ذلك بين سب النبي × وبين قذف المؤمنين والكذب عليهم والغيبة لهم إلى غير ذلك من الأقوال التي علم أن الله حرمها، فإنه من فعل شيئًا من ذلك مستحلاً كفر، مع أنه لا يجوز أن يقال من قذف مسلمًا أو اغتابه كفر، ويعني بذلك إذا استحله.
    الوجه الثالث: أن اعتقاد حل السب كفر، سواء اقترب به وجود السب أو لم يقترن، فإذا لا أثر للسب في التكفير وجودًا أو عدمًا، وإنما المؤثر هو الاعتقاد، وهو خلاف ما أجمع عليه العلماء.
    الوجه الرابع: أنه إذا كان المكفر هو اعتقاد الحل فليس في السب ما يدل على أن الساب مستحل فيجب ألا يكفر، لاسيما إذا قال: «أنا أعتقد أن هذا حرام، وإنما أقول غيظًا وسفهًا، أو عبثًا أو لعبًا»، كما قال المنافقون: +إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ" [التوبة: 65]، وكما إذا قال: «إنما قذفت هذا وكذبت عليه لعبًا وعبثًا».
    فإن قيل: لا يكونون كفارًا، فهو خلاف نص القرآن، وإن قيل: يكونون كفارًا، فهو تكفير بغير موجب إذا لم يجعل نفس السب مكفرًا، وقول القائل: أنا لا أصدقه في هذا لا يستقيم، فإن التكفير لا يكون بأمر محتمل، فإذا كان قد قال: أنا أعتقد أن ذلك ذنب ومعصية وأنا أفعله؛ فكيف يكفر إن لم يكن ذلك كفرًا؟ ولهذا قال سبحانه وتعالى: +لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ" [التوبة: 66]، ولم يقل: قد كذبتم في قولكم إنما كنا نخوض ونلعب، فلم يكذبهم في هذا العذر كما كذبهم في سائر ما أظهروه من العذر الذي يوجب براءتهم من الكفر لو كانوا صادقين، بل بيَّنَ أنهم كفروا بعد إيمانهم بهذا الخوض واللعب.
    وإذا تبين أن مذهب سلف الأمة ومن اتبعهم من الخلق أن هذه المقالة في نفسها كفر استحلها صاحبها أو لم يستحلها، فالدليل على ذلك جميع ما قدمناه في المسألة الأولى من الدليل على كفر الساب.
    منشأ الشبهة التي أوجبت هذا الوهم:
    ومنشأ هذه الشبهة التي أوجبت هذا الوهم من المتكلمين ومن حذا حذوهم من الفقهاء أنهم رأوا أن الإيمان هو تصديق الرسول فيما أخبر به، ورأوا أن اعتقاد صدقه لا ينافي السب والشتم بالذات، كما أن اعتقاد إيجاب طاعته لا ينافي معصيته، فإن الإنسان قد يهين من يعتقد وجوب إكرامه، كما يترك ما يعتقد وجوب فعله، ويفعل ما يعتقد وجوب تركه.
    ثم رأوا أن الأمة قد كفَّرت الساب، فقالوا: إنما كفر لأنه سبه دليل على أنه لم يعتقد أنه حرام، واعتقاد حله تكذيب للرسول، فكفر بهذا التكذيب لا بتلك الإهانة، وإنما الإهانة دليل على التكذيب، فإذا فرض أنه في نفس الأمر ليس بمكذب كان في نفس الأمر مؤمنًا، وإن كان حكم الظاهر إنما يجري عليه بما أظهره، فهذا مأخذ المرجئة ومعتضديهم، وهم الذين يقولون: الإيمان هو الاعتقاد والقول، وغلاتهم وهم الكرامية الذين يقولون: مجرد القول وإن عرى عن الاعتقاد!
    وأما الجهمية الذين يقولون: «هو مجرد المعرفة والتصديق بالقلب فقط وإن لم يتكلم بلسانه» فلهم مأخذ آخر، وهو أنه قد يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فإذا كان في قلبه التعظيم والتوقير للرسول لم يقدح إظهار خلاف ذلك بلسانه في الباطن، كما لا ينفع المنافق إظهاره خلاف ما في قلبه في الباطن.
    بطلان مذهب المرجئة في تقييد تكفير الساب بالاستحلال:
    وجواب الشبهة الأولى وهي ما ذهبت إليه المرجئة من أن الإيمان هو الاعتقاد بالقول من وجوه:
    الوجه الأول: تصديق القلب يستلزم تعظيم الرسول وإجلاله ومحبته:
