أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


بسم الله الرحمان الرحيم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
التعلم بمطالعة الكتب:
ونذكر هنا الموضوعات التالية:
1 ــ بيان أن مطالعـة الكتـــب أدنى منزلة مـن التلقـي عن العلمــــاء.
2 ــ بيـــــــان الســـــبب الباعــــــث للسلــــف على كتابـــة العلـــم.
3 ــ بيان جواز الاعتماد على مايكتبه العلماء من العلم وشرطـ ذلك.
4 ــ بيان طرق تَحَمُّل مايكتبه العلمــاء من العلـــم والفـــــرق بينـها.
5 ــ أقـــــــــوال العلمـــاء في جــــــواز العمـــــل بالوِجــــــــــادة.
6 ــ إرشــــــــــادات هامــــة لمن يتعلــم من الكتـــــــــب.

أولاً ــ بيان أن مطالعة الكتب أدنى منزلة من التلقي عن العلماء:
1 ــ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (خير القــرون قـــرنى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) الحديث، متفق عليه، فهذه ثلاثة قرون والمقصود بالقرن الأول منها هم الصحابة رضى الله عنهم، والقرن الثاني التابعون، والثالث أتباع التابعين. وذكر ابن حجر رحمه الله أن القرن الثالث خُتم فى عام مائتين وعشرين هجرية بموت آخر اتباع التابعين، وأنه بعدها تغيّرت الأحوال تغيّراً شديداً وفشت البدع والضلالات، انظر أول الجزء السابع من فتح البارى (صـ 5 ــ 6).
فما كان عليه الصحابة خير مما كان عليه التابعون، وقد ذكرنا أن العلم ــ في القرن الأول ــ كان يؤخذ عن أهله شفاهة وحفظا ولم تكن كتب الحديث والفقه قد كُتِبتْ وإنما حدثت بعد الصحابة رضى الله عنهم. فثبت بهذا الحديث (خير القرون قرني) أن أخذ العلم عن العلماء مشافهة أعلى منزلة وخير من أخذه بمطالعة الكتب.
2 ــ قال البخارى رحمه الله (وإنما العلم بالتعلم) أهـ. قال ابن حجر (قوله « إنما العلم بالتَّعلم» هو حديث مرفوع أيضا، أورده ابن أبي عاصم والطبرانى من حديث معاوية أيضا بلفظ « ياأيها الناس تعلموا، إنما العلم بالتعلم، والفقه بالتفقه، ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين »، إسناده حسن، إلا أن فيه مبهما اعتضد بمجيئه من وجه آخر، وروى البزار نحوه من حديث ابن مسعود موقوفا، ورواه أبو نعيم الأصبهانى مرفوعا. وفى الباب عن أبي الدرداء وغيره. فلا يغتر بقول من جعله من كلام البخارى، والمعنى ليس العلم المعتبر إلا المأخوذ من الأنبياء وورثتهم على سبيل التعلم.) (فتح الباري) جـ 1 صـ 161.
وقد أشار إلى هذا الشاطبى رحمه الله في كلامه المنقول عنه آنفا، وفيه قال (من أنفع طرق العلم الموصِّلة إلى غاية التحقق به أخذه عن أهله المتحققين به على الكمال والتمام) أ هـ.
وأشار إليه ابن خلـــــدون رحمه الله فى (مقدمته) فقال (الفصل الثالث والثلاثون: فى أن الرحلة فى طلب العلوم ولقاء المشيخة مزيد كمال فى التعلم. والسبب في ذلك أن البشر يأخذون معارفهم وأخلاقهم وماينتحلون به من المذاهب والفضائل: تارة علماً وتعليما وإلقاءً، وتارة محاكاة وتلقيناً بالمباشرة. إلا أن حصول المَلَكات عن المباشرة والتلقين أشد استحكاماً وأقوى رسوخا فعلى قدر كثرة الشيوخ يكون حصول المَلَكات ورسوخها) (مقدمة ابن خلدون) صـ 541.
ثانيا ــ بيان السبب الباعث للسلف على كتابة العلم.
بدأت كتابة العلوم الشرعية بجمع القرآن، وكان سبب ذلك خشية ضياع شيء منه بسبب موت الحفاظ. فقد روى البخارى عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أن أبا بكر الصديق رضى الله عنه قال: إن عمر أتانى فقال إن القتل قد استحرَّ يوم اليمامة بقُراء القرآن، وإني أخشى إن استمر القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن، قلت لعمر: كيف نفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟، قال عمر: هذا والله خير، فلم يزل عمر يراجعنى حتى شرح الله صدرى لذلك ورأيت فى ذلك الذى رأى عمر. قال زيد: قال أبو بكر: إنك رجلٌ شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبَّع القرآن فاجمعه) الحديث (رقم 4986).
