جلست القرفصاء بركن سحيق من زاوية القطار .. تستجيب لتطاولات الحلم الوهم ..
استنشقت الهواء الملوث .. هواء ما وراء الإدراك .. فابتعدت رويدا .. رويدا صوب الخفاء
داهمتها رفقة .. شابة جميلة المحيى اتخذت كرسيا بجانبها
يسير القطار الهوينى يلتهم المساحات بشره عجيب .. يهتز اهتزاز خفيف يبيح الذهاب نحو ما خلف الجفون المغلقة ..
فجأة سألتها :
- فيم تفكرين ؟؟
دون أن تنظر للسائلة ابتسمت ابتسامة من وجدت صديقتها القديمة .. تلك التي لا تعترف بتمهيد ولا بداية فقط تخترق السؤال بعبقرية من يرى الإجابة قبل الاستفسار..
أجابت والابتسامة لا تفارقها:
- أحاول أن أسابق القطار
- هناك قطارات عديدة .. فأيها تسابقين ؟
- ممم أسابق قطار الرياح
- قد ترفعك العاصفة وتطيح بك للأرض
- وقد ترفعني العاصفة وتريني عالم الغيمة .. بعيدا عن متناول السواد ..
- أو تظنين أن هناك عالما آخر دون الذي تنتمين إليه ؟
- أكيد هناك .. كلما أدرتِ فكرك ناحية كلما وجدتِ عوالم
- هذا يدل على أنك تنجعين لأحلام اليقظة
- يا أنتِ .. ليست هناك أحلام يقظة .. هناك فقط فكر متفتح وفكر مغلق على التأملات الموحية .. قد تجلسين مستكينة هادئة دون أي نازع بالفرار .. وقد تنتابك نوبة تأمل فتخترقين حدود المعقول لتصلي للأعالي ..الأعالي
- الواضح ظهرت لديك بوادر الجنون
- الواضح بدأت أتعقل .. وأسموا لما تحت قدمي .. يوجد فرق بين من ينظر تحت قدميه ومن ينظر للأمام .. وهناك فرق بين من لا ينظر أصلا بل يتخذ الطريق قنطرة
- أو ليست القنطرة تقاطع منحدرين ؟ أوليس الطريق بؤرة عبور ؟
- نعم هما كذلك
- حسنا لما لا تنظرين إذا وتفتحين جفونك لمزيد من الإدراك؟
- لأني لا أحب أن انظر .. أولم تلاحظي أني لم انظر إليك إطلاقا مد جلستِ جنبي؟
- أيعقل تخشين أن أكون سراب من نسج خيالك ؟
- ممكن
- أولا تتأكدين ؟
- لا أريد التأكد
- الحقيقة مطلوبة ولو كانت مرة
- من الحقيقة ما قتل وجلب النوبة تلو النوبات
- يعني أنا مهمة لديك لدرجة خوفك من انفجاري فقاعة؟
- ألا تسأمين الجدران الضيقة والأسوار العالية ؟
- أراكِ تغيرين فحوى الحديث.. لكن لا بأس سأجيبك .. الجدران والأسوار من صنع الإنسان هي محدوديته تخيل إليه أنه مقيد ولا يستطيع الحراك و يخيل إليه أيضا من فرط الضيق أنه مستقر في مكان وكأنه محبوس إلى إشعار آخر .. لكن كل هذا مجرد ابتكار
- وما الحل إذن ؟
- يوجد حل وحيد أن يتعود السير بالمساحة المحددة المرسومة له .. وأن يألف القيود حول معصميه حتى يعتبرها زينة أو من ضروريات الحياة ..
- منطقك قاسي جدا .. كيف للمحبوس أن يتعود الزنزانة السوداء؟ وكيف للمقيد أن يألف القيود المؤلمة ؟
- هي لعبة من بدأها لا مفر له من إنهائها
- قصدك هي لعنة من لحقت به ترافقه طول العمر
- أولا تسأمين أنتِ من تحريف الأمور لتفاؤل مصطنع وخيال من سراب ؟
- لأني سئمت الأغلال فقط حاولت تدميرها .. وها أنا قد نجحت ...
- لم تنجحي يا المختالة وأنا أكبر دليل على ذلك .. انظري إلي فقط وستعلمين فشلك الدريع
- كيف ذلك لا يمكن .. ؟ ما الذي تقولينه ؟
نظرت للكرسي بجانبها فوجدته فارغ إلا من حقيبتها .. تطلعت حولها تستكشف لأول مرة المكان فلم ترى أي بادر على وجود محاِورتها
جاءها صوت من الأعماق :
- أنا أناكِ تلك التي تخفينها عن الوجود .. تلك التي ما فتئتِ تدوسينها مرة تلو المرات ..
- ليس صحيح .. كيف سمحت لك أن تظهري من جديد ؟ ظننتني قتلتك آخر مرة واسترحت منك
- لن تستطيعي .. فأنا نصفك الآخر .. ولا استغناء لك عني
- بلى سأستغني عنك .. سأنزل المحطة القادمة فإليكِ عني إياكِ أن تتبعيني
تباطأ القطار معلنا التوقف ..
توقف لحظات وبعدها غادر فارغا
مخلفا وراءها محطة فارغة
إلا من رياح شديدة تنذر بهبوب العاصفة
؛
من مذكراتي الهذياااان
أتمنى عدم النقل إذ القطعة مجرد هذيان راسخ ومكانها الأنسب خاطرة كبوح نفسي .. مع التحية
؛