    فالإيمان وإن كان أصله تصديق القلب، فلذلك التصديق لابد أن يوجب حالاً من القلب وعملا له؛ وهو تعظيم الرسول وإجلاله ومحبته، وذلك أمر لازم كالتألم والتنعم عند الإحساس بالمؤلم والمنعم، وكالنفرة والشهوة عند الشعور بالملائم والمنافي، فإذا لم تحصل هذه الحال والعمل في القلب لم ينفع ذلك التصديق ولم يغن شيئًا، وإنما يمتنع حصوله إذا عارضه معارض من حسد الرسول والتكبر عليه أو الإهمال له وإعراض القلب عنه، ونحو ذلك، كما أن إدراك الملائم والمنافي يوجب اللذة والألم إلا أن يعارضه معارض، ومتى حصل المعارض كان وجود ذلك التصديق كعدمه، كما يكون وجود ذلك كعدمه؛ بل يكون ذلك المعارض موجبًا لعدم المعلول الذي هو حال في القلب، وهذا هو الموجب لكفر مَنْ حَسَد الأنبياء أو تكبر عليهم، أو كره فراق الإلف والعادة، مع علمه بأنهم صادقون، وكفرهم أغلظ من كفر الجهال.
    الوجه الثاني: أن الإيمان تصديق بالخبر وانقياد للأمر:
    فالإيمان وإن كان يتضمن التصديق فليس هو مجرد التصديق، وإنما هو الإقرار والطمأنينة؛ وذلك لأن التصديق إنما يعرض للخبر فقط، فأما الأمر فليس فيه تصديق من حيث هو أمر، وكلام الله خبر وأمر، فالخبر يستوجب تصديق المخبر، والأمر يستوجب الانقياد له والاستسلام، وهو عمل في القلب جِماعُه الخضوع والانقياد للأمر، وإن لم يفعل المأمور به، فإذا قوبل الخبر بالتصديق، والأمر بالانقياد، فقد حصل أصل الإيمان في القلب، وهو الطمأنينة والإقرار، فإن اشتقاقه من الأمن الذي هو القرار والطمأنينة، وذلك إنما يحصل إذا استقر في القلب التصديق والانقياد.
    وإذا كان كذلك فالسب إهانة واستخفاف، والانقياد للأمر إكرام وإعزاز، ومحال أن يهين القلب من قد انقاد له وخضع واستسلم أو يستخف به، فإذا حصل في القلب استخفاف واستهانة امتنع أن يكون فيه انقياد أو استسلام، فلا يكون فيه إيمان، وهذا هو بعينه كفر إبليس، فإنه سمع أمر الله فلم يكذب رسولاً، ولكن لم ينقد للأمر، ولم يخضع له، واستكبر عن الطاعة فصار كافرًا.
    وهذا موضع زاغ فيه خلق من الخلف تخيل لهم أن الإيمان ليس في الأصل إلا التصديق، ثم يرون مثل إبليس وفرعون ممن لم يصدر عنه تكذيب أو صدر عنه تكذيب باللسان لا بالقلب وكفره من أغلظ الكفر فيتحيرون، ولو أنهم هدوا لما هدي إليه السلف الصالح لعلموا أن الإيمان قول وعمل، أعني في الأصل قولاً في القلب وعملاً في القلب، فإن الإيمان بحسب كلام الله ورسالته، وكلام الله ورسالته يتضمن أخباره وأوامره فيصدق القلب أخباره تصديقًا يوجب حالاً في القلب بحسب المصدق به، والتصديق هو من نوع العلم والقول، وينقاد لأمره ويستسلم، وهذا الانقياد والاستسلام هو من نوع الإرادة والعمل، ولا يكون مؤمنًا إلا بمجموع الأمرين، فمتى ترك الانقياد كان مستكبرًا فصار في الكافرين وإن كان مصدقًا، فالكفر أعم من التكذيب: يكون تكذيبًا وجهلاً، ويكون استكبارًا وظلمًا، ولهذا لم يوصف إبليس إلا بالكفر والاستكبار دون التكذيب؛ ولهذا كان كفر من يعلم مثل اليهود ونحوهم من جنس كفر إبليس، وكان كفر من يجهل مثل النصارى ونحوهم ضلالاً وهو الجهل، ألا ترى أن نفرًا من اليهود جاءوا إلى النبي × وسألوه عن أشياء فأخبرهم، فقالوا: «نشهد أنك نبي»، ولم يتبعوه، وكذلك هرقل وغيره، فلم ينفعهم هذا العلم وهذا التصديق؟ ألا ترى أن من صدق الرسول بأن ما جاء به هو رسالة الله وقد تضمنت خبرًا وأمرًا، فإنه يحتاج إلى مقام ثان، وهو تصديقه خبر الله وانقياده لأمر الله، فإذا قال: «أشهد أن لا إله إلا الله» فهذه الشهادة تتضمن تصديق خبره والانقياد لأمر الله، فإذا قال: «وأشهد أن محمدًا رسول الله» تضمنت تصديق الرسل فيما جاء به من عند الله، فبمجموع هاتين الشهادتين يتم الإقرار، فلما كان التصديق لابد منه في كلا الشهادتين - وهو الذي يتلقى الرسالة بالقبول - ظن من ظن أنه أصل لجميع الإيمان، وغَفَلَ عن أن الأصل الآخر لابد منه وهو الانقياد، وإلا فقد يصدق الرسل ظاهرًا وباطنًا ثم يمتنع من الانقياد للأمر؛ إذ غايته في تصديق الرسل أن يكون بمنزلة من سمع الرسالة من الله -سبحانه وتعالى- كإبليس، وهذا ما بيين لك أن الاستهزاء بالله أو برسوله ينافي الانقياد له؛ لأنه قد بلغ عن الله أنه أمر بطاعته، فصار الانقياد له من تصديقه في خبره، فمن لم يَنْقَدْ لأمره فهو إما مكذب له، أو ممتنع عن الانقياد لربه، وكلاهما كفر صريح، ومن استخف به واستهزأ بقلبه امتنع أن يكون منقادًا لأمره، فإن الانقياد إجلال وإكرام والاستخفاف إهانة وإذلال، وهذان ضدان، فمتى حصل في القلب أحدهما انتفى الآخر، فعلم أن الاستخفاف والاستهانة به ينافي الإيمان منافاة الضد للضد.
    الوجه الثالث: أن الاستحلال قد يكون مرده إلى خلل في التصديق أو إلى خلل في الانقياد:
    ذلك أن العبد إذا فعل الذنب مع اعتقاد أن الله حرمه عليه، واعتقاده انقياده لله فيما حرمه وأوجبه فهذا ليس بكافر، فأما إن اعتقد أن الله لم يحرمه، أو أنه حرمه، لكن امتنع من قبول هذا التحريم، وأبى أن يذعن لله وينقاد، فهو إما جاحد أو معاند؛ ولهذا قالوا: من عصى الله مستكبرًا كإبليس كفر بالاتفاق، ومن عصى مشتهيًا لم يكفر عن أهل السنة والجماعة، وإنما يكفر الخوارج، فإن العاصي المستكبر وإن كان مصدقًا بأن الله ربه فإن معاندته له ومحادته تنافي هذا التصديق.
    وبيان هذا أن من فعل المحارم مستحلاً لها فهو كافر بالاتفاق، فإنه ما آمن بالقرآن من استحل محارمه، كذلك لو استحلها من غير فعل، والاستحلال اعتقاد أن الله لم يحرمها، وتارة بعدم اعتقاد أن الله حرمها، وهذا يكون لخلل في الإيمان بالربوبية، ولخلل في الإيمان بالرسالة، ويكون جحدًا محضًا غير مبني على مقدمة.
    وتارة يعلم أن الله حرمها ويعلم أن الرسول إنما حرم ما حرمه الله، ثم يمتنع عن التزام هذا التحريم، ويعاند المحرم، فهذا أشد كفرًا ممن قبله، وقد يكون هذا مع علمه أن من لم يلتزم هذا التحريم عاقبه الله وعذبه، ثم إن هذا الامتناع والإباء إما لخلل في اعتقاده حكمة الأمر وقدرته فيعود هذا إلى عدم التصديق بصفة من صفاته، وقد يكون مع العلم بجميع ما يصدق به تمردًا أو اتباعًا لغرض النفس، وحقيقته كفر؛ هذا لأنه يعترف لله ورسوله بكل ما أخبر به، ويصدق بكل ما يصدق به المؤمنون، لكنه يكره ذلك ويبغضه ويسخطه لعدم موافقته لمراده ومشتهاه، ويقول: أنا لا أقر بذلك ولا ألتزمه، وأبغض هذا الحق وأنفر منه، فهذا نوع غير النوع الأول، وتكفير هذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، والقرآن مملوء من تكفير مثل هذا النوع، بل عقوبته أشد، وفي مثله قيل: «أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ» وهو إبليس ومن سلك سبيله.
    وبهذا يظهر الفرق بين العاصي، فإنه يعتقد وجوب ذلك الفعل عليه ويجب أن يفعله، ولكن الشهوة والنفرة منعته من الموافقة، فقد أتى من الإيمان بالتصديق والخضوع والانقياد، وذلك قول وعمل، لكن لم يكمل العمل.
    وأما إهانة الرجل من يعتقد وجوب كرامته كالوالدين ونحوهما؛ فلأنه لم يهن من كان الانقياد له والإكرام شرطًا في إيمانه، وإنما أهان مَنْ إكرامه شرط في بره وطاعته وتقواه، وجانبُ الله والرسول إنما كفر فيه؛ لأنه لا يكون مؤمنًا حتى يصدق تصديقًا يقتضي الخضوع والانقياد، فحيث لم يقتضه لم يكن ذلك التصديق إيمانًا، بل كان وجوده شرًّا من عدمه، فإن مَن خُلِق له حياة وإدراك، ولم يرزق إلا العذاب كان فَقْدُ تلك الحياة والإدراك أحب إليه من حياة ليس فيها إلا الألم.