وإذا كان جمـــع القرآن قد تم في خلافة أبي بكر رضي الله عنه (توفي 13 هـ) وانتشرت المصاحف، فإن جمع السنة تأخر حتى نهاية القرن الأول الهجري وكان الاعتماد على السماع والحفظ وذلك لأن كتابة العلم كانت موضع خلاف بين السلف، كما قال ابن حجر:(لأن السلف اختلفوا في ذلك عملاً وتركا وإن كان الأمر استقر والإجماع انعقد على جواز كتابة العلم بل على استحبابه بل لايبعد وجوبه على من خشي النسيان ممن يتعين عليه تبليغ العلم) (فتح الباري) جـ1 صـ 204.وقال ابن حجر أيضا:(قال العلماء: كره جماعة من الصحابة والتابعين كتابة الحديث واستحبوا أن يؤخذ عنهم حفظاً كما أخذوا حفظاً، لكن لما قصرت الهمم وخشي الأئمة ضياع العلم دَوَّنوه) (فتح الباري) جـ 1 صـ 208.
وسبـــب اختلاف السلــف في كتابة الحديث تعارض الأدلة الواردة في المسألة فقد روى مسلم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه) الحديث (صحيح مسلم بشرح النووي، 18/129). ومع هذا فقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم لبعض الصحابة في الكتابة كعبدالله بن عمرو رضي الله عنهما، وذلك فيما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال (مَا مِن أصحــاب النبي صلى الله عليه وسلم أحدٌُ أكثرَ حديــثا عنه مِني، إلاما كان من عبدالله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب) (حديث 113). وورد إذن النبي صلى الله عليه وسلم في الكتابة عنه صريحاً، وذلك يوم فتح مكة فقد خطب النبي صلى الله عليه وسلم خطبة الفتح فطلب أحد الصحابة أن تُكتب له هذه الخطبة، وذلك فيما رواه البخاري قال (فقام أبو شاه ٍ ــ رجل ٌُ من أهل اليمن ــ فقال: اكتبوا لي يارسول الله ؟، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتبوا لأبي شاه ٍ) الحديث (2434). وعلى هذا حَمَل العلماء حديث مسلم في النهي عن كتابة الحديث على أنه خاص بزمن نزول القرآن خشية التباسه بغيره أو أنه منسوخ بما ورد من الإذن في الكتابة. انظر (فتح الباري جـ 1 صـ 208).
ومع نهايـــة القــــرن الأول الهجري أخذ السلف في تدوين الحديث ثم دُوِّن الفقه بعد ذلك، ثم الأصول بعده.
وإنما أخذ المسلمون في الكتابة خشية النسيان ولقصور الهمم عن الحفظ يدل على هذا ما أمر به عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه من جمع أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وتدوينها، حيث كتب إلى عماله يأمرهم بذلك زمن خلافته (99 ــ 101 هـ) ذكر هذا البخاري رحمه الله في كتاب العلم من صحيحه، في باب (كيف يقبض العلم ؟) قال: وكتب عمر بن عبدالعزيز إلى أبي بكر بن حزم (انظر ما كان من حديث رسول اللهص فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء، ولاتقبل إلا حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولتُفْشوا العلم ولتجلسوا حتى يعَلَّم من لايَعْلَم، فإن العلم لايَهْلِك حتى يكون سِرّاً) أهـ. ومعنى دروس العلم أي اندثاره وضياعه، وأبو بكر بن حزم: تابعي فقيه استعمله عمر بن عبدالعزيز على إمرة المدينة وقضائها ولهذا كتب إليه.
ثالثا ــ بيان جواز الاعتماد على مايكتبه العلماء من العلم وشرط ذلك.
يدل على هذا:
1 ــ ماأورده البخاري في كتاب العلم من صحيحه في باب (مايُذكر في المناولة، وكتاب أهل العلم بالعلم إلى البلدان). وفيه: وقال أنس: نسخ عثمان المصاحف فبعث بها إلى الآفاق، ورأى عبدالله بن عمر ويحيى بن سعيد ومالك ذلك جائزاً، واحتج بعض أهل الحجاز في المناولة بحديث النبي صلى الله عليه وسلم حيث كتب لأمير السّريّة كتابا وقال: لا تقرأه حتى تبلغ مكان كذا وكذا، فلما بلغ ذلك المكان قرأه على الناس وأخبرهم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم قال البخاري حدثنا إسماعيل بن عبدالله قال حدثني إبراهيم بن سعد عن صالح عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود أن عبدالله بن عباس أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بكتابه رجلاً وأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين، فدفعه عظيمُ البحرين إلى كِسرى، فلما قرأه مزّقه. فحسبتُ أن ابن المُسيَّب قال: فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُمَزَّقوا كل ممزق. (حديث 64). وقائل (فحسبتُ...) هو ابن شهاب.
2 ــ وروى مسلم في كتاب اللباس من صحيحه عن أنس رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يكتب إلى كِسرى وقيصر والنجاشي، فقيل إنهم لايقبلون كتابا إلا بخاتم، فصاغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتما حَلْقَتُه فضّة، ونقش فيه محمد رسول الله).أهـ. وكان هؤلاء ملوك الأرض حينئذ وكتب إليهم النبيص يدعوهم إلى الإسلام.
