[align=center]
يقول صاحبي : لم لا تكتب ما يفهم ؟ فقلت كما قال أبوم تمام وأنت لم لا تفهم مايكتب ؟ يا صاحبي الكتابات صنوان وغير صنوان ، تكتب بلغة واحدة، ونفضل بعضها على بعض ، لروعة بيانها ، وسحر لسانها ، فمنها ما يجعل شهوتك الفكرية تظفر بلذتها ، وتنبهر انبهارا صارخا يعبر عن نشوتها العميقة ، ولذتها التي حازت عليها ، ومنها مايجعل تلك الشهوة قد طُعنت برمح الرداءة في الكتابة ، وضُربت بعجراء الفساد في الصياغة ، فتعود وقد خاب مسعاها ، كأنها ثكلت أمها وأخاها وأباها ، كئيبة حزينة ، لم تظفر بمطلوبها ، ولم تتلذذ بمرغوبها ، فتنثر عبراتٍ متدفقة ، وتترنم بنبراتٍ مختنقة ، وتقول:
الا أيها الحرف الكئيب الا انجلي *** بحرفٍ جميلٍ مشرقٍ متسلسلٍ
إنك ياصاحبي حين ترى سيارة لها أنين يصم الآذان ، ولها دوي وصخب وضوضاء ، قد أكل الدهر عليها وشرب ، تدلت أنوارها كالحشف البالي ، وتهشّم زجاجها فأصبح كخريطة العالم ، وترنحت عجلاتها كسكران قد تترع من الخمر وامتلأ ، فأصبح يهيم على غير وجهة معلومة ، وتعبّس لونها ، وقل عزمها وعونها ، تطل الشيخوخة إليك من وجهها ، شاحبة كالحة مرعبة مخيفة كالغول والسعلاة .
ثم إنك حينما ترى سيارة أخرى آمنة مطمئنة ، هادئة ساكنة ، ملتزمة في صوتها بصوت منتظم لايزعج النفس بنبراته ، ولايثيرها بأصواته ، لها شكل متسق اتساقاً لايلفت انتباها ، ولا يجذب عيوناً ، ولاينادي إعجاباً ، فتكون هذه السيارة في مجملها أفضل بكثير من تلك السيارة الماضية ، التي ذكرتها قبل هذه السيارة .
أما حين ترى سيارة أنيقة ، جبارة رقيقة ، تكاد من رقة للمشي تنفطر ، تلصق الأنظار في جمالها ، وتربط الروعة في هيكلها ، فكأنها قمر ، والسيارات من حولها نجوم ، قد افتنّ صُناعها في صُنعها ، وتحذقوا في إبداعها ، حتى غدت تتيه وتتكبر ، وتزهو وتتبختر ، كالفاختة على ماسواها من السيارات الساذجة البسيطة ، قد وضعوا فيها من التقنيات المذهلة الباهرة ، والمزايا الرفيعة الفاخرة ، التي لايعرف أسرارها ودقائقها الا أصحابها ومن له خبرة بها ، فهذا زرٌ له خصائص ، وذاك زر له خصائص أخرى ، وهذا يفعل كذا ، وذاك يفعل كذا ، وهذا يسيّرها على الأرض لتخطف الأبصار ، وذاك يجعلها تحلّق في السماء لتتخطى الحدود والأسوار ، فأنت تنتقل فيها من فن الى فن ، ومن جمال الى جمال ، ومن روعة الى روعة . هذه هي السيارات الثلاث ، تعرف الناس أغلبها إن لم أقل جميعها السيارة الأولى والثانية ، لما فيهما من سذاجة وسهولة وبساطة وتكرار في حياتنا اليومية .
ولكنّك في السيارة الثالثة ترى البعض من الناس يرون هذه السيارة كما يرون السيارة الأولى ، يمرون عليها مروراً عابراً ، جهلا منهم بها ، وعدم معرفتهم بقيمتها ومكانتها وفخامتها ، وصنف من الناس يمرون بها ( أي السيارة الثالثة ) فيرون ظاهر جمالها ، فيعجبون بها وينبهرون منها ، مع أنهم لايعرفون لتقنياتها وكيفية استخدامها .، وصنف أخر من الناس يرون هذه السيارة ( الثالثة ) فيهتزون لها اهتزازا ، ويتلذذون برؤيتها لذاذة ،ويتمايلون عندها تمايلا ، لأنهم قد سبروا غورها ، وخبروا مورها ، وعرفوا دقها وجلها ، وعلموا أسرارها الفاتنة التي قد برع جمالها حتى أصبحت فتنة لاتتقى ، وسحرا لايقاوم .
وأخيراً ياصاحبي ، اعلم أن هذه السيارات الثلاث جسد له روح ، ربما يعتل الروح والجسد سليم صحيح ، وربما يتعطل المحرك والهيكل رائع نضر ، وربما العكس يكون .
بدر العضياني[/align]