    وإذا كان التصديق ثمرته صلاح حاله وحصول النعم له واللذة في الدنيا والآخرة، فلم يحصل معه إلا فساد حاله والبؤس والألم في الدنيا والآخرة، كان أن لا يوجد أحب إليه من أن يوجد.
    بطلان مقالة الجهمية في هذه القضية:
    وأما ما زعمه الجهمية من أن الإيمان مجرد المعرفة والتصديق، وإن لم يتكلم بلسانه، فجوابه من ثلاثة أوجه:
    الوجه الأول: ما يستلزمه من أن من تكلم بالكفر من غير إكراه يجوز أن يكون مؤمنًا:
    ذلك أن مقتضى هذه الدعوى أن من تكلم بالتكذيب والجحد وسائر أنواع الكفر من غير إكراه على ذلك، فإنه يجوز أن يكون مع ذلك في نفس الأمر مؤمنًا، ومن جوَّز هذا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه.
    الوجه الثاني: أن من لم يتكلم بالإيمان بلسانه من غير عذر لم ينفعه ما في قلبه من المعرفة:
    فالذي عليه الجماعة أن من لم يتكلم بالإيمان بلسانه من غير عذر لم ينفعه ما في قلبه من المعرفة، وأن القول من القادر عليه شرط في صحة الإيمان، حتى اختلفوا في تكفير من قال: إن المعرفة تنفع من غير عمل الجوارح، وليس هذا موضع تقرير هذا.
    وما ذكره القاضي -رحمه الله- من التأويل لكلام الإمام أحمد فقد ذكر هو وغيره خلاف ذلك في غير موضع، وكذلك ما دل عليه كلام القاضي عياض، فإن مالكًا وسائر الفقهاء من التابعين ومن بعدهم -إلا من ينسب إلى بدعة- قالوا: الإيمان قول وعمل، وبَسْطُ هذا له مكان غير هذا.
    الوجه الثالث: أن القول الذي ينافي الإيمان يبطله:
    ذلك أن من قال: «إن الإيمان مجرد معرفة القلب من غير احتياج إلى النطق باللسان» يقول: لا يفتقر الإيمان في نفس الأمر إلى القول الذي يوافقه باللسان، لا يقول إن القول الذي ينافي الإيمان لا يبطله، فإن القول قولان: قول يوافق تلك المعرفة، وقول يخالفها، فهب أن القول الموافق لا يشترط، لكن القول المخالف ينافيها.
    فمن قال بلسانه كلمة الكفر من غير حاجة، عامدًا لها، عالمًا بأنها كلمة كفر، فإنه يكفر بذلك ظاهرًا وباطنًا.
    ولا يجوز أن يقال: إنه في الباطن يجوز أن يكون مؤمنًا، ومن قال ذلك فقد مرق من الإسلام، قال سبحانه: +مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ" [النحل: 106].
    ومعلوم أنه لم يرد بالكفر هنا اعتقاد القلب فقط؛ لأن ذلك لا يُكرَه الرجل عليه، وهو قد استثنى من أكره، ولم يرد من قال واعتقد؛ لأنه استثنى المُكْرَه، وهو لا يكره على العقد والقول، وإنما يكره على القول فقط، فعلم أنه أراد من تلكم بكلمة الكفر فعليه غضب من الله وله عذاب عظيم، وأنه كافر بذلك إلا من أكره وهو مطمئن بالإيمان، ولكن من شرح بالكفر صدرًا من المكرهين فإنه كافرًا أيضًا، فصار من تكلم بالكفر كافرًا إلا من أكره، فقال بلسانه كلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان، وقال تعالى: +لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ" [التوبة: 66]، فبين أنهم كفار بالقول مع أنهم لم يعتقدوا صحته.
    وهذا باب واسع، والفقه فيه ما تقدم من أن التصديق بالقلب يمنع إرادة التكلم وإرادة فعل فيه استهانة واستخفاف، كما أنه يوجب المحبة والتعظيم، واقتضاؤه وجود هذا وعدم هذا أمر جرت به سنة الله في مخلوقاته، كاقتضاء إدراك الموافق للذة وإدراك المخالف للألم، فإذا عُدِمَ المعلوم كان مستلزمًا لعدم العلة، وإذا وجد الضد كان مستلزمًا لعدم التصديق النافع ولعدم الانقياد والاستسلام؛ فلذلك كان كافرًا.