3 ــ وروى البخاري في كتاب الزكاة من صحيحه عن أنس رضي الله عنه (أن أبا بكر رضي الله عنه كتب له هذا الكتاب لما وجّهه إلى البحرين: بسم الله الرحمن الرحيم، هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين، والتي أمر الله بها رسوله...) الحديث (1454). ومعنى فريضة الصدقة أي مقادير الزكاة وأنصبتها.
قلت: فلا خلاف بين أهل العلم أن مثل هذه الكتابة المذكورة في الأحاديث السابقة ــ تقوم بها الحجة ويجب العمل بما فيها، وهذا دليل جواز الاعتماد على مايكتبه العلماء من العلم، وشرطه: التحقق من نسبة الكتابة إلى العالم.
قال ابن حجر رحمه الله ــ في شرح الباب المشار إليه في صحيح البخاري ــ (قوله «باب ما يُذكر في المناولة». ولما فَرَغ من تقرير السّماع والعَرْض أردفه ببقية وجوه التحمل المعتبرة عند الجمهور.
فمنها المناولة: وصورتها أن يعطي الشيخُ الطالبَ الكتاب فيقول له: هذا سماعي من فلان، أو هذا تصنيفي فارْوِهِ عني. ــ إلى أن قال ــ
والمكاتبة من أقسام التحمل: وهى أن يكتب الشيخ حديثه بخطه، أو يأذن لمن يثق به بكَتْبه، ويرسله بعد تحريره إلى الطالب، ويأذن له في روايته عنه.
وقد سوى المصنِّف بينها وبين المناولة، ورجّح قوم المناولة عليها لحصول المشافهة فيها بالإذن دون المكاتبة. وقد جوَّز جماعة من القدماء إطلاق الإخبار فيهما، والأولى ماعليه المحققون من اشتراط بيان ذلك. ــ إلى أن قال ــ
شرط قيام الحجة بالمكاتبة: أن يكون الكتاب مختوماً، وحامله مؤتمنا، والمكتوب إليه يعرف خط الشيخ، إلى غير ذلك من الشروط الدافعة لتوهّم التغيير، والله أعلم) (فتح الباري) جـ 1 صـ 154 ــ 155.
رابعا ــ بيان طرق تحمّل ما يكتبه العلماء من العلم والفرق بينها.
ما يكتبه العلماء من العلم يصل إلى طالب العلم إما باتصال في السند بين العالم والطالب وإما بانقطاع في السند. وفي كلا الحالين فإن الطالب لايسمعه من العالم (السَّماع) ولايقرأه عليه (العَرْض).
1 ــ طرق مايصل إلى الطالب مما كتبه العالم باتصال السند، منها
أ ــ المناولة: أن يعطي العالم كتابه للطالب ليرويه عنه.
ب ــ والمكاتبة: أن يكتب العالم كتابا ــ أو يأمر ثقة بكتابته ــ ويرسله مع ثقة إلى الطالب بحيث لايشك الطالب أن هذا كتاب العالم.
جـ ــ والإعلام: أن يخبر العالم الطالب أن هذا الكتاب كتابه.
د ــ والوصية: أن يوصي العالم عند سفره أو موته بكتبه أو بكتابه إلى شخص معين، بحيث لايشك الطالب في نسبة الكتاب إلى صاحبه.
2 ــ طرق مايصل إلى الطالب مما كتبه العالم بانقطاع في السند وهو طريق واحد يسمى الوِجادة، مصدر وَجَد، وبهذا الطريق نتحمل العلم من كتب العلم المنتشرة في هذا الزمان سواء كانت كتب تفسير أو حديث أو فقه أو غيرها. وهذا طريق مشروع لتحمّل العلم وروايته والعمل به إذا تحقق الطالب من نسبة الكتاب إلى صاحبه، وتفصيل ذلك فيما يلي:
خامسا ــ أقوال العلماء في جواز العمل بالوِجَادة
1 ــ قال النووي رحمه الله (الوِجادة: وهى مصدر لوَجَد، مُوَلَّد غير مسموع من العرب. وهى أن يقف على أحاديث بخط راويها لا يرويها الواجد فله أن يقول وجدت أو قرأت بخط فلان أو في كتابه بخطه حدثنا فلان ويسوق الإسناد والمتن، أو قرأت بخط فلان عن فلان، هذا الذي استمر عليه العملُ قديماً وحديثاً، وهو من باب المنقطع، وفيه شوب اتصال، وجازف بعضهم فأطلق فيها حدثنا وأخبرنا، وأنكر عليه.