    كلمة أخيرة:

    بعد هذه الجولة مع الأدلة ومقالات أهل العلم نخلص إلى ما بدأنا به حديثنا في هذه النازلة؛ وهو أن جريمة سب الرسول × ليس لها إلا تكييف واحد؛ وهو الردة المغلظة والكفر المزيد، وأنه يتعين قتل فاعلها نكالاً له وزجرًا لغيره، وأن هذا هو الحكم المتعين الذي لا يحل العدول عنه عند القدرة عليه لما تقدم من الأدلة، مع عدم الإخلال بمقتضيات العدالة من التحقيق العادل، وحق المتهم في الدفاع عن نفسه، فإذا لم يتيسر إقامة هذا الحكم لسبب أو لآخر كان السعي في تشديد العقوبة بحسب الإمكان سعيًا موافقًا لمقصود الشارع بناء على أن مبنى الشريعة تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، ووفقًا لقاعدة: الميسور لا يسقط بالمعسور، وما لا يدرك كله لا يترك جله. والله تعالى أعلى وأعلم.

  2. #2
    ذكريات مشرفه الصورة الرمزية غرابيــل
    تاريخ التسجيل
    Aug 2007
    الدولة
    خَلفْ السَمآءْ الثَآمنِهَ !
    المشاركات
    7,409