وإذا وجـد حـديثاً في تأليـف شخــص، قال: ذكـر فــلان أو قال فلان أخبرنا فلان وهذا منقطع لا شوب فيه، وهذا كله إذا وثق بأنه خطه أو كتابه، وإلا فليقل: بلغني عن فلان، أو وجدت عنه ونحوه، أو قرأت في كتاب: أخبرني فلان أنه بخط فلان، أو ظننت أنه خط فلان، أو ذكر كاتبه أنه فلان، أو تصنيف فلان، أو قيل بخط أو تصنيف فلان.ــ إلى أن قال ــ:
أما العمل بالوِجَادَةِ فنقل عن معظم المحدثين المالكيين، وغيرهم أنه لايجوز. وعن الشافعي ونُظَّار أصحابه جوازه، وقطع بعض المحققين الشافعيين بوجوب العمل بها عند حصول الثقة، وهذا هو الصحيح الذي لايتجه هذه الأزمان غيره.) أهـ (التقريب) للنووي صـ 21. وهو متن كتاب (تدريب الراوي) للسيوطي جـ 2 صـ 60 ــ 63.
2 ــ وقال السيوطي رحمه الله في تعريف الوجادة (قولهم وجادة: فيما أُخِذَ من العِلم من صحيفة من غير سماع ولا إجازة ولا مناولة.) ثم قال السيوطي:
(قال البلقيني: واحتج بعضهم للعمل بالوجادة بحديث: «أي الخلق أعجبُ إيماناً؟ قالوا: الملائكة، قال: وكيف لايؤمنون وهم عند ربهم ؟ قالوا: الأنبياء، قال: وكيف لايؤمنون وهم يأتيهم الوحي، قالوا: نحن، قال: وكيف لاتؤمنون وأنا بين أظهركم، قالوا. فمن يارسول الله ؟ قال: قوم يأتون من بعدكم يجدون صحفاً يؤمنون بما فيها».
قال البلقيني: وهذا استنباط حسن.
قلت: المحتج بذلك هو الحافظ عماد الدين بن كثير، ذكر ذلك في أوائل تفسيره. والحديث رواه الحسن بن عرفة في جزئه من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وله طرق كثيرة أوردتها في الأمالي، وفي بعض ألفاظه «بل قوم من بعدكم يأتيهم كتاب بين لوحين يؤمنون به ويعملون بما فيه، أولئك أعظم منكم أجراً» أخرجه أحمد والدارمي والحاكم من حديث أبي جمعة الأنصاري وفي لفظ للحاكم من حديث عمر: يجدون الورق المعلم فيعملون بما فيه، فهؤلاء أفضل أهل الإيمان إيماناً.) أهـ (تدريب الراوي) جـ 2 صـ 64.
3 ــ وقال أبو الحسنات اللكنوي رحمه الله (ت 1304 هـ) ــ بعد كلامه عن أهمية الإسناد في نقل علوم الدين ــ قال رحمه الله (بقي ههنا أمر آخر وهو أنه ــ وإن كان لابد للإسناد في كل أمر من أمور الدين ــ لكن قد يقوم مقامَه نقل ُ مَن يُعتمد عليه، وتصريحُ من يُستند إليه، لاسيما في الأعصار المتأخرة، لفوات اهتمام الإسناد فيها بالشروط المقررة، فإن شُدد فيها بطلب الإسناد في كل أمرٍ فات المراد، فيُكتفى بتصريح مَن عليه الاعتماد.
ولهذا جوَّزوا العمـــــل والإثبات بالأحاديـــــث المدونة في الكتب المعتمدة، وإن لم يوجد لها عند العامل والمثبت طريق متصل إلى صاحب الحديث أو إلى مؤلف الكتب المدونة.
وجوَّزوا أيضا الاعتماد في المسائل الفقهية على نقل معتمدي الملة الحنيفية، وإن لم يوجد عند المفتي سند مسلسل إلى حضرات الأئمة العلية.
قال علي القـــــاري في «مرقاة المفاتيح» ــ عند قول صاحب «المشكاة»: «وإني إذا نسبتُ الحديث إليهم كأني أسندت إلى النبي صلى الله عليه وسلم الخ...» ــ:
عُلِمَ من كلام المصنف أنه يجوز نقل الحديث من الكتب المعتمدة التي اشتهرت وصحت نسبتها لمؤلفها كالكتب الستة وغيرها من الكتب المؤلفة، وسواء في جواز نقله مما ذُكر أكان نقله للعمل بمضمونه ــ ولو في الأحكام ــ أو للاحتجاج. ولايُشترط تعدد الأصل المنقول منه. ومااقتضاه كلام ابن الصلاح من اشتراطه حملوه على الاستحباب. ولكن يُشترط في ذلك الأصل أن يكون قد قُوبل على أصل له معتمد مقابلة صحيحة لأنه حينئذ يحصل به الثقة التي مدار الاعتماد عليها صحة ً واحتجاجا.
وعُلــم من كلام المصــــنف أيضا أنه لا يُشـــــترط في النقل من الكتب المعتمدة للعمل أو للاحتجاج أن يكون له به رواية إلى مؤلفيها، ومن ثم قال ابن بَرْهان: ذهب الفقهاء كافة إلى أنه لايتوقف العمل بالحديث على سماعه، بل إذا صحت عنده النسخة من السنن جاز العمل بها وإن لم يسمع. انتهى.
وقال ابنُ الهُمام في «فتــــح القـــدير» طريق نقله ــ أي المفتي عن المجتهد ــ أحد أمرين: إما أن يكون له سند، أو يأخذ من كتاب معروف تداولته الأيدي نحو كُتُب محمد بن الحسن ونحوها من التصانيف المشهورة للمجتهدين، لأنه بمنزلة الخبر المتواتر عنه أو المشهور، هكذا ذكر الرازي ــ إلى أن قال اللكنوي ــ
وفي «القُنية» ــ نقلا عن «أصول الفقه» لأبي بكر الرازي ــ: فأما ما يوجد من كلام رجل ــ ومذهبه معروف وقد تداولته النسخ ــ يجوز لمن نظر فيه أن يقول: قال فلانٌ: كذا وكذا، وإن لم يسمعه من أحد، نحو كتب محمد بن الحسن و «موطأ مالك» ونحوها من الكتب المصنفة في أصناف العلوم، لأن وجودها على هذا الوصف بمنزلة الخبر المتواتر والاستفاضة، لا يحتاج إلى إسناد. انتهى.
وفي «تدريب الراوي شرح تقريب النواوي»:
حكى الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني الإجماع على جواز النقل من الكتب المعتمدة، ولا يشترط اتصال السند إلى مصنفيها وذلك شامل لكتب الحديث والفقه.
وقال الطبري في «تعليقه»: من وجد حديثا في كتابٍ صحيحٍ جاز له أن يرويه ويحتج به، وقال قـوم من أصحــاب الحديث: لا يجوز له أن يرويه لأنه لم يسمعه، وهذا غلط. وكذا حكاه إمام الحرمين في «البرهان» عن بعض المحدثين وقال: هم عصبة لا مبالاة بهم في حقائق الأصول ــ يعني المقتصرين على السماع، لا أئمة الحديث ــ.
وقال عز الدين بن عبدالسلام في جواب سؤال كتبه إليه أبو محمد بن عبدالحميد: وأما الاعتماد على كتب الفقه الصحيحة الموثوق بها فقد اتفق العلماء في هذا العصر على جواز الاعتماد عليها، والإسناد إليها، لأن الثقة قد حصلت بها كما تحصلُ بالرواية، ولذلك اعتمد الناس على الكتب المشهورة في النحو واللغة والطب وسائر العلوم لحصول الثقة بها وبُعْدِ التدليس، ومن زعم أن الناس اتفقوا على الخطأ في ذلك فهو أولى بالخطأ منهم، ولولا جواز الاعتماد على ذلك لتعطل كثير من المصالح المتعلقة بها، وقد رجع الشارع إلى قول الأطباء في صور، وليست كتبهم مأخوذة في الأصل إلا عن قوم كفار، ولكن لما بعد التدليس فيها اعتمد عليها، كما اعتمد في اللغة على أشعار العرب وهم كفار، لبعد التدليس.
قال: وكُتُب الحديث أولى بذلك من كتب الفقه وغيرها، لاعتنائهم بضبط النسخ وتحريرها، فمن قال: إن شرط التخريج من كتاب يتوقف على اتصال السند إليه فقد خرق الإجماع. انتهى) من كتاب (الأجوبة الفاضلة للأسئلة العشرة الكاملة) لأبي الحسنات محمد عبدالحي اللكنوي الهندي، بتعليق د.محمد عبدالفتاح أبي غدة، ط مكتب المطبوعات الإسلامية، ط 2، 1402 هـ، صـ 59 ــ 64.
4 ــ وقال محمد بن إبراهيم الوزير رحمه الله (لو فرضنا والعياذ بالله خلو الزمان من الحفاظ والثقاة والرواة الأثبات لما تعذر الرجوع إلى السنة العزيزة، وذلك لأن الكتب الصحيحة المتقنة موجودة في المدارس الإسلامية، والعمل بما في الكتب التي عليها خطوط الثقاة الحفاظ شاهدة بالصحة جائِزٌُ عند كثير من أهل العلم وهو الذي يَقْوَي في النظر ويظهر عليه الدليل، بل هو الذي أجمع على جوازه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سيأتي، والعجب من المعترض كيف غفل عن ذلك وهو قول أئمة الزيدية والمعتزلة كما سيأتي، والعمل بهذا هو المعروف في علم الحديث بالوجادة وهو أحد أنواع علوم الحديث وقد ذكرها ابن الصلاح في علوم الحديث وطول الكلام فيها وحكى القول بوجوب العمل بها عن الإمام الشافعي وطائفة من نظار أصحابه في أصول الفقه قال ابن الصلاح رحمه الله وما قطع به هو الذي لايتجه غيره في الأعصار المتأخرة فإنه لو توقف العمل فيها على الرواية لانسد باب العمل بالمنقول لتعذر شرط الرواية فيها على ماتقدم في النوع الأول ــ إلى أن قال ــ إن الصحابة رضي الله عنهم عملوا بها والدليل على ذلك حديث عمرو بن حزم وقد ذكر طرقه الحافظ ابن كثير في إرشاده وقال بعد ذكر الاختلاف في بعض طرقه وعلى كل تقدير فهذا الكتاب متداول بين أئمة الإسلام قديما وحديثا يعتمدون عليه ويفزعون في مهمات هذا الباب إليه كما قال يعقوب بن سفيان لا أعلم في جميع الكتب كتابا أصح من كتاب عمرو بن حزم كان الصحابة والتابعون يرجعون إليه ويدعون آراءهم وصح عن ابن المسيب أن عمر ترك رأيه ورجع إليه قال ابن كثير رواه الشافعي والتابعون بإسناد صحيح إلى ابن المسيب ــ إلى أن قال ــ ظاهر كلام الحافظين يعقوب بن سفيان وابن كثير دعوى إجماع الصدر الأول على قبول حديث عمرو بن حزم وذلك يقتضى دعوى الإجماع على جواز العمل بالوجادة) أهـ (الروض الباسم جـ 1 صـ 33 ــ 35.
5 ــ وقال الدكتور محمد عجاج الخطيب (الوجادة ــ بكسر الواو ــ مصدر مُوَلَّد لوَ جَد يجد، غير مسموع من العرب، اصطلح المحدثون على إطلاقه على ماأخذ من العلم من صحيفة، من غير سماع ولا إجازة ولا مناولة، كأن يجد شخص كتابا بخط من عاصره وعرف خطه سواء لقيه أم لم يَلْقَهُ أو بخط من لم يعاصره ولكنه استوثق من أن الكتاب صحيح النسبة إليه بشهادة أهل الخبرة أو بشهرة الكتاب إلى صاحبه أو بسند الكتاب المثبت فيه أو غير ذلك مما يؤكد نسبة الكتاب إلى صاحبه، فإذا ثبت عنده هذا فله أن يروي منه مايشاء على سبيل الحكاية لا على سبيل السماع.
وقد ثبت عن بعض السلف روايتهم عن الصحف والكتب، ومع هذا فقد كانت الرواية وجادةً في العصور المتقدمة نادرة وقليلة لأن جمهور أهل العلم كانوا يفضلون الرواية مشافهة بالسماع أو العرض، بل إن كثيرا من السلف عاب على من يروي من الصحف، وانتشرت بينهم عبارة (لا تقرؤوا القرآن على المصحفيِّين، ولا تحملوا العلم عن الصحفيين) حتى إن بعضهم كان يضعف مايروى من الكتب ــ إلى أن قال ــ
ولايجوز للراوي بالوجادة أن يعزو مايرويه إلى صاحب الكتاب إذا شك في نسبته إليه إلا بما يدل على شكه، كأن يقول: بلغني عن فلان، أو (وجدت في كتاب ظننت أنه كتاب فلان).
كل هذا فيما يتعلق بالرواية وجادة وأما ما يتعلق بالعمل فالصحيح الذي عليه المحققون من أهل العلم أنه يجب العمل بما يجده متى صح إسناده.
والوجادة الموثوق بها التي يطمئن إليها أهل العلم، بالتحقيق من نسبة الموجود إلى صاحبه بمختلف الطرق العلمية ــ لاتقل في قيمتها عن التحمل بالإجازة، لأن الإجازة على حقيقتها وجادة معها إذن من الشيخ بالرواية فحين يروي المرء بالوجادة بشرطها، ويبين أن مايرويه إنما هو قول فلان في كتاب كذا وكذا، فإنه ينقل الخبر بكل أمانة، وكل مافي الأمر عدم اتصال الإسناد بين الناقل والشيخ ومع هذا ففي نقله شبه اتصال السند بينهما.
وليس لأحد أن يشك في قيمة التحمل عن طريق الوجادة الموثوق بها، ولا في صحة هذا التحمل حين يؤديه مَن نثق به، لأن جميع ما ننقله اليوم من الأحاديث النبوية الشريفة من الكتب الصحيحة، وجميع ماينقله أهل العلوم المختلفة من مؤلفاتها إنما هو ضرب من الوجادة ولو توقف العمل فيها على السماع والرواية لانسد باب العمل بالمنقول لتعذر شرط الرواية كما قال ابن الصلاح).أهـ (أصول الحديـــث) للدكتور محمد عجاج الخطيب، ط دار الفكر 1401 هـ، صـ 244 ــ 247.
فهذا كلام العلماء فيما يتعلق بمشروعية الرواية بالوجادة والعمل بها أي التعلم من الكتب ونذكر فيما يلي مايلزم المتعلم من الكتب من إرشادات.
سادسا ــ إرشادات هامة لمن يتعلّم من الكتب:
(تمهيــــد) إذا كُنت قد ذكرتُ (التعلم بمطالعة الكتب) في كيف يطلب العامى العلم ؟، فإننى أعنى هنا العامى الذي لديه نوع أهلية لمطالعة الكتب وفهم مافيها، وفهم الدليل الشرعي ومايدل عليه من فوائد. وهذه الأهلية متحققة بحمد الله تعالى في كثير من الشبان المتدينين الآن، وهذا النوع ــ وهو العامي الذي له نوع أهلية ــ ذكره ابن القيم في قوله: مسألة (إذا كان عند الرجل الصحيحان أو أحدهما أو كتاب من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم موثوق بما فيه، فهل له أن يفتى بما يجده فيه؟) عرض ابن القيم الأقوال فى هذه المسألة ثم قال (وهذا كله إذا كان ثَمَّ نوع أهلية ولكنه قاصر في معرفة الفروع وقواعد الأصوليِّين والعربية، وإذا لم تكن ثمَّة أهلية قط ففرضه ماقال الله تعالى «فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لاتعلمون») (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 234 ــ 235. وستأتى هذه المسألة بالتفصيل إن شاء الله فى باب أحكام المفتى، وإنما أوردنا هنا منها مايفيد تقسيم ابن القيم العامى إلى نوعين: نوع له ثمّة أهلية للنظر فى الكتب ونوع ليست له أهلية البتة.
بعد هذا التمهيد نذكر المقصود من هذه المسألة، وهى إرشادات هامة لمن يتعلم من الكتب، فنقول:
1 ــ لا يلجأ المسلـــم إلى التعلم من الكتب إلا إذا انسدّ أمامه باب التلقى مشافهة من العلماء، فهذا هو الأصل فى التعلم كما ذكرنا أدلته فى الطريق الأول للتعلم. والحق أن الواقع المعاصر يضطر المسلم فى أحيان كثيرة إلى التعلم من الكتب لتعذر التلقى عن العلماء لأسباب منها:
* أن أغلب العلماء اليوم إنما يتعلمون بالوجادة (أي من الكتب) أيضا، فأسانيد تحمّل كتب السلف منقطعة اليوم في الأغلب الأعم، ومن كان له إسناد متصل يروى به كتابا من كتب السلف ككتب السنة الأصلية فإن هذا الإسناد المتصل عادة لاتكون له قيمة كبيرة لجهالة حال كثير من رجال السند المتأخرين بما يجعله فى حكم المنقطع، وذلك نظراً لتوقف تدوين الجرح والتعديل منذ زمن، وذلك بسبب اكتفاء العلماء بشهرة نسبة الكتب الهامة إلى أصحابها بما يغنى عن تحملها بالإسناد المتصل. فانحصرت أهمية العالم المُعَلِّم اليوم في الإرشاد إلى الكتب الجيدة وفهم المكتوب فيها.
* ومنها قَصْر تعليــم العلم اليوم على طلاب المعاهد الشرعية، فيتعذر على غير طلابها تلقي العلم من علمائها الذين لم يعودوا يجلسون فى المساجد كما كان السلف، فإذا رغب مسلم من غير طلاب هذه المعاهد في التعلم فليس أمامه ــ عادة ــ إلا الكتب.
* ومنها أن مايدرس في بعض المعاهد وبعض البلدان من الكتب والمناهج قد لايكون هو الاختيار الأمثل، كمناهج الاعتقاد، فإن غالب مايدرس فى معظم المعاهد فى شتى البلدان هو اعتقاد الأشاعرة بما يشتمل عليه من التأويل فى الصفات والإرجاء فى الإيمان، فمن أراد تعلم الصواب (وهو اعتقاد أهل السنة) من طلاب هذه المعاهد وغيرهم فليس أمامه إلا الكتب.
* ومنها ندرة العلماء الأمناء الذين يوثق بعلمهم وفهمهم، هذا فضلا عن ندرة العلماء الذين يتكلمون فى النوازل خاصة مايتعلق منها بالسياسة والسلطان، لأسباب معروفة.
* ومنها أن العلماء الأمناء كثيراً مايوجدون في بلد ٍ دون بلد ٍ، مع تعذر الرحلة إليهم على كثير من المسلمين، حتى لايجد هؤلاء أمامهم إلا التعلم من الكتب.
ومــع ذلـــك، فقد ذكـــرت آنفا أن من الوسائل المستحدثة التي تقوم مقام التلقي مشافهة عن العلماء جزئيا: الأشرطة المسجلة لدروس العلماء وشروحهم لبعض كتب العلم الهامة، وإنما قلت: جزئياً، لأن هذه الوسيلة لاتسمح بالمراجعة والاستفسار.
2 ــ فإذا لجــأ المسلـــم إلى التعلم من الكتب، فأهم مايُنصح به هو حسن اختيار الكتاب فى كل صنف من صنوف العلم. فقد تكون نجاته فى حسن الاختيار، وقد يكون هلاكه فى سوء الاختيار، وسوف نذكر أهمية إحسان اختيار الكتاب في الباب التالي (الرابع) إن شاء الله، كما سنذكر في الباب السابع الكتب المختلفة التي ننصح بقراءتها في كل صنف من صنوف العلم.
3 ــ فإذا أحـسـن طالب العلم اختيار الكتاب فى علم من العلوم، فإنه عادة مايلزمه إرشاد الذين سبقوه فى تعلم هذا العلم من العلماء ومن طلاب العلم المتقدمين، لفهم مصطلحات العلم الذي يدرسه وفهم موضوعاته. ولهذا قال الشاطبي (وهو معنى قول من قال «كان العلم فى صدور الرجال، ثم انتقل إلي الكتب، وصارت مفاتحه بأيدي الرجال» والكتب وحدها لاتفيد الطالب منها شيئا دون فتح العلماء) (الموافقات) جـ 1 صـ 97. وللتغلُّب ــ جزئيا ــ على هذه العقبة أنصح من لم يجد من يُعَرِّفُه معاني ما بالكتب بنصيحتين:
إحداهما: ألا يبدأ دراسته لعلم من العلوم بدراسة متن أو مختصر موجز، وإنما يبدأ بكتاب متوسط، عند انعدام العالم المرشد. وذلك لأن المتون والمختصرات وضعت ليشرحها الشراح المعلِّمون، فإذا عُدِم هؤلاء فيلجأ إلى الشروح المتوسطة مباشرة. وإنما نصحنا هنا بالشروح المتوسطة لا المبسوطة المطوَّلة، لأن المتوسطة عادة ماتقتصر على ذكر أمهات مسائل الفَنِّ وأقوى الأقوال فيها فيسهل على المتبديء استيعابها، أما الشروح المطوّلة فتذكر المسائل الجلية والنادرة وتذكر الراجح والمرجوح من الأقوال وقد يخفى على المبتديء تمييز الجلي من النادر، والراجح من المرجوح فيشوَّش عقله ويعسر عليه الفهم والاستيعاب بما قد يجعله ينقطع عن متابعة الدراسة.
والنصيحة الثانية: أن يقرأ في أكثر من مصدر في نفس المادة في وقت واحد إذا انغلق عليه الفهم من المصدر الأول. فأحيانا تقرأ كتابا في مادة وتتوقف عند مصطلح لاتفهمه، فإذا راجعت كتابا آخر في نفس المادة فقد تجد شرح هذا المصطلح الغامض إما في صلب الكتاب أو في هامشه. وربما أرشدك في هامشه لمرجع ثالث يفيدك أكثر. وهذا الكلام يشبه جمع روايات الحديث الواحد، فقد تَرِدُ في إحدى روايات الحديث كلمة غريبة، أو رجل مبهم، أو مكان مبهم ويتبيّن المراد من كل هذا بمراجعة الروايات الأخرى لنفس الحديث.
وخلاصة ماسبق من إرشادات أن المتعلــــم من الكتب يُنصح بأمرين: حسن اختيار الكتاب، والبحث عمن يُفَهِّمه مصطلحات الكتاب ومعانيه. وقد جمع الشاطبي رحمه الله هاتين النصيحتين في كلامه عن الطريق الثاني للتعلم. فقال («الطريق الثاني» مطالعة كتب المُصَنِّفين، ومدوِّني الدواوين. وهو أيضا نافع في بابه بشرطين:
«الأول» أن يحصل له من فهم مقاصد ذلك العلم المطلوب، ومعرفة اصطلاحات أهله، مايتم له به النظر في الكتب. وذلك يحصل بالطريق الأول من مشافهة العلماء أو مما هو راجع إليه، وهو معنى قول من قال «كان العلم في صدور الرجال، ثم انتقل إلى الكتب، وصارت مفاتحه بأيدي الرجال». والكتب وحدها لاتفيد الطالب منها شيئا، دون فتح العلماء، وهو مُشَاهدٌ معتاد.
«والشـرط الثاني» أن يتحرى كتب المتقدمين من أهل العلم المراد، فإنهم أقعد به من غيرهم من المتأخرين، وأصل ذلك التجربة والخبر: أما التجربة فهو أمر مشاهد في أي علم كان، فالمتأخر لايبلغ من الرسوخ في علم ٍ ما مابلغه المتقدم ــ إلى أن قال ــ وأما الخبر ففي الحديث «خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم»، وفي هذا إشارة إلى أن كل قرن مع مابعده كذلك. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم «أول دينكم نبوة ورحمة ثم مُلك ورحمة، ثم مُلك وجبرية، ثم مُلك عضوض»، ولايكون هذا إلا مع قلة الخير وتكاثر الشر شيئا بعد شيء. ــ إلى أن قال ــ فلذلك صارت كتب المتقدمين وكلامهم وسيَرهم أنفع لمن أراد الأخذ بالاحتياط في العلم، على أي نوع ٍ كان، وخصوصا علم الشريعة) أهـ (الموافقات) جـ 1 صـ 97 ــ 99.
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــ
المصدر الجامع في طلب العلم الشريف للشيخ عبد القادر عبد العزيزهدانا الله وإياه للحق.