    رد: حكم الدين في من تطاول على النبيين والمرسلين




    [IMG]http://abeermahmoud.********************************************/339-thanks.gif[/IMG]

  3. #3
    إدارة عامة الصورة الرمزية أبوعبدالرحمن
    تاريخ التسجيل
    Dec 2002
    الدولة
    غرابيل
    المشاركات
    34,173

    رد: حكم الدين في من تطاول على النبيين والمرسلين

    بارك الله بك وجزاك خيرا يا عطر
    (خريفك) مع (ربيعك) مع (شتاء قلبك) مع( حرّه)=( فصول العشق ) تاخذني كذا من ( زحمة الأيام )
    لسانك لا سكت وإلا حـــكى ( لله يا درّه ) = سكوتك ( حكمة العاقل ) وهرجك ( قمة الأنغام )



    [email protected]

    www.aait.sa
    www.mta.sa

    0503444442

    اللهم إن لنا أخوان وأخوات في هذا المنتدى
    منهم من غاب عنا لأي سبب
    ومنهم من هو غائب حاضر
    ومنهم من هو مستمر حتى الآن
    شاركونا بعلمهم .. وخبراتهم .. وتجاربهم
    ناقشونا ونصحونا وعاتبونا
    واسونا في أحزاننا وشاركونا أفراحنا
    نتمنى لهم الخير والسعادة أينما كانوا
    وندعو لهم بظهر الغيب أينما حلوا
    اللهم احفظهم وأغفر لهم وأنزل عليهم رحماتك أحياءً وأمواتاً

  4. #4

    المراقبة العامة للتعليم الموازي

    الصورة الرمزية الابتسامه المهاجرة
    تاريخ التسجيل
    Mar 2009
    الدولة
    قلب أمي الراحل
    المشاركات
    9,932

    رد: حكم الدين في من تطاول على النبيين والمرسلين

    [align=center][/align]
    جزاك الله خير ونفع بك
    وجعل ما كتبتي بموازيين حسناتك

  5. #5
    منارة الأفراح الصورة الرمزية قطرات امل
    تاريخ التسجيل
    Dec 2009
    الدولة
    مدينة الامل
    المشاركات
    549

    رد: حكم الدين في من تطاول على النبيين والمرسلين

    جزاك ربي كل خير
    وعادة****قطـــرات أمل لتنير منارة الأفراح



    على ضفاف الإحزان



    .....بقلمي قطرات أمل...

  6. #6
    ~ [ عضو مؤسس ] ~

    الصورة الرمزية كاسب العز
    تاريخ التسجيل
    May 2005
    الدولة
    جــــــــــــده
    المشاركات
    26,890

    رد: حكم الدين في من تطاول على النبيين والمرسلين

    بارك الله فيك

    لك مني أجمل تحية

    تقبل مرورى

    كاسب العز
    {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ }

    أنت الزائررقم

    لمــواضيعي





    جـــده

  7. #7
    ~ [ مستشار إداري ] ~

    تاريخ التسجيل
    Oct 2005
    المشاركات
    7,511

    رد: حكم الدين في من تطاول على النبيين والمرسلين

    شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. ولم يطق السفاهة من سفيه....تطاول في الجنوح و الاختلال
    بواسطة ابتسامة امل في المنتدى رحيق الذائقة
    مشاركات: 14
    آخر مشاركة: 21-05-2009, 08:22 AM
  2. إهداء إلى سيد المرسلين و خاتم النبيين ........ سيدنا محمد ( صلى الله عليه وسلم )
    بواسطة أنا النورس في المنتدى منتدى الخواطر والشعر الفصيح
    مشاركات: 19
    آخر مشاركة: 15-03-2009, 09:51 AM
  3. التحقيق مع طبيب تطاول على القرآن الكريم والرسول بالباحة
    بواسطة فتى الماشي في المنتدى منتدى الأخبار
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 30-08-2008, 04:41 PM
  4. تباً لنا إن لم نحرك ساكناً ** وعلى الحبيب تطاول الأوغادُ
    بواسطة ثابت الودعاني في المنتدى الساحة الأدبية
    مشاركات: 18
    آخر مشاركة: 10-03-2006, 09:52 PM

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •